موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

لكن الباحث الواعي لا يعدم الرواية الصحيحة بينها ، وانّها هي الثالثة الّتي ورد فيها : « انّ النبيّ يَهجَر » وما تحريكه لها بفتحتين إلّا نحو من التعتيم المتعمد ، لأن الصحيح « يَهجُر » فانها من باب (نصر ينصر) وتحريكها بفتحتين يخرجها عن المعنى الأصلي للكلمة ، وانحراف بمسارها الصحيح ، وذلك انّ القراءة بفتحتين تكون بمعنى هجرك الشيء ، أي تركه كما نصت على ذلك بعض قواميس اللغة. ولكن ذلك لم يعجب الملا علي القاري شارح كتاب القاضي المذكور فقال في المقام : « يَهجِر » بكسر الجيم مع فتح أوّله بتقدير استفهام انكار (؟).

وهذا من غرائب الأغراب في مسائل الإعراب ، وإنّما حدث بعد زمان الحديث والحدث ، تبريراً لمواقف المعارضة عند الحساب.

أمّا الّذي قلناه أنّه الصحيح وهي الرواية الثالثة فقد ذكرها القاري وقال هو الموجود في مستخرج الإسماعيلي من طريق ابن خلاد عن سفيان. كما ذكرها غيره (١) وسيأتي مزيد بيان عن ذلك في محله إن شاء الله.

ثانياً : استعرض ما قاله أئمّته في الحديث. ولا يعنينا معرفة أئمّته بأعيانهم سواء كانوا هم المالكية ، أو الأشعرية ، أو أهل السنّة والجماعة كما ذكرهم شارح كتابه الملا عليّ القارئ الحنفي.

والّذي يعنينا أن نعرف ماذا قالوا ؟ لم يأتوا بشيء جديد ، ولم يخرجوا عن أطار التبرير وإن باؤا بإثم التزوير. فكلّ ما مخض سقاؤهم أنّ الروايات المختلفة الآنفة الذكر يجب تخريجها على نحو الإستفهام الإنكاري ، ولم

_______________________

(١) جاء في سر العالمين للغزالي / ٩ ط بومبي الهند عليّ الحجر سنة ١٣١٤ : « إن الرجل ليهجر ».

٣٤١

يخرج عن تلك الروايات ، إلّا الرواية الثالثة الّتي لم يذكر لهم فيها رأياً ولم يعلّق عليها هو بشيء ، لكنّ شارح كتابه لم تفته المشاركة في الحلبة ، فحشرها مع سابقها ولاحقها فعلّق عليها بقوله : بتقدير إستفهام انكار ..

ثالثاً : ذكر اختلاف العلماء في معنى الحديث ، فذكر أربعة آراء كلّها تدور في فلك التبرير :

أوّلها : إنّ الأوامر إذا اقترنت بقرينة تخرجها من الوجوب إلى الندب والإباحة ، فلعلّه ظهر من قرائن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعضهم ما فهموا منه أنّه لم يكن عزمة ، وبعضهم لم يفهم ذلك فقال : استفهموه ، فلمّا أختلفوا كفّ عنه إذ لم يكن عزمة ، ولما رأوه من صواب رأي عمر.

وهؤلاء قالوا عن امتناع عمر إمّا اشفاقاً عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإمّا خشي أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحسون بالحرج في المخالفة ، فرأى الأرفق بالأمة سعة الاجتهاد الخ.

ثانيها : أنّ عمر خشي تطرق المنافقين إلى أن يقولوا فيما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة (؟) وأن يتقولوا الأقاويل كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك.

ثالثها : انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما قال لهم ذلك عن طريق المشورة والإختبار ليراهم هل يتفقون أم يختلفون ، فلمّا أختلفوا تركه.

رابعها : انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مجيباً لما طُلب منه ولم يكن ذلك منه ابتداء ، فأجاب رغبة الطالب ، وكره غيره ذلك للعلل الّتي ذكرها في الرأيين الأوّل والثاني.

وفي كلّ هذه الآراء مواقع للنظر نذكر بعضها :

٣٤٢

أمّا الأوّل وهو احتمال وجود قرينة في المقام عرفها بعضهم ولم يعرفها آخرون ، فهو من واهي الأحتمالات وقد مرّ مثله والجواب عنه فراجع ما مرّ عن المازري وقبل ذلك ما قلناه مع الخطابي.

وأمّا الثاني وهو إمّا إحتمالاً أن يكون عمر أشفق على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمنع من أمتثال أمرِهِ ، فهذا من قبيل المثل (اكوس عريض اللحية) فكيف يكون مشفقاً عليه وهو يعلن ردّ أمره ويشغب عليه ؟ وأين منه الشفقة وقد سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكلّبا. كما في حديث ابن عمر الّذي أخرجه الدارقطني في سننه قال : « خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض أسفاره فسار ليلا فمرّوا على رجل جالس عند مقراة له (١) فقال عمر : يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك ؟ فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا صاحب المقراة لا تخبره هذا مكلِب ، لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور) ... ا ه‍ » (٢).

أقول : والمكلِب ـ بكسر اللام ـ معلم الكلاب للصيد ، وبفتحها المقيّد ولما كان معروفاً بالغلظة والشدة ، وإذا لاحاه بعض أهله أصطلم أذنه شبّهه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمكلّب معلّم الكلاب ، إذ لا يكون معلّمها إلّا من هو أكلب منها لتخافه ، فمن كان كذلك أين منه الشفقة المزعومة ؟

وأمّا أحتمال خشية تطرق المنافقين فيجدوا سبيلاً إلى الطعن فيما لو كتب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا مرّ عن الخطابي ومرّ الجواب عنه. وأمّا تمثيله لتطرق المنافقين بادعاء الرافضة الوصية ، فليس ادّعاؤهم من دون دعوى البكرية أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب لأبي بكر بالخلافة ، بل أدعاؤهم كان هو الحقّ الّذي لا مرية فيه ، لأنّه قد

_______________________

(١) المقراة : كل ما أجتمع الماء فيه ـ القاموس.

(٢) سنن الدارقطني ١ / ٢٦.

٣٤٣

اعترف بصحة دعواهم عمر بن الخطاب حين قال لابن عباس أراده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمر فمنعته من ذلك.

وأمّا الثالث وهو الجديد ـ فيما أعلم ـ إذ لم يأت في زبر الأولين ، وهو انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم على طريق المشورة والاختبار ، هل يتفقون فيكتب لهم ، أو يختلفون فيتركه ، فلمّا أختلفوا تركه.

وصاحب هذا الرأي الفطير من الغباء بمكان ، إذ تخيل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في أخريات أيامه بعد لم يعرف أصحابه معرفة تامة ، وهو الّذي عايشهم طيلة ثلاثاً وعشرين سنة فلم يعرفهم وما كان عليه بعضهم من المخالفة له ، وكأن تلك التجارب الّتي مرّت عليه في اختلافهم عند المشورة لم تترك في نفسه أثراً يذكر حتى احتاج إلى إختبارهم مرة أخرى ؟

ألم يستشرهم في حرب بدر فكان منهم السامع المجيب ، ومنهم المخذّل المريب الّذي يقول له : انها قريش ما ذلّت منذ عزّت.

ألم يستشرهم في أسارى بدر ؟ فكان منهم من يرى قتل الأسارى ، ومنهم من يرى أخذ الفداء حتى نزلت الآية فحسمت الموقف المترجرج وذلك في قوله تعالى : ( حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) (١).

ألم يختلفوا عليه في وقعة أحد ؟!

ألم يختلفوا عليه في وقعة الأحزاب ؟!

ألم يختلفوا عليه في قضية بني النضير ؟!

ألم يختلفوا عليه في صلح الحديبية ؟!

_______________________

(١) محمّد / ٤.

٣٤٤

ألم وألم ؟ وكلّ ألمٍ فيها ألم !!

وأمّا الرأي الرابع ـ وهو كشف جديد كسابقه ـ ما أنزل الله به من سلطان ، إذ يقول صاحبه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن مبتدءاً بأمره ، بل قال إئتوني أكتب لكم كتاباً لمن طلب منه ذلك ، وأستدل على ذلك بقول العباس لعليّ : أنطلق بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن كان الأمر فينا علمناه ، وكراهة عليّ هذا وقوله : لا أفعل ... الحديث.

وهذا من الغرابة بمكان فإن قول العباس لعليّ ـ لو صح ـ إنّما كان صبح يوم الوفاة كان بعد حديث الرزية يوم الخميس بأربعة أيام ، فكيف يكون هو السبب لتقديم الطلب ويكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجيباً لا مبتدءاً ، كما في تاريخ ابن الأثير وغيره فراجع.

سادساً : ابن الأثير الجزري

قال في كتابه النهاية : (هجر) ومنه حديث مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قالوا ما شأنه أهجر ، أي أختلف كلامه بسبب المرض على سبيل الإستفهام ، أي هل تغيير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض ، وهذا أحسن ما يقال فيه ، ولا يجعل اخباراً فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان ، والقائل كان عمر ولا يظن به ذلك (١).

التبرير الفطير عند ابن الأثير :

ليس من القسوة عليه ما وصفناه به ، فهو إذ لم يأتنا بجديد من عنده ، وكلّ ما بذله من جهده ، أنّه أجترّ أقوال السابقين من علماء التبرير ، واستحسن ذلك ،

_______________________

(١) النهاية في غريب الحديث والأثر ٤ / ٢٥٥ ط الاُولى مطبعة الخيرية بمصر سنة ١٣٢٢ ه‍ (مادة هجر).

٣٤٥

وحيث مرّت بنا نماذج من أقوالهم وردّها ، فلا نطيل الوقوف ثانياً عندها. إلّا أنّ من حقنا أن نسأله لما ذكر الحديث أوّلاً مبهِماً أسماء القائلين وهم جماعة. ثمّ صرّح أخيراً باسم عمر وهو مفرد ؟ فهل كان عمر هو الجماعة ؟ (كلّ عضوٍ في الروع منه جموع) ؟

ولماذا قال أخيراً ولا يظن به ذلك ؟ أليس ذلك من ابن الأثير هو التبرير الفطير ، فلماذا لا يظن بعمر ذلك وهو رأس الحربة الّتي طعنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فؤاده ، إذ عارضه فلم يمكّنه من بلوغ مراده.

فهل أنّ مقامه فوق مقام الرسول الكريم ، فيجب أن يحترم ولو على حساب كرامة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللّهم إن هذا الرد بهتان عظيم.

سابعاً : النووي

قال : في شرحه صحيح مسلم : بعد مقدمة في عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ممّا يخل بالتبليغ : وليس معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها ، ممّا لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته ، وقد سحر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صار يخيّل إليه أنّه فعل الشيء ولم يكن فعله ، ولم يصدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام الّتي قرّرها.

ثمّ قال : فإذا علمت ما ذكرناه فقد أختلف العلماء في الكتاب الّذي همّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به.

فقيل : أراد أن ينص على الخلافة في انسان معين لئلا يقع نزاع وفتن.

وقيل : أراد كتاباً يبيّن فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ، ويحصل الإتفاق على المنصوص عليه وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ بالكتاب حين ظهر له

٣٤٦

أنّه مصلحة أو أوحي إليه بذلك ، ثمّ ظهر أنّ المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ، ونسخ ذلك الأمر الأوّل.

وأمّا كلام عمر رضي‌الله‌عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنّه من دلائل فقه عمر وفضائله ، ودقيق نظره ، لأنّه خشي أن يكتب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أموراً ربّما عجزوا عنها وأستحقوا العقوبة عليها لأنّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها ، فقال عمر : حسبنا كتاب الله لقوله تعالى : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) وقوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (٢) ، فعلم أنّ الله تعالى أكمل دينه فأمن من الضلال على الأمة ، وأراد الترفيه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان عمر أفقه من ابن عباس (٣).

مع النووي :

لابدّ لنا من وقفة مع النووي !

أوّلاً : في المقدمة الّتي ذكرها في عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التبليغ وعدمها من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام فقال في ذلك : وقد سحر صلّى الله عليه (وآله) وسلّم حتى صار يخيّل إليه أنّه فعل الشيء ولم يكن فعله ، وقد أعتبر ذلك غير مضرّ برسالته.

فنقول له : إن ما ورد من أخبار القصّاص الجهال بأنه سحر حتى صار كيت وكيت لا يمكن التصديق بها ، وإن رواها البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة وغيرها ، فهي أشبه بحديث خرافة ، ويكفي في ردّها جملةً وتفصيلاً قول الله

_______________________

(١) الأنعام / ٣٨.

(٢) المائدة / ٣.

(٣) شرح صحيح مسلم للنووي ١١ / ٩٠ ط مصر.

٣٤٧

تعالى حيث أنكر على الكفّار الظالمين قولهم : ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ) (١) والمسحور هو الّذي خبل عقله ، فأنكر الله تعالى ذلك. وذلك لا يمنع من جواز أن يكون بعض اليهود قد اجتهد في ذلك فلم يقدر عليه ، فأطلع الله نبيّه على ما فعله ، حتى استخرج ما فعلوه من التمويه ، فكان ذلك دلالة على صدقه ومعجزة له.

قال ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد وقد ذكر الحديث عن عائشة فقال : « وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الأنكار ، وقابلوه بالتكذيب ، وصنف بعضهم فيه مصنفاً مفرداً حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه ان قال غلط وأشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء ، قال : لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجوز أن يسحر فإنّه يكون تصديقاً لقول الكفّار : ( إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ) (٢) ، قالوا : وهذا كما قال فرعون لموسى : ( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا ) (٣) ، وقال قوم صالح له : ( إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) (٤) ، وقال قوم شعيب له : ( إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) ، قالوا : فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا ، فإنّ ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين » (٥).

ثانياً : ما ذكره من اختلاف العلماء فذكر قولين :

أولهما : وهو الحقّ الّذي أباه عمر لأنّه أعترف بعد ذلك أمام ابن عباس بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد عليّاً للأمر فمنعته من ذلك فتبيّن المراد عندما تبين العناد.

_______________________

(١) الإسراء / ٤٧.

(٢) الإسراء / ١٠١.

(٣) الشعراء / ١٥٣.

(٤) الشعراء / ١٨٥.

(٥) بدائع الفوائد ٢ / ٢٢٣.

٣٤٨

وأمّا ثانيهما : فهو من نسج الخيال ولا نطيل فيه المقال لكننا نسأل النووي عن مزاعمه التالية :

١ ـ قوله اتفق العلماء ؟ فأين وقع ؟ ومتى وقع ؟ ثمّ كيف يزعم ذلك وهو الّذي سبق منه أن قال : « اختلف العلماء » في المراد من الكتاب ، فهم حين اختلفوا في المراد كيف اتفقوا على أنّ الحديث من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنّه خشي أن يكتب أموراً ... الخ وفهم عمر على زعمه لا يتفق مع أصحاب القول الأوّل ولم يرده عمر. وإنّما يتفق مع أصحاب القول الثاني فقط. فكيف يكون اتفاق مع هذا الاختلاف ؟

٢ ـ قوله : « إنّه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره ». فكيف يزعم له ذلك ولازمه أن يكون عمر أبصر بمصلحة الأمة من نبيها ؟ ولعل النووي يرى ذلك ! ولكن لم يجرأ على البوح به فقال الّذي قال ، ومهما كان عمر فليس يُصدّق زعم من يرى فيه أنّه خشي أن يكتب أموراً ربّما عجزوا عنها ، لأنّ مبنى عذر النووي هو الخشية والاحتمال لا التحقق ، ومع ذلك ربّما تكون النتيجة العجز ولربما لا تكون ، ولو سلمنا جدلاً أنهم عجزوا عنها فهم معذورون و ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) (١).

ثمّ إنّ عمر لم يكن مسدّداً بالوحي ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينزل عليه الوحي ، فهلا احتمل بدقيق نظره ؟ ـ كما يحلو للنووي وصفه بذلك ـ أنّ ما أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من أمر الوحي فهو مأمور بالتبليغ عند الإطاعة ، فإذا هم عصوا تركهم وتركاضهم في الضلال فلماذا منع عمر من امتثال أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

_______________________

(١) البقرة / ٢٨٦.

٣٤٩

٣ ـ كيف يكون عمر أفقه من ابن عباس لأنّه قال : « حسبنا كتاب الله ». ومن المعلوم يقيناً أنّ الكتاب المجيد لم يتكفل ببيان جميع أحكام الشريعة بتفاصيلها ، فخذ مثلاً حكم فريضة الصلاة الّتي هي عمود الدين فلم يرد في الكتاب المجيد ما يبين جميع فروضها وأركانها وسائر أحكامها وسيأتي مزيد بيان حول عدم الإستغناء في الأحكام بالكتاب وحده ، ولابدّ من أخذ السنّة معه.

ولنعد إلى تفضيل النووي لعمر على ابن عباس في فقاهته. ولنسأله أين كانت فقاهة عمر غائبة عنه يوم يقول لابن عباس : « قد طرأت علينا عُضَل أقضية أنت لها ولأمثالها » (١).

وأين كانت فقاهته حين يقول له : « غص غواص » (٢).

فكيف يكون عمر أفقه من ابن عباس ؟ وعمر هو القائل : « من كان سائلاً عن شيء من القرآن فليسأل عبد الله بن عباس » (٣) ، وأين غابت عنه فقاهته يوم سئل عن مسألة فقال فيها ، فقام إليه ابن عباس فساره فقال : يا أميرالمؤمنين ليس الأمر هكذا ، فأقبل عمر على العباس ـ وكان عنده ـ فقال له : يا أبا الفضل بارك الله لك في عبد الله إنّي قد أمّرته على نفسي فإذا أخطأت فليأخذ عليَّ (٤) ... إلى غير ذلك ممّا قاله عمر وغير عمر في علم ابن عباس وسيأتي بعض تلك الأقوال في تاريخه العلمي.

_______________________

(١) روى ابن سعد قول عمر عن سعد بن أبي وقاص بلفظ آخر : ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ثمّ يقول عندك قد جاءتك معضلة ثمّ لا يجاوز قوله وان حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار (طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ / ١٢٢) ، وراجع فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم ١٩١٣.

(٢) طبقات ابن سعد (الطبقة الخامسة) ١ / ١٤١ تح‍ السُلمي ، وسير أعلام النبلاء ٣ / ٢٤٦ ط مؤسسة الرسالة ، وفضائل الصحابة ٢ / ٦٨١ ط مؤسسة الرسالة.

(٣) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم ١٨٩٣ ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة ١٤٠٣.

(٤) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ٢ / ٩٨٢ برقم ١٩٤٢ ط مؤسسة الرسالة.

٣٥٠

ولا يفوتني تنبيه القارئ إلى أنّ النووي لم يكن بدعاً في قومه فله أمثال ابن بطال والقسطلاني من شرّاح البخاري الّذين يذهبون مذهبه فقد قالوا : وعمر أفقه من ابن عباس حيث أكتفى بالقرآن ولم يكتف ابن عباس به ! ولا حاجة بنا إلى إبطال أقوال ابن بطال وغيره فهم في التزوير أبطال ، ولكن لابدّ من وقفة قصيرة للموازنة بين فقه عمر وبين فقه ابن عباس ، بعد معرفة معنى الفقه.

فأقول : لقد جاء في (المفردات في غريب القرآن الكريم) للراغب الأصبهاني ، مادة : فقه : (الفقه) : هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد ، فهو أخص من العلم ... ويعني بذلك أنّ فقه الشيء يحتاج إلى جهد ذهني من الإنسان ليصل إلى فهم أمره ، إمّا باستنباط من أمر ، أو ظاهر نص يجده.

أمّا العلم فهو قد يحصل دون جهد وتفكير ، وقد يحصل ببذل جهد أيضاً ، فالفقه أخص من العلم ، فكم من عالم ليس بفقيه ، ولذلك قال علماء اللغة : الفقه هو الفهم ، أي فهم حقيقة الشيء وإدراك معناه ، ولهذا نفى الله تعالى الفقه عن الكفّار فقال : ( لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا ) (١). وإذا عرفنا معنى الفقه وأنّه الفهم لحقيقة الأمر ، فلنرجع إلى مقالة ابن بطال والنووي لنرى مَن هو الأفقه من الرجلين ابن عباس أو عمر ؟

أيهما أفقه عمر أم ابن عباس ؟

لا أريد أستباق الشواهد الدالة على أفقهية ابن عباس وللحديث عنها مجال آخر. ولكن لابدّ لي من ذكر شاهد واحد يصلح للموازنة بين الرجلين وذلك ما أخرجه جملة من أئمّة الحديث ممّن لا يتهمون في نقله كابن الجوزي والحاكم والبيهقي وابن كثير وابن حجر والسيوطي وغيرهم.

_______________________

(١) الأعراف / ١٧٩.

٣٥١

عن عكرمة قال : قال ابن عباس : « دعا عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألهم عن ليلة القدر ؟ فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر. فقلت لعمر : إنّي لأعلم وإنّي لأظن أيّ ليلة هي ، قال : وأيّ ليلة هي ؟ قلت سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر.

قال : ومن أين تعلم ؟

قال قلت : خلق الله سبع سموات ، وسبع أرضين ، وسبعة أيام وإنّ الدهر يدور في سبع ، وخلق الإنسان فيأكل (؟) ويسجد على سبعة أعضاء ، والطواف سبع ، والجبال سبع.

فقال عمر رضي‌الله‌عنه لقد فطنت لأمر ما فطنّا له.

وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : كنت عند عمر وعنده أصحابه فسألهم فقال : أرأيتم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر وترا أي ليلة ترونها ؟ فقال بعضهم : ليلة أحدى وقال بعضهم : ليلة ثلاث ، وقال بعضهم : ليلة خمس ، وقال بعضهم : ليلة سبع ، وأنا ساكت فقال : مالك لا تتكلم ؟ قلت : إنك أمرتني أن لا أتكلم حتى يتكلموا. فقال : ما أرسلت إليك إلّا لتتكلم فقلت : إني سمعت الله يذكر السبع ، فذكر سبع سموات ومن الأرض مثلهن ، وخلق الأنسان من سبع ، ونبت الأرض سبع.

فقال عمر رضي‌الله‌عنه : هذا أخبرتني ما أعلم ، أرأيت ما لم أعلم قولك : (نبت الأرض سبع) قال : قال الله عزوجل : ( ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) (١).

_______________________

(١) عبس / ٢٦ ـ ٣١.

٣٥٢

قال : فالأبّ ما أنبتت الأرض ممّا تأكله الدواب والأنعام ولا يأكله الناس.

قال فقال عمر رضي‌الله‌عنه لأصحابه : أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الّذي لم تجتمع شئون رأسه ، والله إنّي لأرى القول كما قلت » (١).

هذا شاهد واحد ممّا يرويه أصحاب الحديث ممّن لا يتهمون على عمر. ثمّ دع عنك ابن عباس فإنّه حبر الأمة وترجمان القرآن ، وهلم إلى سائر الناس الّذين كانوا أعلم وأفقه من عمر باعترافه ، وإليك جملة من اعترافاته :

١ ـ قال : « كلّ الناس أفقه منك يا عمر » (٢).

٢ ـ قال : « كلّ الناس أفقه من عمر » قالها في واقعتين (٣).

٣ ـ قال : « كلّ أحد أفقه مني قالها ثلاثاً » (٤).

٤ ـ قال : « كلّ واحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر » (٥).

٥ ـ قال : « كلّ واحد أفقه منك يا عمر » (٦).

٦ ـ قال : « كلّ الناس أعلم منك يا عمر » (٧).

٧ ـ قال : « كلّ الناس أعلم من عمر » (٨).

إلى غير ذلك من أقواله.

_______________________

(١) أنظر مسند عمر / ٨٧ ، مستدرك الحاكم ١ / ٤٣٨ وصححه ، سنن البيهقي ٤ / ٣١٣ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٥٣٣ ، تفسير السيوطي ٦ / ٣٧٤ ، فتح الباري ٤ / ٢١١.

(٢) العقد الفريد ٣ / ٤١٦.

(٣) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد ١ / ٦١ ، ونور الأبصار للشبلنجي / ٧٩.

(٤) الرياض النضرة ٢ / ١٩٦.

(٥) نور الأبصار / ٦٥.

(٦) الرياض النضرة ٢ / ٥٧.

(٧) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٤ / ٢٧٧.

(٨) تفسير الكشاف ٢ / ٤٤٥.

٣٥٣

فكيف يمكن تصديق الزعم بأنّه في تصرفه الشاذ يوم الخميس وكلمته النابية في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخيراً قوله حسبنا كتاب الله يكون أفقه من أبن عباس ؟!

ولست في مقام المفاضلة ولكن أود تنبيه القارئ إلى أنّ ابن عباس كان قد حفظ المحكم على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعمر لم يحفظ سورة البقرة إلّا في أثنتي عشرة سنة (١).

ثمّ أليس عمر هو الجاهل والسائل من أبي واقد الليثي : « بأي شيء كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في مثل هذا اليوم » (٢) ـ وكان ذلك يوم العيد ـ.

فمن كان يجهل ما كان يقرأه النبيّ في صلاة العيد كيف يمكن أن يُزعم له بأنّه أفقه من ابن عباس ؟

اللّهم إنّ ذلك من أكبر الشطط والغلط.

وأخيراً لا آخراً فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان ، والضياء المقدسي في المائة المختارة والخوارزمي في الجامع عن إبراهيم التيمي قال : « خلا عمر ذات يوم فأرسل إلى ابن عباس فقال له : كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟

_______________________

(١) في شرح الموطأ للزرقاني ٢ / ١٩٤ ما لفظه : وأخرج الخطيب في رواية مالك عن ابن عمر قال : تعلم عمر في أثنتي عشرة سنة فلمّا ختمها نحر جزوراً.

جاء في ربيع الأبرار ٢ / ٧٧ ط الأوقاف ببغداد : حفظ عمر سورة البقرة فنحر وأطعم.

(٢) هذا ما أخرجه عنه أصحاب الصحاح والسنن كمسلم في صحيحه ١ / ٢٤٢ ، وأبي داود في سننه ٢ / ٢٨٠ ، ومالك في الموطأ ١ / ١٤٧ ، وابن ماجة في سننه ١ / ١٨٨ ، والترمذي في صحيحه ١ / ١٠٦ ، والنسائي في سننه ٣ / ١٨٤ ، والبيهقي في سننه ٣ / ٢٩٤.

٣٥٤

قال ابن عباس : إنّا اُنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل ، وأنّه يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيم نزل ، فيكون لكلّ قوم فيه رأي ، وإذا كان كذلك اختلفوا ... » (١).

وأخرج أحمد في مسنده (٢) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٣) بعدة طرق : عن كريب عن ابن عباس أنّه قال له عمر : « يا غلام هل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أو من أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع ؟

قال : فبينما هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف قال فيم أنتما ؟

فقال عمر : سألت هذا الغلام هل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أو أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع ؟ فقال عبد الرحمن : سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول : (إذا شك أحدكم ...) الحديث ».

فعمر الخليفة وهو لا يعرف حكم الشك في الصلاة ـ وهي فريضة يأتي بها المسلم كلّ يوم خمس مرات ـ حتى يسأل عن حكم الشك فيها من ابن عباس وهو بعد غلام. ولم يكن عند ابن عباس في ذلك سماع في الحكم. كيف يكون هو أفقه ؟

_______________________

(١) كنز العمال ٢ / ٢١٥ ط حيدر آباد (ثمانية) ، ومفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنّة للسيوطي ١ / ٤٦ ط الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ط الثالثة ، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ٢ / ١٩٤ ط مكتبة المعارف بالرياض.

(٢) مسند أحمد ١ / ١٩٠ و ١٩٥.

(٣) السنن الكبرى ٢ / ٣٣٢.

٣٥٥

ثامناً : ابن تيمية

قال في كتابه منهاج السنّة بعد حكايته قول العلّامة ابن المطهر الحلي في حديث الكتف والدواة فقال رداً عليه : والجواب أن يقال : أمّا عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر ، ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم أنّه كان يقول : قد كان في الأمم قبلكم محدّثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر (!؟).

قال ابن وهب : تفسير : (محدّثون ملهمون)... إلى آخر ما ذكره من سياق وشواهد على إلهام عمر بما لا ينفعه بل عليه أضرّ.

ثمّ قال : وأمّا قصة الكتاب الّذي كان رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يريد أن يكتبه فقد جاء مبيناً في الصحيحين عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر.

ثمّ ساق حديثاً آخر عن البخاري نحو ما سبق ، وأتبعه بثالث عن مسلم عن عائشة وسئلت من كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستخلفاً لو استخلف ؟ قالت : أبو بكر. فقيل لها ثمّ مَن بعد أبي بكر ؟ قالت : عمر. قيل لها ثمّ مَن بعد عمر قالت : أبو عبيدة عامر بن الجرآح ثمّ انتهت إلى هذا. ثمّ قال : وأمّا عمر فأشتبه عليه هل كان قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة ، والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال : ما له أهجر ، فشك في ذلك ولم يجزم بأنّه هجر ، والشك جائز على عمر ، فإنه لا معصوم إلّا النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ، لاسيما وقد شك بشبهة ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض ، أو كان من كلامه المعروف الّذي يجب قبوله.

٣٥٦

ولذلك ظن أنّه لم يمت حتى تبين أنّه قد مات ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الّذي ذكره لعائشة ، فلمّا رأى أنّ الشك قد وقع ، علم أنّ الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة.

وعلم أنّ الله يجمعهم على ما عزم عليه ، كما قال : (ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر).

وقول ابن عباس : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وبين أن يكتب الكتاب ، يقتضي أنّ هذا الحائل كان رزية ، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو أشتبه عليه الأمر ، فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك.

فأمّا من علم أنّ خلافته حقّ فلا رزية في حقه ولله الحمد.

ومن توهم أنّ هذا الكتاب كان بخلافة عليّ فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنّة والشيعة (؟). أمّا أهل السنّة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه.

وأمّا الشيعة القائلون بأنّ عليّاً كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنّه قد نُص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً ، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب.

وإن قيل : إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى.

وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته ، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك ، فلو كان ما يكتبه في الكتاب ممّا يجب بيانه وكتابته

٣٥٧

لكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّنه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنّه أطوع الخلق له ، فعلم أنّه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذٍ ، إذ لو وجب لفعله.

ولو أنّ عمر اشتبه عليه أمر ثمّ تبين له أو شك في بعض الأمور فليس هو أعظم ممّن يفتي ويقضي بأمور ، ويكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حكم بخلافها مجتهداً في ذلك ، ولا يكون قد علم حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ الشك في الحقّ أخف من الجزم بنقيضه ، وكلّ هذا باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الّذي رفع المؤاخذة به (١) ... إلى آخر ما ذكره من تهويش وتشويش لا يسمن ولا يغني.

مع ابن تيمية :

وفي كلامه مواقع كثيرة للنظر نشير إلى بعضها :

أوّلاً : زعمه فضل عمر على الأمة بعد أبي بكر وانه كان محدّثاً ملهما ؟ وهذا منطق علماء التبرير في كلّ زمان ، ولكن لنا أن نسأل أين يغيب عنه ذلك الفضل والإلهام حين تعتاص عليه الأمور ، فلا يجد مخرجاً إلّا عند الآخرين ، فيلجأ إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وما أكثر المواطن الّتي قال فيها : « لولا عليّ لهلك عمر » ، و « لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن » ؟

وأين يكون ذلك الفضل المزعوم والإلهام الموهوم حين تطرأ عليه العضل وهو لا يعرف لها مخرجاً ، فيدعو ابن عباس فيقول له : « قد طرأت علينا عضل أقصية أنت لها ولأمثالها » ؟

_______________________

(١) منهاج السنّة ٣ / ١٣٤ ـ ١٣٥ ط أفست بولاق سنة ١٣٢٢ ه‍.

٣٥٨

وخلّ عنك عليّاً وابن عباس فالأوّل باب مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والثاني حبر الأمة ، ولا غضاضة عليه لو رجع إليهما. ولكن كيف يفضل على جميع الأمة عدا أبي بكر ، وهو دون مستوى الكثير الكثير من الصحابة وقد مرّت بنا أقواله الّتي قالها : « كلّ الناس أفقه منك يا عمر » (١). وقوله الآخر : « كلّ أحد أفقه من عمر » (٢). لكن علماء التبرير يأبون ذلك لا عن حجة ولكن دفعاً بالصدر.

ثانياً : زعمه أنّ الّذي أراد أن يكتبه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو خلافة أبي بكر ، وهذا قد مرّ مثله عند ابن حزم وغيره ، فلا حاجة إلى الوقفة عنده طويلاً سوى إنّا نود أن نسأل ابن تيمية الّذي استدل بثلاثة أحاديث كلّها عن عائشة فالأوّل عن الصحيحين ثمّ الثاني عن البخاري وحده وهذا ما استدل به غيره أيضاً ومرّ ما عندنا فيهما ، ولكن ما رأي علماء التبرير وابن تيمية منهم في الحديث الثالث الّذي رواه عن مسلم. وفيه ترشيح أبي عبيدة للخلافة من بعد عمر ؟ فأين كان الرواة عنه يوم السقيفة لحسم النزاع بين المهاجرين والأنصار وأحسبه لم يختلق بعد ، بل أحسبه من الموضوعات أيام النفرة بينها وبين عثمان حين كانت تقول : « اقتلوا نعثلاً فقد كفر » (٣) ، ولو كان له أدنى نصيب من الصحة لذكر فيه عثمان بعد عمر لأنّه الّذي تولى الخلافة ، وعلماء السلطان يروون في ترتيبهم ما ينسبونه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل ذلك.

ثالثاً : زعمه أنّ عمر أشتبه عليه الأمر ، لماذا ذلك وهو صاحب الإلهام المزعوم وأنّه لو كان من المحدّثين أحد في هذه الأمة لكان هو ؟

_______________________

(١) كشف الخفاء للعجلوني ١ / ٤٦٦ و ٢ / ١٥٣ و ١٥٥ ط مؤسسة الرسالة بيروت.

(٢) سنن سعيد بن منصور ١ / ١٩٥ ط دار العصيمي بالرياض ، وكتاب الزهد لابن أبي عاصم ١ / ١١٤ ط دار الريان للتراث بالقاهرة.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٩٧ و ١١٤ ط الأولى بمصر.

٣٥٩

ثمّ كيف يشتبه عليه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة ؟ فهل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال مبهِماً ومتمتِماً ؟ أو لم يقلها كلمة صريحة فصيحة (إئتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ) ؟ أين الكلام الّذي يوجب الاشتباه ؟

ثمّ لماذا لم يشتبه ذلك على غير عمر ممّن حضر عنده ؟ ولماذا أحصر عمر عندما اشتبه عليه الحال إلّا أن يقول : « إنّ النبيّ ليهجر » ؟

نعم كلّ ما يهدف إليه ابن تيمية هو تبرئة عمر من وزر الكلمة وإن تم ذلك على حساب قدسية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكرامته. ولكن الإعتذار باشتباه عمر لا يرفع عنه الوزر ما دام هو يقرّ لابن عباس بأنه عرف مراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب وأنّه أراد أن يكتب لابن عمه فمنع منه وفيما تقدم في الصورتين الثالثة والرابعة من صور الحديث ما يؤكد منعه عن معرفة بالمراد ، وكان المنع منه عن سبق إصرار وعناد فراجع.

رابعاً : زعمه أنّ قول ابن عباس : « الرزية كلّ الرزية » إنّما هو في حقّ من شك في خلافة أبي بكر أو أشتبه عليه الأمر ، فأمّا من علم أنّ خلافته حقّ فلا رزية في حقّه ؟

ولنا أن نسأل ابن تيمية عن ابن عباس صاحب الكلمة هل كان شاكاً أو مشتبهاً عليه الأمر ؟ أو كان عالماً بحقيقة خلافة أبي بكر ؟ والثاني منفي لأنّه هو صاحب الكلمة وهو يتحدث عن نفسه ويعبر عن شعوره ، إذن هو من الشاكين أو المشتبه عليهم الأمر في تحديد ابن تيمية. وإذا كان كذلك ، فابن عباس غير مؤمن بحكم ما يرويه البخاري عن عائشة من حديث ارادة أستخلاف أبي بكر

٣٦٠