موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فالخواص : ترك مصانعة الناس في الحق ، وسلامة القلب وحفظ اللسان ، تُصِب بها سرور الرعية ، وسلامة الدين ورضى الرب » (١).

وقد نظم هذه الوصية جملة من العلماء ذكر منهم السخاوي في كتابه التبر المسبوك في ذيل السلوك ، قول شيخه ابن حسان وقد كتبه عنه :

أصفح تحبّب ودار اصبر تجد شرفاً

واكتم لسرٍ فهذي الخمس قد أوصى

بهنّ عثمانَ عباسٌ فدع جدلاً

وانظر إلى قدر من أوصى وما الموصى الموصّى

قال السخاوي : وقد أنشدنا شيخنا أبو النعيم العقبي في هذا المعنى قوله :

واظب على الخمس التي أوصى بها

العباس عم المصطفى عثمانا

اصفح ودار اكتم تحبّب واصبرنّ

تزدد بها يا مؤمناً إيمانا

قال : وكذا أنشد البقاعي ممّا لم يعمل بمضمونه قوله :

إن رمت عيشاً صافياً أزمانا

لا تتبعاً في الرأي من قدمانا

واصفح تحبّب دارِ واصبر واكتم ال‍

‍عباس قد أوصى بها عثمانا

قال : وانشدني المحيوي عبد القادر القرشي بعد دهر في ذلك :

احفظ وصايا قالها العباس إذ

أوصى بها عثمان ذا النورين

اصفح تحبب دار اكتم واصطبر

تُكسى البَها والعز في الدارين (٢)

_______________________

(١) أخبار الدولة العباسية / ٢١ ط دار الطليعة بيروت.

(٢) التبر السبوك في ذيل السلوك / ٣٧٢.

١٤١

وصية العباس للإمام :

لقد تقدم ذكر الوصية عند ذكر وفاة العباس إلّا أنّ ثمة تفاوت وتعقيب وتذنيب اقتضى أعادتها.

قال ابن أبي الحديد : « قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تفريط الجاحظ ، قال : نقلت من خط الصولي : قال الجاحظ : إنّ العباس بن عبد المطلب أوصى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في علته التي مات فيها فقال : أي بُنيّ إني مشفٍ على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، واذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد ، إن هذا الرجل ـ يعني عثمان ـ قد جاءني مراراً بحديثك ، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد عليك إلّا مثل ما أجد منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلّا مثل ما أجد منك له ، ولست تؤتى من قلة علم ولكن من قلة قبول ، ومع هذا كله فالرأي الذي أودّعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، وهمزك وغمزك ، فإنه لا يبدؤك ما لم تبدؤه ، ولا يجيبك عما لم يبلغه ، وأنت المتجني وهو المتأني ، وأنت العائب وهو الصامت فإن قلت كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا أحق ، فقد قاربت ولكن ذاك بما كسبت يداك ، ونكص عنه عقباك ، لأنك بالأمس الأدنى هرولتَ اليهم ، تظن أنهم يُحلّون جيدك ويُختمّون أصبعك ، ويطؤون عقبك ، ويرون الرشد بك ، ويقولون لا بد لنا منك ، ولا معدل لنا عنك ، وكان هذا من هفواتك الكُبر ، وهناتك التي ليس لك منها عذر ، والآن بعد ما ثللت عرشك بيدك ، ونبذت رأي عمك في البيداء ، يتدهده في السافياء ، خذ بأحزم ممّا يتوضح به وجه الأمر ، لا تشارّ هذا الرجل ولا تماره ، ولا يبلغه عنك ما يحنقه عليك ، فإنه إن كاشفك أصاب أنصاراً ، وإن كاشفته لم تر

١٤٢

إلا ضِراراً ، ولم تستلج إلا عثاراً ، واعرف مَن هو بالشام له وَمَن ههنا حوله ومن يطيع أمره ويمتثل قوله ، ولا تغترر بناس يطيفون بك ، ويدّعون الحنوّ عليك والحبّ لك ، فإنهم بين مولى جاهل ، وصاحب متمنّ ، وجليس يرعى العين ويبتدر المحضر ، ولو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك والزمام في يدك ، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فات ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوف عن شيء عرضك له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يتم ، وتصدّيت له مرة بعد مرة فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غلب ، ومن حرص على ممنوع تعب ، فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ذلك ظني به لك ، لا توتر قوسك إلّا بعد الثقة بها ، واذا أعجبتك فانظر إلى سيتها ، ثم لا تفوّق إلّا بعد العلم ، ولا تغرق في النزع إلّا لتصيب ، وانظر لا تطرف يمينك عينَك ، ولا تجنِ شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف (١) وقم إذا بدا لك » (٢).

تعقيب ابن أبي الحديد على الوصية :

قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الوصية المتقدمة : « قلت الناس يستحسنون رأي العباس لعليّ عليه‌السلام في أن لا يدخل في أصحاب الشورى ، وأمّا أنا فاني أستحسنه إن قصد به معنى ، ولا استحسنه إن قصد به معنى آخر ، وذلك لأنه إن

_______________________

(١) هي قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا * قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) الكهف / ١٠٧ ـ ١١٠.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٢٨٢ ط مصر الاُولى.

١٤٣

أجري بهذا الرأي إلى ترفّعه عليهم وعلوّ قدره عن أن يكون مماثلاً لهم ، أو أجري به إلى زهده في الامارة ورغبته عن الولاية ، فكل هذا رأي حسن وصوابه ، وإن كان منزعه في ذلك إلى أنك إن تركت الدخول معهم وانفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنهم يطلبونك ويضربون اليك آباط الإبل حتى يولّوك الخلافة ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فليس هذا الرأي عندي بمستحسن ، لأنه لو فعل لولّوا عثمان أو واحداً منهم غيره ، ولم يكن عندهم من الرغبة إليه عليه‌السلام ما يبعثهم على طلبه ، بل كان تأخره عنهم قرّة أعينهم ، وواقعاً بإيثارهم فان قريشاً كلها كانت تبغضه أشد البغض ، ولو عمّر عمر نوح وتوصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة ، والمناشدة بفضائله تارة ، وبما فعله في ابتداء الأمر من اخراج زوجته وأطفاله ليلاً إلى بيوت الأنصار ، وبما اعتمده اذ ذاك من تخلّفه في بيته واظهار انّه قد عكف على جمع القرآن ، وبسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلّا بتجريد السيف كما فعله في آخر الأمر.

ولست ألوم العرب لا سيما قريشاً في بغضها له وانحرافها عنه ، فإنّه وترها وسفك دماءها ، وكشف القناع في منابذتها ، ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم ، وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس ، كما نشاهد اليوم عياناً ، والناس كالناس الأول ، والطبائع واحدة ، فاحسب انك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً أو من بعض الروم وقد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت ، أكان اسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ، كلا انّ ذلك لغير ذاهب ، هذا إذا كان الإسلام صحيحاً والعقيدة محققة لا كاسلام كثير من العرب ، فبعضهم تقليداً ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفاً من السيف ،

١٤٤

وبعضهم على طريق الحمية والانتصار ، أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه.

واعلم أنّ كل دم أراقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيف عليّ عليه‌السلام وبسيف غيره ، فان العرب بعد وفاته عليه‌السلام عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وحده ، لأنّه لم يكن في رهطه مَن يستحق في شرعهم وسنتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلّا بعليّ وحده ، وهذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل ، فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لمّا قتل قوم من بني تميم أخاً لعمرو بن هند ، قال بعض أعدائه يحرض عمراً عليهم :

من مبلغ عمراً بأن المرء لم يخلق صباره

وحوادث الأيام لا يبقى لها إلّا الحجاره

ها إنّ عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره

تسفي الرياح خلاك كشيحه وقد سلبوا أزاره

فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم ، ولم يكن قاتلاً أخا الملك ولا حاضراً قتله. ومن نظر في أيام العرب ووقائعها ومقاتلها عرف ما ذكرناه » (١).

رأي على رأي !

_______________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٢٨٣ ط الأولى بمصر.

١٤٥

قال ابن أبي الحديد : « سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد رحمه الله فقلت له : إني لأعجب من عليّ عليه‌السلام كيف بقي تلك المدة الطويلة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وكيف ما قتل وفتك به في جوف منزله مع تلظي الأكباد عليه ؟

فقال : لولا انّه أرغم أنفه بالتراب ووضع خده في حضيض الأرض لقتل ، ولكنه أخمل نفسه واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن ، وخرج عن ذلك الزي الأول وذلك الشعار ونسي السيف ، وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحاً في الأرض أو راهباً في الجبال ، ولما أطاع القوم الذين ولوا الأمر ... تركوه وسكتوا عنه ، ولم تكن العرب لتقدم عليه إلّا بمواطاة من متولي وباطن في السر منه ، فلمّا لم يكن لولاة الأمر باعث وداع إلى قتله وقع الإمساك عنه ، ولولا ذلك لقتله ، ثم أجلٌ بعدُ معقل حصين.

فقلت له : أحق ما يقال في حق خالد ؟

فقال : إنّ قوماً من العلوية يذكرون ذلك ، ثم قال : وقد روي أنّ رجلاً جاء إلى زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام والفعل الكثير أو الحدث ، فقال : إنه جائز ، قد قال أبو بكر في تشهده ما قال.

فقال الرجل : وما الذي قاله أبو بكر ؟ قال : لا عليك ، فأعاد عليه السؤال ثانية وثالثة ، فقال : أخرجوه أخرجوه قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي الخطاب.

قلت له : فما الذي تقوله أنت ؟

قال : أنا أستبعد ذلك وإن روته الإمامية ، ثم قال : أمّا خالد فلا استبعد منه الإقدام عليه بشجاعته في نفسه ولبغضه اياه ، ولكني استبعده من أبي بكر فإنّه كان

١٤٦

ذا ورع ولم يكن ليجمع بين أخذ الخلافة ومنع فدك وإغضاب فاطمة وقتل عليّ عليه‌السلام ، حاشى لله من ذلك.

فقلت له : أكان خالد يقدر على قتله ؟

قال : نعم ولم لا يقدر على ذلك والسيف في عنقه وعلي أعزل غافل عما يراد به ، قد قتله ابن ملجم غيلة وخالد أشجع من ابن ملجم.

فسألته عما ترويه الإمامية في ذلك كيف الفاظه ؟ فضحك وقال : كم عالم بالشيء وهو يسائل ، ثم قال : دعنا من هذا. ما الذي تحفظ في هذا المعنى ؟ قلت قول أبي الطيب :

نحن أدرى وقد سألنا بنجد

أطويل طريقنا أم يطول

وكثير من السؤال اشتياق

وكثير من ردّه تعليل

فاستحسن ذلك وقال : لمن عجز البيت الذي استشهدت به ؟ قلت لمحمد ابن هانيء المغربي وأوله :

في كل يوم استزيد تجاربا

كم عالم بالشيء وهو يسائل

فبارك عليّ مراراً ... (١)

وللعباس رضي‌الله‌عنه كلام يجري مجرى الخطبة ، منه ما قاله في ليلة بيعة العقبة الثانية حيث كان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

ذكر ابن سعد في الطبقات بسنده عن معاذ بن رفاعة قال : « كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال يا معشر الخزرج. وكانت الأوس والخزرج

_______________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٢٨٣.

١٤٧

تدعى الخزرج ـ إنكم قد دعوتم محمداً إلى ما دعوتموه إليه ، ومحمد من أعز الناس في عشيرته يمنعه والله من كان منا على قوله ومن لم يكن منا على قولـه منعة للحسب والشرف ، وقد أبى محمّد الناس كلهم غيركم ، فإن كنتم أهل قوة وجلدٌ وبَصَرٌ بالحرب ، واستقلال بعداوة العرب قاطبة فانها سترميكم عن قوس واحدة ، فارتؤوا رأيكمُ وأئتمروا أمركم ولا تفرقوا إلّا عن ملأ منكم واجتماع ، فان أحسن الحديث أصدقهُ. وأخرى صفوا إليّ الحرب كيف تقاتلون عدوكم ؟

فأجابوه ووصفوا له ما أراد فقال : أنتم اصحاب حرب فهل فيكم دروع ؟ قالوا نعم شاملة. وعند البيعة كان العباس آخذاً بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكد له البيعة تلك الليلة على الانصار » (١).

وقال البلاذري في أنساب الأشراف فتكلم العباس فقال : « يا معشر الأوس والخزرج قد دعوتم محمداً إلى ما دعوتموه إليه ، ونحن عشيرته ولسنا بمسلميه ، فإن كنتم قوماً تنهضون بنصرته ، وتقوون عليها ، وإلا فلا تغروه وأصدقوه ، فان خير القول أصدقُه » (٢).

وقال ابن هشام في سيرته : « كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال : يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب إنّما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها ـ إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعنا من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو في عز من قومه ، ومنعة في بلده ، وانه قد أبى إلّا الانحياز

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٤ ق١ / ٣.

(٢) انساب الأشراف ١ / ٢٥٤.

١٤٨

اليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه من خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به اليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنّه في عز ومنعة من قومه وبلده » (١).

ومن كلام للعباس رضي‌الله‌عنه قاله لأبي بكر ومن معه حين أتوه يطمعوه في أن يجعلوا له ولعقبه من بعده نصيباً ليقتطعوه من جانب عليّ وذلك بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيأتي تفصيل ما قالوه له في ما يأتي من فصول الكتاب.

قال : فتكلم العباس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما زعمت ـ نبيّاً وللمؤمنين وليّاً فمنّ الله بمقامه بين أظهرنا حتى اختار له ما عنده ، فخلّى على الناس أمرهم وليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق ، لا مائلين عنه بزيغ الهوى ، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم ، متقدمون فيهم ، وإن كان هذا الأمر إنّما يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين ، فأما ما بذلت لنا فإن يكن حقاً لك فلا حاجة لنا فيه ، وإن يكن حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم عليهم ، وإن كان حقنا لم نرض عنك فيه ببعض دون بعض ، وأما قولك إن رسول الله منا ومنكم ، فإنه قد كان من شجرة نحن أغصانها وانتم جيرانها (٢).

قال ابن أبي الحديد : « لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتغل عليّ عليه‌السلام بغسله ودفنه ، وبويع أبو بكر خلا الزبير وابو سفيان وجماعة المهاجرين بعباس وعلي عليه‌السلام لإجالة الرأي وتكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج.

_______________________

(١) بهامش الروض الأنف ١ / ٢٧٥.

(٢) الامامة والسياسة ١ / ١٦ ط مصر سنة ١٣٢٨ ه‍.

١٤٩

فقال العباس رضي‌الله‌عنه : قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم ، ولا لظنّة نترك آراءكم فامهلونا نراجع الفكر ، فان يكن لنا من الإثم مخرج يصرّ بنا وبهم الحق صرير الجدجد ، ونبسط إلى المجد أكفاً لا نقبضها أو نبلغ المدى ، وان تكن الأخرى فلا لقلة في العدد ، ولا لوهن في الأيد ، والله لولا أنّ الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العليّ » (١).

وخلاصة القول في أبي الفضل العباس رحمه الله انه كان كما وصفه ابنه عبد الله وقد سأله معاوية عن ذلك فقال : رحم الله أبا الفضل ، كان والله عم نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرة عين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيد الاعمام والأخدان ، جد الأجداد ، وآباؤه الأجواد ، واجداده الأنجاد ، له علم بالأمور ، قد زانه حلم وقد علاه فهم ، كان يكسب حباله كل مهند ، ويكسب لرأيه كل مخالف رعديد ، تلاشت الأخدان عند ذكر فضيلته ، وتباعدت الأنساب عند ذكر عشيرته ، صاحب البيت والسقاية ، والنسب والقرابة ، ولم لا يكون كذلك ؟ وكيف لا يكون كذلك ؟! ومدبّر سياسته اكرم من دبّر ، وأفهم من نشأ من قريش وركب (٢).

ومن كلام له يجري مجرى الوصية لابنه عبد الله وذلك في أيام عمر. قال له : « أنت أعلم مني ولكني أشد تجربة للأمور منك ، وان هذا الرجل ـ يعني عمر ـ قد قربّك وقدّمك يستخليك ويستشيرك ويقدمك على الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإني أوصيك بخلال أربع : فلا تفشين له سراً ، ولا يجرينّ

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٧٣ ط الاولى بمصر.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ٣٢٩.

١٥٠

عليك كذباً ، ولا تغتابن عنده مسلماً ، ولا تحدّثه بشيء حتى يسألك عنه » (١).

قال الشعبي : قلت لابن عباس : كل واحدة خير من ألف ، قال : اي والله ومن عشرة آلاف.

وقال له : « يا بني لا تعلّم العلم لثلاث خصال : لا ترائي به ، ولا تماري به ، ولا تباهي به ، ولا تدعه لثلاث خصال : رغبة في الجهل ، وزيادة في العلم ، واستحياء من التعلم » (٢).

وفاة العباس :

ولقد أعتق من العبيد عند موته سبعين عبداً في سبيل الله تعالى (٣).

وله عند موته وصيّة أوصى بها الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال له : « أي بُني إني مشرف على الظعن إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به ، ولكن العِرق نبوض ، والرحم عروض ، واذا قضيت حق العمومة فلا تأل بي بعد ، إن هذا الرجل ـ يعني

_______________________

(١) أنساب الأشراف للبلاذري ترجمة ابن عباس نسخة مخطوطة عندي ٣ / ٥١ ، وفتح الباري ١٠ / ٣٦٦ ط مصطفى محمّد البابي الحلبي سنة ١٣٧٨ ه‍ نقلاً عن مكارم الأخلاق للخرائطي. وتاريخ ابن عساكر ١٢ / ٣٠٥ ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٤ / ٤٤٨ ويوجد تفاوت في اللفظ وفي بعض المصادر : ولا يجربنّ عليك كذباً ، وعيون الاخبار لابن قتيبة ١ / ١٩ ط دار الكتب المصرية ، والعقد الفريد ١ / ٧ ، وأنباء نجباء الأبناء ص ٨١ ، والكامل للمبرد ٢ / ٣١٢ ، والمستظرف / ٨٩ ، وسراج الملوك للطرطوشي / ٢٢٢ ، والأداب لجعفر بن شمس الخلافة / ٢٨ ط الخانجي سنة ١٣٤٩ ه‍ ، والفتوحات الاسلامية لزين دحلان ٢ / ٣٣٨ وغيرها.

(٢) جامع بيان العلم لابن عبد البر ١ / ١٧٠.

(٣) سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٧٠ ، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٢٦ / ٢٧٦ ط دار الفكر سنة ١٩٩٥ م.

١٥١

عثمان ـ قد ناجاني مراراً بحديثك وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك ، ولم أجد منه عليك إلّا مثل ما أجده منك عليه ، ولا رأيت منه لك إلّا مثل ما رأيت منك له ، ولست تؤتي من قلة علم ، ولكن من قلة قبول ، ومع هذا كله فالرأي الذي أودعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك ، فإنه لا يبدأك ما لم تبدأه ، ولا يجبك عما لم يبلغه ، فإن قلتَ كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا صاحبه ، فقد قاربت ، ولكن حديث يوم مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فات (١) ، ثم حرم الكلام فيه حين مات ، فعليك الآن بالعزوب عن شيء أرادك له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يتم ، وتصديت له مرة بعد أخرى فلم يستقم ، ومن ساور الدهر غُلِب ، ومَن حرص على ممنوع تعب ، وعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك ، وبعثته على متابعتك ، وأوجرته محبتك ، ووجدت عنده من ظني به لك ، لا توتر قوسك إلّا بعد الثقة بها ، واذا أعجبتك فانظر إلى سيتها (٢) ثم لا تفوّق (٣) إلاّ بعد العلم ، ولا تغرق في النزع (٤) إلّا لتصيب الرميّة.

وأنظر لا بطرف يمينك عينك ، ولا تجز شمالك شينك ، ودّعني بآيات من آخر سورة الكهف وقم إذا بدا لك » (٥).

ثم قال لأبنه عبد الله لمّا حضر أجله : « يا بني والله ما مت موتاً ولكني فنيت فناء ، واني موصيك بحب الله وحب طاعته ، وخوف الله وخوف معصيته ، فإنك إذا

_______________________

(١) يشير إلى حديث الكتف والدواة الآتي تفصيله عند الحديث عن حياة حبر الأمة في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) سية القوس طرفها المنحني (المصباح المنير : سية).

(٣) فُوقُ السهم وزان قفل موضع الوتر (المصباح المنير : فوق).

(٤) نزع في القوس مدّها (المصباح المنير : نزع).

(٥) الدرجات الرفيعة / ٩٨.

١٥٢

كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك ، وإني استودعك الله يا بني ، ثم استقبل القبلة فقال : لا اله إلّا الله ، ثم شخص ببصره فمات » (١).

وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن مجاهد قال : « أعتق العباس بعض رقيقه في مرضه. فرد ابن عباس منهما اثنين كانوا يُروَن أنهما أولاد زنا » (٢).

وتوفي في الثاني عشر من شهر رجب ، وقيل من شهر رمضان ، وقيل في أول سنة ٣٢ ه‍ ، وقيل سنة ٣٤ ه‍ ، في خلافة عثمان وهو ابن ثماني وثمانين سنة ، وذكر ابن سعد في الطبقات وصف تشييعه العظيم ومن تولى غسله ودفنه (٣) وصلى عليه أمير المؤمنين عليّ ومعه عثمان (٤) ودفن بالبقيع في بقعة خاصة به ، ودفن فيها بعده أربعة من أئمة المسلمين وسادة اهل البيت الطاهرين وهم الأئمة الحسن الزكي وعلي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق عليهم السلام. وبنى عليهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله في سنة ٦١٠ (٥) قبة معظمة بقيت حتى هدمها الوهابيون في ٨ شوال سنة ١٣٤٤ ه‍ بفتوى أحد علمائهم ، نسأل الله تعالى أن يهدينا وجميع المسلمين إلى سواء السبيل.

_______________________

(١) تهذيب ابن عساكر ٧ / ٢٥٣ ط افست دار السيرة ، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٢٦ / ٢٧٦ ط دار الفكر.

(٢) المصنف لابن أبي شيبة ٤ ق ١ / ٦٠ ، وفي فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ٢ / ٩٤٥ الرقم ١٨٢٥ ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة ١٤٠٣ : فرد منهم اثنين قال الراوي : فكنا نرى إنما ردهم انهم كانوا أولاد زنا.

(٣) طبقات ابن سعد ٤ ق ١ / ٢١ ، وراجع سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٧٤ ط مصر ، و ٣ / ٤١٣ ط دار الفكر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) لقد قال عنها الذهبي المتوفي ٧٤٨ في سير أعلام النبلاء ٢ / ٧١ ط مصر ، و ٣ / ٤١٢ ط دار الفكر ، وعلى قبره اليوم قبة عظيمة من بناء خلفاء آل العباس وقال في ص ٧٣ : وله قبة شاهقة على قبره بالبقيع.

١٥٣

ولمّا مات العباس جلس ابنه الحبر عبد الله للعزاء ، ودخل عليه الناس يعزونه ، وكان فيمن دخل عليه أعرابي وضع يده في يده وقال :

اصبر نكن بك صابرين فإنما

صبر الرعية بعد صبر الرأس

خير من العباس أجرك بعده

والله خير منك للعباس

فقال ابن عباس : ما عزاني أحد أحسن من تعزيته (١).

قال ابن قيم الجوزية : « أحجم الناس عن تعزية ولده عبد الله إجلالاً له وتعظيماً ، حتى قدم رجل من البادية فأنشده ... قال فسرّي عنه واقبل الناس على تعزيته » (٢).

وذكر الكتاني في التراتيب الادارية نقلاً عن كتاب رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير لمحمد بن أبي العلا بن سماك ، والفروق للقرافي : « روي انّ العباس بن عبد المطلب لمّا مات عظم المصاب به على ابنه عبد الله ، وكان عبد الله بن عباس عظيماً عند الناس في نفسه لأنه كان ترجمان القرآن وافر العقل جميل المحاسن والجلالة والأوصاف الحميدة فأعظمه الناس على التعزية إجلالاً له ومهابة بسبب عظمته في نفسه وعظمة من أصيب به ، فإن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبقي بعد وفاته مثل والده ... فلمّا مات عظم خطبه وجلت رزيته في صدور الناس وفي صدر ولده عبد الله وأحجم الناس عن تعزيته ، فأقاموا على ذلك شهراً كما ذكره المؤرخون ، فبعد الشهر قدم أعرابي من البادية فسأل عن عبد الله بن عباس فقال الناس ما تريد ؟ قال أريد أن أعزي عبد

_______________________

(١) احياء علوم الدين للغزالي ٤ / ١١٣.

(٢) بدائع الفوائد ٤ / ٢١٧.

١٥٤

الله بن عباس فقام الناس معه عساه أن يفتح لهم باب التعزية ، فلمّا رأى عبد الله بن عباس قال له السلام عليك يا أبا الفضل فرد عليه عبد الله فأنشده :

اصبر نكن بك صابرين ... البيتين.

فلمّا سمع الشعر عبد الله زال ما كان به واسترسل الناس في تعزيته ... اه‍ » (١).

أقول : وأثر الصنعة في تفصيل هذا الخبر ظاهر غير انه لم يكن ذلك من فراغ ، والمقبول مجيئ الأعرابي لتعزية ابن عباس وانشاده شعره ، وقول ابن عباس ما عزاني أحد أحسن من تعزيته.

أولاد العباس :

وخلف العباس من الأولاد : عشرة ذكور وأربع إناث وهم :

الفضل وهو أكبرهم وبه كان يكنى ، وعبد الله ـ وهو الحبر صاحب كتابنا هذا ـ وعبيد الله ، وقثم وكان من المشبهين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان أبوه العباس يرقصه ويقول :

أيا بُنيّ يا قثم

أبا شبيه ذي الكرم (٢)

قال النووي : وكان أخا الحسين بن علي من الرضاعة (٣).

_______________________

(١) التراتيب الادارية ٢ / ٤١٦ ط افست دار احياء التراث الإسلامي بيروت ، والفروق للقرافي ٢ / ١٩٥.

(٢) المحبر / ٤٦.

(٣) تهذيب الاسماء واللغات ١ / ٥٩.

١٥٥

وعبد الرحمن توفي بالشام ولم يعقب ، ومعبد استشهد بافريقية ، وأم حبيب أمهم جميعاً أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية ، وفي ولدها يقول عبد الله بن يزيد الهلالي :

ما ولدت نجيبة من فحل (١)

بجبل نعلمه أو سهل

كستة من بطن أم الفضل

اكرم بها من كهلة وكهل

عم النبيّ المصطفى ذي الفضل

وخاتم الرسل وخير الرسل (٢)

وله أيضاً كثير (٣) وتمام وكان من أشد قريش. كما يقول الذهبي. لأم ولد تسمى سباء وهي رومية وقيل حميرية ، والحارث أمه من هذيل (٤) ، وعون ، وأمينة ، وأم كلثوم ، وصفية لأمهات أولاد شتى ، فهؤلاء عشرة ذكور وأربع اناث ، وكان تمام أصغر بنيه الذكور ، وفيه يقول أبوه العباس :

تموا بتمام فصاروا عشرة

يا رب فاجلهم كراماً بررة (٥)

_______________________

(١) كانت العرب لا تعد المرأة منجبة لها أقل من ثلاثة بنين أشراف ، فام الفضل لها اكثر من ثلاثة لذلك قال الشاعر عنها انها منجبة ، لاحظ المحبر لمحمد بن حبيب / ٤٥٥.

(٢) سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ / ٦٢ ط مصر ، و ٣ / ٤٠٤ ط دار الفكر ، ومجمع الزوائد ٩ / ٢٧١ ، والاستيعاب ٢ / ٥٥٨ ط حيدر آباد ، واسد الغابة ٥ / ٥٣٩.

(٣) وهو الذي فيما ذكر البلاذري في أنسابه ١ / ٤٠٢ فعل مثل ما فعلته فاطمة الزهراء عليها‌السلام من الاغتسال عند حضور الموت واعداد الكفن وانه كتب على أطراف اكفانه : كثير بن العباس يشهد أن لا اله إلّا الله. قال الذهبي : وكان فقيها.

(٤) في سير أعلام النبلاء ٣ / ٤٠٤ ط دار الفكر : أمه حجيلة بنت جندب التميمية.

(٥) الدرجات الرفيعة / ١٥٣ ، ومجمع الزوائد ٩ / ٢٧١.

١٥٦

أحاديث العباس :

وقد روى الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه لم يكن مكثراً من الرواية ، فلم يخرّج له أصحاب الصحاح والسنن كثيراً وأحاديثه لا تبلغ العشرين ، وقد ذكر ابن النديم في الفهرست في مؤلفات إبراهيم الحربي المتوفى سنة ٢٨٥ (مسند العباس) ولمّا لم يصل إلينا لنعرف ما فيه فنكتفي بذكر ما روي عنه في كتب الحديث (١) وإليك منها : ثلاثة عشر حديثاً على النحو التالي :

_______________________

(١) لقد ورد له في المسند الجامع ـ المؤلف حديثاً ـ ٢١ حديثاً في ٨ / ١٢٢ ـ ١٣٧ بينها أحاديث موضوعة على لسانه كما في حديث أبي طالب في ضحضاح من نار المروي في صحيح مسلم ، ويكفي في سقوطه سنداً وجود عبد الملك بن عمير اللخمي الذي عاش فترة من حكم معاوية ثم ابنه يزيد ثم بني مروان ، وولي القضاء بالكوفة لهم ، وهو الذي ذبح عبد الله بن يقطر رسول الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة فقبض عليه وأمر به ابن زياد أن يلقى من أعلى القصر فرمي وتكسرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه ولما عيب عليه قال أردت أن أريحه ، ثم صار بعد ذلك يروي الحادثة ويكني عن نفسه فيقول ذبحه رجل. وأخيراً فقد ساء حفظه فكان أبو حاتم وابن معين وأحمد يضعفونه ـ ميزان الاعتدال وفيه كان شعبة لا يرضاه ـ هذا من ناحية سقوط السند.

وأما من جهة المتن فهو مخالف للكتاب حيث يقول عز من قائل : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) ـ إلى قوله تعالى ـ ( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدثر ٣٨ ـ ٤٨. فلو قلنا بصحة الحديث لأن مسلماً رواه في صحيحه ، فلا شفاعة للنبيّ بحق عمه لأنه مات مشركاً كما يزعم الزاعمون ـ ولو صدقت الأحلام للزمنا تزييف الحديث لمناقضته لحديث آخر رواه مسلم أيضاً في نفس الموضع عن أبي سعيد الخدري حيث روى (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة...) بينما في حديث العباس ان النبيّ صلى الله عليه وسلم نفع عمه فأنقذه بشفاعته (هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فالحديث كسائر الأحاديث المكذوبة على لسان العباس وغيره الموضوعة في العهد الأموي إيغالاً في بغض الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام ، وإلّا أبو طالب ما كان مشركاً بل كان موحداً حنيفاً مسلماً على ملة إبراهيم ولما أتى الإسلام آمن به وصار يكتم إيمانه حفاظاً على سلامة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ودفاعاً عنه ، وشعره الطافح بإيمانه في سره وإعلانه ، يغني المرء عن بيانه فهو كمؤمن آل فرعون كما ورد في

١٥٧

١ ـ حديث : (كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فمرّت بهم سحابة) أخرجه أبو داود في كتاب السنّة عن محمّد بن الصباح البزاز ، وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد ، وأخرجه ابن ماجة في السنّة عن محمّد بن يحيى.

٢ ـ حديث : (لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم) أخرجه ابن ماجة في الصلاة عن محمّد بن يحيى.

٣ ـ حديث : (إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفـّاه ... ) أخرجه كل من مسلم وابي داود والترمذي في الصلاة عن قتيبة ، وأخرجه النسائي في الصلاة عن قتيبة وعن محمّد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن يعقوب بن حميد بن كاسب.

٤ ـ حديث : (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد رسولاً) أخرجه مسلم في الإيمان عن محمّد بن يحيى بن أبي عمر ، وبشر بن الحكم ، وأخرجه الترمذي في الإيمان أيضاً عن قتيبة.

٥ ـ حديث : (قلت يا رسول الله علّمني شيئاً أسأله الله قال : سل الله العافية) أخرجه الترمذي في الدعوات عن أحمد بن منيع.

٦ ـ حديث : (قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم) أخرجه الترمذي في المناقب عن يوسف بن موسى القطان البغدادي.

٧ ـ حديث : (قال ابن عباس سمعت أبي يقول في الجاهلية : إسقنا كأساً دهاقاً) أخرجه البخاري في أيام الجاهلية عن اسحاق بن إبراهيم.

_______________________

جملة من أحاديثنا عن أهل البيت عليهم السلام ، وهم أعرف به من الأرجاس الذين وضعوا الحديث على لسان العباس.

١٥٨

٨ ـ حديث : (لمّا نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ الظهران ، قال العباس : قلت والله إن دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة عنوة ) أخرجه أبو داود في الخراج عن محمّد بن عمرو الرازي زنيج.

٩ ـ حديث : (أنه قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنا نريد أن نكنس زمزم وإن فيها من هدّة الجنان) أخرجه أبو داود في الأدب عن أحمد بن منيع.

١٠ ـ حديث : (شهدت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث فلم نفارقه) أخرجه مسلم في المغازي عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو ابن السرح.

١١ ـ حديث : (كنا نلقى النفر من قريش وهم يتحدثون فيقطعون حديثهم) أخرجه ابن ماجة في السنّة عن محمّد بن طريف.

١٢ ـ حديث : (سمعت العباس يقول للزبير : يا أبا عبد الله ها هنا أمرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تركز الراية يوم فتح مكة) أخرجه البخاري في الجهاد عن أبي كريب.

١٣ ـ حديث : (لا قود في المأمومة ولا الجائفة ولا المنقلة) أخرجه ابن ماجة في الديات عن أبي كريب.

وأخيراً فقد ذكر له رأي فقهي مع أنّه لم يُعرف مع فقهاء الصحابة ، إلّا أنّ الشيخ الطوسي ذكر رأيه في كتابه الخلاف في مسألة عدم جواز استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط. فقد قال : وقال الشافعي : لايجوز ذلك في الصحاري دون البنيان ، وبه قال العباس بن عبد المطلب.

أقول : وهذا نقله عنه أيضاً غير الطوسي (١).

_______________________

(١) أنظر نيل الأوطار ١ / ٩٤ ، وتحفة الأحوذي ١ / ٥٦ ، وعمدة القاري ٢ / ٢٧٨.

١٥٩

مسك الختام بالسلام عليه ( عليه السلام ) :

روى المجلسي في زاد المعاد في أعمال اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول قال : قال الشيخ المفيد والشهيد والسيد ابن طاووس رحمهم الله إذا اردت زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما عدا المدينة الطيبة من البلاد فاغتسل ومثّل بين يديك شبه القبر واكتب عليه اسمه الشريف ثم قف وتوجه بقلبك إليه ثم ذكروا زيارة طويلة جاء في بعض فقراتها : السلام على عمك حمزة سيد الشهداء السلام على عمك العباس السلام على عمك وكفيلك أبي طالب... الخ.

كما ورد التنويه بذكره في زيارة يوم الغدير المروية عن الإمام الهادي عليه‌السلام باسناد معتبر ، حيث جاء قوله : « وعمك العباس ينادي المنهزين يا أصحاب سورة البقرة يا أهل بيعة الشجرة حتى استجاب له قوم ... » إلى غير ذلك فسلام الله عليه ورحمة منه وبركاته.

١٦٠