موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن) (١).

ولمّا خطب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الفتح فقال : (إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض وهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة ، لا ينّفر صيدها ، ولا يعضد شجرها ، ولا يختلى خلاها ، ولا تحل لقطتها إلّا لمنشد) (٢).

فقال العباس : « يا رسول الله إلّا الأذخر فإنّه للقين والبيوت » ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إلا الأذخر فإنه حلال) (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته : (ألا وإن كل مأثرة أو دمٍ أو مالٍ يدّعى فهو تحت قدميّ هاتين إلّا سدانة البيت وسقاية الحاج) (٤) ، وتطلّع العباس إليهما معاً ، إلّا أنّ الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ عليه السقاية ، ولم يعطه السدانة ، بل ردّ مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة (٥).

مشاهده في الإسلام :

وشهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقعة حنين ، وكان ممّن ثبت معه إذ انهزم الجمع وولّوا الدبر ، وذلك اليوم أول يوم شهد فيه الحرب مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيه أنزل الله السكينة على نبيه وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه ، وذلك قوله تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ

_______________________

(١) الاستذكار لابن عبد البر ٥ / ١٥٢ ط دار الكتب العلمية ، والثقات لابن حبان ٢ / ٤٧ ط دار الفكر ، وتاريخ مدينة دمشق ٢٢ / ٤٥٠.

(٢) صحيح البخاري كتاب المغازي ٥ / ١٥٣ ط بولاق.

(٣) الكافي (الفروع) ١ / ٢٢٨ ط الحجرية سنة ١٣١٢ ، ومصابيح السنة للبغوي ١ / ١٥٤.

(٤) أعيان الشيعة ٢ / ٣٤٣.

(٥) شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٢١٢.

١٢١

فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ *ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ )(١).

قال الشيخ المفيد : « يعني بالمؤمنين عليّاً ومن ثبت معه من بني هاشم » (٢).

وقال الشيخ المفيد أيضاً : « ولمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هزيمة القوم عنه ـ يوم حنين ـ قال للعباس ـ وكان رجلاً جهورياً صيّتاً ـ ناد بالقوم وذكّرهم العهد ، فنادى العباس باعلى صوته : يا أهل بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، إلى أين تفرّون ؟! اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقوم على وجوههم قد ولّوا مدبرين.

قال العباس : فناديت فأقبلوا كأنهم الأبل إذا حنّت إلى أولادها » (٣).

قال جابر بن عبد الله الأنصاري : « بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت ، فأنسيناها يوم حنين حتى نودي يا أصحاب الشجرة فرجعوا » (٤).

وإلى هذا الموقف المهزوز المهزوم ، يشير القرآن الكريم بقوله تعالى ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى

_______________________

(١) التوبة / ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) الارشاد / ٧٤.

(٣) نفس المصدر / ٧٥.

(٤) شرح صحيح مسلم ٥ / ١٦٧ ، وسنن النسائي ٧ / ١٤٠.

١٢٢

الْمُؤْمِنِينَ ) (١) ويعني بالمؤمنين : عليّاًومن ثبت معه من بني هاشم ، وهم يومئذ ثمانية نفر سواه فهو يضرب بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسيف حتى قتل أربعين رجلاً بيده (٢) والعباس بن عبد المطلب عن يمينه آخذ بلجام البغلة والفضل بن العباس عن يساره ، وأبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند ثفر بغلته ، ونوفل بن الحارث ، وربيعة بن الحارث ، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، وعتبة ومعتب ابن أبي لهب حوله ، ومعهم نفر واحد من غيرهم هو أيمن بن أم أيمن ، وقد قُتل رحمه‌الله (٣) وفي ذلك يقول العباس بن عبد المطلب (٤) :

_______________________

(١) التوبة / ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٨ / ٩٩ ط دار احياء التراث العربي لبنان.

(٣) الارشاد للشيخ المفيد / ٧٤ ، قال أبو عمر في الاستيعاب ٢ / ٤٨٥ ط حيدر آباد بعد ذكره شعر العباس وفيه : (نصرنا رسول الله في الحرب سبعة وثامننا) وقال ابن اسحاق : السبعة عليّ والعباس والفضل بن العباس وابو سفيان بن الحارث وابنه جعفر وربيعة بن الحارث واسامة بن زيد والثامن أيمن بن عبيد ، وجعل غير ابن اسحاق في موضع أبي سفيان عمر ابن الخطاب ، والصحيح ان أبا سفيان بن الحارث كان يومئذ معه لم يختلف فيه ، واختلف في عمر ... أه‍. وورد نحو ذلك في معارف ابن قتيبة / ١٦٤ من دون ذكر عمر.

(٤) ذكرت أبيات العباس في عدة مصادر مختلفة كمّاً وكيفاً ، فذكر المفيد في الارشاد ص ٧٤ ثلاثة أبيات منها ، وفيها (نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وبعده وعاشرنا ...) ، وذكر ابن قتيبة في المعارف / ١٦٤ ط دار الكتب بيتين هما (نصرنا رسول الله في الحرب سبعة وبعده وثامننا ) ، ومثل ذلك ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٢٨٥ ط حيدر آباد ( نصرنا رسول الله في الحرب سبعة وبعده وثامننا ...) ، وذكر الزرقاني في شرح المواهب ٣ / ١٩ بيتين هما (نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وبعده وعاشرنا) ، أمّا ابن رشيق القيرواني فقد ذكر في العمدة ١ / ٢٣ أربعة أبيات منها قوله : (نصرنا رسول الله في الحرب سبعة دون ما بعده) وقد علّق محقق الكتاب محمّد محيي الدين عبد الحميد على قول العباس (سبعة) فقال : أثبت التاريخ أن المسلمين في غزوة حنين لما أنهزموا أمام هوازن وثقيف ومن لفّ لفّهم من الأعراب ، بقي مع رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلّم ثمانية رجال ، وهم : أبو بكر وعمر وعلي والعباس والفضل بن العباس وابو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة ابن الحارث ومعتب بن أبي لهب ، وكان رسول الله راكباً بغلة ، والعباس آخذاً بلجامها

١٢٣

_______________________

وأبو سفيان آخذاً بالركاب أقول : من الغريب قوله هذا ، فإنّه تعوزه الدقة ، لأن التاريخ لا يثبت باتفاق : اسم أبي بكر وعمر مع الذين ثبتوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل الذي أثبته باتفاق أسماء الهاشميين وليس معهم من غيرهم إلّا أيمن بن أم أيمن حاضنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو معدود منهم.

أمّا أبو بكر وعمر فقد مر عن ابن عبد البر في الاستيعاب قوله : وجعل غير ابن اسحاق في موضع أبي سفيان عمر بن الخطاب ، والصحيح ان أبا سفيان بن الحارث كان يومئذ معهم لم يختلف فيه ، واختلف في عمر اه‍ ويزيد ذلك بياناً قول ابن كثير في سيرته ٣ / ٦١٨ بعد ذكره لبني هاشم (ومن الناس من يزيد فيهم قثم بن العباس ورهط من المهاجرين منهم أبو بكر وعمر) ولما كان معلوماً في التاريخ ان قثم كان يوم وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صغيراً ، علمنا ان ذلك المتزيّد من الناس كان حاطب ليل في أسماء من زادهم. وعلى هذا فقول المعلّق المحقّق (أثبت التاريخ ...) يعوزه الإثبات ، كما يعوزه هو نفسه التثبّت مع انه لم يذكر من ذكرهما أين كان مقامهما ، بينما ذكر المؤرخون كما سبق عن الباقين مكانهم. ولم يكن فرارهما في حنين بدعاً فقد فرا يوم أحد ورجعا يوم خيبر منهزمين وذلك يكفينا حجة في دحض زعمه ، ثم أعتراف أبي بكر نفسه في انه كان من الفارين يوم أحد وبكاؤه لذلك كما حدثت عنه ابنته عائشة فيما أخرجه عنها بأسانيدهم كل من الطيالسي وابن سعد وابن السنّي والشاشي والبزار والطبراني في الاوسط وابن حيّان والدارقطني في الإفراد وابو نعيم في المعرفة والضياء المقدسي ، وذكر ذلك عن هؤلاء جميعاً المتقي في كنز العمال ٥ / ٢٧٤ قال : « عن عائشة قالت كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ـ إلى أن قالت ـ : ثم أنشأ تعني يحدّث قال : كنت أول من فاء يوم أحد الحديث ... ».

أقول : الفيء الرجوع ومن المعلوم انه لا رجوع إلّا بعد الفرار. والفرار من الزحف من الذنوب التي لا كفارة لها على حد الشرك بالله وقتل النفس بغير حق كما في حديث أبي هريرة ، وأخرجه أحمد في مسنده ، وابو الشيخ في التوبيخ ، ورواه السيوطي في الجامع الصغير ، والمناوي في الفيض القدير ٣ / ٤٥٨ ، والديلمي في الفردوس ، وغيرهم ولعل ذلك كان سر بكاء أبي بكر.

واما عن فرار عمر فسل عنه أم الحارث الانصارية (رض) التي كانت استأذنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قتل الفارين فهي التي اعترضت عمر بن الخطاب وهو فارّ فقالت له : « يا عمر ما هذا ؟ فقال : أمر الله » المغازي للواقدي / ٩٠٤ ط أوربا ـ أي قضاء الله وقدره ـ ولم يخف ذلك حتى نظمه الشعراء فقال بعضهم :

وما أنسى لا أنسى اللذين تقدّما

وفرّهُما والفَرّ قد علما حُوبُ

(العلويات السبع لابن أبي الحديد المعتزلي ط حجرية).

١٢٤

ألا هل أتى عرسي مكرّي ومقدمي

بوادي حنينٍ والأسنّة تشرع

وقولي إذا ما النفس جاشت لها قدي

وهامٌ تدهدهُ والسواعد تقطع

وكيف رددت الخيل وهي مغيرة

بزوراء تعطي باليدين وتمنع

كأن السهام المرسلات كواكب

إذا أدبرت عن عجسها وهي تلمع

وما أمسك الموت الفظيع بنفسه

ولكنه ماضٍ على الهول أروع

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة

وقد فرّ من قد فرّ عنه وأقشعوا

وعاشرنا لاقي الحمام بسيفه

بما مسّه في الله لا يتوجّع

ومنها : حنوت إليه حين لا يحنأ امرؤ

على بكره والموت في القوم منقع

ومنها : وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه

على القوم أخرى يا بُني ليرجعوا

وشهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غزوة الطائف وغزوة تبوك وحمل فيها يومئذٍ من المسلمين رجلين أمدّهما بالزاد والراحلة كما تبرع بتسعين ألفاً من ماله إعانة لجيش المسلمين (١) فلا بدع في قيامه بنصرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن كان نصره من يوم حصار الشعب ولم يكن يومئذ مسلماً ، فكيف لا ينصره بعد إسلامه ، مضافاً إلى أنّه كان قد أوصاه بذلك أخوه أبو طالب رضوان الله تعالى عليه كما أوصى أخاه الحمزة وابنيه عليّاً وجعفر حيث قال :

أوصي بنصر النبيّ الخير مشهده

(عليّاً ابني وعم الخير عبّاسا)

وحمزة الأسد المخشيّ جانبه

وجعفراً ان تذودا دونه الناسا

كونوا فدىً لكم أمي وما ولدت

في نصر أحمد دون الناس أتراسا

في أبيات غيرها (٢).

_______________________

(١) امتاع الاسماع للمقريزي / ٤٤٦ ـ ٤٤٩.

(٢) يراجع عنها : مناقب ال أبي طالب للحافظ السروي ١ / ٥٦ ، الدرجات الرفيعة / ٦١ ، أعيان الشيعة ٢ / ١٢٠ ـ ١٢١ ، وغيرها.

١٢٥

وذكر المؤرخون واصحاب السير : انّ العباس هو الذي كان تولّى تزويج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ميمونة بنت الحارث ، وهي اخت زوجته أم الفضل ، وأصدقها من ماله ٤٠٠ درهم وذلك في ذي القعدة عام سبع من الهجرة.

كما ذكروا أنه هو الذي قام بضيافة عبد الله بن جدعان بدلاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وسيأتي في الحديث عن حبر الأمة في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أباه العباس كان يبعثه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبيت عنده ولا ينامنّ حتى يحفظ له صلاته ودعاءه ممّا يشعرنا بأن العباس أراد الأستنان بسنته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعماله العبادية ليلاً وهو في بيته.

مكانة العباس عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لقد ذكر الحافظ ابن البطريق (ت ٥٢٣) ـ وهو من عيون علماء الإمامية في القرن السادس ـ في مقدمة كتابه (عمدة عيون الأخبار) ما يدل على فضل العباس مستدلاً في ذلك بآي من القرآن الكريم كآية المودة في القربى (١) ، وآية الخمس (٢) ، وآية الفيء (٣) ، واستدل أيضاً بما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بسنده عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : « قلت يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بوجوه مستبشرة ، وإذا لقونا ، لقونا بغير ذلك ؟ قال : فغضب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال : والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله » (٤).

قال الحافظ ابن البطريق : فأدخل العباس في جملة من لا يدخل قلب رجل الإيمان إلّا بحبهم ، وهذا أبلغ ممّا ذكره الثعلبي في المعنى ، لأنه أدخله بكاف

_______________________

(١) الشورى / ٢٣.

(٢) الأنفال / ٤١.

(٣) الحشر / ٧.

(٤) عمدة عيون الأخبار ١ / ٤٧.

١٢٦

الجمع الشاملة ، ثم ذكر خبراً عن الشيخ الطوسي في كتابه (انس الوحيد) وفيه أنّ جبرئيل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمّد جئتك بكرامة أكرمك الله بها ، سهم تجعله في قرابتك وابدأ بعمك العباس ، وثلّث بخبر ذكره الحلواني في كتابه (١) في لمع كلام الإمام الزكي أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليهم‌السلام لمّا سأله المتوكل فقال له : « ما يقول بنو أبيك في العباس ؟ قال : ما يقولون في رجل فرض الله طاعته على الخلق وفرض طاعة العباس عليه » وقال : يريد بذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وان العباس رضي الله عنه والد وطاعته له كطاعة الوالد...

ثم استشهد بشعر الكميت بن زيد الأسدي جاء فيه : (من قصيدة في الهاشميات لمن قلب متيم مستهام) :

وأبو الفضل إن ذكرهم الحلو

والشفا للنفوس من الأسقام

وقوله أيضاً في غيرها :

ولن أعزل العباس صنو نبينا

وصنوانه فيمن اُعد واُندب

ولا ابنيه عبد الله والفضل إنني

جنيب بحب الهاشميين مصحب

أقول : ولا شك فيما ذكره الحافظ ابن البطريق رحمه الله ، وإن كان الرجل قد عاصر الخليفة الناصر لدين الله العباسي ، واحتمال انّه إنّما قدم ذلك في أول كتابه تقية منه ، ولكن تشيّع الناصر المعلوم يدفع هذا الاحتمال الموهوم.

ولا نمنع ما قاله الذهبي : « وقد اعتنى الحفاظ بجمع فضائل العباس رعاية للخلفاء » (٢).

_______________________

(١) نزهة الناظر / ٧٠.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ٤١٣ ط دار الفكر بيروت.

١٢٧

أقول : وهذا ممّا لا شك فيه ، ولكن لا يعني انّ كل ما جمعوه كان من الموضوعات ، كما لا نشك بأنه كانت له مكانة مرموقة وسجايا طيبة كما لا نشك بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحب عمه العباس وله عنده منزلة نوّه عنها بقوله : (لا تؤذونني في عمي العباس ، عم الرجل صنو أبيه ، هذا عمي وصنو أبي).

ففي أمالي الشيخ الطوسي عن عليّ عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّما عم الرجل صنو أبيه) (١).

وأخرج البغوي عن عليّ عليه‌السلام : (انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمر في عمه العبّاس : إنّ عم الرجل صنو أبيه) (٢).

ولعل ما رواه البغوي مختصراً هو ما أخرجه ابن سعد في الطبقات ، والفسوي في كتاب المعرفة والتاريخ : « انّ رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم استعمل عمر بن الخطاب على السعاية ، فأتى العبّاس يطلب صدقته ، فأغلظ له العباس ، فأتى عمر عليّاً وذكر ذلك له ليذكره للنبيّ صلى الله عليه (وآله) وسلم فأتاه عليّ عليه‌السلام فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم لعمر : (تربت يداك ، أما علمت أنّ عم الرجل صنو أبيه ، إن العباس أسلفنا زكاة العام عام الأول) » (٣). وقد رواه الفسوي بعد ذلك مرة أخرى بتفاوت في السند والمتن ، فراجع (٤).

_______________________

(١) أمالي الطوسي ١ / ٢٨٠.

(٢) مصابيح السنة ٢ / ٢٠٧.

(٣) طبقات ابن سعد ٤ ق ١ / ١٧ ، كتاب المعرفة والتاريخ ١ / ٥٠٠.

(٤) جاء في كنز العمال ٦ / ٥٥٢ ط مؤسسة الرسالة بحلب : عن عليّ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعجل من العباس صدقة عامين ـ عن مصنف عبد الرزاق ـ. وجاء فيه أيضاً عنه : أن العباس سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ فرخّص له في ذلك ، نقلاً عن أحمد والدارمي وابي داود وابن ماجة والترمذي وابن جرير وصححه وابن خزيمة والحاكم في المستدرك وغيرهم.

١٢٨

ولعل ذلك القول من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك أثراً بالغاً في نفس عمر بل وحتى في نفوس الصحابة فكانوا يحترمون العباس ويجلّونه ، حتى روى ابن أبي الزناد عن أبيه : انّ العباس بن عبد المطلب لم يمرّ قط بعمر ولا عثمان وهما راكبان إلّا ترجّلا حتى يجوزهما إجلالاً له أن يمرّ وهما راكبان وهو يمشي (١).

وقد ورد في مستدرك الحاكم عن ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجلّ العباس إجلال الوالد (٢).

وأخرج الترمذي عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب : انّ العباس دخل يوماً على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغضباً وانا عنده فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أغضبك ؟ فقال : يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مسفرة ، فاذا لقونا لقونا بغير ذلك ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أحمرّ وجهه ثم قال : (والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجلٍ الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ، ثم قال أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه) (٣) ، وفي رواية ابن حجر (ما بال أقوام يتحدثون فاذا رأوا الرجال من أهل بيتي قطعوا حديثهم والله لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني) (٤).

ويجد الباحث في صور بعض عهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقطاعاته شهادات للعباس ، نحو : قسمة قمح خيبر وفيها شهد عباس بن عبد المطلب. وآخر (٥) والاقطاع

_______________________

(١) عيون الأخبار لأبن قتيبة ١ / ٢٦٩ ط دار الكتب.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ٣٢٤ وصححه ، وأقره الذهبي في التلخيص ، كما رواه في سير أعلام النبلاء ٣ / ٤١٤ ط دار الفكر.

(٣) صحيح الترمذي ٥ / ٦٥٢ تح‍ إبراهيم عطوة عوض ، ومستدرك الحاكم ٣ / ٣٣٣ ، والمعرفة والتاريخ ١ / ٤٩٩.

(٤) الصواعق المحرقة / ٢٢٨ تح‍ عبد الوهاب عبد اللطيف.

(٥) مجموعة الوثائق السياسية / ٢٢ رقم ١٨ ط مصر.

١٢٩

للداريين وهم من لخم وفيه شهد عباس بن عبد المطلب. وجماعة (١) والاقطاع لبني جعيل من قبيلة بلّي وفيه شهد عباس بن عبد المطلب. وجماعة (٢) والعهد الذي بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين النصارى وفيه شهد عباس بن عبد المطلب. وجماعة (٣).

وقد أقطعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مواضع من الأرض لم تفتح بعد ، وأوصى أن تدفع له بعد الفتح ، وكتب له بذلك (٤) كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلّا باب عليّ عليه‌السلام فضّل عمه العباس بجعل ميزاب له على المسجد ، وقصة الميزاب مشهورة (٥).

ولـه موقف بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نصرة ابن أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في مسألة الخلافة ، سنأتي على تفصيله فيما يأتي.

أستسقاء عمر بالعباس :

وقد أستسقى به عمر عام الرمادة سنة ١٧ من الهجرة حين قحط الناس وقد ذكرها كثير من المؤرخين ، وبأسانيد مختلفة :

منهم الحافظ ابن عساكر فقد ذكر روايات عديدة في ذلك ، نقتصر على روايته عن محمّد بن اسحاق بن خزيمة النيسابوري من طريق موسى بن جعفر

_______________________

(١) نفس المصدر / ٤٤ رقم ٤٣.

(٢) نفس المصدر / ٤٨.

(٣) نفس المصدر / ٩٥.

(٤) رياض الشهادة / ٢٧٥ ـ ٢٧٨ ، الأنوار النعمانية / ٤٩٦ ، بحار الأنوار ٨ / ٢٤٦ ط الكمپاني ، وفي طبقات ابن سعد ٤ ق ١ / ١٤حديث العباس مع عمر في إقطاعه البحرين وشهادة المغيرة له بذلك فلم يقبل عمر شهادته فأغلظ العباس لعمر ، وذكر ذلك عمر بن شبة في اخبار البصرة أيضاً كما في وفيات الأعيان ٦ / ٣٦٧.

(٥) ولقد حوّرها الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ / ٧٠ فراجع. والقصة مذكورة في بحار الأنوار ٨ / ٢٤٤ ، والأنوار النعمانية / ٤٩٦ ، كما أخرجها الحاكم في المستدرك ٣ / ٣٣١ ، وأحمد في المسند ١ / ٢١٠ ، والفسوي في المعرفة والتاريخ ١ / ٥١١.

١٣٠

عن أبيه عن أجداده عن جابر أنّ السِنة لمّا أصابت أهل المدينة سنة الرمادة استسقوا ثلاث مرات فلم يسقوا فقال عمر بن الخطاب : لأستسقين غداً بمن يسقينا الله به ، فأخذ الناس يقولون بعليّ بحسن بحسين ، فلمّا أصبح غداً عند العباس وقال له : اخرج بنا حتى نستسقي الله بك ، فقال العباس : يا عمر اقعد في بيتي ، فأرسل ـ العباس ـ إلى بني هاشم أن تطهروا وألبسوا من صالح ثيابكم ، فأتوه ، فأخرج طيباً فطيّبهم ، ثم خرج العباس وعلي أمامه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره ، وقال : يا عمر لا تخلط بنا غيرنا ، ثم أتوا المصلّى فوقفوا ، ثم انّ العباس : حمد الله وأثنى عليه فقال : اللّهم إنك خلقتنا وعلمت ما نحن عاملون به قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك بحالنا عن رزقنا ، اللّهم كما تفضّلت علينا في أوله فتفضل علينا في آخره.

قال جابر ـ راوي الحديث ـ فما تمّ دعاؤه حتى سحّت السماء ، فما وصلنا إلى منازلنا إلّا بللنا من المطر ، فقال العباس : أنا المسقي ابن المسقي ابن المسقي كررها خمس مرات ، فقيل لموسى بن جعفر وكيف ذاك ، فقال : استسقى فسقى عام الرمادة واستسقى عبد المطلب بسقي زمزم ... إلى أن قال : والخامسة : أسقى الله إسماعيل زمزم (١).

وروى الشيخ الصدوق في كتابه من لا يحضره الفقيه مجيء عمر إلى العباس طلباً للاستسقاء قال : « فقام العباس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : اللّهم ان عندك سحاباً وإن عندك مطراً ، فانشر السحاب وأنزل فيه الماء ثم أنزله علينا ، واشدد به الأصل واطلع به الفرع ، وأحي به الضرع ، اللّهم إنا شفعاء إليك عمّن لا

_______________________

(١) ينابيع المودة / ٣٠٦ ط اسلامبول سنة ١٣٠٢ ه‍ و ٣٦٧ ـ ٣٦٨ ط الحيدرية ، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٧ ص٢٥٠ وفي : اختصار ابن بدران مهذب التاريخ خلل ظاهر ، ربّما كان عن غير عمد والله العالم.

١٣١

منطق له من بهائمنا وأنعامنا شفعّنا في أنفسنا وأهالينا ، اللّهم إنا لا ندعو إلّا إياك ، ولا نرغب إلّا إليك ، اللّهم اسقنا سقيا وادعاً نافعاً طبقاً مجلجلاً ، اللّهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع ، وعري كل عارٍ ، وخوف كل خائف ، وسغب كل ساغب يدعو الله » (١).

وقد ذكره الطبري الإمامي في كتابه المسترشد : « انّ العباس قال في ذلك الموقف : يستسقون بنا ويتقدمونا » (٢).

وكان من دعاء العباس في ذلك الموقف : اللّهم انه لم ينزل بلاء من السماء إلّا بذنب ، ولا يكشف إلّا بتوبة وقد توجّه بي القوم إليك لمكاني من نبيّك ، وهذه أيدينا إليك (بالرغبة فاسقنا الغيث) بالذنوب ونواصينا بالتوبة ، وانت الراعي لا تهمل الضالّة ، ولا تدع الكسير بدار مضيعة ، فقد ضرع الصغير ، ورقّ الكبير وارتفعت الشكوى وانت تعلم السرّ وأخفى ، اللّهم فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا ، فإنه لا ييأس من رحمتك إلّا الكافرون.

فما تم كلامه حتى أرخت السماء مثل الحبال فنشأت السحاب وهطّلت المطر ، فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحرمين والقصة مشهورة مذكورة في كتب السنّة والسيرة (٣).

_______________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٤٠ ط النجف.

(٢) المسترشد / ٢١١ ط الحيدرية.

(٣) أخرجها البخاري في باب الاستسقاء من صحيحه ، ومسلم في كتاب الصلاة من صحيحه ، وابن حجر في فتح الباري ٢ / ٣٩٨ ، والعيني في عمدة القاري ٣ / ٤٣٨ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٣٣٤ ، والفسوي في المعرفة والتاريخ ١ / ٥٠٤ ، والزمخشري في ربيع الأبرار ١ / ١٣٤ ط بغداد ، والماوردي في أعلام النبوة / ٧٩ ط البهية بمصر سنة ١٣١٩ ، والخفاجي في شرح الشفاء ٣ / ٣٢٣ ، وابن عساكر كما في تهذيب تاريخه ٧ / ٢٤٨ ـ ٢٥١ ، والطبري في

١٣٢

وفيها يقول العباس بن عتبة بن أبي لهب :

بعمي سقى الله الحجاز وأهله

عشيّة يستسقي بشيبته عمر

توجّه بالعباس في الجدب راغباً

فما كرّ حتى جاء بالديمة المطر

ومنا رسول الله فينا تراثه

فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر

وقال : الزبير بن بكار : قال شاعر بني هاشم :

رسول الله والشهداء منا

وعباس الذي بعج الغماما

وقال الزبير : ويروى لأبن عفيف النصري في الاستسقاء بالعباس :

_______________________

تاريخه حوادث سنة ١٧ ، وابن الاثير في الكامل حوادث سنة ١٧ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ٩٢ ، واليافعي في مرآة الجنان ١ / ٧٢ ، والاصبهاني في الاغاني ١٢ / ٨١ ، والمقدسي في البدء والتاريخ ٥ / ١٨٧ ، والبلوي في كتابه الألف باء ١ / ٣٦٦ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ / ٦٨ ، وثمة مصادر نسبت الأبيات إلى غير العباس بن عتبة ، فصاحب الاستيعاب ونكت الهميان / ١٧٧ ذكرا في ترجمة العباس نسبة الأبيات إلى الفضل بن عباس بن عتبة ، وفي شواهد الكشاف / ٧٦ ذكر البيتين الأولين ونسبهما لعليّ بن عليّ ؟ وفي شرح المواهب اللدنية للزرقاني ١ / ٣٤٩ وارشاد الساري للقسطلاني ٦ / ١١٦ نسبهما لعقيل والله أعلم.

ومن مليح المعاني الغريبة ما ورد أن العماد الأصفهاني الكاتب حبس بعد وفاة الوزير عون الدين ابن هبيرة لأنه كان ينوب عنه في واسط ، فكتب من الحبس إلى استاذ الدار المستنجدية من قصيدة :

قل للامام : علام حبس وليكم

أولوا جميلكم جميل وَلائه

أوليس اذ حبس الغمام وليّه

خلّى أبوك سبيله بدعائه

قال ابن خلكان في الوفيات ٥ / ١٥١ : وهذا معنى مليح غريب وفيه اشارة إلى قضية العباس بن عبد المطلب عم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عمر بن الخطاب وذكر قصة الاستسقاء المشار اليها.

كما اشار أبو تمام إلى ذلك بقوله : كما في ديوانه بشرح الخطيب التبريزي ٤ / ٦٤٦ ط ذخائر العرب :

فكأنما هي دعوة العباس في

عام الرمادة وهو غير مجود

١٣٣

ما زال عباس بن شيبة غاية

للناس عند تنكر الأيام

أوليس اذ حبس الغمام وليّه

لما دعا بدعاوة الإسلام

فتحت له أبوابها لما دعا

فيها بجند مطعمين كرام (١)

وفي ذلك يقول حسان بن ثابت أيضاً :

سأل الإمام وقد تتابع جدبنا

فَسُقي الغمام بغرة العباس

عم النبيّ وصنو والده الذي

ورث النبيّ بذاك دون الناس

أحيا البلاد به الإله فأصبحت

مهتزة الأجناب بعد اليأس

أدب العباس :

قال المرزباني : كان العباس من معدودي خطباء قريش وبلغائهم وذوي الفضل منهم (٢) وقال ابن رشيق : أمّا العباس فكان شاعراً مفلقا حسن التهدي (٣).

وقد وقفت له على مقاطيع من الشعر تدل على أدبه وفضله ، كقوله يحرّض أخاه أبا طالب على الطلب بدم عمرو بن علقمة بن المطلب بن عبد مناف (٤) :

_______________________

(١) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٧ / ٢٥٠ ط افست دار السيرة.

(٢) معجم الشعراء للمرزباني / ١٠١ تح‍. عبد الستار أحمد فراج.

(٣) العمدة ١ / ٢٣.

(٤) كان عمرو بن علقمة خرج مع خداش بن عبد الله العامري أجيراً له إلى الشام ، ففقد خداش حبلاً ، فضرب عمراً بعصىً فنزي في ضربته ـ أي نزف ـ فمرض منها فكتب إلى أبي طالب يخبره خبره ، فمات منها ، وفي ذلك يقول أبو طالب :

أفي فضل حبل لا أباك ضربته

بمنسأة قد جاء حبلٌ بأحبل

فتحاكموا فيه إلى الوليد بن المغيرة ، فقضى أن يحلف خمسون رجلاً من بني عامر بن لوي عند البيت ان خداشا ما قتله ، فحلفوا إلّا حويطب بن عبد العزّى ، فإن امه افتدت

١٣٤

لا ترجوّنا حاصنٌ عند طهرها

لئن نحن لم نثأر من القوم علقما

أبا طالب لا تقبل النصف منهم

وان انصفوا حتى تُعقَ وتُظلما

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت

قواطع في أيماننا تقطر الدما

تُورثنَ من آباء صدق تقدموا

بهن إلى يوم الوغى متقدما

إذا خالطت هام الرجال رأيتها

كبيض نعام في الوغى قد تقطما

وزعناهم وزع الحوامس غدوة

بكل يمانيّ إذا عضّ صمّما

تركناهم لا يستحلون بعدها

لذي رحم يوماًمن الناس محرما

فسائل بني حسل وما الدهر فيهم

ببقياً ولكن إن سألت ليعلما

أغشماً أباعثمان أنتم قتلتم

ستعلم حسل أينا كان أغشما

ضربنا بها حتى أفاءت ظباتها

علينا فلم يبق القتيل المخذّما (١)

ضربنا أبا عمرو خداشاً بعامر

وملنا على ركنيه حتى تهدّما (٢)

_______________________

يمينه ، فقيل : انه ما حال عليهم الحول حتى ماتوا كلهم إلا حويطب. وهذه أول قسّامة في الجاهلية. أنظر نسب قريش لمصعب / ٤٢٤ ـ ٤٢٥ ، وجمهرة انساب العرب لابن حزم / ٧٤.

(١) اضافة في حماسة الظرفاء ١ / ٣٤.

(٢) معجم الشعراء للمرزباني / ١٠١ ، وتهذيب ابن عساكر ٧ / ٢٢٨ ، والحماسة البصرية ١ / ٥٢ ، وعيون الاخبار لابن قتيبة ١ / ٧٨ ، ومحاضرات الراغب ٢ / ٦٩ ، وحماسة الظرفاء ١ / ٣٣ ، وكامل المبرد ٣ / ٣٠٩ ، ورغبة الآمل للمرصفي وغيرها ، ورسائل الجاحظ ١ / ٣٥٩ ، وربيع الابرار ٣ / ٦٩ ط بغداد.

١٣٥

وروي عن خُريم بن أوس بن حارثة قال : هاجرت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقدمت عليه منصرف من تبول فسمعت العباس قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اني أريد أن أمتدحك فقال له : قل لا يفضض الله فاك ، فقال :

من قبلها طبت في الظِلال وفي

مستودع حيث يُخصفُ الورق

ثم هبطت البلاد لا بشرٌ

أنت ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد

ألجم نسراً وأهله الغرق

وخضت نار الخليل مكتتما

تجول فيها وليس تحترق (١)

تنقل من صالب إلى رَحم

إذا مضى عالم بدا طبق

حتى احتوى بيتك المهيمن من

خندف علياء تحتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقَت الأ

رض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النور

وسبل الرشاد نخترق (٢)

_______________________

(١) وفي حياة الحيوان للدميري ٢ / ٣٥ ورد البيت هكذا :

وردت نار الخليل مكتتما

في صلبه انت كيف يحترق

(٢) لقد أخرج الأبيات المذكورة منسوبة للعباس جمعٌ من المؤرخين وأصحاب السير وحتى أصحاب المعاجم اللغوية مستشهدين ببعض أبياتها وإلى القارئ أسماء بعض تلكم المصادر : مستدرك الحاكم ٣ / ٣٢٧ ، وتلخيص المستدرك للذهبي ٣ / ٣٢٧ ، وحياة الحيوان ٢ / ٣٥٠ ، امالي الزجاج / ٤٤ ، وامالي ابن الشجري ٢ / ٣٣٧ ، وتهذيب ابن عساكر ج ١ / ٣٤٩ ، والبداية والنهاية ٢ / ٢٥٨ و ٥ / ٢٧ ، وسير اعلام النبلاء ٢ / ٧٥ ، وأدب الكاتب / ٣٢٠ ، والغيث المسجم ١ / ٢٧٥ ، والمناقب لابن شهر اشوب / ١ ، والدرجات الرفيعة / ٨٢ ، وانوار الربيع ٥ / ١٩٣ ، ولسان العرب (صلب ، طبق ، ظلل ، همن ، خصف) والقاموس وتاج العروس (ودع) وفي التاج أيضاً (صلب ، خصف) ، والفائق ٢ / ١٣٨ ، ومجمع الزوائد ٨ / ٢١٧ ، والمقامة

١٣٦

وقد شرح الأبيات الزرقاني شرحاً موجزاً تحسن مراجعته وقد ذكر أنّه قالها عند رجوع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك فراجع (١).

وله في حديث قيس بن نشبة وقد أجاره وأخذ له بحقه وقال له : أنا لك جار وكلما دخلت مكة فما ذهب لك فهو عليّ. وقال العباس بن عبد المطلب في ذلك :

حفظت لقيس حقه وذمامه

وأسعطت فيه الرغم من كان راغما

سأنصره ما كان حياً وإن أمت

أحضّ عليه للتناصر هاشما

وحديث قيس بن نشبة ذكره محمّد بن حبيب الهاشمي (٢) فليراجعه من شاء.

_______________________

السندسية للسيوطي / ٨٦ ط الجوائب / ١٢٩٨ ه‌ ، وتهذيب اللغة للأزهري ٥ / ٣٥٥ و ٦ / ٣٣ و ٩ / ١٢٩ و ١٩٧ و ١٤ / ٣٣٥ و ٣٥٩ ، وغريب الحديث لابن قتيبة ١ / ٣٥٩ / ٣٦٥ وتأويل مختلف الحديث له ص ٨٨ وغيرها ، وغيرها وانما أسهبت في ذكر المصادر لما اطلعت عليه مؤخراً من نفي نسبة الابيات إلى العباس مستبعداً نسبتها إليه ، لأنها كما يقول النافي (قاموس الرجال) : لم ترد في كتاب آخر أو خبر آخر ، ومتى كان العباس يقول الأشعار التصوفية وينظم الأبيات الغلاتية ؟‍! وليته حين حاول مصراً دفع النسبة عن العباس تمسك بما جاء في الحماسة البصرية ١ / ١٩٣ من نسبتها لحريم بن أوس بن حارثة بن لام الطائي ؟ الذي لم يعرف مَن هو. وأرجع إلى اللئالي المصنوعة / ١٥٨ ط الهند حيث ذكر ان الجوزقاني اخرج في موضوعاته حديث كنت في صلب آدم في الجنة الخ وقال في ذلك يقول حسان بن ثابت ، وذكر الأبيات. ثم تعقبه السيوطي إلى أن قال : والأبيات للعباس بلا خلاف.

وبعد ما تقدم من أطباق المصادر السابقة على نسبتها إلى العباس فلا عبرة بما قيل ويقال من الشواذ.

(١) أنظر شرح المواهب اللدنية للزرقاني ٣ / ٨٣ ـ ٨٥ ط الأزهرية سنة ١٣٢٦ ه‍.

(٢) المنمق ١٦٤ ـ ١٦٥.

١٣٧

وله البيتان اللذان يحتج بهما عند الكلام على تبدّل الأرض غير الأرض وهما :

إذا مجلس الأنصار خفّ بأهله

وفارقها فيها غفار وأسلم

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت أعلم (١)

وله ممّا يستشهد به من شعره قوله :

ليسوا بهدّين في الحروب إذا

تعقد فوق الحراقف النُطُق (٢)

ونسب إليه حسن الجلبي في حواشي المطول البيت الآتي :

طويل النجاد خارج نصف ساقه

على وجهه يُسقى الغمام ويُسعدُ

والبيت هذا من قصيدة لأبي طالب عليه‌السلام قالها في مدح الذين قاموا بنقض الصحيفة (٣) ، كما انّ الخوارزمي نسب إليه في مناقبه (٤) الابيات المشهورة في مدح الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حين بويع أبو بكر بالخلافة وهي :

ما كنت أحسب انّ الأمر منصرف

عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم

واعلم الناس بالاثار والسنن

وأقرب الناس عهداً بالنبي ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن

مَن فيه ما في جميع الناس كلهم

وليس في الناس ما فيه من الحسن

_______________________

(١) الزمخشري ، ربيع الابرار ١ / ٥٦٢ ط بغداد والمقدسي ، البدء والتاريخ ٢ / ١٣٢.

(٢) ابن منظور ، لسان العرب ٤ / ٤٤٤ ، الجوهري الصحاح (هدد) ، ومقاييس اللغة ٦ / ٧.

(٣) حسن فهمي. طلبة الطالب / ٤٣ ط اسلامبول ، وديوان أبي طالب / ٩٣ تح‍ آل يس ، وسيرة ابن هشام ٢ / ١٧ ـ ١٩.

(٤) الموفق بن أحمد الخوارزمي ، المناقب / ٢٣ ط الحيدرية.

١٣٨

ماذا الذي ردكم عنه فنعرفه

ها إن بيعتكم من أول الفتن (١)

ونسبت إليه في البحار (٢) الأبيات التالية في زمان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولست متأكداً من صحة النسبة والأبيات هي :

يا آل فهر وغالبِ

ابشروا بالمواهبِ

وافخروا يا قومنا

بالثنا والرغائبِ

شاع في الناس فضلهم

وعلا في المراتبِ

قد فخرتم بأحمدٍ

زين كل الأطائبِ

فهو كالبدر بينكم

نوره مشرق غير غائبِ

قد ظفرت خديجةُ

بجليل المواهبِ

بفتى هاشم الناس

ماله من مناسبِ

جمع الله شملكم

فهو ربُّ المطالبِ

أحمدُ سيد الورى

خير ماشٍ وراكبِ

_______________________

(١) نسبت هذه الأبيات إلى جماعة منهم : عتبة بن أبي لهب بتفاوت في الالفاظ يسيرة كما في تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٠٣ ط الحيدرية / ١٣٥٨ ، ومنهم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كما في الفصول المختارة للشريف المرتضى ٢ / ٦٨ ط الأولى بالحيدرية ، ومنهم حسان ابن ثابت كما عن القاضي البيضاوي والنيسابوري في تفسيريهما في تفسير قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) البقرة / ٣٤ ، ومنهم : بعض ولد أبي لهب كما عن الزبير ابن بكار ، ومنهم الفضل بن العباس بن عتبة قال ابن حجر في الاصابة ٣ / ٦٣٢ ط مصرفي ترجمة العباس بن عتبة : وله ولد اسمه الفضل شاعر مشهور ، وهو صاحب الابيات المشهورة في مدح عليّ عليه‌السلام وذكر البيت الأول منها ، وللقاضي المرعشي مناقشة مع ابن حجر في نسبة الابيات لا تخلو من وجاهة فراجع كتابه احقاق الحق ، ومنهم خزيمة بن ثابت كما في روضة الواعظين / ٨٧.

(٢) بحار الأنوار / ٦ الط الحجرية.

١٣٩

فعليه الصلاة ما

سار عيس براكبِ (١)

وله كلمات حكمية منها ما عن ابن عباس قال : « كان العباس بن عبد المطلب كثيراً ما يقول : ما رأيت أحداً أحسنت إليه إلّا أضاء ما بيني وبينه ، وما رأيت أحداً أسأت إليه إلّا أظلم ما بيني وبينه ، فعليك بالإحسان واصطناع المعروف ، فان ذلك يقي مصارع السوء » (٢).

وعن ابن عباس قال : « قال لي : يا بني انّ الكذب ليس بأحد من هذه الأمة أقبح منه بي وبك وبأهل بيتك ، يا بني لا يكوننّ شيء ممّا خلق الله أحب اليك من طاعته ، ولا اكره اليك من معصيته ، فان الله ينفعك بذلك في الدنيا والآخرة » (٣).

وصية العباس لعثمان :

أخرج ابن سعد في الطبقات الكبير ، والطبري في تاريخه واللفظ له : « بسنده عن حمران بن أبان قال : أرسلني عثمان إلى العباس بعد ما بويع ، فدعوته له ، فقال : مالك تعبّدتني ؟ قال : لم أكن قط أحوج اليك مني اليوم. قال : الزم خمساً ، لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها ، قال : وما هي ؟ قال : الصبر عن القتل ، والتحبّب والصفح ، والمداراة ، وكتمان السرّ » (٤).

ودخل عثمان على العباس في مرضه الذي مات فيه فقال : « أوصني بما ينفعني (الله ، ظ) به وزوّدني فقال : إلزم ثلاث خصال تُصِب بها ثلاث عوام ،

_______________________

(١) بحار الأنوار / ٦ الط الحجرية.

(٢) كنز العمال ٦ / ٥٧٨ ط مؤسسة الرسالة بحلب.

(٣) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٧ / ٢٥٣ ط افست دار السيرة.

(٤) تاريخ الطبري ٤ / ٤٠٠ ط دار السيرة.

١٤٠