موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قد عرف باستعداد قريش لمحاربة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتقاماً لما أصابهم ببدر من القتل والأسر ، وعرف بما كتب به أبوه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بذلك.

ولا شك أنه رأى بعض مظاهر قريش عند خروجهم إلى محاربة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا شك أنه حزن لمّا رأى ذلك ، كما أنه ازداد حزناً حين جاء الخبر بانتصارهم في موقعة أحد ومقتل عمه الحمزة أسد الله وأسد رسوله ، ومن الطبيعي كلما ازداد سنه ازداد وعيه بمجريات الأحداث ، فهو يسمع ما تتناقله الأخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغزواته ، ويزداد ابتهاجاً بانتصاراته. فمن غزوة بني النضير إلى ذات الرقاع إلى بني المصطلق إلى غزوة الخندق التي كان نصرها المؤزر على يد بطلها المظفر هو ابن عمه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ولولاه لما قام للأسلام عمود ولا اخضَرَّ له عود وحسبه ما بلغه من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (برز الإيمان كله إلى الشرك كله) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ضربة على يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين) إلى غزوة بني قريضة إلى غزوة الحديبية ، وأظن أنه كان يحلم عند سماعه الخبر برؤية ابن عمه نبي الهدى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يدخل مكة معتمراً وكاد أن يتحقق ذلك لولا مهادنة قريش له على العام القادم. ولئن اغتم لذلك فقد جاءه ما زاد غمه وهو خبر الحجاج بن علاط السلمي ـ وهذا هو زوج خالته عزة ـ الذي دخل مكة بعد غزوة خيبر فأشاع انتصار اليهود على المسلمين واستحث قريشاً على جمع ديونه ليرجع عجلاً فيشتري بعض الغنائم من اليهود. وسمع العباس الخبر وساءه كذلك ، فاراد أن يستوثق من الحجاج بنفسه فلقيه وسأله ، فاستكتمه إن هو أخبره بالصحيح ، فضمن له ذلك فقال له : فاني والله تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم. يعني صفية بنت حي بن أخطب. ولقد افتتح خيبر وانتشل ما فيها ـ أي

١٠١

استخرج ـ وصارت له ولأصحابه. فأكتم عني فاذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب ، ووفى العباس بشرطه.

ولمّا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وتخلّق وأخذ عصاه ثم خرج فأتى الكعبة فطاف بها ، فلمّا رأوه قالوا : يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحرّ المصيبة ، قال : كلا والله الذي حلفتم به لقد افتتح خيبر وتُرك عروساً على ابنة ملكهم واحرز أموالهم وما فيها فاصبحت له ولأصحابه ، قالوا : من جاءك بهذا الخبر ؟ قال : الذي جاءكم بما جاءكم به ، وهكذا تبدل الغم في الهاشميين جميعاً بل والمسلمين إلى فرح.

ومن الطبيعي أن يشهد ذلك كله حبر الأمة عبد الله بن عباس ويشاركهم أفراحهم ، ولعل هذا آخر حَدَث أدركه ووعاه بمكة قبل هجرته مع أبيه إلى المدينة والى هنا ننهي حديثنا عن نشأته في مكة.

ولنبدأ معه مسيرتنا في الحديث عنه من هجرته مع أبيه وأهل بيته ، وذلك عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة النبوية ، وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة وسوف نقرأ عنه بعض مشاهداته.

ولكن لا بد لنا قبل ذلك معرفة شيء من تاريخ أبويه. ما دام الولد سر أبيه وفطيم أمه.

وعامل الوراثة له في تكوين الشخصية أبلغ الأثر ، فهو يورث الولد الخصائص الروحية كما يورثه الصفات الجسمية ، وابن عباس قد ورث من أبويه الخصائص والخصال ، فإلى معرفة الأبوين :

١٠٢



أولاً : أبوه ـ العباس بن عبد المطلب

ولادة العباس :

ولد قبل عام الفيل بثلاث سنين ، فكان أسنّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاث سنين ، وسئل مرّة أنت أكبر أم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقال : « هو أكبر مني وأنا ولدت قبله » (١) ، وهذا من كمال الأدب وجميل القول ، وفي لفظ آخر : « هو أكبر مني وأنا أسنّ منه ، وإني لأعقل انه قيل لأمي : إن آمنة ولدت غلاماً فخرجت بي حين أصبحت آخذة بيدي حتى دخلنا عليها ، فكأني أنظر إليه يمصع (٢) برجليه في عرصة ، وجعل النساء يجبذنني عليه ، ويقلن قبّل أخاك ».

_______________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ٣٢٠ ، والمعرفة والتاريخ ١ / ٥٠٤ ، وتاريخ الخميس للديار بكري ١ / ١٦٥ ، وأنساب الأشراف ١ / ٨٩ ، والدرجات الرفيعة / ٧٩ ، والمحاسن والاضداد / ١٧. والخبر في سير أعلام النبلاء ٢ / ٧١ ـ ٧٢.

(٢) يمصع : أي يحرّكهما ، من مصعت الدابة بذنبها حرّكته (المنجد).

١٠٣

أمه : نتيلة (١) بنت جناب بن كلاب ، وهي أول عربية كست البيت الحرام الحرير والديباج وأصناف الكسوة ، والسبب فيه : انّ العباس ضاع وهو صغير فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت ، فوجدته ففعلت (٢).

وقيل : انّ الذي ضاع من أولادها هو ضرار إبنها (٣) فكاد عقلها أن يذهب جزعاً وولهت ولهاً شديداً ، وكانت ذات يسار فنذرت ووفت بنذرها (٤).

وجاءت يوماً بابنها العباس إلى أبيه عبد المطلب وقالت له : يا أبا الحارث قل في هذا الغلام مقالة ، فأخذه وجعل يرقصه ويقول :

قال البلاذري : قال عبد المطلب في ابنه العباس وكان به معجباً :

ظني بعباس بُنيّ إن كبر

أن يمنع القومَ إذا ضاع الدبَر

وينزع السَّجل (٥) ذا اليوم اقمطّر

ويسقي الحاج إذا الحاج كثر

وينحر الكوماء (٦) في اليوم الخصر

ويفصل الخطبة في اليوم الأمرّ

_______________________

(١) كذا اسمها في جل المعاجم والتواريخ ، إلّا ان ابن ظفر المكي ذكر في كتابه أنباء نجباء الأبناء / ٥١ : ان اسمها (نبيلة) ، ولعل ذلك من تصحيف النساخ وهي التي قالت لزوجها عبد المطلب لما دخل عليها عند عودته من اليمن وقد صبغ شعره بالوسمة فكان مثل حنك الغراب ـ يا شيب ما أحسن هذا الصبغ لو دام نعله ، فقال عبد المطلب :

لو دام لي هذا السواد حمدته

فكان بديلاً من شباب قد انصرم

تمتعت منه والحياة قصيرة

ولا بدّ من موت نتيلةُ أو هرم

وماذا الذي يجدي على المرء

خفضه ونعمته يوماً إذا عرشه انهدم

( أنساب الأشراف ١ / ٦٦ ).

(٢) لطائف المعارف / ١١.

(٣) أنساب الاشراف ١ / ٨٩.

(٤) الاستيعاب ٢ / ٤٨٥ ، نكت الهميان / ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٥) السجل : الدلو العظيمة فيها ماء قلّ أو كثر ، ونزع الدلو جذبها أو استقى بها (المنجد).

(٦) الكوماء : الناقة الضخمة السنام.

١٠٤

ويكسو الريط اليماني والأزر

ويكشف الكرب إذا ما اليوم هرّ

أكمل من عبد كلال (٢) وحُجُر (٣)

لو جمعا لم يبلغا منه العُشُر (١)

وكان الزبير بن عبد المطلب يزفن ـ يرقص ـ العباس أخاه :

إنّ أخي العباس عفّ ذو كرم

فيه عن العوراء إن قلّت صمَمَ

يرتاح للمجد ويوفي بالذمم

وينحر الكوماء في اليوم الشبم (٤)

أكرم بأعراقك من خال وعم (٥)

نشأة العباس رضي‌الله‌عنه ومكانته :

نشأ العباس في حجر أبيه عبد المطلب ـ سيد البطحاء ـ وتحت رعاية أخوته ، وقد ساد وهو غلام ، وذلك حين ولّته قريش في أيام الفجار حلوان النفر ، فإنها لم تملّك عليها في الجاهلية أحداً ، فاذا كانت الحرب أقرعوا بين أهل الرياسة ، فاذا حضرت الحرب أجلسوه لا يبالون صغيراً كان أو كبيراً ، تيمّناً به ، فلمّا كان أيام الفجار أقرعوا بين بني هاشم فخرج سهم العباس بن عبد المطلب وهو غلام صغير فأجلسوه على ترسٍ ـ المجن ـ (٦) وفيه يقول ضرار :

فتى قريش وفي البيت الرفيع بها

واري الزناد إذا ما أصلد الناس (٧)

_______________________

(١) عبد كلال : من ملوك التبابعة يقال : انه كان على دين المسيح عليه‌السلام.

(٢) حجُر : ملك من ملوك كندة وهو والد الشاعر الملك الضليل امريء القيس.

(٣) أنساب الاشراف ١ / ٨٩ ، وابن ظفر المكي في أنباء نجباء الأبناء / ٥١ بتفاوت في بعض الألفاظ ، وأخرج محمّد بن حبيب في كتابه المنمق / ٤٣٢ الشطر الأول والرابع ، واخرج الأبيات الاصدري البيت الثالث والرابع ابن عساكر في تاريخه كما في تهذيبه ٧ / ٢٣٠.

(٤) الشَبَم : كنمر ، البارد والمراد الشتاء إذا قل الطعام.

(٥) المنمق / ٤٣٦ لمحمد بن حبيب ط حيدر آباد.

(٦) العقد الفريد ٣ / ٣١٥.

(٧) طراز المجالس للشهاب الخفاجي / ٢٢٣.

١٠٥

ولمّا سرق كفار قريش غزال الكعبة الذي استخرجه عبد المطلب من زمزم لمّا حفرها فوجد فيها سيوفاً قديمة والغزال من ذهب وعيناه من ياقوت فجعل ذلك للكعبة ، فكسره اولئك الكفار واقتسموه ، وشروا كل خمر بالأبطح ، وقرطوا الشنف والقرطين لقينتين لهم تغنّيهما فمكثوا شهراً أو أكثر يشربون ، وقريش تطلب السرّآق فلا يدرون من هم ؟

إلى أنّ مرّ العباس بن عبد المطلب وهو غلام شاب آخر النهار في حاجة له بدور بني سهم وقد لغط القوم وثملوا وهم يرفعون أصواتهم ، فأصغى لهم فسمع بعضهم ينشد شعراً فيه ذكر الغزال ، وغنّت القينتان بذلك الشعر ، فأقبل العباس إلى أبي طالب فأخبره فأقبل ومعه جماعة حتى وقفوا عليهم ، وبسببه وقعت المنافرة بين المطيّبين والاحلاف (١).

وفي حديث جواره لقيس بن نشبة قبل الإسلام ما ينبيء عن مكانته ، وقد ذكر ذلك في شعره فقال :

جنال حقه وذمامه

وأسعطت فيه الرغم من كان راغما

سأنصره ما كنت حياً وإن أمت

أحضّ عليه للتناصر هاشما

وقد أشار ابن قيس بن نشبة إلى ذلك في أبيات قالها في مدح عبد الله بن عباس في الإسلام فقال :

أحبكم في الجاهلية والذي

وفا الدين كنتم عدتي ورجائيا

فصرت بحبّي منكم غير مبعد

لديكم وأصبحت الصديق المصافيا

وآليت لا أنفك أحدو قصيدة

تدور بها بزل الجمال الهواديا (٢)

_______________________

(١) أنظر تفصيل ذلك في المنمق لمحمد بن حبيب / ٥٤ ـ ٦٧.

(٢) المنمق لمحمد بن حبيب / ١٦٤ ـ ١٦٥ ، وربيع الأبرار للزمخشري باب الأنفة والحمية (مخطوطة الرضوية).

١٠٦

صفة العباس خَلقاً وخُلقاً :

وصفه مؤرخوه بأنه كان أبيض جميلاً بضّاً طويلاً ، له ظفيرتان ، معتدل القامة ، حسن الوجه ، كاملاً جواداً مطعماً وصولاً للرحم ، ذا رأي حسن ودعوة مرجوّة (١).

قال أبن الأثير : « ذو الرأي هو العباس بن عبد المطلب عم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان يضرب به المثل في سداد الرأي » (٢).

وقال الجاحظ : « ويقال انه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس » (٣) ، وذكر أيضاً نقلاً عن الكلبي انه قال : « كانت قريش تعدّ أهل الجزالة في الرأي العباس بن عبد المطلب » (٤).

وكان يقال له : ثوب لعاري بني هاشم ، وجفنة لجائعهم ، ومقطرة (٥) لجاهلهم وفي ذلك يقول إبراهيم بن عليّ بن هرمة :

وكانت لعباس ثلاث نعدّها

إذا ما جناب الحي أصبح أشهبا

فسلسلة تنهيَ الظلوم وجفنة

تباح فيكسوها السنام المزّغبا

وحلة عصب ما تزال معدة

لعارٍ ضريكٍ (٦) ثوبه قد تهبّبا (٧)

_______________________

(١) تهذيب التهذيب ٥ / ١٢٣ ، نكت الهميان / ١٧٦ ، الاستيعاب ٢ / ٤٨٦.

(٢) المرصّع / ١٨٩ تح‍ د إبراهيم السامرائي.

(٣) البيان والتبيين ١ / ٣٣١.

(٤) نفس المصدر ٢ / ٢٦٣.

(٥) المقطرة : خشبة فيها خروق ، كل خرق على قدر سعة الساق ، يدخل فيها أرجل المحبوسين.

(٦) الضريك : الضرير ، وهو أيضاً الفقير الجائع. قال في لسان العرب : الفقير اليابس الهالك سوء حال. ١٢ / ٣٤٨ ط أفست عن بولاق.

(٧) ابن قتيبة عيون الأخبار ١ / ٣٤٢ ، تهذيب تاريخ ابن عساكر ٧ / ٢٣١.

١٠٧

فكان يمنع الجار ، ويحمي الذمار ، ويبذل المال ، ويعطي في النوائب.

وكانت قريش تعدّه من صيّتي العرب ، كان ينادي غلمانه من سلع ـ جبل وسط المدينة ـ وهم بالغابة ـ مكان على ثمانية أميال من المدينة ـ وذلك آخر الليل فيسمعونه (١) ولقد أتتهم غارة فصاح : يا صباحاه ، فأسقطت الحوامل لشدة صوته (٢).

قال الزمخشري وغيره : إنّه كان أجهر الناس صوتاً ، كان يزجر السباع عن الغنم ، فيفتق مرارة الأسد في جوفه ، وفيه يقول النابغة الجعدي :

زجر أبي عروة السباع إذا

أشفق أن يختلطن بالغنم (٣)

وظائفه قبل الإسلام :

وكانت إليه عمارة المسجد الحرام ـ وهي أن لا يدع أحداً يستبّ في المسجد الحرام ولا يقول فيه هُجرا ويحمل الناس على عمارته بالخير ، فلا

_______________________

(١) ابن قتيبة في عيون الاخبار ١ / ١٨٦ ، الزمخشري في ربيع الأبرار باب الأصوات والألحان (مخطوط بمكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام بخراسان ، برقم ٤٣٤٨) ، والدرجات الرفيعة / ٧٩ ، ومعجم البلدان (سلع) وفيات الأعيان ٣ / ٢٧٧ ، والحازمي فيما اتفق لفظه وافترق مسماه في أول حرف الغين في باب عانة وغابة.

(٢) ربيع الابرار ٣ / ٥٧٣ ط الأوقاف ببغداد ، وتاريخ ابن خلكان ٣ / ٢٧٧ تح‍ احسان عباس.

(٣) الدرجات الرفيعة / ٧٩ ، وكامل المبرّد / ١٦٥ ، وربيع الأبرار للزمخشري باب الأصوات والألحان مخطوطة الرضوية ، وسئل بعضهم كيف لم تتفق مرائر الغنم ؟ فقال : لأنها كانت ألفت صوته. وبيت النابغة الجعدي من قصيدة موجودة في شعره / ١٤٨ ـ ١٥٩ جمع عبد العزيز رباح ولم يذكر انه قالها في العباس ، كما ان ما ذكره من مصادر تخريج ابيات القصيدة خلوٌ من ذلك ، فلعل قول الزمخشري ومن تبعه : وفيه يقول النابغة ... يعنى في زجر السباع وتفتق مرائرها. وقد قال ابن الاثير في المرصّع / ٢٤١ : أبو عروة السباع جاهلي يضرب به المثل في شدّة الصوت يزعمون انه كان يصيح في السبع فيموت ، فيشق عن فؤاده فيجدونه قد زال عن مكانه ، وفيه يقول النابغة الجعدي ، فذكر البيت.

١٠٨

يستطيع أحدٌ مخالفته ، لأن قريشاً تعاقدوا على نصرته في ذلك ، فكانوا له أعواناً على وظيفته ـ (١).

كما كانت إليه سقاية الحاج بعد أن كانت لأبي طالب.

وقد كانت السقاية قبل الإسلام وتشمل الرفادة أيضاً ـ وهي اطعام الحاج ـ إلى هاشم بن عبد مناف ، وفيه يقول الشاعر :

عمرو العلى هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وبعده صارت رفادة وسقاية الحاج أيام الموسم لشيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم ، وبعده صارت بيد ابنه شيخ الأباطح أبي طالب ، ومنه انتقلت لأخيه العباس ، لسبب رواه البلاذري وابن سلام وغيرهما : وهو انّ أبا طالب كان يستدين لسقاية الحاج متى أعوزه الحال ، فقال لأخيه العباس ـ وكان امرؤاً تاجراً أيسر بني هاشم وأكثرهم مالاً ـ : قد رأيت ما دخل عليَّ وقد حضر الموسم ولابد لهذه السقاية من أن تقام للحاج فأسلفني عشرة آلاف درهم ، فأسلفه العباس إياها ، فقام أبو طالب تلكم السنة بها وبما كان عنده.

فلمّا كانت السنة الثانية ووافى الموسم قال لأخيه العباس : يا أخي انّ الموسم قد حضر ولابد للسقاية من ان تقام فأسلفني أربعة عشر الف درهم ، فقال : اني اسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم ورجوت أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها فعجزت عنها وأنت تطلب العام أكثر منها وترجو أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها ، فأنت عنها أعجز اليوم ، ها هنا أمر لك فيه فرج ، أدفع

_______________________

(١) أنظر الإصابة في ترجمته ، وتهذيب الأسماء للنووي ، واُسد الغابة ٣ / ١٠٩ ، ونكت الهميان / ١٧٦ وغيرها.

١٠٩

إليك هذه الأربعة عشر ألف درهم فإن جاء الموسم من قابل ولم توفِ حقي الأول وهذا ، فأمر الرفادة والسقاية إليّ دونك فأقوم بها وأكفيك هذه المؤنة إذ عجزت عنها.

فأجابه أبو طالب إلى ذلك (١).

وروى ابن سلام : انّ العباس قال : « ليحضر هذا الأمر بنو فاطمة (٢) ... ولا أريد سائر بني هاشم » ، ففعل أبو طالب ، وأسلفه العباس المال بمحضرٍ منهم ورضىً.

فلمّا كان الموسم الثالث من قابل لم يكن بد من إقامة الرفادة والسقاية ، إزداد أبو طالب عجزاً وضعفاً ، ولم تمكنه النفقة وأعدم حتى أخذ كل رجل من بني هاشم ولداً من أولاده يحمل عنه مؤونته. فقال العباس لأخيه أبي طالب : قد أفد الحج وليس إلى دفع حقي من وجه ، وانت لا تقدر أن تقيم (٣).

قال البلاذري : « فصارت الرفادة والسقاية إلى العباس ، وأبرأ ابا طالب ممّا له عليه ، وكان يأتيه الزبيب من كَرمٍ له بالطائف فينبذ في السقاية ... فقام بالرفادة والسقاية بعد العباس عبد الله بن عباس » (٤).

وفي الدرجات الرفيعة : « واليه ـ العباس ـ عمارة المسجد الحرام والسقاية بعد أبي طالب عليه‌السلام » (٥).

_______________________

(١) انساب الأشراف ١ / ٧٥.

(٢) يعني ولد الزبير وعبد الله فإنهما أشقاء ابي طالب لأمه وهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية.

(٣) أنساب الأشراف ١ / ٧٥.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الدرجات الرفيعة / ٧٩.

١١٠

وقال ابن سلام : « ولم تزل السقاية له ولأولاده إلى اليوم ».

وفي حديث السقاية ما لا يخلو من نظر وذلك فيما رواه الأزرقي في أخبار مكة : قال : « فقام بأمر السقاية بعده ـ أي بعد عبد المطلب ـ العباس بن عبد المطلب فلم تزل في يده ، وكان للعباس كرم بالطائف وكان يحمل زبيبه إليها ، وكان يداين أهل الطائف ويقتضي منهم الزبيب فينبذ ذلك كله ويسقيه الحاج أيام الموسم حتى ينقضي في الجاهلية وصدر الإسلام ، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح فقبض السقاية من العباس بن عبد المطلب والحجابة من عثمان بن طلحة ، فقام العباس بن عبد المطلب فبسط يده وقال : يا رسول الله بأبي أنت واُمي إجمع لنا الحجابة والسقاية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اُعطيكم ما فيه ولا ترزءون منه ، فقام بين عضادتي باب الكعبة فقال : ألا انّ كل دم أو مال أو مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين إلّا سقاية الحاج وسدانة الكعبة فإني قد أمضيتهما لأهلهما على ما كانتا عليه في الجاهلية ، فقبضها العباس فكانت في يده حتى توفي فوليها بعده عبد الله بن عباس رضي الله عنه فكان يفعل فيها كفعله دون بني عبد المطلب ، وكان محمّد بن الحنفية قد كلم فيها ابن عباس فقال له ابن عباس : مالك ولها نحن أولى بها منك في الجاهلية والإسلام ، وقد كان أبوك تكلم فيها فأقمت البيّنة : طلحة بن عبيد الله وعامر بن ربيعة وأزهر بن عبد بن عوف ومحزمة بن نوفل أنّ العباس بن عبد المطلب كان يليها في الجاهلية بعد عبدالمطلب ، وجدك أبو طالب في إبله في باديته بعرفة ، وان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها العباس يوم الفتح دون بني عبد المطلب فعرف ذلك مَن حضر.

١١١

فكانت بيد عبد الله بن عباس بعد أبيه لا ينازعه فيها منازع ، ولا يتكلم فيها متكلم حتى توفي ، فكانت بيد عليّ بن عبد الله بن عباس يفعل فيها كفعل أبيه وجده يأتيه الزبيب من ماله بالطائف ، وينبذه حتى توفي ، وكانت بيد ولده حتى الآن ... اه‍ » (١).

فهذا الخبر ظاهر فيه التزلف للعباسيين ، ولم أقف له عند غير الأزرقي ، وسنده لا يخلو من نظر فإن فيه عثمان بن ساج وساج اسم جده فهو عثمان بن عمرو بن ساج ، قال الأزدي : يتكلمون في حديثه ، وقال العقيلي : « لا يتابع في حديثه » (٢). وراوية حديثه سعيد بن سالم ويكفي فيه قول البخاري : يرى الإرجاء ، وقول الفسوي : كان له رأي سوء وكان داعية يرغب عن حديثه ، وقال العجلي : كان يرى الإرجاء وليس بحجة. وعن ابن معين : كانوا يكرهونه إلى غير ذلك (٣).

أقول : إنّ للمفسرين اختلاف في أنّ عمارة المسجد الحرام كانت وظيفة للعباس أو لا. وذلك في تفسير قوله تعالى : ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (٤).

فقد روى الحاكم الحسكاني عن اسماعيل عن الشعبي قال : « نزلت هذه الآية ... في عليّ والعباس » (٥) ، وكذلك السيوطي في تفسير الآية الكريمة (٦) ، وابن

_______________________

(١) أخبار مكة ١ / ٦٥ ط الماجدية بمكة المكرمة سنة ١٣٥٢ ه‍.

(٢) تهذيب التهذيب ٧ / ١٤٥.

(٣) نفس المصدر ٤ / ٣٥.

(٤) التوبة / ١٩.

(٥) شواهد التنزيل ١ / ٢٤٤.

(٦) الدر المنثور ٣ / ٢١٨ ، ولباب النقول / ١١٥.

١١٢

المغازلي المالكي (١) ، وابن بطريق (٢) ، وابن أبي شيبة في المصنف وعبد الرزاق وابن جرير (٣) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ وغيرهم رووا عن الشعبي وأنس والسدي ومحمد بن كعب القرظي قالوا : نزلت هذه الآية في العباس وعلي عليه‌السلام.

وراجع أيضاً ابن كثير في تفسيره (٤) ، وابن الأثير في جامع الاصول (٥) ، والكنجي في كفاية الطالب (٦) ، وابن المغازلي في المناقب (٧).

وثمة روايات تذكر أنّ الآية نزلت في العباس وشيبة وعليّ عليه‌السلام حيث افتخر العباس بالسقاية وشيبة بن عثمان بحجابة البيت واحتكما إلى عليّ عليه‌السلام فقال : أنا هاجرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاهدت معه ... فأنزل الله تعالى الآية (٨).

وحيث انّ الآية صريحة في عمارة المسجد ، ولم تكن لشيبة انّما كانت له حجابة البيت ، فالظاهر أنّ ما سبق هو الأولى.

قال ابن رستة في كتابه : « وأول من سنّ الطواف بالبيت سبعاً هو العباس ابن عبد المطلب ١٠ ه‍ » (٩). ولم أقف على هذا عند غيره وهو أمر لا يخلو من نظر.

_______________________

(١) مناقب المغازلي / ح ٣٢٤.

(٢) العمدة / ٩٨.

(٣) تفسير ابن جرير ١٠ / ٦٠.

(٤) نفس المصدر ٢ / ٢٤١.

(٥) جامع الاُصول ٩ / ٤٧٧.

(٦) كفاية الطالب / ٢٣٧.

(٧) المناقب ٢ / ٣٢١ ـ ٣٢٢.

(٨) أنظر أسباب النزول للواحدي / ١٨٢ ، وتفسيري الطبري والرازي.

(٩) الأعلاق النفيسة / ١٩٨ ليدن.

١١٣

إسلام العباس :

اختلف المؤرخون في وقت إسلامه ، فعن ابن عساكر عن عمرو بن عثمان أنه أسلم ليلة الغار (١).

وفي حديث الواقدي : أنّه أسلم وأسلمت معه زوجته أم الفضل ، وعلى هذا يكون إسلامه بمكة قبل الهجرة ، لأن أم الفضل ـ زوجته ـ كانت أول امرأة أسلمت بعد السيدة خديجة أم المؤمنين ، فهي ثانية المسلمات السابقات ، وفي حديث أبي رافع مؤشر واضح على ذلك.

فإنّ أبا رافع كان مولى للعباس فوهبه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « كنت غلاماً للعباس ابن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، وأسلمت أم الفضل وأسلمتُ ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، فخرج معهم إلى بدر وهو على ذلك » (٢).

وفي الاستيعاب : انه أسلم قبل فتح خيبر وكان يكتم إسلامه (٣).

وفي حديث الحجاج بن علاط (٤) ما يشير بوضوح إلى أنه كان مسلماً يسرّه ما يفتح الله به على المسلمين ، وأظهر إسلامه يوم فتح خيبر.

وقيل : إن إسلامه كان قبل بدر ، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان المسلمون يتقوّون به بمكة ، وكان يحب أن يقدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

_______________________

(١) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٧ / ٢٣٢.

(٢) طبقات ابن سعد ٤ ق ١ / ٥ ، والمعرفة والتاريخ ١ / ٥١١.

(٣) الاستيعاب ٢ / ٤٨٥ ط حيدر آباد ، وقارن أسد الغابة ٣ / ١١٠ ط أفست الاسلامية.

(٤) حديث الحجاج بن علاط مذكور في كتب التاريخ والسيرة في واقعة خيبر راجع طبقات ابن سعد ٤ ق١ / ١٠ ـ ١١ ، والسيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٧ ـ ١٩ ، والمعرفة والتاريخ للفسوي ١ / ٥٠٧ ـ ٥٠٩.

١١٤

فكتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه : إن مقامك بمكة خير (١) ، فلذلك قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر فمن لقي منكم العباس فلا يقتله فإنّما اخرج كارهاً.

وذكر ابن سعد في الطبقات : إنّ قريشاً لمّا نفروا إلى بدر ، فكانوا بمر الظهران ، هبّ أبو جهل من نومه فصاح فقال : يا معشر قريش ألا تباً لرأيكم ماذا صنعتم ، خلّفتم بني هاشم وراءكم ، فإن ظفر بكم محمّد كانوا من ذلك بنجوة ، وإن ظفرتم بمحمد أخذوا ثارهم منكم من قريب من أولادكم وأهليكم ، فلا

_______________________

(١) من الدس الرخيص ما قاله المستشرق جون باجوت غلوب في كتابه الفتوحات العربية الكبرى / ١٤٣ ط مكتبة المثنى ببغداد : « وقد اختلف المؤرخون في سلوك العباس اختلافاً كبيراً ، فادعى بعضهم انه كان قد أسلم منذ أمدٍ طويل وأنه كان مخلصاً في إسلامه ، ولم يبق كل تلك المدة في مكة متظاهراً بالشرك إلّا لخدمة مصالح ابن أخيه ورأى بعضهم أنه كان صورة مبكرة لراعي أبرشية بري متظاهراً بالإخلاص لقريش ومتصلاً سراً بالمسلمين أقول : لقد حنّ قدحٌ ليس منها ، اشنت الفصال حتى القرعى ، وقد هزلت الحياة العربية حتى صار يؤرخها ويكتب في فتوحاتها من الأغيار الأجانب عنها خَلقاً وخُلقاً ورأياً ومنطقاً ، أمثال هذا المراوغ المخادع ، ولو سأله القارئ أي فرق بين الرأيين اللذين زعم أنهما لغيرهما ، فالرأي الأول في سلوك العباس كان مخلصاً في إسلامه ، متظاهراً بالشرك لخدمة مصالح ابن أخيه. والرأي الثاني : كان متظاهراً بالاخلاص لقريش ، ومتصلاً سراً بالمسلمين ، فهو في الحقيقة على كلا الرأيين ، كان يتظاهر بالشرك وليس بمشرك ، ويتصل سراً بالمسلمين ، وما ذلك إلّا لخدمة مصالح ابن أخيه » على حد تعبيره.

ولكن هذا الانسان الصليبي الحاقد أراد أن ينال من الإسلام والكيد لنبيّه ، بالطعن في سلوك عمه فجعله مثلاً مبكراً لراعي أبرشية بري. وهذا كما عرّفه هو بأنه كان راعياً لكنيسة بري في عهد هنري الثامن في انكلترا ، وكان انتهازياً تقلب من الكثلة إلى البروتستانية وبالعكس حسب رغبة الحكام. ألا مسائل هذا الصِلف أين وجه الشبه بينه وبين العباس في السلوك ؟!.

ولو قال انه أقام بمكة يرعى مصالح ابن أخيه بداعي التعصب للقرابة كما صنع ذلك يوم دخل معه الشعب في الحصار الذي فرضته عليه قريش ، وقد مرّت الاشارة إليه فراجع ، لكان لقوله نحو تخريج وان لم يكن مقبولاً. ولكنها الصليبية إلى الأبد.

١١٥

تذروهم في بيضتكم وفنائكم ، ولكن أخرجوهم معكم ، وإن لم يكن عندهم غناء ، فرجعوا اليهم ، فأخرجوا العباس بن عبد المطلب ونوفلاً وطالباً وعقيلاً كرهاً (١).

وذكر محمّد بن حبيب في كتابيه نقلاً عن محمّد بن عمر المدني ـ الواقدي ـ : إنّ العباس نحر في بدر عشراً من الإبل ، فلم تطعمها قريش وأكفأت قدوره لعلمها بميله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وفي الدرجات الرفيعة قال السيد المدني : « وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا اطعام أهل بدر ، قد نحر كل واحد يوم نوبته عشراً من الإبل ، وكان حمل معه عشرين أوقية من الذهب ليطعم بها الناس ، وكان يوم بدر في نوبته ، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية فأخذت منه حين أخذ وأسر في الحرب » (٣).

ومهما كان من أمر الإطعام فلا شك في أنه كان في الأسرى يوم بدر ، أسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري ، وكان أبو اليسر رجلاً صغير الجثة ، وكان العباس رجلاً عظيماً قوياً ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي اليسر : كيف أسرته ؟ قال : أعانني رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، فقال : لقد أعانك عليه ملك كريم (٤).

إلّا أنّ ابن إسحاق لم يذكر اسمه مع الأسارى ـ كما في سيرة ابن هشام ـ وابن اسحاق مؤرخ دولة رسمي للعباسيين !

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٤ ق ١ / ٤ ـ ٥.

(٢) المحبّر / ١٦٢ ، والمنمّق / ٤٨٩.

(٣) الدرجات الرفيعة / ٨١ ط الحيدرية ١٣٨٢ ه‍.

(٤) طبقات ابن سعد ٤ ق١ / ٦ ، والدرجات الرفيعة / ٨٠.

١١٦

وذكر ابن سعد أنّ قريشاً في يوم بدر جمعت بني هاشم وحلفاءهم في قبّة وخافوهم فوكّلوا بهم من يحفظهم ويشدد عليهم ، ومنهم حكيم بن حزام (١).

وذكر أيضاً : انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم بدر : من لقي أحداً من بني هاشم فلا يقتله فإنهم اخرجوا كرهاً ، فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة : والله لا ألقي رجلاً منهم إلّا قتلته ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أنت القائل كذا وكذا ؟ ، قال : نعم يا رسول الله شقّ عليَّ إذا رأيت أبي وعمي وأخي مقتّلين فقلت الذي قلت ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أباك وعمك وأخاك خرجوا جادّين في قتالنا طائعين غير مكرهين ، وإن هؤلاء أخرجوا مُكرَهين غير طائعين لقتالنا (٢).

وفي تاريخ الطبري قال أيضاً : فمن لقي منكم العباس فلا يقتله (٣).

وأرق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنين عمه العباس وعلم ذلك بعض أصحابه فأرخى وثاقه فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بالي لا أسمع أنين العباس ؟ فقال رجل : أرخيت من وثاقه شيئاً ، قال : أفعل ذلك بالأسارى كلهم.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعباس : أفد نفسك يا عباس وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم فإنك ذو مال ، قال : يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني ، قال : الله أعلم بإسلامك ، إن يك ما تذكر حقاً فالله يجزيك به ، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب ، فقال العباس : يا رسول

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٤ ق ١ / ٦.

(٢) نفس المصدر ٤ ق ١ / ٦.

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ٢٨٢.

١١٧

الله أحسبها لي من فدائي ، قال : لا ذلك شيء أعطاناه الله منك ، قال : فإنه ليس لي مال ، قال : فأين المال الذي وضعتَ بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد ثم قلت لها : إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا ولعبد الله كذا وكذا ، قال : والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها ، وإني لأعلم أنك رسول الله ، ففدى العباس نفسه وابن أخيه وحليفه (١).

ثم رجعوا جميعاً الى مكة ثم اقبلوا الى المدينة مهاجرين (٢).

وذكر أنّ العباس ونوفل وعقيل رجعوا الى مكة أمروا بذلك ليقيموا ما كانوا يقيمون من أمر السقاية والرفادة والرئاسة ، وكانت السقاية والرفادة والرئاسة في الجاهلية في بني هاشم ، ثم هاجروا بعد الى المدينة (٣).

وفي فداء العباس نفسه ومن كان معه روي شأن نزول قوله تعالى : ( قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٤).

ولمّا رجع العباس إلى مكة أقام بها عيناً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش ، حتى إذا عزمت قريش على المسير إلى المدينة في وقعة أحد كتب العباس بن عبد المطلب كتاباً وختمه وأستأجر رجلاً من بني غفار وشرط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره انّ قريشاً قد اجتمعت للمسير اليك فما كنت صانعاً إذا

_______________________

(١) طبقات ابن سعد ٤ ق١ / ٦ ـ ٧ ، ومسند أحمد ١ / ٣٥٣.

(٢) نفس المصدر ٤ ق١ / ٩.

(٣) نفس المصدر ٤ ق ١ / ١٠.

(٤) الأنفال / ٧٠.

وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٨ / ٥٢ ، وتفسير الطبري ١٠ / ٤٩ ـ ٥٠ ، ومجمع البيان ٤ / ٥٤٩ ، والميزان ٩ / ١٣٨ ـ ١٤٠.

١١٨

دخلوا بك فاصنعه ، وقد وجهوا وهم ثلاثة الاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير ، وقد أوعبوا من السلاح فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة وجده بقباء ، فخرج حتى وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على باب مسجد قباء يركب حماره ، فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب ... (١).

هجرة العباس :

قال البلاذري وغيره : وهاجر العباس إلى المدينة قبل فتح مكة ، وبه انقطعت الهجرة ، ولقي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسقيا (٢) ، وقيل بالجحفة (٣) ، وقيل بذي الحليفة (٤).

أقول : ويظهر من بعض الأخبار أنّ زوجته أم الفضل كانت تزور المدينة وتقيم فيها كما سيأتي في حديثها عن رضاعها للإمام الحسين عليه‌السلام ولا يجد أنّ العباس كان معها زائراً وليس مهاجراً ، والذي أراه أنه وصل المدينة قبل خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فتح مكة (٥). لحديث ابن عباس قال : « سافرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء فشرب بها ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة وافتتح مكة في رمضان » (٦) ، وهذا الحديث أخرجه البخاري في

_______________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٣٦٠.

(٢) شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٢٠٧ ، واعيان الشيعة ٢ / ٢٣٦ ، والسقيا قرية من أعمال الفرع بينها وبين الجحفة ١٩ ميلاً معجم البلدان (السقيا).

(٣) البداية والنهاية ١ / ٢٩٦ ، وتاريخ ابن خلدون ٢ ق ٢ / ٤٢ ، والجحفة على ثلاث مراحل من مكة في طريق المدينة بينها وبين غدير خم ميلان.

(٤) البداية والنهاية ١ / ٢٩٦ ، وتاريخ ابن خلدون ٢ ق ٢ / ٤٢ ، وانساب الأشراف ١ / ٣٥٥.

وذو الحليفة على خمسة أميال ونصف من المدينة المنوّرة (كتاب المناسك للحربي / ٤٢٢).

(٥) أنساب الأشراف ١ / ٣٥٥.

(٦) نفس المصدر.

١١٩

صحيحه (١) ، ومسلم (٢) ، وأبو داود في سننه (٣) ، والنسائي (٤) ، والطبراني في معجمه (٥). وقد أقطعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هجرته هو ونوفل بن الحارث في موضع واحد وآخى بينهما فكانا متجاورين كما كانا في الجاهلية شريكين في المال متحابين متصافيين.

وخرج العباس مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشهد فتح مكة (٦) وله قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبي سفيان ابن حرب حين جاء مستسلماً : « أحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله ، قال العباس : فخرجت حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي ، فمرّت عليه القبائل فيقول : مَن هؤلاء يا عباس ؟ فأقول : سُليم ، فيقول : مالي ولسُليم ، فتمرّ به قبيلة فيقول : من هؤلاء ؟ فأقول : أسَلم ، فيقول : مالي ولأسَلم ، وتمر جهينة فيقول : مالي ولجهينة ، حتى مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلّا الحدق ، فقال : من هؤلاء يا أبا الفضل ؟ فقلت : هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المهاجرين والأنصار ، فقال : يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً ، فقلت : ويحك إنها النبوّة ، فقال : نعم إذا » (٧).

وليس ببعيد أنّ العباس أحسّ من أبي سفيان في موقفه ذلك اليوم أنه لا يزال امرءاً تساوره نفسه بالملك ، ولم يقتنع بالنبوّة ، لذلك قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول

_______________________

(١) صحيح البخاري برقم / ١٩٤٨ و ٤٢٧٩.

(٢) صحيح مسلم برقم / ١١١٣.

(٣) سنن ابي داود برقم / ٢٣٧٨.

(٤) سنن النسائي ٤ / ١٨٤.

(٥) المعجم الكبير للطبراني ١١ / ٢٦.

(٦) قال ابن خلدون : فبعث العباس ـ رحله إلى المدينة وانصرف معه غازياً ، تاريخ ابن خلدون ٢ ق ٢ / ٤٢.

(٧) أعيان الشيعة ٢ / ٣٣٧.

١٢٠