السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-501-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٨٨
قد عرف باستعداد قريش لمحاربة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم انتقاماً لما أصابهم ببدر من القتل والأسر ، وعرف بما كتب به أبوه إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يخبره بذلك.
ولا شك أنه رأى بعض مظاهر قريش عند
خروجهم إلى محاربة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولا شك أنه حزن لمّا رأى ذلك ، كما أنه ازداد حزناً حين جاء الخبر بانتصارهم في موقعة أحد ومقتل عمه الحمزة أسد الله وأسد رسوله ، ومن الطبيعي كلما ازداد سنه ازداد وعيه بمجريات الأحداث ، فهو يسمع ما تتناقله الأخبار عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وغزواته ، ويزداد ابتهاجاً بانتصاراته. فمن غزوة بني النضير إلى ذات الرقاع إلى بني المصطلق إلى غزوة الخندق التي كان نصرها المؤزر على يد بطلها المظفر هو ابن عمه الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام
ولولاه لما قام للأسلام عمود ولا اخضَرَّ له عود وحسبه ما بلغه من قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: (برز الإيمان كله إلى الشرك كله) ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: (ضربة على يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين) إلى غزوة بني قريضة إلى غزوة الحديبية ، وأظن أنه كان يحلم عند سماعه الخبر برؤية ابن عمه نبي الهدى صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو يدخل مكة معتمراً وكاد أن يتحقق ذلك لولا مهادنة قريش له على العام القادم. ولئن اغتم لذلك فقد جاءه ما زاد غمه وهو خبر الحجاج بن علاط السلمي ـ وهذا هو زوج خالته عزة ـ الذي دخل مكة بعد غزوة خيبر فأشاع انتصار اليهود على المسلمين واستحث قريشاً على جمع ديونه ليرجع عجلاً فيشتري بعض الغنائم من اليهود. وسمع العباس الخبر وساءه كذلك ، فاراد أن يستوثق من الحجاج بنفسه فلقيه وسأله ، فاستكتمه إن هو أخبره بالصحيح ، فضمن له ذلك فقال له : فاني والله تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم. يعني صفية بنت حي بن أخطب. ولقد افتتح خيبر وانتشل ما فيها ـ أي
استخرج ـ وصارت له ولأصحابه. فأكتم عني فاذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب ، ووفى العباس بشرطه.
ولمّا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وتخلّق وأخذ عصاه ثم خرج فأتى الكعبة فطاف بها ، فلمّا رأوه قالوا : يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحرّ المصيبة ، قال : كلا والله الذي حلفتم به لقد افتتح خيبر وتُرك عروساً على ابنة ملكهم واحرز أموالهم وما فيها فاصبحت له ولأصحابه ، قالوا : من جاءك بهذا الخبر ؟ قال : الذي جاءكم بما جاءكم به ، وهكذا تبدل الغم في الهاشميين جميعاً بل والمسلمين إلى فرح.
ومن الطبيعي أن يشهد ذلك كله حبر الأمة عبد الله بن عباس ويشاركهم أفراحهم ، ولعل هذا آخر حَدَث أدركه ووعاه بمكة قبل هجرته مع أبيه إلى المدينة والى هنا ننهي حديثنا عن نشأته في مكة.
ولنبدأ معه مسيرتنا في الحديث عنه من هجرته مع أبيه وأهل بيته ، وذلك عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة النبوية ، وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة وسوف نقرأ عنه بعض مشاهداته.
ولكن لا بد لنا قبل ذلك معرفة شيء من تاريخ أبويه. ما دام الولد سر أبيه وفطيم أمه.
وعامل الوراثة له في تكوين الشخصية أبلغ الأثر ، فهو يورث الولد الخصائص الروحية كما يورثه الصفات الجسمية ، وابن عباس قد ورث من أبويه الخصائص والخصال ، فإلى معرفة الأبوين :
أولاً : أبوه ـ العباس بن عبد المطلب
ولادة العباس :
ولد قبل عام الفيل بثلاث سنين ، فكان أسنّ من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بثلاث سنين ، وسئل مرّة أنت أكبر أم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟ فقال : « هو أكبر مني وأنا ولدت قبله » (١) ، وهذا من كمال الأدب وجميل القول ، وفي لفظ آخر : « هو أكبر مني وأنا أسنّ منه ، وإني لأعقل انه قيل لأمي : إن آمنة ولدت غلاماً فخرجت بي حين أصبحت آخذة بيدي حتى دخلنا عليها ، فكأني أنظر إليه يمصع (٢) برجليه في عرصة ، وجعل النساء يجبذنني عليه ، ويقلن قبّل أخاك ».
_______________________
(١) مستدرك الحاكم ٣ / ٣٢٠ ، والمعرفة والتاريخ ١ / ٥٠٤ ، وتاريخ الخميس للديار بكري ١ / ١٦٥ ، وأنساب الأشراف ١ / ٨٩ ، والدرجات الرفيعة / ٧٩ ، والمحاسن والاضداد / ١٧. والخبر في سير أعلام النبلاء ٢ / ٧١ ـ ٧٢.
(٢) يمصع : أي يحرّكهما ، من مصعت الدابة بذنبها حرّكته (المنجد).
أمه : نتيلة (١) بنت جناب بن كلاب ، وهي أول عربية كست البيت الحرام الحرير والديباج وأصناف الكسوة ، والسبب فيه : انّ العباس ضاع وهو صغير فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت ، فوجدته ففعلت (٢).
وقيل : انّ الذي ضاع من أولادها هو ضرار إبنها (٣) فكاد عقلها أن يذهب جزعاً وولهت ولهاً شديداً ، وكانت ذات يسار فنذرت ووفت بنذرها (٤).
وجاءت يوماً بابنها العباس إلى أبيه عبد المطلب وقالت له : يا أبا الحارث قل في هذا الغلام مقالة ، فأخذه وجعل يرقصه ويقول :
قال البلاذري : قال عبد المطلب في ابنه العباس وكان به معجباً :
ظني بعباس بُنيّ إن كبر |
|
أن يمنع القومَ إذا ضاع الدبَر |
وينزع السَّجل (٥) ذا اليوم اقمطّر |
|
ويسقي الحاج إذا الحاج كثر |
وينحر الكوماء (٦) في اليوم الخصر |
|
ويفصل الخطبة في اليوم الأمرّ |
_______________________
(١) كذا اسمها في جل المعاجم والتواريخ ، إلّا ان ابن ظفر المكي ذكر في كتابه أنباء نجباء الأبناء / ٥١ : ان اسمها (نبيلة) ، ولعل ذلك من تصحيف النساخ وهي التي قالت لزوجها عبد المطلب لما دخل عليها عند عودته من اليمن وقد صبغ شعره بالوسمة فكان مثل حنك الغراب ـ يا شيب ما أحسن هذا الصبغ لو دام نعله ، فقال عبد المطلب :
لو دام لي هذا السواد حمدته |
|
فكان بديلاً من شباب قد انصرم |
تمتعت منه والحياة قصيرة |
|
ولا بدّ من موت نتيلةُ أو هرم |
وماذا الذي يجدي على المرء |
|
خفضه ونعمته يوماً إذا عرشه انهدم |
( أنساب الأشراف ١ / ٦٦ ).
(٢) لطائف المعارف / ١١.
(٣) أنساب الاشراف ١ / ٨٩.
(٤) الاستيعاب ٢ / ٤٨٥ ، نكت الهميان / ١٧٥ ـ ١٧٦.
(٥) السجل : الدلو العظيمة فيها ماء قلّ أو كثر ، ونزع الدلو جذبها أو استقى بها (المنجد).
(٦) الكوماء : الناقة الضخمة السنام.
وكان الزبير بن عبد المطلب يزفن ـ يرقص ـ العباس أخاه :
نشأة العباس رضياللهعنه ومكانته :نشأ العباس في حجر أبيه عبد المطلب ـ سيد البطحاء ـ وتحت رعاية أخوته ، وقد ساد وهو غلام ، وذلك حين ولّته قريش في أيام الفجار حلوان النفر ، فإنها لم تملّك عليها في الجاهلية أحداً ، فاذا كانت الحرب أقرعوا بين أهل الرياسة ، فاذا حضرت الحرب أجلسوه لا يبالون صغيراً كان أو كبيراً ، تيمّناً به ، فلمّا كان أيام الفجار أقرعوا بين بني هاشم فخرج سهم العباس بن عبد المطلب وهو غلام صغير فأجلسوه على ترسٍ ـ المجن ـ (٦) وفيه يقول ضرار :
_______________________ (١) عبد كلال : من ملوك التبابعة يقال : انه كان على دين المسيح عليهالسلام. (٢) حجُر : ملك من ملوك كندة وهو والد الشاعر الملك الضليل امريء القيس. (٣) أنساب الاشراف ١ / ٨٩ ، وابن ظفر المكي في أنباء نجباء الأبناء / ٥١ بتفاوت في بعض الألفاظ ، وأخرج محمّد بن حبيب في كتابه المنمق / ٤٣٢ الشطر الأول والرابع ، واخرج الأبيات الاصدري البيت الثالث والرابع ابن عساكر في تاريخه كما في تهذيبه ٧ / ٢٣٠. (٤) الشَبَم : كنمر ، البارد والمراد الشتاء إذا قل الطعام. (٥) المنمق / ٤٣٦ لمحمد بن حبيب ط حيدر آباد. (٦) العقد الفريد ٣ / ٣١٥. (٧) طراز المجالس للشهاب الخفاجي / ٢٢٣. |
جنال حقه وذمامه |
|
وأسعطت فيه الرغم من كان راغما |
سأنصره ما كنت حياً وإن أمت |
|
أحضّ عليه للتناصر هاشما |
وقد أشار ابن قيس بن نشبة إلى ذلك في أبيات قالها في مدح عبد الله بن عباس في الإسلام فقال :
أحبكم في الجاهلية والذي |
|
وفا الدين كنتم عدتي ورجائيا |
فصرت بحبّي منكم غير مبعد |
|
لديكم وأصبحت الصديق المصافيا |
وآليت لا أنفك أحدو قصيدة |
|
تدور بها بزل الجمال الهواديا (٢) |
_______________________
(١) أنظر تفصيل ذلك في المنمق لمحمد بن حبيب / ٥٤ ـ ٦٧.
(٢) المنمق لمحمد بن حبيب / ١٦٤ ـ ١٦٥ ، وربيع الأبرار للزمخشري باب الأنفة والحمية (مخطوطة الرضوية).
وكانت لعباس ثلاث نعدّها |
|
إذا ما جناب الحي أصبح أشهبا |
فسلسلة تنهيَ الظلوم وجفنة |
|
تباح فيكسوها السنام المزّغبا |
وحلة عصب ما تزال معدة |
|
لعارٍ ضريكٍ (٦) ثوبه قد تهبّبا (٧) |
_______________________
(١) تهذيب التهذيب ٥ / ١٢٣ ، نكت الهميان / ١٧٦ ، الاستيعاب ٢ / ٤٨٦.
(٢) المرصّع / ١٨٩ تح د إبراهيم السامرائي.
(٣) البيان والتبيين ١ / ٣٣١.
(٤) نفس المصدر ٢ / ٢٦٣.
(٥) المقطرة : خشبة فيها خروق ، كل خرق على قدر سعة الساق ، يدخل فيها أرجل المحبوسين.
(٦) الضريك : الضرير ، وهو أيضاً الفقير الجائع. قال في لسان العرب : الفقير اليابس الهالك سوء حال. ١٢ / ٣٤٨ ط أفست عن بولاق.
(٧) ابن قتيبة عيون الأخبار ١ / ٣٤٢ ، تهذيب تاريخ ابن عساكر ٧ / ٢٣١.
زجر أبي عروة السباع إذا |
|
أشفق أن يختلطن بالغنم (٣) |
وظائفه قبل الإسلام :
وكانت إليه عمارة المسجد الحرام ـ وهي أن لا يدع أحداً يستبّ في المسجد الحرام ولا يقول فيه هُجرا ويحمل الناس على عمارته بالخير ، فلا
_______________________
(١) ابن قتيبة في عيون الاخبار ١ / ١٨٦ ، الزمخشري في ربيع الأبرار باب الأصوات والألحان (مخطوط بمكتبة الإمام الرضا عليهالسلام بخراسان ، برقم ٤٣٤٨) ، والدرجات الرفيعة / ٧٩ ، ومعجم البلدان (سلع) وفيات الأعيان ٣ / ٢٧٧ ، والحازمي فيما اتفق لفظه وافترق مسماه في أول حرف الغين في باب عانة وغابة.
(٢) ربيع الابرار ٣ / ٥٧٣ ط الأوقاف ببغداد ، وتاريخ ابن خلكان ٣ / ٢٧٧ تح احسان عباس.
(٣) الدرجات الرفيعة / ٧٩ ، وكامل المبرّد / ١٦٥ ، وربيع الأبرار للزمخشري باب الأصوات والألحان مخطوطة الرضوية ، وسئل بعضهم كيف لم تتفق مرائر الغنم ؟ فقال : لأنها كانت ألفت صوته. وبيت النابغة الجعدي من قصيدة موجودة في شعره / ١٤٨ ـ ١٥٩ جمع عبد العزيز رباح ولم يذكر انه قالها في العباس ، كما ان ما ذكره من مصادر تخريج ابيات القصيدة خلوٌ من ذلك ، فلعل قول الزمخشري ومن تبعه : وفيه يقول النابغة ... يعنى في زجر السباع وتفتق مرائرها. وقد قال ابن الاثير في المرصّع / ٢٤١ : أبو عروة السباع جاهلي يضرب به المثل في شدّة الصوت يزعمون انه كان يصيح في السبع فيموت ، فيشق عن فؤاده فيجدونه قد زال عن مكانه ، وفيه يقول النابغة الجعدي ، فذكر البيت.
عمرو العلى هشم الثريد لقومه |
|
ورجال مكة مسنتون عجاف |
وبعده صارت رفادة وسقاية الحاج أيام الموسم لشيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم ، وبعده صارت بيد ابنه شيخ الأباطح أبي طالب ، ومنه انتقلت لأخيه العباس ، لسبب رواه البلاذري وابن سلام وغيرهما : وهو انّ أبا طالب كان يستدين لسقاية الحاج متى أعوزه الحال ، فقال لأخيه العباس ـ وكان امرؤاً تاجراً أيسر بني هاشم وأكثرهم مالاً ـ : قد رأيت ما دخل عليَّ وقد حضر الموسم ولابد لهذه السقاية من أن تقام للحاج فأسلفني عشرة آلاف درهم ، فأسلفه العباس إياها ، فقام أبو طالب تلكم السنة بها وبما كان عنده.
فلمّا كانت السنة الثانية ووافى الموسم قال لأخيه العباس : يا أخي انّ الموسم قد حضر ولابد للسقاية من ان تقام فأسلفني أربعة عشر الف درهم ، فقال : اني اسلفتك عام أول عشرة آلاف درهم ورجوت أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها فعجزت عنها وأنت تطلب العام أكثر منها وترجو أن لا يأتي عليك الموسم حتى تؤديها ، فأنت عنها أعجز اليوم ، ها هنا أمر لك فيه فرج ، أدفع
_______________________
(١) أنظر الإصابة في ترجمته ، وتهذيب الأسماء للنووي ، واُسد الغابة ٣ / ١٠٩ ، ونكت الهميان / ١٧٦ وغيرها.