زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

السيد محمد كاظم القزويني

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

المؤلف:

السيد محمد كاظم القزويني


المحقق: السيد مصطفى القزويني
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الغدير
الطبعة: ١
ISBN: 964-7165-32-3
الصفحات: ٦٩٤

وصول الإمام الحسين إلى أرض كربلاء

وفي الطريق إلى الكوفة ، إلتقى الإمام الحسين عليه‌السلام بالحرّ بن يزيد الرياحي ، وكان مُرسلاً مِن قِبَل ابن زياد في ألف فارس ، وهو يريد أن يذهب بالإمام إلى ابن زياد ، فلم يوافق الإمام الحسين على ذلك ، واستمرّ في السير حتى وصل إلى أرض كربلاء في اليوم الثاني من شهر محرم سنة ٦١ للهجرة.

فلمّا نزل بها ، قال : ما يُقال لهذه الأرض؟

فقالوا : كربلاء!

فقال الإمام : « اللهم إنّي أعوذُ بك من الكرب والبلاء » ، ثم قال لأصحابه : إنزِلوا ، هاهنا مَحَطّ رحالنا ، ومَسفك دمائنا ، وهنا محلّ قبورنا. بهذا حدّثني جدّي رسول الله

١٦١

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (١)

قال السيد ابن طاووس في كتاب « الملهوف » :

لمّا نزلوا بكربلاء جلس الإمام الحسين عليه‌السلام يُصلح سيفه ويقول :

يـا دهرُ أفٍ لك من خليل

كم لك بالإشراق و الأصيل

مِن طـالبٍ وصاحبٍ قتيل

والدهـر لا يقنـعُ بالبَديل

وكـلّ حيّ سالكٌ سبيلـي (٢)

ما أقربَ الوعد من الرحيلِ

وإنّما الأمر إلى الجليلِ

فسمعت السيدة زينب بنت فاطمة عليها‌السلام ذلك ، فقالت : يا أخي هذا كلام مَن أيقَن بالقَتل!

فقال : نعم يا أختاه.

فقالت زينب : واثكلاه! ينعى إليّ الحسين نفسه.

وبكت النِسوة ، ولَطمن الخدود ، وشقَقن الجيوب ، وجعلت أمّ كلثوم تنادي : وامحمّداه! واعليّاه! وا أمّاه! وا فاطمتاه!

__________________

١ ـ كتاب « الملهوف » ص ١٣٩.

٢ ـ وفي نسخة :

وإنّما الأمر إلـى الجليـل

وكـلّ حيّ فإلـى سبيلـي

ما أقرب الوعد إلى الرحيل

إلـى جنـانٍ وإلى مقيـلِ

١٦٢

واحَسَناه! واحُسيناه! واضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله ... إلى آخره. (١)

ورَوى الشيخ المفيد في كتاب ( الإرشاد ) هذا الخبر بكيفيّة أُخرى وهي :

قال علي بن الحسين [ زين العابدين ] عليهما‌السلام :

إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تُمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خِباء له (٢) ، وعنده جوين مولى أبي ذرٍ الغفاري ، وهو يعالج سيفه (٣) ويُصلحه ، وأبي يقول :

يا دهـر أفّ لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

مِـن صاحب وطالبٍ قتيل

والدهـر لا يقنـع بالبديل

وإنّمـا الأمـر إلى الجلل

وكلّ حـي سـالكٌ سبيلي

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ، حتّى فهمتُها ، وعَرفت ما أراد ، فخَنَقتني العبرة ، فرددتها ، ولَزِمتُ السكوت ، وعلِمت أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمتي : فإنّها سَمِعت ما سمعتُ ، وهي إمرأة ، ومن شأنها النساء : الرقّة والجزع ، فلم تِملِك نفسها ، إذ وَثَبت تجرّ ثوبها ،

__________________

١ ـ كتاب ( الملهوف على قتلى الطفوف ) للسيد علي بن موسى بن طاووس ، المتوفّى سنة ٦٦٤ هـ ، ص ١٣٩.

٢ ـ خِباء : خيمة.

٣ ـ ضمير هو : يرجع إلى جوين ، يُعالج : يُحاول إعداده للإستعمال في القتال.

١٦٣

حتى انتهت إليه فقالت :

واثكلاه! ليتَ الموت أعدَمَني الحياة ، اليوم ماتت أُمّي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثِمال الباقين!

فنظر إليها الإمام الحسين فقال لها : يا أُخيَّة! لا يُذهِبنّ حِلمَك الشيطان.

وتَرقرَقَت عيناه بالدموع ، وقال : يا أُختاه ، « لو تُرك القَطا لغَفا ونامَ » (١).

فقالت : يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصاباً؟ (٢) فذاك أقرَحُ لقلبي ، وأشدّ على نفسي ، ثمّ لطمت وجهها! وأهوَت إلى جيبِها فشقّته ، وخرّت مغشيّاً عليها.

فقام إليها الإمام الحسين عليه‌السلام فَصَبّ على وجهها الماء ، وقال لها :

__________________

١ ـ القطا : طائرٌ معروف ، واحدة : القطاة. قالوا ـ في الأمثال ـ : « لو تُرك القطا ليلاً لَنام » يُضرَبُ مثلاً لِمَن حُمِل أو أُجبِر على مكروه من غير إرادته ، وذلك أنّ القطا لا يطير ليلاً إذا أذا أزعجوه وأفسدوا عليه راحته ، فإذا طار القطا ليلاً كان ذلك علامة على أنّ عدوّاً يُلاحقه.

ومعنى كلام الإمام الحسين عليه‌السلام : إنّ العدوّ لو كان يتركُنا لكنّا نَبقى في وطننا في المدينة ، ولكنّه أزعجنا وأخرجَنا من بلادنا ، وسيَبقى يُلاحقنا إلى أن نَسلَم منه أو يَقتُلنا.

المحقق

٢ ـ أي : تُقتَل ظُلماً وقَهراً.

١٦٤

إيهاً يا أُختها! إتّقي الله ، وتَعزّي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأنّ أهل السماء لا يَبقون ، وأنّ كلّ شيء هالِك إلا وجه الله ، الذي خلق الخلق بقُدرته ، ويَبعث الخلق ويعيدهم وهو فردٌ وحده.

جدّي خيرٌ مني ، وأبي خيرٌ منّي ، وأُمّي خيرٌ منّي ، وأخي [ الحسن ] خيرٌ منّي ، ولي ولكلّ مسلم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُسوة.

فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : « يا أُختاه إني أقسمتُ عليكِ ، فأبِرّي قَسَمي (١).

لا تَشُقّي عَلَيّ جَيباً ، ولا تَخمشي عليّ وجهاً ، ولا تَدعي عليّ بالويل والثُبور إذا أنا هلكتُ ».

ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي ، وخرج إلى أصحابه ... (٢)

* * * *

أقول : سمعتُ من بعض الأفاضل : أنّ هذه الأبيات كانت مشؤمة عند العَرب ، ولم يُعرف قائلُها ، وكان المشهور عند الناس : أنّ

__________________

١ ـ أبرّي قَسَمي : أجيبيني إلى ما أقسَمتُكِ عليه ، ولا تَحنَثي ذلك. كما في « لسان العرب ».

المحقق

٢ ـ كتاب ( الإرشاد ) للشيخ المفيد ، ص ٢٣٢. وذكره الطبري ـ المتوفّى عام ٣١٠ هـ ـ في تاريخه ج ٥ ص ٤٢٠.

١٦٥

كلّ مَن أحسّ بخطر الموت أو القتل كان يتمثّل بهذه الأبيات.

ولا يَبعدُ هذا الكلام من الصحّة ، لأنّ الأبيات مُشتملة على عتاب الدهر وتوبيخه لا غير ، ولعلّ لهذا السبب أحسّت السيدة زينب باقتراب الخطر من أخيها الإمام الحسين عليه‌السلام وقالت : هذا الحسين يَنعى إليّ نفسه.

وهكذا الإمام زين العابدين عليه‌السلام تَراه قد استَنبَطَ من قراءة هذه الأبيات نُزول البلاء.

حيث إنّ هذه الأبيات لا تُصرّح ـ بظاهرها ـ بشيء من هذه الأمور ، كخطر الموت أو اقتراب موعد القتل.

* * * *

هذا .. والظاهر أنّ نهي الإمام الحسين أُخته السيدة زينب عن شقّ الجيب وخَمش الوجه إنّما كان خاصّاً بساعة قتل الإمام ، بعد الإنتباه إلى قول الإمام : « إذا أنا هلكتُ ».

وبعبارة أخرى : إنما منَعَها أن تَشُقّ جيبها أو تخمش وجهها ساعة مصيبة مقتل الإمام وشهادته. والسيدة زينب إمتثَلت أمر أخيها ، ولم تفعل شيئاً من هذا القبيل عند شهادة الإمام في كربلاء. وإنّما قامت ببعض هذه الأعمال في الكوفة ، وفي الشام في مجلس يزيد ، عندما شاهدت ما قام به يزيد ( لعنة الله عليه ) من أنواع الإهانة برأس الإمام الحسين عليه‌السلام.

١٦٦

ولعلّ نهي الإمام أخته عن شقّ الجيب ـ في تلك الساعة أو الساعات الرهيبة ـ كان لهذه الحِكمة : وهي أن لا يظهر منها أثر الضعف والإنكسار والإنهيار ، أمام أولئك الأعداء الألدّاء ، فقد كان المطلوب من السيدات ـ حينذاك ـ الصبر والتجلّد وعدم الجزع أمام المصائب.

لانّ هذا النوع من الشجاعة ـ وفي تلك الظروف بالذات ـ ضروري أمام العدوّ الحاقد ، الذي كان يتحيّن كلّ فرصة للقيام بأيّ خطوة تُناسب نفسيّته اللئيمة ، تجاه تلك العائلة المكرّمة الشريفة ، وكانت مواجهة الحوادث بصبر جميل ومعنويّات عالية ، تعني تفويت الفُرص أمام تفكير العدوّ القيام بأيّ نوع من أنواع الاعتداء والإهانة وسحق الكرامة تجاه تلك السيدات الطاهرات المفجوعات ، اللواتي فقدن المُحامي والمدافع عنهن!

١٦٧
١٦٨

زحف الجيش الأموي

نحو خيام آل محمد عليهم السلام

كانت السيدة زينب عليها‌السلام تَشعر باقتراب الخطر يوماً بعد يوم ، وساعةً بعد ساعة ، وكيف لا؟ والسيل البشري يتدفّق نحو أرض كربلاء لقتل ريحانة رسول الله وسبطه الحبيب؟

وآخر راية وصلت إلى كربلاء : راية شمر بن ذي الجوشن في ستّة آلاف مقاتل ، ومعه الحُكم الصادر مِن عبيد الله بن زياد ، يأمر فيه ابن سعد أن يُخيّر الإمام الحسين بين أمرين :

١ ـ الإستسلام.

٢ ـ الحرب.

فزحف الجيش الأموي نحو خيام آل محمد عليهم‌السلام ونظرت السيدة زينب إلى أسراب من الذئاب تتراكض نحو بيوت الرسالة والإمامة.

١٦٩

ويعلم الله تعالى مدى الخوف والقلق والإضطراب الذي استولى على قلوب آل رسول الله.

وأقبلت السيدة زينب تبحث عن أخيها ، لتُخبره بهذا الهجوم المُفاجئ في تلك السويعات الأخيرة من اليوم التاسع من المحرّم ، قريب الغروب.

وأخيراً ، وصلت إلى خيمة الإمام الحسين عليه‌السلام وإذا بالإمام جالس ، وقد احتضن ركبتيه ، ووضع رأسه عليهما ، وقد غلبه النوم.

واستيقظ الإمام على صوت أخته الحوراء تُخاطبه ـ بصوت مليء بالرُعب ، مزيج بالعاطفة والحنان ـ .. قائلةً :

أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟

فرفع الإمام الحسين رأسه وقال : أُخيّه! إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الساعة في المنام ، وقال لي : « إنّك تروح إلينا ».

أو « إنّي رأيت ـ الساعة ـ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي عليّاً ، وأمّي فاطمة ، وأخي الحسن وهم يقولون : يا حسين إنّك رائحٌ إلينا عن قريب » (١).

__________________

١ ـ كتاب ( الملهوف على قتلى الطفوف ) للسيد ابن طاووس ، طبع ايران ، عام ١٤١٤ هـ ، ص ١٥١.

١٧٠

فلطمت السيدة زينب وجهها ، وصاحت : واويلاه ، وبكت.

فقال لها الإمام الحسين : ليس لك الويل يا أخيّة ، لا تُشمِتي القوم بنا ، أُسكتي رحمك الله. (١).

فنهض الإمام الحسين عليه‌السلام وأرسل أخاه العبّاس ابن علي مع عشرين فارساً من أصحابه ، وقال : « يا عباس إركب ـ بنفسي أنت يا أخي ـ حتّى تلقاهم وتقول لهم مالكم وما بدا لكم؟؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟

فأتاهم العباس وقال لهم : ما بَدا لكم وما تريدون؟

قالوا : قد جاء أمر ابن زياد أن نَعرِض عليكم : أن تنزلوا على حُكمه ، أو نُناجزكم!

فقال العباس : لا تَعجَلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله ، فأعرض عليه ما ذكرتم.

فتوقّف الجيش ، وأقبل العباس إلى أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام وأخبره بما قاله القوم.

فقال الإمام إرجع إليهم .. فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدٍ وتدفعهم عنّا العشيّة ، لعلّنا نُصلّي لربنا الليلة

__________________

١ ـ كتاب « معالي السبطين » للمازندراني ، ج ١ ، ص ٢٠٤ ، الفصل الثامن ، المجلس الأول.

١٧١

وندعوه .. فهو يعلم أني أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه؟

فمضى العباس إلى القوم فاستمهلهم ، وأخيراً .. وافقوا على ذلك. (١)

__________________

١ ـ كتاب « معالي السبطين » للمازندراني ، ج ١ ، ص ٣٣٢.

١٧٢

الفصل الثامن

ليلة عاشوراء

أزمة الماء

١٧٣
١٧٤

ليلة عاشوراء

إن مشكلة كبيرة واحدة تحدث في حياة الإنسان قد تسلبه القرار والاستقرار ، وتورثه الأرق والقلق والسهر ، وترفض عيناه النوم ، فكيف إذا أحاطت به عشرات المشاكل الكبيرة؟!

من الواضح أن أقل ما يمكن أن تسببه تلك المشاكل هو : الإنهيار العصبي ، وفقدان الوعي ، واختلال المشاعر وتبلبل الفكر ، وتشتت الخاطر.

فهل نستطيع أن نتصور كيف انقضت ليلة عاشوراء على آل رسول الله؟!

فالهموم والغموم ، والخوف والتفكر حول الغد ، وما يحمله من الكوارث والفجائع ، وبكاء الأطفال من شدة العطش ، ـ وغير ذلك من المميزات تلك الليلة ـ جعلت الليلة فريدة من نوعها في تاريخ حياة أهل البيت عليهم‌السلام.

١٧٥

وفي ساعة من ساعات تلك الليلة خرج الإمام الحسين عليه‌السلام من منطقة المخيم ، راكباً جواده ، يبحث في تلك الضواحي حول التلال والربووات ـ المشرفة على منطقة المخيم ـ التي كان من الممكن أن يمكن العدو خلفها غداً ، إذا اشتعلت نار الحرب.

ويرافقه في تلك الجولة الإستطلاعية نافع بن هلال ، وهو ذلك البطل الشجاع المقدام ، وكان من أخص أصحابه وأكثرهم ملازمة له ، فلنستمع إليه :

إلتفت الإمام خلفه وقال : من الرجل؟ نافع؟

قلت : نعم ، جعلني الله فداك!! أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة معسكر هذا الطاغي.

فقال : يا نافع! خرجت أتفقد هذه التلال مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم تحملون ويحملون.

ثم رجع عليه‌السلام وهو قابض على يساري ، وهو يقول : « هي ، هي ، والله ، وعد لا خلف فيه ».

ثم قال : يا نافع! ألا تسلك ما بين هذين الجبلين (١) من وقتك

__________________

١ ـ ليس في أرض كربلاء جبل ، وإنما فيها تلال وربوات لا تزال موجودة ويقال لها ـ بالغة الدارجة ـ : علوة وعلاوي ، ولعل الإمام عليه‌السلام قصد من الجبلين : التلال الموجودة في تلك المنطقة.

١٧٦

هذا ، وتنجو بنفسك؟

فوقعت على قدميه ، وقلت : إذن ثكلت نافعاً أمه!!

سيدي : إن سيفي بألف ، وفرسي مثله ، فو الله الذي من علي بك لا أفارقك حتى يكلا عن فري وجري (١).

ثم فارقني ودخل خيمة أخته ، فوقفت إلى جنبها (٢) رجاء أن يسرع في خروجه منها.

فاستقبلته زينب ، ووضعت له متكئاً ، فجلس وجعل يحدثها سراً ، فما لبثت أن اختنقت بعبرتها ، وقالت : وا أخاه! أشاهد مصرعك ، وأبتل برعاية هذه المـذاعير (٣) من النساء؟ والقوم ـ كما تعلم ـ ما هم عليه من الحقد القديم.

ذلك خطب جسيم ، يعز علي مصرع هؤلاء الفتية الصفوة ، وأقمار بني هاشم!

ثم قالت : أخي هل إستعلمت من أصحابك نياتهم؟ فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، واصطكاك الأسنة!

__________________

١ ـ أي : حتى يعجز السيف عن القطع ، ويعجز الفرس عن الركض.

٢ ـ جنبها : أي جنب الخيمة.

٣ ـ المذاعير ـ جمع مذعور ـ : وهو الذي أخافوه.

١٧٧

فبكى عليه‌السلام وقال : أما والله لقد لهزتهم (١) وبلوتهم ، وليس فيهم إلا الأشوس الأقعس (٢) يستأنسون بالمنية دوني إستيناس الطفل بلبن أمه.

قال نافع بن هلال : فلما سمعت هذا منه بكيت ، واتيت حبيب بن مظاهر ، وحكيت له ما سمعت منه ومن أخته زينب.

فقال حبيب : والله لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة!

قلت : إني خلفته عند أخته وهي في حال وجل ورعب ، وأظن أن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة والزفرة ، فهل لك ان تجمع اصحابك وتواجههن بكلام يسكن قلوبهن ويذهب رعبهن؟ فلقد شاهدت منها ما لا قرار لي مع بقائه.

فقال لي : طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية ، ونافع إلى ناحية ، فانتدب أصحابه.

فتطالعوا من مضاربهم (٣) فلما اجتمعوا قال ـ لبني هاشم ـ : إرجعوا إلى منازلكم ، لا سهرت عيونكم!!

ثم خطب أصحابه وقال : يا أصحاب الحمية وليوث

__________________

١ ـ يقال : لهزته اي : خالطته ، والمقصود : الإختبار والإمتحان.

٢ ـ الأشوس : الجريء على القتال الشديد والأقعس : الرجل الثابت العزيز المنيع.

٣ ـ المضارب ـ جمع مضرب ـ : الخيمة.

١٧٨

الكريهة!

هذا نافع يخبرني الساعة بكيت وكيت ، وقد خلف أخت سيدكم وبقايا عياله يتشاكين ويتباكين. أخبروني عما أنتم عليه؟

فجردوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم ، وقالوا : يا حبيب! والله الذي من علينا بهذا الموقف! لئن زحف القوم لنحصدن رؤوسهم ، ولنلحقنهم بأشياخهم أذلاء ، صاغرين ولنحفظن وصية رسول الله في أبنائه وبناته!

فقال : هلموا معي.

فقام يخبط الأرض (١) ، وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ، ونادى : « يا أهلنا ويا سادتنا! ويا معشر حرائر رسول الله! هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبغي السوء بكم ، وهذه أسنة غلمانكم أقسموا أن لا يركزوها إلا

__________________

١ ـ يخبط الأرض : يضرب الأرض برجليه ضرباً شديداً ، وهو مأخوذ من ضرب البعير الأرض برجله. قال الخليل في كتاب ( العين ) : الخبط : شدة الوطئ بأيدي الدواب. وجاء في ( المعجم الوسيط ) خبط الشيء : وطأه وطئاً شديداً. ولعل المقصود : سرعة الركض ، أو نوع خاص من المشي العشائري .. يكون مزيجاً مع ضرب الأرجل بالأرض ، كنوع من التدريب للقتال قبل الحرب ، أو لإيجاد الحماس ورفع المعنويات.

المحقق

١٧٩

في صدور من يفرق ناديكم! (١)

فقال الإمام الحسين عليه‌السلام : أخرجهن عليهم يا آل الله!

فخرجن ، وهن ينتدبن (٢) ويقلن : حاموا أيها الطيبون عن الفاطميات ، ما عذركم إذا لقينا جدنا رسول الله ، وشكونا إليه ما نزل بنا؟

وكان حبيب وأصحابه حاضرين يسمعون وينظرون ، فو الله الذي لا إله إلا هو ، لقد ضجوا ضجة ماجت منها الأرض ،

__________________

١ ـ أسنة : رماح.

يركزوها : الركز : غرزك شيئاً منتصباً .. كالرمح ونحوه ، يقال ركزه ركزاً في مركزه إي : ثبته في مكانه. كما في « لسان العرب ». ناديكم : محل اجتماعكم. النادي : مجلس القوم ماداموا مجتمعين فيه.

٢ ـ وفي نسخة : يندبن.

ينتدبن : الإنتداب : بمعنى الإسراع ، وبمعنى تلبية الطلب ، فيكون المعنى : « يتسارعن » في خروجهن من الخيام ، أو : « يلبين » أمر الإمام لهن بالخروج لهم. قال الطريحي في « مجمع البحرين » : ندبه لأمر فانتدب : أي : دعاء لأمر فأجاب.

وذكر في بعض كتب اللغة : أن الإنتداب : هو طلب شيء من شخص في حالة الحرب وإسراع الشخص في تلبية الطلب. كما يستفاد هذا المعنى من كتاب ( العين ) للخيل ، وكتاب ( المحيط في اللغة ) للصاحب بن عباد.

المحقق

١٨٠