حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

مرتضى الميلاني

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

مرتضى الميلاني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-066-x
الصفحات: ٣٣٦

( ٩ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي صالح عليه‌السلام

٨١
٨٢

قصة النبي صالح عليه‌السلام وقومه

قال الله تعالى : ( والى ثمود اخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في ارض الله ولا تمسوها بسوء فياخذكم عذاب اليم ، ... قال الذين استكبروا انا بالذي آمنتم به كافرون ، فعقروا الناقة وعتوا عن امر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين ، فاخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين ... ) (١).

من هم ثمود :

في هذه الآيات المباركة وفي غيرها ما جاء في سورة هود ، والشعراء ، والقمر ، والشمس ، وفي سورة هود اكثر تفصيلا.

كل هذه الآيات ذكرت فيها بشكل مختصر قصة صالح عليه‌السلام وقومه قوم هود ومادار بينهما ، وقصة الناقة ، وكيف كانت نهايتهم.

واما ثمود : فهم ولد ثمود بن جائر بن ارم بن سام ، وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز والشام ، وكانوا بعد عاد قد كثروا وكفروا وعتوا ، فبعث الله

__________________

١ ـ الاعراف ٧٣ ـ ٧٩.

٨٣

اليهم صالح بن عبيد بن اسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود ، ودعاهم الى توحيد الله بالعبادة. (١)

وكان الله قد اطال اعمارهم حتى كان احدهم يبني البيت من المدَر فينهدم وهو حي ، فلما راوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فنحتوها ، وكانوا في سعة من معايشهم ، ولم يزال صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم الا قليل من المستضعفين.

وروي ايضا ان ثمود كانت بوادي القرى بين المدينة والشام ، وكانت عاد باليمن ، وكانت اعمارهم من الف سنة الى ثلاث مائة سنة ، وكانوا قوم النبي صالح عليه‌السلام. (٢)

ان الله تبارك وتعالى بعث صالحا الى ثمود وهو ابن ست عشر سنة ، وكان يدعوهم الى الله والعمل الصالح فلا يقبلون منه ويعصون امره ، وكان لهم سبعون صنما يعبدونها من دون الله.

فلما رأى ذلك منهم واصرارهم على العصيان ، قال لهم : يا قوم بعثت اليكم وانا ابن ست عشر سنة ، وقد بلغت الآن من العمر مائة وعشرون سنة ، وانا اعرض عليكم امرين :

ان شئتم فاسألوني حتى اسأل الهي فيجيبكم ، وان شئتم سألت آلهتكم فان اجابتني خرجت من عندكم.

فقالوا له : انصفت فامهلنا ، فاقبلوا يتعبدون ثلاثة ايام ويتمسحون بالاصنام ، ويذبحون لها ، واخرجوها الى سطح الجبل ، واقبلوا يتضرعون اليها ، فلما كان يوم الثالث قال لهم صالح عليه‌السلام :

قد طال هذا الأمر فقالوا : اسأل ما شئت ، فدنا الى اكبر صنم لهم فقال له : ما

__________________

١ ـ الكامل : ج ١ ص ٨١.

٢ ـ البحار : ج ١١ص ٣٧٣.

٨٤

اسمك؟ فلم يجبه ، فقال لهم : ماله لا يجيبني؟ قالوا له : تنح عنه ، فتنحى عنه ، فاقبلوا اليه يتضرعون ووضعوا على رؤوسهم التراب وضجوا وقالوا : فضحتنا ونكست رؤوسنا.

فقال صالح : قد ذهب النهار ، فقالوا : سله ، فدنا منه فكلمه فلم يجبه ، فبكوا وتضرعوا حتى فعلوا ذلك ثلاث مرات فلم يجبه بشيء.

فقالوا : ان هذا لا يجيبك ، ولكنا نسأل الهك ، فقال لهم سلوه ما شئتم ، فقالوا : سله ان يخرج لنا من هذه الجبل ناقة حمراء شقراء شعراء ، او : عشراء ـ اي حاملة ، تضرب منكبيها طرفي الجبلين ، وتلقي فصيلها من ساعتها ، وتدر لبنها.

فقال صالح : ان الذي سألتموني عندي عظيم وعند الله هين ، فقام فصلى ركعتين ثم سجد وتضرع الى الله فما رفع رأسه حتى تصدع الجبل وسمعوا له دويا شديدا ففزعوا منه وكادوا ان يموتوا منه ، فطلع رأس الناقة وهي تجتر ، فلما خرجت القت فصيلها ، ودرت بلبنها ، فبهتوا ، وقالوا :

قد علمنا يا صالح ان ربك اعز واقدر من آلهتنا التي نعبدها.

وكان لقريتهم ماء وهي الحِجر التي ذكرها الله تعالى في كتابه وهو قوله : ( ولقد كذب اصحاب الحجر المرسلين ) (١) فقال لهم صالح عليه‌السلام : لهذه الناقة شرب ، اي تشرب ماءكم يوما وتدر لبنها عليكم يوما ، وهو قوله تعالى : ( قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، ولا تمسوها بسوء فياخذكم عذاب يوم عظيم ) (٢) فكانت تشرب ماءهم يوما ، واذا كان من الغد وقفت وسط قريتهم فلا يبقى في القرية احد الا حلب منها حاجته.

__________________

١ ـ الحجر : ٨٠.

٢ ـ الشعراء : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٨٥

وكان فيهم تسعة من رؤسائهم كما ذكر الله في سورة النمل : ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون ) (١) فعقروا الناقة ورموها حتى قتلوها وقتلوا الفصيل ، فلما عقروا الناقة قالوا لصالح عليه‌السلام : ( فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ) (٢) قال صالح : ( تمتعوا في داركم ثلاثة ايام ذلك وعد غير مكذوب ) (٣).

ثم قال لهم : وعلامة هلاككم انه تصفر وجوهكم غدا ، وتحمر بعد غد ، وتسود يوم الثالث فلما كان من الغد نظروا الى وجوههم قد ابيضت (٤) مثل القطن ، فلما كان يوم الثاني احمرت مثل الدم ، فلما كان يوم الثالث اسودت وجوههم ، فبعث الله عليهم صيحة وزلزلة فهلكوا ، وهو قوله تعالى : ( فاخذتهم الرجفة فاصبحوا في ديارهم جاثمين ) (٥) فما تخلص منهم غير النبي صالح عليه‌السلام وقوم مستضعفين مؤمنين وهو قوله تعالى : ( فلما جاء امرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ان ربك هو القوي العزيز ، واخذ الذين ظلموا الصيحة فاصبحوا في ديارهم جاثمين ... ) (٦).

قصة اخرى :

وقد كان بعث الله تعالى النبي صالحا عليه‌السلام الى قومه بعد ما اكثروا الفساد وعبدوا الاوثان ، فدعاهم الى الله تعالى فلم يجيبوه وعتوا عليه فقالوا له : لن نؤمن

__________________

١ ـ النمل : ٤٨.

٢ ـ الاعراف : ٧٠.

٣ ـ هود : ٦٥.

٤ ـ قد اصفرت.

٥ ـ الاعراف : ٧٨.

٦ ـ هود : ٦٦ ـ ٦٧.

٨٦

حتى تُخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء ، وكانت صخرة يعظمونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها.

فقالوا له : ان كنت كما تزعم نبيا رسولا ، فادع الله يخرج لنا ناقة منها ، فاخرجها لهم كما طلبوا منه ، بأمر من الله ، واوحى الله تعالى الى صالح ان قل لهم : ان الله جعل لهذه الناقة شرب يوم ولكم شرب يوم ، فكانت الناقة اذا شربت يومها ، شربت الماء كله ، فيكون شرابهم ذلك اليوم من لبنها ، فيحلبونها فلا يبقى صغير ولا كبير الا شرب من لبنها يومه ذلك ، فاذا كان الليل واصبحوا غدوا الى مائهم فشربوا هم ذلك اليوم ولا تشرب الناقة.

فمكثوا بذلك ما شاء الله حتى عتوا ودبروا في قتلها فبعثوا رجلا احمر اشقر ازرق ، لا يُعرف له اب ـ ولد زنا ـ يقال له قدار ليقتلها ، فلما توجهت الناقة الى الماء ضربها ضربة ثم ضربها اخرى فقتلها ، ومر فصيلها حتى صعد الى الجبل فلم يبقى منهم صغير ولا كبير الا اكل من لحمها.

فقال لهم صالح عليه‌السلام : عصيتم ربكم وقتلتم الناقة ، ان الله تعالى يقول : ان تبتم قبلت توبتكم ، وان لم ترجعوا بعثت عليكم العذاب في اليوم الثالث ، فقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ...

فلما كان نصف الليل من اليوم الثالث اتاهم جبرئيل عليه‌السلام فصرخ صرخة خرقت اسماعهم وشقت قلوبهم فماتوا اجمعين في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم ، ثم ارسل الله عليهم نارا من السماء فاحرقتهم. (١)

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لامير المؤمنين علي عليه‌السلام : يا علي اتدري من اشقى الاولين؟ قال : قلت : الله ورسوله اعلم ، قال : عاقر الناقة.

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ٣٨٥.

٨٧

قال : اتدري من اشقى الآخرين؟ قال : قلت : الله ورسوله اعلم ، قال : قاتلك. (١)

وفاته عليه‌السلام

اختلفت الاقوال والروايات في عمر النبي صالح عليه‌السلام وتاريخ وفاته ، وقد ذكر في الكامل :

واما صالح عليه‌السلام ، فانه سار الى الشام فنزل فلسطين ثم انتقل الى مكة فاقام بها يعبد الله حتى مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وكان قد اقام في قومه يدعوهم عشرين سنة. (٢)

والرواية الثانية ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه سأل جبرئيل عليه‌السلام كيف كان مهلك قوم صالح؟ فقال : يا محمد ان صالحا بعث الى قومه وهو ابن ست عشر سنة ، فلبث فيهم حتى بلغ عشرين ومائة سنة لا يجيبونه الى خير ... الى آخر القصة.

ويظهر من هذه الرواية انه كان عمر النبي صالح عليه‌السلام مئة وعشرون سنة وهو لا يزال حي يدعو قومه الى التوحيد ولا يجيبونه.

اصحاب الرس :

قال تعالى : ( وعادا وثمود واصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ) (٣).

كلمة « رس » في الاصل بمعنى الاثر القليل ، فيقال : « وجد رسّا من

__________________

١ ـ رواه الثعلبي في العرائس : ٤٣.

٢ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ص ٨٣.

٣ ـ الفرقان : ٣٨.

٨٨

حمى ، يعني وجد قليلا من درجة الحرارة في نفسه » (١).

واعتقد بعض من المفسرين بان « الرس » بمعنى البئر.

على اي حالة فتسمية هؤلاء القوم « بالرس » اما لان اثرا قليلا جدا بقي منهم ، او لانهم كانت لديهم آبار ماء كثيرة ، او لانهم هلكوا وزالوا بسبب جفاف آبارهم.

اقوال كثيرة بين المؤرخين والمفسرين في : من هم هؤلاء القوم؟!

١ ـ الكثير يعتقدون ان « اصحاب الرس » كانوا طائفة تعيش في ـ اليمامة ـ وبعث الله لهم نبي اسمه « حنظلة » كذبوه والقوه في بئر ، حتى كتب بعضهم : انهم ملأوا هذا البئر بالرماح ، واغلقوا فم البئر بعد القاء النبي عليه‌السلام في البئر وملؤها بالحجارة الى ان استشهد ذلك النبي. (٢)

٢ ـ والبعض الآخر يعتبر ان « اصحاب الرس » اشارة الى الناس ايام « شعيب » الذين كانوا يعبدون الاصنام ، وكانوا ذوي اغنام كثيرة وآبار ماء و « الرس » كان اسما لبئر عظيم ، حيث اغاضه الله ، فأهلك اهل ذلك المكان. (٣)

٣ ـ وبعض آخر يعتقد ان « الرس » كانت قرية في ارض « اليمامة » حيث كان يعيش فيها جماعة من بقايا قوم ثمود ، فهلكوا نتيجة طغيانهم وغرورهم. (٤)

٤ ـ العلامة الطبرسي في مجمع البيان ، والفخر الرازي في التفسير الكبير ، والآلوسي في روح المعاني ، نقلوا : ان اولئك كانوا اناسا يعيشون في انطاكية

__________________

١ ـ مفردات الراغب.

٢ ـ اعلام القرآن ص ١٤٩ عنه تفسير الامثل ج ١١ ص ٢٢٧.

٣ ـ تفسير الامثل : ج ١١ ص ٢٢٧.

٤ و ٢ ـ تفسير الامثل : ج ١١ ص ٢٢٧.

٨٩

الشام ، وكان بينهم « حبيب النجار ». (١)

٥ ـ روي عن يعقوب بن ابراهيم بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب ، قال : سمعت ابا الحسن موسى بن جعفر صلوات الله عليهما ، انه سأله رجل عن « اصحاب الرس » الذي ذكرهم الله في كتابه من هم؟ وممن هم؟ واي قوم كانوا؟.

فقال : كانا رسين ، فأما احدهما ليس الذي ذكره الله في كتابه ، كان هؤلاء اهل بدو واصحاب شاة وغنم ، يعيشون في البادية ، فبعث الله اليهم صالح النبي رسولا ، فقتلوه ، وبعث اليهم رسولا آخر فقتلوه ، ثم بعث اليهم رسولا آخر وعضده بولي ، فقُتل الرسول وجاهد الولي حتى فحمهم ، وكانوا يقولون الهنا في البحر ، وكانوا يسكنون على شفير البحر ، وكان لهم عيد في السنة يخرج حوت عظيم من البحر في ذلك اليوم فيسجدون له.

واما الذين ذكرهم الله في كتابه ، فهم قوم كان لهم نهر يدعى « الرس » وكان فيها مياه كثيرة ، يقع بمنقطع آذربيجان وهو من حد ارمينية وآذربيجان ، وكانوا يعبدون الاوثان ، فبعث الله اليهم ثلاثين نبيا فقتلوهم جميعا ، فبعث الله اليهم نبيا آخر وبعث معه وليا فجاهدهم.

وبعد ذلك بعث الله عليهم العذاب ، فجف مائهم ، ويبست الانهار ومات الزرع ، وماتت مواشيهم ، فماتوا جوعا وعطشا وبكاء ، فلم يبق منهم باقية ، وبقي منهم المخلصون فقط ، وهم قليلون ، فدعوا الله ان ينجيهم بزرع وماشية وماء قليلا لئلا يطغوا ، فاجابهم الله الى ذلك ، لما علم من صدق نياتهم. (٢)

٦ ـ عن ابي الصلت الهروي عن الرضا عن امير المؤمنين عليهما‌السلام حديث

__________________

٢ ـ قصص الانبياء للراوندي : ص ٩٦.

٩٠

طويل في قصة اصحاب « الرس » ملخصة :

انهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه درخت ، كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها : روشن آب ، وكان لهم اثنا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له « الرس ».

وهذه القرى يسمين باسماء : ابان ، آذر ، بهمن ، اسفندار ، فروردين ، اردي بهشت ، خرداد ، مرداد ، تير ، مهر ، شهريور ، ومن هذه الاسماء اشتق العجم اسماء شهورهم.

وقد غرسوا في كل قرية منها من طِلع تلك الصنوبرة حبة ، اجروا عليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة ، وحرموا شرب مائها على انفسهم وانعامهم ومن شرب منه قتلوه ، ويقولون : انه حياة الآلهة فلا ينبغي لاحد ان ينقص حياتها.

وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية عيدا يخرجون فيه الى الصنوبرة التي خارج القرية ويقربون اليها القرابين ويذبحون الذبائح ....

وكان في كل سنة يجتمعون جميعا في القرية الكبيرة التي يسكنها ملكهم واسمها « اسفندار » ويعيّدون فيها اثنى عشر يوما ، ويجيئوا باكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة ، ويكلمهم ابليس ويعدهم ويمنيهم اكثر من سائر الاعياد.

ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجر ، بعث الله اليهم رسولا من بني اسرائيل من ولد يهودا فدعاهم الى عبادة الله وترك الشرك فلم يؤمنوا ، فدعى على الشجرة فيبست فلما راوا ذلك ساءهم فقال بعضهم : ان هذا الرجل ساحر ....

فاجتمعت آرائهم على قتله ، فحفروا بئرا عميقا والقوه فيها وشدوا راسها

٩١

فلم يزالوا عليها يسمعون انينه حتى مات فاتبعهم الله بعذاب شديد واهلكهم عن آخرهم. (١)

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١٥ ص ٢١٩.

٩٢

( ١٠ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي لوط عليه‌السلام

٩٣
٩٤

قصة النبي لوط عليه‌السلام وقومه

قال الله تعالى في كتابه الكريم :

١ ـ ( ولوطا اذ قال لقومه اتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين ).

٢ ـ ( انكم لتاتون الرجال شهوة من دون النساء بل انتم قوم مسرفون ).

٣ ـ ( وما كان جواب قومه الا ان قالوا اخرجوهم من قريتكم انهم اناس يتطهرون ).

٤ ـ ( فانجيناه واهله الا امرأته كانت من الغابرين ).

٥ ـ ( وامطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) (١).

وقفة تأمل :

في هذه الآيات المباركة يستعرض القرآن الكريم فصلا آخر غنيا بالعبر والمواعظ والحكم من قصص الانبياء.

والقصة هذه المرة هي قصة النبي « لوط » عليه‌السلام ، وقد ذكرت هذه القصة في

__________________

١ ـ الاعراف : ٨٠ ـ ٨٤.

٩٥

عدة سور من القرآن الكريم منها :

سورة هود ، والحجر ، والشعراء ، والانبياء ، والنمل ، ... الخ ويشير القرآن الكريم في قصة لوط وفي سورة الاعراف ، ضمن خمس آيات الى خلاصة سريعة عن الحوار الذي دار بين لوط النبي وقومه.

نقف لحظات ونتامل قوله تعالى في هذه الآيات الكريمة اعلاه ، ونرى كيف كان الانبياء عليهم‌السلام والرسل يبلغون رسالات الله ، وكيف كان جواب اقوامهم لهم ، وكيف كانت اعمالهم ، وكيف كان صنع الله بهم بعد عصيانهم ، عسى ان نعتبر ... ( ... يخربون بيوتهم بايديهم وايدي المؤمنين فاعتبروا ياولي الابصار ) (١).

في البداية يقول النبي لوط عليه‌السلام لقومه : اترتكبون عملا قبيحا لم يفعله احد قبلكم من الناس ، لان هذه المعصية مضافا الى كونها عملا قبيحا جدا ولم يفعله احد قبل هذا ، وقد اصبح فيما بعد سنة سيئة ، وسببا لوقوع الآخرين في المعصية.

واي انحراف واي عمل قبيح هذا حيث يترك الرجل المرأة التي هي الوسيلة لتوليد النسل وانجاب الاولاد ، والتي جعلها الله سكنا ولباسا وسترا وعفافا للرجل والمرأة ، يترك هذا العمود الاساسي للاسرة والتركيب الطبيعي للجسم والروح ، ويلجأ الى الاشباع الكاذب والمنحرف للحاجة الجنسية ، والقضاء على الهدف الاصلي ، وهو استمرار النسل البشري وسعادة الامة وطهارة الاسرة.

وفي الحقيقة مثل هؤلاء المنحرفين والذين يرتكبون الذنوب العظيمة ، لم

__________________

١ ـ الحشر : ٢.

٩٦

يكن عندهم جواب مقنع وشافي ومقبول في مقابل دعوة الانبياء والرسل والدعاة الى الله ، الا التعنت والاصرار على الخطيئة مثل قوم لوط حيث قالوا : اخرجوا لوطا واتباعه من مدينتكم ، او قَتلِهم بعض الانبياء والرسل.

وهذا ليس موضع تعجب واستغراب ان يطرد جماعة من العصاة والفسقة والطغاة اشخاصا طاهرين ومؤمنين لا لشيء الا لانهم اتقياء انقياء الجيب ، يجتنبون المنكرات ، لانهم يعتبرون هؤلاء الصلحاء مزاحمين لشهواتهم ومفاسدهم.

ولكن مثل هؤلاء الفسقة والطغاة يقف الله عزوجل لهم بالمرصاد وينزل عليهم العذاب الاليم ويجعلهم عبرة لمن يعتبر مثلما انزل غضبه تعالى على قوم لوط بعدما انجا لوطا واتباعه واهله الطيبين الا زوجته التي كانت مع قومه المنحرفين.

كان الله عزوجل يعذب الاقوام المنحرفة والعاصية السالفة كل حسب ما يراه تعالى مناسبا لهم ولزمانهم ولذنوبهم حيث نرى قوله تعالى : ( فكلا اخذنا بذنبه فمنهم من ارسلنا عليه حاصبا ) ، وهم قوم هود وعاد ، والحاصب معناه الطوفان الذي فيه الحصى الكثير.

( ومنهم من اخذته الصيحة ) ، وهم ثمود ـ قوم صالح ـ والصيحة السماوية هي الصاعقة التي تقترن بالزلزلة يحدث منها صوت رهيب.

( ومنهم من خسفنا به الارض ) وهو قارون الملك المتكبر والمتجبر الثري المغرور ، خسفت به الارض نتيجة استكباره وغروره.

( ومنهم من اغرقنا ) ، وهم فرعون وهامان وجنودهما.

٩٧

( وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون ) (١).

وهناك طوائف واقوام اخرى اصابها العذاب مثل قوم نوح وقوم لوط وغيرهم.

وعلى كل حال فان انواع العذاب ينزل على الاقوام المنحرفة والعاصية حسب ما يراه الله تعالى ، علما ان الله عزوجل لا يعذب احدا ولا يظلمهم الا بما كسبت ايديهم وبعدما يرسل لهم الانبياء والرسل لهدايتهم ، فالله اكثر عدلا واسمى من ان يظلم الانسان اقل ظلم ، وقد خلقه حرا ويريده حرا ....

لوط في القرآن :

كان النبي لوط عليه‌السلام من كلدان في ارض بابل ومن السابقين الاولين ممن آمن بابراهيم عليه‌السلام ، وقد ذكرت التوراة ان لوطا كان ابن اخي ابرام ـ « اي ابراهيم » ... وهاجر مع النبي ابراهيم الى الارض المقدسة ارض فلسطين : ( اني مهاجر الى ربي ... ) (٢).

وكان اهل المدينة وما حولها من المدائن ـ التي سماها الله في كلامه بالمؤتفكات ( ... واصحاب مدين والمؤتفكات ... ) (٣) يعبدون الاصنام ، ويأتون بالفاحشة اللواط ، وهم اول قوم شاع فيهم ذلك ( ... اتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين ) (٤) حتى كانوا ياتون به في نواديهم من غير

__________________

١ ـ العنكبوت : ٤٠.

٢ ـ العنكبوت : ٢٦.

٣ ـ التوبة : ٧٠.

٤ ـ الاعراف : ٨٠.

٩٨

انكار ، ولم ( ... وتاتون في ناديكم المنكر ... ) (١) يزالوا يمارسون الفاحشة فيهم حتى اصبحت سنة قومية ابتلت به عامتهم وتركوا النساء وقطعوا السبيل.

بعد ان تمادوا في غيهم ارسل الله اليهم لوطا عليه‌السلام ، فدعاهم الى تقوى الله وترك الفحشاء ، وانذرهم وخوفهم فلم يزدادوا الا عتوا ، ولم يكن جوابهم الا ان قالوا : ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين ، وهددوه بالاخراج من بلدتهم وقالوا له : ( لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ) (٢).

لم يزال لوط عليه‌السلام يدعوهم الى سبيل الله وترك الفحشاء وهم يصرون على عمل الخبائث حتى استقر بهم الطغيان وحقت عليهم كلمة العذاب ، فبعث الله من الملائكة المكرمين لاهلاكهم.

نزلوا الملائكة اولا على النبي ابراهيم عليه‌السلام واخبروه بما امرهم الله به من اهلاك قوم لوط ، فجادلهم ابراهيم عليه‌السلام لعله يرد بذلك عنهم العذاب ، وذكرهم بان فيهم لوطا ، فقالوا له بانهم اعلم بموقع لوط واهله ، وانه قد جاء امر الله وان القوم آتيهم العذاب غير مردود ( قد جاء امر ربك وانهم آتيهم عذاب غير مردود ) (٣).

عند ذلك ذهبوا الى لوط في صِوَر غلمان مرد ودخلوا عليه ضيفا فشق ذلك على لوط وضاق بهم ذرعا ، وخاف عليهم من قومه انهم سيتعرضون لهم وانهم غير تاركيهم البتة ( ولما ان جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لاتخف ولا تحزن انا منجوك واهلك الا امرأتك كانت من

__________________

١ ـ العنكبوت : ٢٩.

٢ ـ الشعراء : ١٦٧.

٣ ـ العنكبوت : ٣٢ وهود : ٧٦.

٩٩

الغابرين ) (١).

فلما دخلوا البيت وسمع القوم بذلك اقبلوا يهرعون اليه وهم يستبشرون وهجموا على داره ، فخرج اليهم وبالغ في وعظهم واستثارة فتوتهم ورشدهم حتى عرض عليهم بناته وقال : يا قوم ان هؤلاء بناتي هن اطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي ، ثم استغاث وقال : اليس منكم رجل رشيد ، فردوا عليه : انه ليس لهم في بناته اربة وانهم غير تاركي اضيافه البتة حتى آيس لوط وقال : لو ان لي بكم قوة او آوي الى ركن شديد. (٢)

عند ذلك قالت له الملائكة يا لوط : انا رسل ربك طب نفسا ان القوم لن يصلوا اليك ، فطمسوا اعين القوم فعادوا عميانا يتخبطون وتفرقوا ( ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا اعينهم فذوقوا عذابي ونذر ) (٣).

ثم امروا لوطا عليه‌السلام ان يسري باهله من ليلته بقطع من الليل ويتبع ادبارهم ولا يلتفت منهم احد الا امرأته فانه مصيبها ما اصابهم ، واخبروه انهم سيهلكون القوم مصبحين ( ... فاسر باهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم احد ... ) (٤).

جاء في معنى قوله تعالى : ( ولا يلتفت مكم احد الا امرأتك انه مصيبها ما اصابهم ... ) مفهوم ذلك ان لوطا واهله بما فيهم امرأته تحركوا للخروج من المدينة ولم يلتفت منهم احد كما امرهم الرسل ، الا امرأة لوط فانها بحكم علاقتها بقوم لوط وتاثرها على مصيرهم ، حينما سمعت الصوت وقفت والتفتت وراءها لترى ما حدث ، اصابها حجر من الاحجار التي كانت تهوي على

__________________

١ ـ العنكبوت : ٣٣.

٢ ـ هود : ٨٠.

٣ ـ القمر : ٣٧.

٤ ـ الحجر : ٦٦.

١٠٠