حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

مرتضى الميلاني

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

مرتضى الميلاني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-066-x
الصفحات: ٣٣٦

١

٢

٣

٤

مقدمة الجزء الثاني

قال الله تعالى : « انا اوحينا اليك كما اوحينا الى نوح والنبيين من بعده واوحينا الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا ، ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما » (١)

بعث الله تبارك وتعالى الانبياء والرسل والاولياء مبشرين ومنذرين وبعث معهم الكتب والشرائع ، مبشرين لمن اطاعهم بالجنة ، ومنذرين لمن عصاهم بالنار ، وانزل الكتب والشرائع ليحكموا بين الناس بالحق والعدل.

الله سبحانه خلق الانسان بطبيعته وفطرته امة واحدة ، يرتبط بعضه ببعض ، ويحتاج بعضه الى البعض ، في المعاش والامور الدنيوية والاخروية ، ولا يستغني بعضه عن بعض ، وكان لابد لهم من الاختلاف في امورهم المعاشية والاجتماعية والسياسية والحكومية ، وعلى هذا الاساس بعث الله تعالى من رحمته بهم الرسل والانبياء والاولياء مبشرين ومنذرين ، يبشرونهم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة اذا التزموا بما امرهم وعلمهم الانبياء والرسل ، واكتفى بما لديهم من الحق ولم يعتد على غيره ، وينذروهم ويحذروهم من المخالفة وخيبة الامل واذا اتبعوا شهواتهم يكون مصيرهم عذاب الآخرة ونار جهنم.

__________________

١ ـ النساء : ١٦٣.

٥

وعلى هذا الاساس اوحى الله تبارك وتعالى الى الانبياء والرسل وخاتم الانبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتى داود زبورا ، وكلم موسى عليه‌السلام تكليما وبعثهم الى الناس لينذروهم ويبشروهم ويعلموهم طريق الحق والهداية ، لان الله تبارك وتعالى لم يترك البشر دون مرشد وقائد ، ودون ان يعلمهم واجباتهم وتكاليفهم الشرعية ، ولكي يتم الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر او حجة.

وروي عن ابي ذر رضي الله عنه : انه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عدد الانبياء فاجابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بان عددهم يبلغ « مائة واربعا وعشرين الفا ، فسأل ابو ذر رضي الله عنه عن عدد الرسل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا والباقون كلهم انبياء ...

وقال ابو ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان عدد الكتب السماوية التي نزلت على الانبياء والرسل هي : « مئة واربع كتاب » نزل عشرة منها على آدم عليه‌السلام ، وخمسون منها نزل على شيث ، وثلاثون منها على ادريس ، وعشرة كتب على ابراهيم ، واربع كتب وهي : التوراة ، والانجيل ، والزبور ، والقرآن. (١) « نزلت على اولي العزم ، وهم : نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم اجمعين ».

ولقد كان نزول الوحي على الانبياء يتم بصورة مختلفة ، فمرة ينزل بالوحي توسط ملك من الملائكة المكلفين به ، واحيانا يلقي الوحي على النبي عليه‌السلام بواسطة الالهام القلبي ، واخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النبي ، « اي ان الله يخلق الامواج الصوتية في الفضاء او الاجسام فيسمعها انبياؤه وبهذه الواسطة كان يتم التخاطب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.

__________________

١ ـ مجمع البيان : ج ١ ص ٤٧٦ عنه الامثل ج ٣ ص ٤٧٧.

٦

عزيزي القارئ : بين يديك الجزء الثاني من كتاب « سلسلة حكم ومواعظ من حياة الانبياء والاوصياء عليهم‌السلام » وذلك بعد الانتهاء من طباعة القسم الاول الذي كان مختص بالانبياء اولي العزم عليهم‌السلام.

وفي هذا القسم الثاني ذكرنا وباختصار ايضا ، عن حياة بعض الانبياء العظام عليهم‌السلام الذين ذكر القرآن المجيد بعضا منهم ومن قصصهم وحياتهم ، وذلك حسب موقعهم الاجتماعي في الامة ، وما حدثت لهم من مواقف مهمة تحمل في طياتها مواعظ وحكم وعبر ودروس مختلفة وبنائة كي نتعض بها لما فيه الخير والصلاح لنا ولاجيالنا القادمة في السير على نهجهم والعمل بارشاداتهم وتوصياتهم الحكيمة انشاء الله تعالى.

وقد حاولنا ايضا ان نتناول الحوادث المهمة والمواقف الحكيمة للانبياء الكبار عليهم‌السلام الذين هم مظهر من مظاهر الصبر والتحمل والشجاعة ، حيث نرى ان الباري عزوجل اشاد بالوجه الطاهر والناصع لهم في قرآنه الكريم ، وبالخصوص في قصصهم القرآنية ، في نزاهتهم وعصمتهم وتقواهم ، ونزههم من كل ذنب وخطيئة ، كبيرة او صغيرة ، وعصمهم منها قبل النبوة وبعدها ...

فان استعراض القرآن المجيد لهذه القصص ، يهدف الى تربية الانسان وهدايته الى طريق السعادة والقرآن الكريم ليس كتاب قصصي ، وانما كتاب سماوي منزل من قبل الواحد الاحد ، هدفه ارشاد الناس وتربيتهم وهدايتهم.

القرآن دستور سماوي ونظام متكامل قام على اساس بنّاء وتثبيت قواعد النظام الاسلامي الصحيح وهداية المجتمعات البشرية وادارتها ، في كل زمان ومكان ( ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون

٧

الصالحات ان لهم اجرا كبيرا ) (١).

ان القرآن الكريم هو الطريق الاقوم في كل المستويات وفي كل جوانب الحياة والوجود ، وعلى صعيد كافة القضايا :

والمراد من كلمة « يهدي للتي هي اقوم » في الآية المباركة اعلاه هو:

الاقوم : من وجهة نظر العقائد والافكار ، والعقيدة الاقوم : هي العقيدة الخالية من الخرافات والاوهام ، والتي تدفع الانسان نحو الله.

الاقوم : من وجهة نظر القوانين الاجتماعية ، والاقتصادية ، والعسكرية ، والسياسية ، التي تسود المجتمع ، والتي تربي المجتمع الانساني الجوانب المادية والمعنوية وتدفع الجميع نحو التكامل ...

والاقوم : من وجهة النظر العبادية والاخلاقية ، هو كل ما يجعل الانسان في المركز الوسط بين الافراط والتفريط ، ويجعله في موقع الاعتدال بين الاسراف والبخل ، بين الضعف والتعالي.

واخيرا ـ وليس بآخر ـ فان ميزات « الاقوم » بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة ، هو كل ما يدفعها الى اقامة العدل ، والدعوة الى اشاعة الانصاف ، ومواجهة الظلم والظالمين ...

ونلاحظ من طرف آخر ـ ومع كل الاسف ـ لم تحفظ قصص الانبياء والمرسلين من ايدي الجهلة والمنافقين والمنحرفين وتجار القصص ، ونساجي قصص الخيال ليتاجروا بها ، حيث دسوا في كتبهم الخرافات التافهة والاقوال الباطلة التي لا تليق بمقام الانبياء والاوصياء المحمودة والمنزه عنها والمطهرة منها.

ودون اي شك فان الكثير من الروايات المروية عن الانبياء عليهم‌السلام مزيفة

__________________

١ ـ الاسراء : ٩.

٨

ومدسوسة رغم ورودها في طيات بعض كتب الحديث المعتبرة ، لان رسالة الانبياء تفرض ان يكون النبي المرسل في اي زمان كان ، بعيدا عن مثل تلك التقولات ، كي ينجذب اليه الناس برغبة وشوق ، وان لا تتوفر فيه اشياء تكون سببا لتنفرهم منه وابتعادهم عنه ، كالامراض والعيوب الجسدية ، والاخلاق السيئة ، والافعال الباطلة ، والجهل بالامور والنسيان وغير ذلك ، لانها تتناقض مثل هذه الامور مع فلسفة الرسالة السماوية.

فالقرآن الكريم يقول في شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لَانفضوا من حولك ) (١).

هذه الآية وغيرها دليل على ان النبي يجب ان لا يكون بحالة تجعل المحيطين به يتنفرون منه ويبتعدون عنه وكذلك بقية الانبياء الكبار مثل : آدم ، ونوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وايوب ، ويوسف ، ويعقوب ، وغيرهم الكثير الذين قدوتهم وسيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وعليهم اجمعين.

وعلى سبيل المثال نرى في تلك الروايات والقصص الكاذبة والخرافات التفاهة ، التي لا تليق بمقام الانبياء ما ورد في بعض كتب الحديث والتفسير حول قصة النبي ايوب عليه‌السلام القول : بان الدود غطى جسم النبي اثناء فترة مرضه وتعفن جسده بحيث ان اهل القرية ضاقوا به ذرعا واخرجوه من قريتهم ورموه على المزبلة.

او ما روي عن النبي داود عليه‌السلام انه كان في محرابه يصلي ويعبد الله ، فاذا بطائر ـ مذهب ـ قد وقع بين يديه ، فاعجبه فقام لياخذه فطار الطائر فوقع على حائط جيرانه ـ اوريا بن حنان ـ فصعد النبي داود عليه‌السلام الحائط ليأخذ الطير ، واذا

__________________

١ ـ آل عمران : ١٥٩.

٩

بامراة اوريا جالسة عارية تغتسل ، فنظر اليها داود فافتتن بها ... الخ.

هذه القصة المؤلمة التي نسجها المنحرفون نقلها احد الاشخاص على الامام الرضا عليه‌السلام وطلب منه صحة نسبة هذه الحادثة الى النبي داود عليه‌السلام :

ضرب الامام عليه‌السلام على جبهته وقال : انا لله وانا اليه راجعون ، لقد نسبتم نبيا من انبياء الله على التهاون بصلاته حين خرج بأثر الطائر ثم بالفاحشة ثم بالقتل.

وفي قصة يوسف عليه‌السلام بانه عندما همت به وهم بها ، جلس معها مجلس الرجل من المرأة ... والى غير ذلك من الاقوال الباطلة التي يندى لها جبين الانسان العادي فكيف بالانبياء والصلحاء ، وقد ورد الكثير من هذه القصص في كتب التوراة والانجيل المحرفة ، ومع شديد الاسف قام البعض وحمل هذه الروايات الزائفة وحررها في كتبنا المعتبرة ..

فعلى من يبحث ويحقق ويفسر في القرآن المجيد من علماء ومفسرين وفقهاء ان يقفوا امام هذه القصص الخرافية التي تسيء الى مقام العصمة والطهارة للانبياء والاوصياء والرسل ، وسد كافة الابواب امامها ، حتى لا تنتشر وتصل الى ايدي الاجيال القادمة وشباب المستقبل ....

وكخطوة اولى قمت بتدوين حياة بعض الانبياء العظام وحكمهم ومواعظهم وبشكل مختصر ، وانتخبت الصحيح والمعتبر مع قلة المصادر الموجودة لدينا وعلى عجالة من اجل ان يصل الكتاب هذا الى ايدي اساتذتي واخواني المبلغين والخطباء في ايام التبليغ من شهر رمضان المبارك.

اسال الله العلي القدير ان يوفقني ، ويوفق الآخرين من كتابة حياة الانبياء وقصصهم بشكل مفصل خاليا من الاوهام والانحراف ....

والحمد لله رب العالمين.

المؤلف

١٠

عصمة الانبياء والاوصياء

نحن نعتقد في الانبياء والرسل والائمة الاطهار والملائكة صلوات الله عليهم اجمعين ، انهم معصومون مطهرون من كل دنس ، وانهم لا يذنبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا ، ولا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من احوالهم فقد جهلهم ... وتوجد لدينا ادلة على ذلك من الكتاب والسنة والعقل وقد ذكرت مفصلا في كتب مختلفة وكثيرة توجد في متناول الايدي والمكتبات يمكنكم مراجعتها لمن يريد المعرفة تفصيلا.

ونحن هنا نذكر باختصار بعض النقاط المهمة في هذا الباب.

ان اخطر المناصب واكبرها مسؤولية ، قيادة المجتمع البشري وهدايته الى السعادة وبعده عن الاخطاء والانحرافات ، فهذه تتطلب في المتصدي والمرشد والمبلغ مؤهلات وامتيازات خاصة يتفرد بها عن سائر الناس ، وكلما كبرت المسؤولية وشملت جميع الجوانب وتدير دفة كافة الجوانب الحياتية ، كما هي مسؤولية رسل السماء وخاصة خاتمهم الذي سد باب الوحي والنبوة من بعده ، فلابد وحسب الامور العقلية والنقلية ان يتصف هذا النبي او الرسول او ذاك الوصي الذي يحمل مثل هذه المسؤولية الخطيرة ، ان يتصفوا بفضائل روحية ومُثل خُلُقية تُميزهم عن غيرهم من البشر ، وتجعلهم في قمة الاخلاق والتزكية وحسن السيرة ، ثم في القيادة والادارة ، وتجتمع هذه الصفات في العصمة والمعصوم.

١١

والعصمة ، لها مراتب ومراحل ثلاث :

المرتبة الاولى : العصمة عن المعصية وعدم ارتكاب الذنب ومخالفة الاوامر المولوية.

المرتبة الثانية : العصمة في تبليغ الرسالة ، اي المصونية في تلقي الوحي ، ووعيه ، وابلاغه للناس.

المرتبة الثالثة : العصمة عن الخطا في تطبيق الرسالة والامور الفردية والاجتماعية.

وبعد هذه المراحل الثلاثة المهمة ، هناك مراحل اخرى يجب على النبي او الوصي او المبلغ الرسالي ان يتحلى بها وهي :

١ ـ التنزه عن كل ما يوجب نفرة الناس عنه وعُقم التبليغ.

٢ ـ الاطلاع على اصول الدين وفروعه وكل ما القي ابلاغه وتعليمه وتعلمه على عاتقه.

٣ ـ التحلي بكفاءة خاصة في القيادة مقترنة بحسن التدبير. وفي النهاية يكون انتخاب هذه الشخصية وحملها لهذه المسؤولية وهذه الصفة من قبل الله عزوجل وتعيينه ، اما مباشرة وعن طريق الوحي مثل الانبياء ، واما بواسطة وعن طريق الانبياء مثل الائمة الاطهار عليهم‌السلام ... (١)

ادلة العصمة من الآيات القرآنية باختصار :

١ ـ قال تعالى في عصمة الملائكة : ( عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون ) (٢) والشاهد هنا : « لا يعصون الله ما امرهم ».

__________________

١ ـ للتفصيل مراجعة كتاب الالهيات ج ٢ لآية الله الشيخ السبحاني ( حفظه الله تعالى ).

٢ ـ التحريم : ٦.

١٢

٢ ـ وكذلك في وصف القرآن بقوله تعالى : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) (١).

٣ ـ وقوله تعالى في عصمة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، ان هو الا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ) (٢).

٤ ـ انتخاب الرسل والاوصياء لهدايتهم المجتمع البشري من قبل الله تعالى وذلك في قوله تعالى : ( واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم ، ذلك هدى الله ، يهدي به من يشاء من عباده ، ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) (٣).

وقوله تعالى : ( يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ) (٤).

( واذكر عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب اولي الايدي والابصار ، انا اخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار ، واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار ) (٥).

وقوله تعالى : ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ، وءآتيناهم من الآيات مافيه بلاء مبين ) (٦).

فان قوله تعالى ( انهم لمن المصطفين الاخيار ) ، وقوله : ( لقد

__________________

١ ـ فصلت : ٤٢.

٢ ـ النجم : ٣ ـ ٥.

٣ ـ الانعام : ٨٧ ـ ٨٨.

٤ ـ المائدة : ٦٧.

٥ ـ ص : ٤٥ ـ ٤٨.

٦ ـ الدخان : ٣٢ و ٣٣.

١٣

اخترناهم على علم على العالمين ). دليل على ان النبوة والعصمة واعطاء الآيات لاصحابها ، من مواهب الله سبحانه للانبياء ومن يقوم مقامهم من الاوصياء والائمة عليهم‌السلام فتأمل.

وبعد التأمل يظهر من ان العصمة الالهية لا تفاض على المعصوم ولا توهب له الا بعد وجود ارضيات صالحة في نفسه ، تقتضي افاضة تلك الموهبة اليه ....

يقول العلامة الطباطبائي قدس سره : « ان الله سبحانه خَلقَ بعضَ عباده على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة ، فنشؤا من باديء الأمر بأذهان وقّادة ، وادراكات صحيحة ، ونفوس طاهرة ، وقلوب سليمة ، فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس ، من نعمة الاخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب ، بل اعلى وارقى ، لطهارة داخلهم من التلوث بأوساخ الموانع والمزاحمات.

والظاهر ان هؤلاء هم المخلَصون لله في مصطلح القرآن الكريم.

ومن الآيات المهمة في القرآن الكريم التي تدل على عصمة الانبياء والرسل ، نذكر هذه الآيات من قوله تعالى : ( ووهبنا له اسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وايوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ، وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين ، واسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ، ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم ، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ... ، اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ... ) (١).

تصف الآية الاخيرة بان الانبياء مهديون بهداية الله سبحانه ، على وجه

__________________

١ ـ الانعام : ٨٤ ـ ٩٠.

١٤

يجعلهم القدوة والاسوة ، ونرى من جانب آخر انه سبحانه وتعالى يصرح بان من شملته الهداية الالهية لا مضل له وذلك في قوله تعالى : ( ومن يهد الله فماله من مضل ... ) (١).

وتكون النتيجة المنطقية :

١ ـ النبي قد شملته الهداية الالهية.

٢ ـ ومن شملته الهداية الالهية ، لا تتطرق اليه الضلالة.

٣ ـ فينتج : النبي لا تتطرق اليه الضلالة.

وبما ان الضلالة والمعصية متساويان ، فيصح ان يقال في النتيجة : ان النبي لا تتطرق اليه المعصية ويكون معصوما ... فتأمل.

وقال المحقق الطوسي رضي الله عنه في التجريد : « ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض ... ويجب كمال العقل ، والذكاء ، والفطنة ، وقوة الرأي ، وعدم السهو » (٢).

ولو جاز على النبي ، السهو والخطأ ، لجاز ذلك في جميع اقواله وافعاله ، فلم يبق وثوق باخباراته عن الله تعالى ، ولا بالشرائع والاديان ، لجواز الزيادة فيها والنقيصة ، فتنتفي فائدة البعثة ، فلا يجوز على النبي والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السهو مطلقا ، في الشرع وغيره ... لو جاز ان يسهو في الصلاة ، لجاز ان يسهو في التبليغ ، لان الصلاة فريضة عليه ، كما ان التبليغ عليه فريضة.

واما الاحاديث والروايات الواردة في هذا الباب كثيرة نختصر منها مع ما يقتضيه المقام:

١ ـ قال الامام علي عليه‌السلام في كتاب غرر الحكم : من اعتصم بالله لم يضره

__________________

١ ـ الزمر : ٣٦ و ٣٧.

٢ ـ شرح التجريد : ص ١٩٥.

١٥

شيطان ، ومن اعتصم بالله عز مطلبه.

ومن دعاء للامام علي بن ابي طالب عليه‌السلام قال : « الهي خلقت لي جسما ، وجعلت لي فيه آلات اطيعك بها واعصيك ، واغضبك بها وارضيك ، وجعلت لي من نفسي داعية الى الشهوات ، واسكنتني دارا قد ملئت من الآفات ، ثم قلت لي : انزجر ، فبك انزجر ، وبك اعتصم ، وبك استجير ، وبك احترز واستوفقك لما يرضيك. (١)

٢ ـ عن حسين الاشقر ، قال : قلت لهشام بن الحكم : ما معنى قولكم : « ان الامام لا يكون الا معصوما »؟ فقال : سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك فقال : المعصوم هو الممتنع بالله من جميع المحارم ، وقد قال الله تبارك وتعالى ( ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم ) (٢).

وعن الامام علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : الامام منا لا يكون الا معصوما ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها ، فلذلك لا يكون لا منصوصا.

ومن اقوال الامام الصادق عليه‌السلام : ... والامام معصوما من الزلات ، مصونا عن الفواحش كلها ، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار ، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده ، وشاهده على خلقه. (٣)

__________________

١ ـ ميزان الحكمة : ج ٦ ص ٣٤١.

٢ ـ نفس المصدر ، آل عمران : ١٠١.

٣ ـ نفس المصدر.

١٦

( ٦ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي آدم عليه‌السلام

١٧
١٨

قصص آدم وحواء عليهما‌السلام في القرآن

قال الله عزوجل :

( واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة.

قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.

قال : اني اعلم مالا تعلمون.

وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة.

فقال : انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين.

قالوا : سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم.

قال : يا آدم انبئهم باسمائهم ، فلما انباهم باسمائهم.

قال : الم اقل لكم اني اعلم غيب السموات والارض ، واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.

واذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس ابى واستكبر وكان من الكافرين.

وقلنا : يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.

فازلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه.

١٩

وقلنا : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين.

فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم.

قلنا اهبطوا منها جميعا فأما ياتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون ) (١).

في هذه الآيات المباركة عرض متكامل لخلقة آدم ابو البشر عليه‌السلام وخلافة الانسان وقيادته ، كما توضح لنا ثلاث مسائل اساسية ومطالب مهمة هي :

١ ـ اخبار الملائكة بشان خلافة الانسان في الارض ، وما دار في المشهد من حوار.

٢ ـ الطلب من الملائكة ان يكرموا ويعظموا الانسان الاول ، وهذا ما نجده في مواضع عديدة من القرآن. وبمناسبات مختلفة.

٣ ـ شرح وضع آدم عليه‌السلام وحياته في الجنة والحوادث التي ادت الى خروجه من الفردوس ، ثم توبة آدم ، وحياته هو وذريته في الارض.

عندما خلق الله عزوجل الدنيا ومافيها من كائنات ، اراد ان يجعل لها من يديرها ويدبر شؤنها ويكون خليفته عليها.

وهذا الخليفة يجب ان تسمو مكانته على مكانة الملائكة وان يكون له قسط وافر من العقل والشعور والادارة والكفائة الخاصة حتى يستطيع ان يقود هذه الموجودات الارضية بما فيها من نِعَمها وكنوزها ومعادنها وبحورها

__________________

١ ـ البقرة : ٣٠ ـ ٣٩.

٢٠