حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

مرتضى الميلاني

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

مرتضى الميلاني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-066-x
الصفحات: ٣٣٦

حين اهبط آدم عليه‌السلام من الجنة امره ان يحرث بيده ، من كدها بعد نعيم الجنة ، فجعل يجأر (١) ويبكي على الجنة مائتي سنة ، ثم انه سجد لله سجدة ، فلم يرفع رأسه ثلاثة ايام ولياليها. (٢)

الانوار الخمسة :

قال الامام الحسين عليه‌السلام : ... ان الله تعالى لما خلق آدم وسواه وعلمه اسماء كل شيء وعرضهم على الملائكة ، جعل محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين اشباحا خمسة في ظهر آدم ، وكانت انوارهم تضيء في الآفاق من السموات والحجب والجنان والكرسي والعرش ، فأمر الله الملائكة بالسجدة لآدم تعظيما له ، انه قد فضله بان جعله وعاء لتلك الاشباح التي قد عم انوارها في الآفاق ، فسجدوا الا ابليس ابى ان يتواضع لجلال عظمة الله وان يتواضع لانوارنا اهل البيت وقد تواضعت لها الملائكة كلها فاستكبر وترفع وكان بإبائه ذلك وتكبره من الكافرين. (٣)

عن الباقر عليه‌السلام قال : ان آدم لما بنى الكعبة وطاف بها فقال : « اللهم ان لكل عامل اجرا ، اللهم واني قد عملت ، فقيل له : سل يا آدم ، فقال : اللهم اغفر لي ذنبي ، فقيل له : قد غفر لك يا آدم ، فقال : ولذريتي من بعدي ، فقيل له : يا آدم من باء (٤) منهم بذنبه هاهنا كما بؤت ، غفرت له. (٥)

__________________

١ ـ جأر الى الله : التضرع والدعاء ورفع الصوت الى الله تعالى.

٢ ـ البحار : ج ١١ ص ٢١٠ عنه قصص الانبياء ص ٤٩.

٣ ـ البحار : ج ١١ ص ١٥٠.

٤ ـ باء بذنبه : اي رجع الى الله واعترف بذنبه.

٥ ـ نفس المصدر ص ١٧٩.

٤١

« بمعنى : من حج بيت الله الحرام او اعتمر وتاب الى الله تعالى من ذنوبه وخطاياه ، تاب الله عليه وخرج من ذنوبه كمن ولدته امه وليس عليه ذنب ». كما ذكر في الاحاديث المعتبرة ، روي عن امير المؤمنين عليه‌السلام قال : ... وحج البيت والعمرة ، فانهما ينفيان الفقر ويكفران الذنب ، ويوجبان الجنة ». (١)

قلة الكلام

وروي ان آدم عليه‌السلام لما كثر ولده وولد ولده كانوا يتحدثون عنده وهو ساكت ، فقالوا : يا ابة مالك لا تتكلم؟ قال :

يا بني ان الله جل جلاله لما اخرجني من جواره عهد الي وقال : اقل كلامك ترجع الى جواري. (٢)

« بمعنى انه قلة الكلام تقربك من الله تعالى ، وكثرة الكلام بدون فائدة والثرثرة تبعدك عن الله تعالى ، وقد قيل : خير الكلام ما قل ودل ».

روي انه كان جبرئيل عليه‌السلام يتردد على آدم دائما ، وكان اذا لم يأته جبرئيل عليه‌السلام اغتم وحزن ، فشكا ذلك الى جبرئيل فقال : اذا وجدت شيئا من الحزن فقل : لا حول ولا قوة الا بالله.

قال آدم عليه‌السلام بعد ان رفع رأسه من السجود لله تعالى :

اي رب الم تخلقني؟ فقال الله : قد فعلت ، فقال : الم تنفخ في من روحك؟ قال : قد فعلت ، قال : الم تسكني جنتك؟ قال : قد فعلت ، قال : الم تسبق لي رحمتك غضبك؟ قال الله : قد فعلت ، فهل صبرت او شكرت؟ قال آدم : ( لا اله الا انت سبحانك اني ظلمت نفسي فاغفر لي انك انت الغفور الرحيم )

__________________

١ ـ ميزان الحكمة : ج ٢ ص ٢٦٨.

٢ ـ نفس المصدر.

٤٢

فرحمه الله بذلك وتاب عليه انه هو التواب الرحيم (١).

السيئة بواحدة والحسنة بعشر :

وقال آدم عليه‌السلام لربه لما هبط من الجنة الى الارض :

رب هذا الذي جعلت بيني وبينه العداوة لم اقو عليه وانا في الجنة ، وان لم تعني عليه لم اقو عليه.

فقال الله : السيئة بالسيئة والحسنة بعشر امثالها ، الى سبع مائة ، قال : رب زدني ، قال : لا يولد لك ولد الا جعلت معه ملكا او ملكين يحفظانه ، قال رب زدني ، قال : التوبة مفروضة في الجسد مادام فيها الروح ، قال : رب زدني ، قال : اغفر الذنوب ولا ابالي ، قال : حسبي.

قال : فقال ابليس : رب هذا الذي كرمت علي وفضلته وان لم تفضل علي لم اقو عليه ، قال : لا يولد ولدا الا ولد لك ولدان ، قال : رب زدني ، قال : تجري منه مجرى الدم في العروق ، قال : رب زدني ، قال تتخذ انت وذريتك في صدورهم مساكن ، قال : رب زدني ، قال : تعدهم وتمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا. (٢)

اول من حرث الارض وزرع :

عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : لما هبط بآدم الى الارض احتاج الى الطعام والشراب ، فشكا ذلك الى جبرئيل فقال له جبرئيل : يا آدم كن حراثا ، قال : فعلمني دعاء ، قال : قل : اللهم اكفني مؤونة الدنيا وكل هول دون الجنة ، والبسني

__________________

١ ـ ٢ ـ تفسير العياشي ، عنه البحار : ج ١١ ص ٢١٢.

٤٣

العافية حتى تهنئني المعيشة. (١)

اول من عمل بالتقية :

روي انه بعد وفاة آدم عليه‌السلام جاء قابيل الى اخيه هبة الله عليه‌السلام ، فقال : ان ابي قد اعطاك العلم الذي كان عنده ، وانا كنت اكبر منك واحق به منك ، ولكن قتلت ابنه فغضب عليّ فاترك بذلك العلم عليّ ، وانك والله ان ذكرت شيئا مما عندك من العلم الذي ورثك ابوك لتتكبر به عليّ ولتفتخر عليّ لاقتلنك كما قتلت اخاك.

فاستخفى هبة الله بما عنده من العلم لينقضي دولة قابيل ، فحدّث هبة الله ولده بالميثاق سرا ، فكانوا يتوارثونها عالم بعد عالم ، وكانوا يفتحون الوصية كل سنة يوما فيحدثون ان اباهم قد بشرهم بنوح عليه‌السلام.

وعلى هذا كانت التقية والوصية من الامور المهمة ومن اجل الحفاظ على الدين الاصيل والرسالة السماوية الحقة ، ولنا في ابن آدم اسوة حسنة ، فجرت السنة بالتقية والوصية.

اول قبر :

روي انه لما صمم قابيل على قتل اخيه هابيل ( فطوعت له نفسه قتل اخيه ) فلم يدري كيف يقتله حتى جاء ابليس فعلمه فقال : ضع رأسه بين حجرين ثم اشدخه ، فلما قتله لم يدر ما يصنع به ، فجاء غرابان فاقبلا يتضاربان حتى اقتتلا فقتل احدهما صاحبه ، ثم حفر الذي بقي الارض بمخالبه ودفن فيه صاحبه ، قال قابيل : ( يا ويلتي اعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فاواري

__________________

١ ـ فروع الكافي ٢ : ٢١٦.

٤٤

سوأة اخي فاصبح من النادمين ). فحفر له حفيرة ودفن فيها ، فصارت سنة يدفنون الموتى ، وكان اول قبر حفر على وجه الارض.

اول من عبد النار :

عن الصادق عليه‌السلام قال : ان قابيل لما رأى النار قد قبلت قربان هابيل قال له ابليس : ان هابيل كان يعبد تلك النار ، فقال قابيل : لا اعبد النار التي عبدها هابيل ، ولكن اعبد نارا اخرى واقرب قربانا لها فتقبل قرباني ، فبنى بيوت النار فقرب لها ولم يكن له علم بربه عزوجل ولم يرث منه ولده الا عبادة النيران. (١)

« من هنا كان السبب في عبادة النار ، واول من اسس عبادتها هو قابيل بما وسوس له الشيطان وعلمه ذلك ».

وكان قابيل اول من عبد النار على وجه الارض ومن بعده نسله الذي بقي من عقبه.

اول كتاب كتب :

وروي انه لما حضرت آدم عليه‌السلام الوفاة اتاه ملك الموت فقال آدم : يا ملك الموت ما جاء بك؟ قال : جئت لاقبض روحك ، قال : قد بقي من عمري ستون سنة ، فقال : انك جعلتها لابنك داود ، قال : ونزل عليه جبرئيل واخرج له الكتاب ، فقال ابو عبد الله عليه‌السلام : فمن اجل ذلك اذا اخرج الصك على المديون ذل المديون ، فقبض روحه.

« نستفيد من هذا قوله تعالى ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام

__________________

١ ـ علل الشرائع : ٢٠١٣.

٤٥

الكتاب ) (١) وكذلك في قوله تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ... ) (٢).

وكان هذا اول كتاب كتب في الارض.

اول زواج واول مهر :

ان الله تعالى لما خلق حواء بعد آدم عليهما‌السلام ، ونظر اليها آدم استأنس بها.

فقال آدم عند ذلك يا رب ما هذا الخلق الحسن الذي قد آنستني قربه والنظر اليه؟ فقال الله تعالى : يا آدم هذه أمتي حواء ، افتحب ان تكون معك فتؤنسك وتحدثك وتكون تابعة لامرك؟

فقال : نعم يا رب لك علي بذلك الحمد والشكر ما بقيت.

ـ قال الله تعالى : فاخطبها الي ، فانها أمتي وقد تصلح لك زوجة.

ـ فقال : يا رب اني اخطبها اليك فما رضاك لذلك لي؟

فقال : مرضاتي ان تعلمها معالم ديني.

فقال : ذلك لك يا رب ان شئت ذلك لي.

فقال : فقد شئت ذلك وقد زوجتكها فضمها اليك.

فقال لها آدم الي فاقبلي ، فقالت : بل انت.

فامر الله آدم ان يقوم اليها فقام ، ولولا ذلك لكن النساء يذهبن الى الرجال (٣).

يظهر من هذا ان آدم عليه‌السلام خطب حواء من الله تعالى وجعل مهرها تعليمها

__________________

١ ـ الرعد : ٣٩.

٢ ـ البقرة : ٢٨٢.

٣ ـ قصص الانبياء للراوندي : ص ٥٨.

٤٦

الاحكام ، وبعد ذلك اجريت صيغة الزواج وتم الزواج المبارك ، وكان هذا اول زواج واول مهر حدث على وجه الارض.

ذرية آدم من شيث عليه‌السلام :

روي انه كان الامام عليه‌السلام جالسا في الحرم وحوله عصابة من اوليائه اذ اقبل طاووس اليماني فسلم وجلس بينهم ثم قال :

اتاذن لي في السؤال؟ فقال الباقر عليه‌السلام : قد آذناك فسل ، قال : اخبرني بيوم هلك ثلث الناس ، فقال : وهمت يا شيخ اردت ان تقول ربع الناس ، وذلك يوم قتل هابيل ، كانوا اربعة : قابيل وهابيل وآدم وحواء عليهم‌السلام فهلك ربعهم ، فقال : اصبتَ ووهمتُ انا ، فايهما كان الاب للناس القاتل او المقتول؟ قال عليه‌السلام : لا واحد منهما ، بل ابوهم شيث بن آدم عليه‌السلام. (١)

« يستدل من هذا بان ذرية ابناء آدم ونسله من شيث بن آدم الابن المطيع والمؤمن لآدم ، لان هابيل لم يعقب له وقابيل كذلك لانه مجرم وقاتل ، ولو كان النسل من قابيل لاصبحوا قتلة .. وكذلك لو كان قابيل تزوج اخته ـ كما يدعي بعض الجهلة ـ لكان اولادهم اولاد زنا ، فتأمل ».

اذا جاء الاجل :

روي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : ان آدم عليه‌السلام اشتكى فاشتهى فاكهة ، فانطلق هبة الله يطلب له فاكهة ، فاستقبل جبرئيل فقال له : اين تذهب يا هبة الله ، فقال : ان ابي آدم يشتكي وانه اشتهى فاكهة ، قال له : فارجع فان الله عزوجل قد قبض

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ٢٢٩.

٤٧

روحه ، قال : فرجع فوجده قد قبضه الله ، فغسلته الملائكة ، ثم وضع وامر هبة الله ان يتقدم ويصلي عليه ، فتقدم فصلى عليه والملائكة خلفه ، واوحى الله اليه ان يكبر عليه خمسا ، وان يسله « اي انتزعه واخرجه برفق » وان يسوي قبره ، ثم قال : هكذا فاصنعوا بموتاكم (١).

وعلى هذا قال الله تعالى : ( اذا جاء اجلهم فلا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون ) (٢) وكان هذا اول صلاة على ميت في الارض وتغسيل الميت وتكبيرات الخمسة ....

اول وصية كتبت :

روي انه لما مرض آدم عليه‌السلام مرض الموت ، دعا ابنه شيثا (٣) وقال له : يا بني ان اجلي قد حضر وانا مريض ، وان ربي قد انزل من سلطانه ما قد ترى ، وقد عهد الي فيما قد عهد ان اجعلك وصيي وخازن ما استودعني ، وهذا كتاب الوصية تحت راسي وفيه اثر العلم واسم الله الاكبر ، فاذا انا مت فخذ الصحيفة واياك ان يطلع عليها احد ، ... وفيها جميع ما تحتاج اليه من امور دينك ودنياك ....

وكانت هذه اول وصية وكتاب يكتب على الارض وعلى هذا جرت السنة في كتابة الانسان وصيته قبل ان يموت ليعلم اهله بما يريده بعد موته ...

__________________

١ ـ الخصال : ج ١ ص ١٣٥.

٢ ـ يونس : ٤٩.

٣ ـ لما ولد لآدم مولود سماه ـ شيث ـ فاوصى الله تعالى اليه : يا آدم انما هذا الغلام هبة مني اليك فسمه ـ هبة الله ـ فسماه آدم به ».

٤٨

لا تخلو الارض من حجة لله :

روي انه لما حضرت الوفاء لآدم عليه‌السلام جمع ولده من الرجال والنساء واخبرهم بوفاته ، وجعل خير ولده وصيا من بعده كما امره الله تعالى بذلك وهو ، هبة الله « شيث » فقال له : انظر اذا انا مت يا هبة الله فاغسلني وكفني وصلي علي وادخلني حفرتي.

واذا حضرت وفاتك واحسست بذلك من نفسك فالتمس خير ولدك ، واكثرهم لك صحبة وافضلهم ، فاوصي اليه بما اوصيت به اليك ، ولا تدع الارض بغير عالم منا اهل البيت ، يا بني ان الله تعالى اهبطني الى الارض وجعلني خليفة فيها وحجة له على خلقه ، وجعلتك حجة الله في ارضه من بعدي ، فلا تخرجن من الدنيا حتى تجعل لله حجة على خلقه ووصيا من بعدك ... (١)

امر الله عزوجل نبيه آدم عليه‌السلام ان يجعل من بعده وصيا وحجة ولا يترك الارض من غير حجة لله على الناس ، وكذلك اوصى آدم عليه‌السلام لولده بهذا وهكذا من نبي الى نبي ومن وصي الى وصي ... الى ان وصلت الى النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهل من المعقول ان يخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدنيا ولا يوصي من بعده حجة ووصيا ، ويخالف امر الله تعالى ، ويترك الارض ومن عليها بلا حجة ...؟! فتامل.

قبل خلق آدم عليه‌السلام :

كثيرا ما يطرح هذا السؤال ، هل يوجد خلق قبل خلق آدم؟ وهل خلق الله عزوجل مخلوقات قبل آدم؟ ، وهل قول الملائكة : ( ... أتجعل فيها من يفسد

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ٢٦٥.

٤٩

فيها ويسفك الدماء ... ) (١) دليل على ان قبل آدم كانت مخلوقات تفسد في الارض على هذا وغيره من الاستفهامات يجيبنا باب علم النبي امير المؤمنين عن ابنه الصادق الامين عليهم افضل الصلاة والسلام عندما سأله عليه‌السلام :

هل كان في الارض خلق من خلق الله تعالى يعبدون الله قبل آدم عليه‌السلام وذريته؟

فقال عليه‌السلام : نعم ، قد كان في السماوات والارض خلق من خلق الله يقدسون الله ، ويسبحونه ، ويعظمونه بالليل والنهار لا يفترون.

وان الله عزوجل لما خلق الارضين خلقهما قبل السماوات.

ثم خلق الملائكة روحانيين لهم اجنحة يطيرون بها حيث يشاء الله.

ثم خلق عزوجل في الارض الجن روحانيين لهم اجنحة فخلقهم دون خلق الملائكة ، فاسكنهم فيما بين اطباق الارضين السبع وفوقهن يقدسون الله الليل والنهار لا يفترون.

ثم خلق خلقا دونهم ، لهم ابدان وارواح بغير اجنحة ، يأكلون ويشربون نسناس « اي سماهم بالنسناس » ، اشباه خلقهم وليسوا بانس ، واسكنهم اوساط الارض على ظهر الارض مع الجن ، يقدسون الله بالليل والنهار لا يفترون.

الى ان قال عليه‌السلام : ثم ان طائفة من الجن والنسناس ، الذين خلقهم الله واسكنهم اوساط الارض مع الجن تمردوا وعتوا عن امر الله ، فمرحوا وبغوا في الارض بغير الحق ، وعلا بعضهم على بعض في العتو على الله تعالى ، حتى سفكوا الدماء فيما بينهم ، واظهروا الفساد ، وجحدوا ربوبية الله تعالى.

الى ان قال عليه‌السلام : ثم خلق الله تعالى خلقا على خلاف خلق الملائكة وعلى

__________________

١ ـ البقرة : ٣٠.

٥٠

خلاف خلق الجن ، وعلى خلاف خلق الشياطين وخلاف خلق النسناس ، يدبون كما يدب الهوام في الارض ، يشربون ويأكلون كما تأكل الانعام من مراعي الارض.

الى ان قال عليه‌السلام : ثم ان الله احب ان يخلق خلقا ، وذلك بعدما مضى من الجن والنسناس سبعة آلاف سنة ، فلما كان من خلق الله ان يخلق آدم للذي اراد من التدبير والتقدير فيما هو مكونه من السماوات والارضين ، كشف عن اطباق السماوات ... الخ. (١)

اقول والله العالم : عندما اراد الله ان يُعرف وتُعرف قدرته ، كشف للملائكة اطباق السماوات والارض وقال لهم : انظروا الى اهل الارض من خلقي ، فاطلعت الملائكة ورأوا ما يعملون من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الارض ، غضبوا لله واسفوا على اهل الارض فقالوا : ( سبحانك ربنا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ). فاجابهم الله تعالى وقال لهم : ( اني اعلم مالا تعلمون ).

__________________

١ ـ قصص الانبياء للراوندي : طبع مشهد سنة ١٤٠٩هـ ص ٣١.

٥١
٥٢

( ٧ )

حِكَم ومواعظ من حياة

النبي ادريس عليه‌السلام

٥٣
٥٤

قصة النبي ادريس عليه‌السلام

قال الله تعالى :

( واذكر في الكتاب ادريس انه كان صديقا نبيا ، ورفعناه مكانا عليا ) (١).

صفات النبي ادريس عليه‌السلام :

النبي ادريس عليه‌السلام هو احد انبياء الله المعروفين بالانبياء « السريانيين » وذلك في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابي ذر : يا ابا ذر اربعة من الانبياء ـ سريانيون : آدم وشيث واخنوخ ـ « وهو ادريس عليه‌السلام » ـ ونوح عليه‌السلام ، واربعة من الانبياء من العرب ! هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واول نبي من بني اسرائيل : موسى ، وآخرهم عيسى ، وهم ستمائة نبي ... (٢)

نقل كثير من المفسرين ، ان ادريس كان اسمه في التوراة « اخنوخ » وفي العربية « ادريس » ، وهو جد سيدنا نوح عليه‌السلام ، وادريس عليه‌السلام كان اول من كتب بالقلم ودرس ودرّس ، ولذلك سمي ـ ادريس فقد كان بالاضافة الى النبوة عالما بالنجوم والحساب ، والهيئة ، وكان اول من علّم

__________________

١ ـ مريم : ٥٦ ـ ٥٧.

٢ ـ الخصال : ٥٢٤.

٥٥

البشر خياطة الملابس ، وكان ذلك من معاجزه عليه‌السلام ، واول من استخرج الحكمة وعلم النجوم ، فان الله عزوجل افهمه سر الفلك وتركيبه. ونقط اجتماع الكواكب فيه ، وافهمه عدد السنين والحساب ، وكان عليه‌السلام رجلا طويلا ، ضخم البطن ، عظيم الصدر ، قليل الصوت ، رقيق المنطق ، قريب الخطى اذا مشى.

وكان كثير التصديق في امور الدين وذكره القرآن الكريم « انه كان صديقا » كان صادقا مبالغا في الصدق فيما يخبر عن الله تعالى.

ومن الصفات التي انفرد بها عن باقي الانبياء انه قبض الله روحه بين السماء الرابعة والخامسة ، وذلك في قوله تعالى : ( ورفعناه مكانا عليا ) ـ كما سيأتي ذلك.

مولد النبي ادريس عليه‌السلام :

اختلف الحكماء في مولده ومنشأه وعمن اخذ العلم قبل النبوة. قال البعض : ولد النبي ادريس بمصر وسموه « هرمس الهرامة » ومولده بمنف ـ وقالوا : ان معلمه اسمه « اغثا ذيمون المصري » وانه احد الانبياء اليونايين والمصريين.

وقالت فرقة اخرى : ان ادريس ولد ببابل ونشأ بها ، وانه اخذ في اول عمره بعلم شيث بن آدم وهو جد جد ابيه لان ادريس : ابن يارد ، بن مهلائيل ، بن قينان ، بن انونس ، بن شيث ، ـ « وقال الشهرستاني : ان معلمه اغثا ذيمون هو النبي شيث ».

ولما كبر ادريس آتاه الله النبوة ، فدعى بني آدم الى الايمان وعبادة الله والعمل بشريعة آدم وشيث عليهم‌السلام ، فاطاعه القليل منهم وخالفه جلهم.

٥٦

عبادته لله قبل نبوته :

كان ادريس عليه‌السلام يفكر في عظمة الله وقدرته ، وكان يقول : ان لهذه السماوات والارض والخلق العظيم والشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر لابد ان يكون لها ربا يدبرها ويصلحها بقدرته فكيف لي بهذا الرب فاعبده حق عبادته.

فجمع طائفة من اصحابه وقومه ، فجعل يعظهم ويذكرهم بعظمة الخالق لهذه الكائنات ، ويدعوهم الى عبادة خالق هذه الاشياء ، فكان يجيبه واحدا بعد الآخر ويؤمن بقوله حتى صاروا سبعة ، ثم صاروا سبعين ، ثم سبعمائة ، ثم بلغوا الفا ، فلما بلغوا الفا قال لهم : تعالوا نختار من خيارنا مائة رجل ، فاختاروا مائة رجل ، واختاروا من المائة سبعين رجلا ، ثم اختاروا من السبعين عشرة ، ثم اختاروا من العشرة سبعة.

ثم قال لهم : تعالوا فليدع هؤلاء السبعة وليؤمّن بقيتنا فلعل هذا الرب جل جلاله يدلنا على عبادته.

فوضعوا ايديهم على الارض ودعوا طويلا فلم يتبين لهم شيء ، ثم رفعوا ايديهم الى السماء فأوحى الله عزوجل الى ادريس عليه‌السلام ونبأه ودله على عبادته ، ومن آمن معه ، فلم يزالوا يعبدون الله عزوجل لا يشركون به شيئا.

وبعدما توفى ادريس انقرض اكثر من تابعه على دينه الا القليل منهم ، ثم اختلفوا بعد ذلك واحدثوا الاحداث وابدعوا البدع حتى كان زمان نوح عليه‌السلام. (١)

__________________

١ ـ علل الشرائع : ٣٧.

٥٧

بدء نبوته عليه‌السلام :

من الروايات الواردة في قصة نبوة ادريس عليه‌السلام اخترنا هذه الرواية المنقولة عن ابراهيم بن ابي البلاد عن ابيه عن الامام الباقر عليه‌السلام ـ والحديث طويل اختصرناه فيما يلي :

انه كان بدء نبوة ادريس عليه‌السلام انه كان في زمانه ملك جبار ، بينما كان ذات يوم في بعض نزهة ، فمر بارض خضراء نضرة اعجبته فأحب ان يمتلكها ، وكانت الارض لعبد مؤمن فأمر باحضاره وساومه فيها ليشتريها فلم يبعها ولم يرض به.

فرجع الملك الى بلده وهو مغموم متحير في امره ، فاستشار امرأة له كان يستشيرها في اموره المهمة ، فأشارت عليه ، ان يقيم عليه شهودا انه خرج عن دين الملك ، فيقتله ويملك ارضه ففعل ما اشارت اليه وغصب الارض.

فأوحى الله الى ادريس ان يأتي الملك ويقول له عنه :

اما رضيت ان قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت ارضه خالصة لك ، واحوجت عياله من بعده واجعتهم؟

اما وعزتي لانتقمن له منك في الآجل ، ولاسلبن ملكك في العاجل ، ولاخربن مدينتك ، ولاذلن عزك ، ولاطعمن الكلاب لحم امرأتك ، فقد عزك يا مبتلي حلمي عنك.

فاتاه ادريس برسالة الله وبلغه ذلك في ملأ من اصحابه ، فاخرجه الملك من مجلسه ، ثم ارسل اليه باشارة من امرأته قوما يقتلونه ، فانتبه لذلك بعض اصحاب ادريس واشاروا عليه بالخروج والهجرة.

فخرج النبي ادريس مع اصحابه ، ثم ناجى ربه وشكى اليه ما لقيه من الملك في رسالته اليه ، فأوحى الله اليه بالخروج من القرية ، وانه سينفذ في الملك

٥٨

امره ويصدق فيه قوله.

عندما خرج ادريس من القرية طلب من الله عزوجل وقال :

يا رب ان لي اليك حاجة ، قال الله : سلها تعطها ، قال : اسألك ان لا تمطر الماء على اهل هذه القرية وما حولها حتى اسألك ذلك ، قال الله عزوجل : قد اعطيتك ما سألت ولن امطر السماء عليهم حتى تسألني.

فاخبر ادريس بذلك اصحابه من المؤمنين وامرهم بالخروج منها فخرجوا وتفرقوا في البلاد وكانوا عشرين رجلا.

وشاع خبر ادريس في القرى بما سأل الله ، وخرج هو متنحيا الى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه ويصوم النهار ، وكان يأتيه ملك بفطوره عند كل مساء.

وانفذ الله في الملك وامراته ومدينته ما اوحاه الى ادريس ، وقتله واخرب مدينته ، واطعم الكلاب لحم امرأته غضبا للمؤمن ـ الذي قتله وغصب ارضه ـ ، وبعد ذلك ظهر في المدينة جبار آخر عاص.

امسكت السماء عنهم امطارها عشرين سنة حتى جهدوا واشتدت حالهم ، فلما بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض ان الذي لقوه من الجهد والمشقة والجوع انما هو من دعاء ادريس عليهم ان لا يمطر علينا السماء حتى يساله هو ، وقد خفى علينا ادريس ولا نعلم بموضعه واين هو.

وقالوا : الله ارحم بنا منه ، فاجمع امرهم على ان يتوبوا الى الله ويدعوه ويفزعوا اليه ويساله ان يمطر السماء عليهم فهو ارحم بهم منه ، فاجتمعوا على الدعاء والتضرع.

بعد ان رأى الله تعالى توبتهم وندمهم وبكائهم ، اوحى الى ادريس ان القوم عجوا الي بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع ، وقد رحمتهم وما يمنعني من امطارهم الا مناضرتك فيما سالتني ان لا امطر السماء عليهم حتى تسألني

٥٩

فأسألني حتى اغيثهم ، قال ادريس : اللهم اني لا اسألك.

فأوحى الله الى المَلِك الذي كان يأتيه بالطعام ان يمسك عنه ، فامسك عنه ثلاثة ايام حتى بلغ به الجوع.

فنادى : اللهم حبست عني رزقي من قبل ان تقبض روحي ، فأوحى الله اليه : يا ادريس جزعت ان حبست عنك طعامك ثلاثة ايام ، ولم تجزع من جوع اهل قريتك وجهدهم منذ عشرين سنة ، ثم سألتك ان تسألني ان امطر عليهم فبخلت ولم تسأل ، فادبتك بالجوع ، فاهبط من موضعك واطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه الى حيلتك.

فهبط ادريس الى قرية هناك ونظر الى بيت يصعد منه دخان ـ وكان جائعا لم يأكل منذ ثلاث ايام ـ فهجم عليهم واذا عجوز كبيرة ترفق فرصتين لها على مقلاة فسالها ان تطعمه فقد بلع به جهد الجوع.

فقالت : يا عبد الله ما تركت لنا دعوة ادريس فضلا نطعمه احدا ـ وحلفت انها لا تملك غيره شيئا ـ فاطلب المعاش من غير اهل هذه القرية.

فقال لها : اطعميني ما امسك به روحي وتقوم به رجلي حتى اطلب.

فقالت : انهما قرصتان واحدة لي والاخرى لابني ، فان طعمتك قوتي مت ، وان طعمتك قوت ابني مات ، وليس ههنا فضل.

قال : ان ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فاطعمي كلا منا نصفا يكون لنا بلغة ، فرضيت وفعلت.

فلما رأى ابنها ادريس وهو يأكل من قرصته اضطرب حتى مات.

قالت امه : يا عبد الله قتلت ابني جزعا على قوته.

فقال : لا تجزعي انا احييه لك الساعة باذن الله ، واخذ بعضد الصبي وقال : ايتها الروح الخارجة من بدنه بأمر الله ارجعي الى بدنه باذن الله وانا ادريس

٦٠