حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

مرتضى الميلاني

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

مرتضى الميلاني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-066-x
الصفحات: ٣٣٦

بعد ذلك استجاب له الله وانقذه من الغم ، حيث قال تعالى :

( فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ) (١).

بعد ان لبث يونس عليه‌السلام في بطن الحوت فترة من الزمن ، وفي رواية عن ابي الجارود : لبث في بطن الحوت ثلاث ايام ، وروي غير ذلك (٢) ، والله العالم » انقذه الله من ذلك السجن المظلم والموحش ، وكان قد اثر على جسده بعض الشيء ، وكان عندما خرج من بطن الحوت كانه فرخ دجاجة ضعيف لا جناح له ولا ريش ، حيث كان منهارا لا يمتلك القوة والقدرة على الحركة ، وكانت حرارة الشمس تؤذيه ، فيحتاج الى ظل يستظل به عن حرارة الشمس.

مرة اخرى شمله اللطف الالهي وانبت الله له شجرة « القرع » ليستظل باوراقها العريضة الرطبة ، حيث قال سبحانه وتعالى في ذلك : ( فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وانبتنا عليه شجرة من يقطين ) (٣).

يا لها من موعظة عظيمة درس مهم وصلنا عن طريق هذا النبي العظيم يونس عليه‌السلام ، علينا ان نعتبر بهذا الدرس ، وخاصة اذا كنا نمتلك مسؤولية ادارية في الدولة ، وكيف نتعامل مع المجتمع من اجل سعادته وانقاذه من المطبات الاخلاقية والتيارات الفكرية المنجرفة ، حتى نوصله الى ساحل الامان ....

اللجوء الى العالم :

بعد ان ترك يونس عليه‌السلام قومه وهو غضبان ، ظهرت لقومه دلائل تبين لهم قرب موعد الغضب الالهي ، خافوا من غضب الله وعادوا الى رشدهم ، والتجأوا

__________________

١ ـ الانبياء : ٨٨.

٢ ـ وروي تسع ساعات وروي ثلاث اسابيع ، وروي ٤٠ يوما والله العالم.

٣ ـ الصافات : ١٤٦.

٣٠١

الى الرجل « العالم » الذي آمن بيونس ولم يخرج معه كما خرج « العابد » وبقي بين قومه ، واتخذوه قائدا لهم.

قال لهم الرجل العالم اخرجوا الى الصحراء ، وفرقوا بين المرأة وطفلها ، بين الحيوانات واطفالها ، وادعوا الله بتضرع واخلاص.

خرج القوم الى الصحراء كبيرا وصغيرا ومريضا وعاجزا واخذوا يدعون الله ويبكون وينتحبون باعلى اصواتهم ، داعين الله سبحانه وتعالى باخلاص ان يتقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتباعهم نبي الله يونس.

وهنا استجاب الله دعائهم ، وازاح عنهم العذاب وانزله على الجبال ، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بالطاف الله.

عودة يونس عليه‌السلام

بعد هذا عاد النبي يونس عليه‌السلام الى قومه ، وذلك بعد ان انجاه الله سبحانه وتعالى من بطن الحوت ، ليرى ماذا صنع بهم العذاب الالهي؟ ولكن ما ان عاد الى قومه حتى فوجيء بأمر اثار عنده الدهشة والعجب ، حيث رآهم مؤمنين يعبدون الله عزوجل ويوحدونه بعدما كانوا يعبدون الاصنام.

يقول تعالى : ( وارسلناه الى مئة الف او يزيدون * فآمنوا فمتعناهم الى حين ) (١).

بعد ان آمن قوم يونس ، بعث لهم الله نبيه يونس مرة ثانية واغدق عليهم النعم الالهية المادية والمعنوية لمدة معينة ، وزاد ايمان القوم بالله وبرسوله يونس ، واخذوا ينفذون تعليماته واوامره ، الى نهاية حياتهم وحلول اجلهم.

__________________

١ ـ الصافات : ١٤٨.

٣٠٢

توضح لنا هذه القصة كيف ان قوما مذنبين مستحقين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التاريخية بعودتهم الى احضان الرحمة الالهية وتوبتهم الى الله ، وانقاذ انفسهم من العذاب المحقق.

وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الاوان ، وانتخاب قيادة علمائية رشيدة وامتثال اوامرها واطاعتها.

قصة متي ابا يونس عليهما‌السلام :

روي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : ان داود النبي عليه‌السلام قال : يا رب اخبرني عن قريني ونظيري في منازلي؟ فاوصى الله تبارك وتعالى اليه :

ان ذلك متي ـ ابا يونس عليه‌السلام ـ

قال : فاستاذن الله في زيارته فاذن له ، فخرج داود وسليمان ، حتى اتيا موضعه ، فاذا هما ببيت من سعف ، فقيل لهما : هو في السوق ، فسألا عنه فقيل لهما : اطلباه في الحطابين ، فسألا عنه ، فقال لهما جماعة من الناس : نحن ننتظره الآن يجيء فجلسا ينتظرانه.

اذ اقبل ـ متي ـ وعلى رأسه الحطب ، فقام اليه الناس ، فالقى عنه الحطب فحمد الله وقال : ( من يشتري طيبا بطيب )؟ فساومه واحد وزاد بآخر ، حتى باعه من بعضهم.

قال : فلما سلما عليه ، فقال : انطلقا بنا الى المنزل ، واشترى طعاما بما كان معه ، ثم طحنه وعجنه ، ثم اجج نارا واوقدها ، ثم جعل العجين في تلك النار ، وجلس معهما يتحدث.

ثم قام وقد نضجت خبيزته فوضعها في الاجانة وفلقها وذر عليها ملحا ووضع الى جنبه مطهرة ماء ، وجلس على ركبتيه واخذ لقمة ، فلما وضعها الى فيه

٣٠٣

قال : بسم الله ، فلما ـ اكها ـ قال الحمد لله ، ثم فعل ذلك باخرى واخرى ، ثم اخذ الماء فشرب منه فذكر اسم الله ، فلما وضعه قال :

الحمد لله يا رب ، من ذا الذي انعمت عليه ما اوليته مثل ما اوليتني.

قد صححت بصري وسمعي وبدني وقويتني حتى ذهبت الى شجر لم اغرسه ولم اهتم لحفظه ، وجعلته لي رزقا ، وسقت الي من اشتراه مني ، فاشتريت بثمنه طعاما لم ازرعه ، وسخرت لي النار فانضجته ، وجعلتني آكله بشهوة اقوى به على طاعتك فلك الحمد ، ثم بكى.

قال داود عليه‌السلام : يا بني قم فانصرف بنا ، فاني لم ار عبدا قط اشكر من هذا. (١)

« كان هذا العبد متي اب يونس سلام الله عليهما ».

فضل العالِم على العابد :

ذكرنا قبل هذا انه ، كان في قوم يونس عليه‌السلام رجلان احدهما عابد واسمه « تنوخا » والآخر عالِم واسمه « روبيل » وكانا قد آمنا بالنبي يونس عليه‌السلام واصبحا من مستشاريه.

فكان العابد يشير على يونس بالدعاء على قومه ، وكان العالِم ينهاه ويقول : لا تدع عليهم فان الله يستجيب لك.

فلما دعى يونس عليه‌السلام على قومه بالعذاب واستجاب الله له ، ذهب الى تنوخا العابد فأخبره بما اوحى الله اليه من نزول العذاب على قومه في اليوم المعين « في شوال يوم الاربعاء في وسط الشهر بعد طلوع الشمس » وقال له : انطلق اليهم واعلمهم بما اوحى الله الي من نزول العذاب عليهم.

__________________

١ ـ قصص الانبياء : نعمة الله الجزائري ص ٤٩٣. وتنبيه الخواطر ج ١ ص ١٨.

٣٠٤

فقال العابد : دعهم في غمرتهم ومعصيتهم ، حتى يعذبهم الله تعالى ، فقال يونس عليه‌السلام : بل نلقي روبيل فنشاوره فانه رجل عالم حكيم من اهل بيت النبوة.

فانطلقا الى روبيل ، فأخبره يونس عليه‌السلام بما اوحى الله اليه من نزول العذاب على قومه .. ، فقال له روبيل :

ارجع الى ربك رجعة نبي حكيم وسله ان يصرف عنهم العذاب فانه غني عن عذابهم ، وهو يحب الرفق بعباده ، ولعل قومك بعدما سمعت ورايت من كفرهم وجحودهم يؤمنون يوما فصابرهم وتأنهم.

اعترض الرجل العابد على الرجل العالِم ودار نقاش شديد بينهما ، العابد يصر على نزول العذاب ، والعالِم يصر على رفع العذاب ، بعد ذلك قال العالِم للعابد : اسكت فانك رجل عابد لا علم لك.

ثم قال روبيل للنبي يونس عليه‌السلام : ارجع الى الله واسأله ان يصرف عنهم العذاب ، ولعلهم اذا احسوا بنزول العذاب يتوبوا الى الله ، فيرحمهم فانه ارحم الراحمين ، ويكشف عنهم العذاب من بعدما اخبرتهم عن الله انه ينزل عليهم العذاب يوم كذا وكذا ... فاعترض تنوخا العابد مرة اخرى على روبيل العالم ...

فابى يونس عليه‌السلام ان يقبل وصية العالِم ، فانطلق ومعه تنوخا العابد وخرجا من القرية ، وبقي الرجل العالِم في القرية مع قومه ولم يخرج معهم.

لما حان موعد نزول العذاب في شوال ، صاح روبيل العالِم باعلى صوته الى القوم وقال : انا روبيل شَفيق عليكم رحيم بكم وهذا شوال قد دخل عليكم ، وقد اخبركم يونس نبيكم ورسولكم ان الله اوحى اليه ان العذاب ينزل عليكم في وسط شهر شوال بعد طلوع الشمس ، ولن يخلف الله وعده ورسوله فانظروا ما انتم صانعون.

فافزعهم كلامه ووقع في قلوبهم الخوف والرعب فاتوا نحو روبيل وقالوا

٣٠٥

له : ما تشير علينا يا روبيل فانك رجل عالم حكيم ، فامرنا بامرك واشر علينا برايك.

فقال لهم روبيل : فاني ارى لكم واشير عليكم ان تنظروا اذا طلع الفجر من يوم الاربعاء في وسط الشهر ، ان تعزلوا الاطفال عن الامهات في اسفل الجبل ، وتقفوا النساء في سفح الجبل ... ، فاذا رايتم ريحا صفراء اقبلت من المشرق فعجوا الكبير منكم والصغير بالبكاء والصراخ والتضرع الى الله والتوبة اليه وارفعوا رؤوسكم الى السماء وقولوا : ربنا ظلمنا انفسنا وكذبنا نبينا وتبنا اليك من ذنوبنا وان لم تغفر لنا ولا ترحمنا لنكونن من الخاسرين المعذبين ، فاقبل توبتنا وارحمنا يا ارحم الراحمين ، فاجمَعَ راي القوم على هذا.

فلما كان اليوم الموعود بنزول العذاب ، اقبلت ريح صفراء مظلمة لها صرير وحفيف وهدير ، فلما رأوها عجوا بالصراخ والبكاء والتضرع الى الله وتابوا اليه ، وصرخت الاطفال تطلب امهاتها ، وعجت سخال البهائم تطلب اللبن ، وعجت الانعام تطلب المرعى ، فلم يزالوا كذلك وروبيل يسمع صراخهم ويدعو الله بكشف العذاب عنهم.

فاستجاب الله دعاءهم وقبلَ توبتهم وابعد عنهم العذاب وانزله على الجبال والصحاري.

فلما رأى قوم يونس عليه‌السلام ان العذاب قد صرف عنهم هبطوا من رؤوس الجبال الى منازلهم وضموا اليهم نساءهم واولادهم واموالهم وحمدوا الله على ما صرف عنهم.

فلما رجع يونس والعابد الى القرية ، قال روبيل العالِم الى تنوخا : اي الرايين كان اصوب واحق ان يتبع ، رأيي او رأيك؟ فقال له تنوخا : بل رأيك كان اصوب ، ولقد اشرت برأي الحكماء العلماء ، وما اعطاك ربك من الحكمة مع

٣٠٦

التقوى افضل من الزهد والعبادة بلا علم ....

عن ابي حمزة ، عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : عالم ينتفع بعلمه افضل من سبعين الف عابد. (١)

وعن معاوية بن عمار قال : قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية ايهما افضل؟ قال : الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا افضل من الف عابد. (٢)

موعظة :

روي انه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت ام سلمة في ليلتها ، فقدته من الفراش فدخلها من ذلك ما يدخل النساء ، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتى انتهت اليه وهو في جانب من البيت رافعا يديه يبكي وهو يقول :

« اللهم لا تنزع مني صالح ما اعطيتني ابدا.

اللهم ولا تكلني الى نفسي طرفة عين ابدا.

اللهم لا تشمت بي عدوا ولا حاسدا ابدا.

اللهم لا تردني من سوء استنقذتني منه ابدا ».

فانصرفت ام سلمة تبكي حتى انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبكائها ، فقال لها ما يبكيك يا ام سلمة؟ فقالت : بابي انت وامي يا رسول الله ولِمَ لا ابكي وانت بالمكان الذي انت به من الله قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، تسأله ان لا يشمت بك عدوا ابدا ، وان لا يردك في سوء استنقذك منه ابدا ، وان لا ينزع منك

__________________

١ ـ ٢ ـ الكافي : ج ١ ص ٣٣.

٣٠٧

صالح ما اعطاك ابدا ، وان لا يكلك الى نفسك طرفة عين ابدا.

فقال : يا ام سلمة وما يؤمنني ، وانما وكل الله يونس بن متي الى نفسه طرفة عين فكان منه ما كان. (١)

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٣٨٤.

٣٠٨

( ١٩ )

حكم و مواعظ من حياة

من اخبار بني اسرائيل

٣٠٩
٣١٠

مواعظ وحكم من اخبار بني اسرائيل

خمسة من المنجيات :

... عن الهروي قال : سمعت علي بن موسى الرضا عليه‌السلام يقول : اوحى الله عزوجل الى نبي من انبياء :

اذا اصبحت فأول شيء يستقبلك فكله ، والثاني فاكتمه ، والثالث فاقبله ، والرابع فلا تؤيسه ، والخامس فاهرب منه ، قال : فلما اصبح مضى.

فاستقبله جبل اسود عظيم فوقف وقال : امرني ربي ان آكل هذا ، وبقي متحيرا ، ثم رجع الى نفسه فقال : ان ربي جل جلاله لا يامرني الا بما اطيق ، فمشى اليه لياكله ، فكلما دنا منه صغر حتى انتهى اليه فوجده لقمة ، فأكلها فوجدها اطيب شيء اكله.

ثم مضى فوجد طستا من ذهب فقال : امرني ربي ان اكتم هذا ، فحفر له وجعله فيه ، والقى عليه التراب ، ثم مضى فالتفت فاذا الطست قد ظهر ، فقال : قد فعلت ما امرني ربي عزوجل فمضى.

فاذا هو بطير وخلفه بازي فطاف الطير حوله فقال : امرني ربي ان اقبل هذا ، ففتح كمه فدخل الطير فيه.

فقال له البازي : اخذت صيدي وانا خلفه منذ ايام ، فقال : ان الله امرني ان لا اؤيس هذا ، فقطع من فخذه قطعة فالقاها اليه ثم مضى.

٣١١

فلما مضى اذا هو بلحم ميتة منتن مدوّد فقال : امرني ربي عزوجل ان اهرب من هذا ، فهرب منه ورجع.

وراى في المنام كانه قد قيل له : انك قد فعلت ما امرت به ، فهل تدري ماذا كان؟ قال : لا ، قال له اما الجبل : فهو الغضب ان العبد اذا غضب لم ير نفسه وجهل قدره من عظم الغضب ، فاذا حفظ نفسه وعرف قدره وسكّن غضبه ، كانت عاقبته كاللقمة الطيبة التي اكلتها.

واما الطست : فهو العمل الصالح ، اذا كتمه العبد واخفاه ، ابى الله عزوجل الا ان يظهره ليزينه به مع ما يدخر له من ثواب الآخرة.

واما الطير : فهو الرجل الذي ياتيك بنصيحة فاقبله واقبل نصيحته.

واما البازي : فهو الرجل الذي ياتيك في حاجة فلا تؤيسه.

واما اللحم المنتن : فهي الغيبة فاهرب منها (١).

عدل الله :

عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : مر نبي من انبياء بني اسرائيل برجل بعضه تحت حائط وبعضه خارج قد نقبته الطير ومزقته الكلاب ، ثم مضى فرفعت له مدينة فدخلها فاذا هو بعظيم من عظمائها ميت على سرير مسجى بالديباج حوله المجامير.

فقال : يا رب اشهد انك حكيم عدل لا تجور ، عبدك لم يشرك بك طرفة عين امته بتلك الميتة ، وهذا عبدك لم يؤمن بك طرفة عين امته بهذه الميتة.

قال الله عزوجل : عبدي : انا كما قلت حكم عدل لا اجور ، ذلك عبدي

__________________

١ ـ عيون الاخبار : ص ١٥٢ ، عنه البحار : ج ١٤ ص ٤٥٧.

٣١٢

كانت له عندي سيئة وذنب ، امته بتلك الميتة لكي يلقاني ولم يبقى عليه شيء.

وهذا عبدي كانت له عندي حسنة فامته بهذه الميتة لكي يلقاني وليس له عندي شيء. (١)

الموت رحمة :

عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : ان قوما فيما مضى قالوا لنبي لهم ادع لنا ربك يرفع عنا الموت ، فدعا لهم فرفع عنه الموت فكثروا حتى ضاقت عليهم المنازل وكثر النسل ، ويصبح الرجل يطعم اباه وجده وامه وجد جده ، ويوضئهم ويتعاهدهم ، فشغلوا عن طلب المعاش ، فقالوا : سل لنا ربك ان يردنا الى حالنا التي كنا عليها ، فسأل نبيهم ربه فردهم الى حالهم. (٢)

موعظة :

من مواعظ الامام امير المؤمنين عليه‌السلام للناس :

... ولكن الله سبحانه يختبر عباده بانواع الشدائد ، ويتعبدهم بالوان المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، اخراجا للتكبر من قلوبهم ، واسكانا للتذلل في نفوسهم ، وليجعل ذلك ابوابا فتحا الى فضله ، واسبابا ذللا لعفوه.

فالله الله في عاجل البغي ، وآجل وخامة الظلم ، وسوء عاقبة الكِبر ، فانها مصيدة ابليس العظمى ، ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة ، ... اما ابليس فتعصب على آدم عليه‌السلام لاصله ، وطعن عليه في خلقته فقال : انا ناريّ وانت طينيّ.

__________________

١ ـ كتاب المختصر للحسن بن سليمان : عنه البحار ١٤ ـ ٤٥٧.

٢ ـ الكافي : ١ ـ ٧٢.

٣١٣

واما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم ، ( وقالوا نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين ) (١).

فاذا كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الافعال ، ومحاسن الامور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ....

واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من العقوبات بسوء الافعال ، وذميم الاعمال ، فتذكروا في الخير والشر احوالهم ، واحذروا ان تكونوا امثالهم ، فاذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل امر لزمت العزة به شأنهم ، وزاحت الاعداء له عنهم ، « اي تباعدت الاعداء وزالت ».

وتدبروا احوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء ، الم يكونوا اثقل الخلائق اعباء؟ واجهد العباد بلاء ، واضيق اهل الدنيا حالا؟ اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب ، وجرعوهم المرار ، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة ، وقهر الغلبة ، لا يجدون حيلة في امتناع ، ولا سبيلا الى دفاع.

حتى اذا رأى الله جد الصبر منهم على الاذى في محبته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضائق البلاء فرجا ، فابدلهم العز مكان الذل ، والامن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكاما ، وائمة اعلاما ، وبلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال اليه بهم.

فانظروا كيف كانوا حيث كانت الاملاء مجتمعة ، والاهواء متفقة ، والقلوب معتدلة ، والايدي مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم وحدة ،

__________________

١ ـ سبا : ٣٥.

٣١٤

الم يكونوا اربابا من اقطار الارضين؟ وملوكا على رقاب العالمين؟

فانظروا الى ما صاروا اليه في آخر امورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتت الالفة ، واختلفت الكلمة والافئدة ، وتشعبوا مختلفين , وتفرقوا متحازبين ، قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقي قصص اخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين منكم ....

فاعتبروا بحال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل عليهم‌السلام ، فما اشد اعتدال الاحوال ، واقرب اشتباه الامثال ، تاملوا امرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الاكاسرة والقياصرة اربابا لهم يجتازونهم (١) عن ريف الآفاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا ، الى منابت الشيح (٢) ، ومهافي الريح ، ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين ....

فانظروا الى مواقع نعم الله عليهم حين بعث اليهم رسولا (٣) فعقد بملته طاعتهم ، وجمع على دعوته الفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها؟ واسالت لهم جداول نعيمها؟ والتفت الملة بهم في عوائد بركتها ، فاصبحوا في نعمتها غرقين ، وعن خضرة عشيها فكهين ... (٤)

ملاحظة :

ذكرنا مختصرا من خطبة الامام امير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة لاشتمالها على جمل قصص الانبياء عليهم‌السلام وعلل احوالهم ، والتنبيه على فائدة الرجوع الى قصصهم والنظر في احوالهم واحوال اممهم وغير ذلك من الفوائد

__________________

١ ـ اي يبعدونهم عن دجلة والفرات.

٢ ـ اي ارض العرب.

٣ ـ المراد به نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤ ـ الخطبة اختصرناها من نهج البلاغة : ١/٣٧٢ ـ ٣٩٥.

٣١٥

التي لا تحصى ولا تخفى على من تامل فيها.

الزوجة الحمقاء :

روي ان الله اوحى الى نبي من الانبياء في الزمن الاول : ان لرجل في امته دعوات مستجابة ، فأخبر به ذلك الرجل ، فانصرف من عنده الى بيته فأخبر زوجته بذلك.

فالحت عليه ان يجعل دعوة لها فرضي ، فقالت : سل الله ان يجعلني اجمل نساء الزمان ، فدعى الرجل فصارت كذلك ، ثم انها لما رأت رغبة الملوك والشبان المتنعمين فيها متوفرة زهدت في زوجها الشيخ الفقير وجعلت تغالظه وتخاشنه وهو يداريها ولا يكاد يطيقها.

فدعا الله ان يجعلها كلبة فصارت كذلك ، ثم اجمع اولادها يقولون : يا ابة ان الناس يعيرونا ان امنا كلبة نائحة ، وجعلوا يبكون ويسألونه ان يدعو الله ان يجعلها كما كانت ، فدعا الله تعالى فصيرها مثل التي كانت في الحالة الاولى ، فذهبت الدعوات الثلاث ضياعا. (١)

كفر العابد :

قال الطبرسي رحمه الله : عن ابن عباس قال : كان في بني اسرائيل عابد اسمه « برصيصا » عبد الله زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يده ، وانه اتي بامرأة في شرف قد جنت وكان لها اخوة بها وكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت ، فلما استبان حملها قتلها ودفنها ، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي احد اخوتها فأخبره بالذي

__________________

١ ـ دعوات الراوندي : عنه البحار ج ١٤ ص ٤٨٥.

٣١٦

فعل الراهب وانه دفنها في مكان كذا ، ثم اتى بقية اخوتها رجلا رجلا فذكر ذلك له ، وانتشر الخبر حتى بلغ ذلك ملكهم.

فسار الملك والناس فاستنزلوه فاقر لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلما رفع على الخشبة تمثل له الشيطان فقال : انا الذي القيتك في هذا ، فهل انت مطيعي فيما اقول لك اخلصك مما انت فيه؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف اسجد لك وانا على هذه الحالة؟ فقال : اكتفي منك بالايماء ، فاومأ له بالسجود ، فكفر بالله ، وقتل الرجل.

فاشار الله عزوجل الى قصته قائلا (١) ( كمثل الشيطان اذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال اني بريء منك اني اخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما انهما في النار خالدَين فيها وذلك جزاء الظالمين ) (٢).

العابد العاق :

... عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : كان في بني اسرائيل عابد يقال له « جريح » وكان يتعبد في صومعته فجاءته امه وهو يصلي فدعته فلم يجبها ، فانصرفت ، ثم اتته ودعته فلم يلتفت اليها فانصرفت ، ثم اتته فدعته فلم يجبها ولم يكلمها فانصرفت وهي تقول : اسأل اله بني اسرائيل ان يخذلك.

فلما كان في الغد جاءت امرأة زانية وكانت حامل وقعدت عند صومعته قد اخذها الطلق فادعت ان الولد من ـ جريح ـ ، ففشا في بني اسرائيل ان من كان يلوم الناس على الزنا قد زنى ، وامر الملك بصلبه ، فاقبلت امه اليهم تلطم وجهها ، فقال لها :

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٩ ـ ٢٦٥. عن قصص الجزائري : ٥١٦.

٢ ـ الحشر : ١٦ ـ ١٧.

٣١٧

اسكتي انما هذا لدعوتك ، فقال الناس لما سمعوا ذلك منه : وكيف لنا بذلك؟ قال : هاتوا الصبي ، فجاؤوا به فاخذه فقال : من ابوك؟ فقال : فلان الراعي للبني فلان ، فاكذب الله الذين قالوا ما قالوا في جريح ، فحلف جريح الا يفارق امه يخدمها (١).

العاقبة للمتقين :

روي انه كان رجل في بني اسرائيل يكثر قول : « الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين » فغاظ ابليس ذلك فبعث اليه شيطانا فقال : قل : العاقبة للاغنياء ، فجاءه فقال ذلك ، فتحاكما الى اول من يطلع عليهما على قطع يد الذي يحكم عليه ، فلقيا شخصا فاخبراه بحالهما ، فقال : العاقبة للاغنياء ، فقطع يده ، فرجع وهو يحمد الله ويقول : « العاقبة للمتقين » فقال له : تعود ايضا؟ فقال : نعم على يدي الاخرى ، فخرجا فطلع الآخر فحكم عليه ايضا ، فقطعت يده الاخرى ، وعاد ايضا يحمد الله ويقول : « العاقبة للمتقين ».

فقال له : تحاكمني على ضرب العنق؟ فقال : نعم ، فخرجا فرأيا مثالا فوقفا عليه ، فقال : اني كنت حاكمت هذا وقصا عليه قصتهما قال : فمسح يديه فعادتا ، ثم ضرب عنق ذلك الخبيث ، وقال : هكذا العاقبة للمتقين. (٢)

القاضي وهوى النفس :

روي انه كان قاض في بني اسرائيل وكان يقضي بالحق فيهم ، فلما حضرته الوفاة قال لامراته ، اذا مت فاغسليني وكفنيني وغطي وجهي ، وضعيني على

__________________

١ ـ قصص الانبياء للجزائري : ٥١٧.

٢ ـ نفس المصدر.

٣١٨

سريري ، فانك لا ترين سوء انشاء الله تعالى ، فلما مات فعلت ماكان امرها به ، ثم مكثت بعد ذلك حينا ، ثم انها كشفت عن وجهه فاذا دودة تقرض منخره ، ففزعت من ذلك.

فلما كان بالليل اتاها في منامها فقال لها : فزعت مما رأيتي؟ قالت : اجل ، قال : والله ما هو الا في اخيك.

وذلك انه اتاني ومعه خصم له ، فلما جلسا قلت : اللهم اجعل الحق له ، فلما اختصما كان الحق له ففرحت ، فاصابني ما رأيت لموضع هواي مع موافقة الحق له (١).

الدعاء بلسان بذيء :

كان رجلا في بني اسرائيل قد دعا الله ان يرزقه غلاما ، يدعو ثلاثا وثلاثين سنة ، فلما رأى ان الله تعالى لا يجيبه قال : يا رب ابعيد انا منك فلا تسمع مني ، ام قريب انت فلا تجيبني؟

فاتاه آت في منامه فقال له : انك تدعو الله منذ ثلاث سنين بلسان بذيء ، وقلب عات غير تقي ، وبنية غير صادقة ، فاقلع من بذائك ، وليتق الله قلبك ، ولتحسن نيتك ، قال : ففعل الرجل ذلك ثم دعا الله عزوجل فولد له غلام (٢).

القاضي والاخوة الثلاثة :

عن الثمالي عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : كان في بني اسرائيل رجل عاقل كثير المال ، وكان له ابن يشبهه في الشمائل من زوجة عفيفة ، وكان له ابنان من زوجة

__________________

١ ـ نفس المصدر.

٢ ـ اصول الكافي : ٢ ـ ٣٢٤.

٣١٩

غير عفيفة ، فلما حضرت الوفاة قال لهم : هذا مالي لواحد منكم ، فلما توفي قال الكبير : انا ذلك الواحد ، وقال الاوسط : انا ذلك الواحد ، وقال الاصغر : انا ذلك.

فاختصموا الى قاضيهم ، قال : ليس عندي في امركن شيء ، انطلقوا الى بني الاغنام الاخوة الثلاثة.

فانتهوا الى واحد منهم فرأوه شيخا كبيرا ، فقال لهم : ادخلوا الى اخي فلان فهو اكبر مني سنا فاسألوه ، فدخلوا عليه فخرج شيخ كهل فقال : سلوا اخي الاكبر مني سنا ، فدخلوا على الثالث فاذا هو في المنظر اصغر ، فسألوه اولا عن حاله ثم بينوا له عن حالهم فقال :

اما اخي الذي رأيتموه اولا هو الاصغر ، وان له امرأة سوء تسوؤه وقد صبر عليها مخافة ان يبتلي ببلاء لا صبر عليه فهرمته.

واما الثاني اخي فان عنده زوجة تسوؤه وتسره فهو متماسك الشباب.

واما انا فزوجتي تسرني ولا تسؤني ولم يلزمني منها مكروه قط منذ صحبتني فشبابي معها متماسك.

واما حديثكم الذي هو حديث ابيكم فانطلقوا اولا وبعثروا قبره ـ اي انبشوا قبره ـ واستخرجوا عظامه واحرقوها ثم عودوا لاقضي بينكم.

فانصرفوا فأخذ الصبي سيف ابيه ، واخذ الاخوان المعاول ، فلما ان هما بذلك قال لهم الصغير :

لا تبعثروا قبر ابي وانا ادع لكما حصتي ، فانصرفوا الى القاضي ، فقال : يقنعكما هذا ، ائتوني بالمال ، فقال للصغير : خذ المال ، فلو كانا ابنيه لدخلهما من الرقة كما دخل على الصغير. (١)

__________________

١ ـ البحار : ١٤ ـ ٤٩٠ عن الجزائري في القصص : ٥١٩.

٣٢٠