حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

مرتضى الميلاني

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

مرتضى الميلاني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-066-x
الصفحات: ٣٣٦

لعل الله يرزقنا ولدا يذكر الله تعالى فانا كبرنا.

فتعجب سليمان من كلامه وقال : هذه النية خير من مملكتي (١).

النملة والضفدعة :

ذكروا ان سليمان عليه‌السلام كان جالسا على شاطئ بحر فبصر بنملة تحمل حبة قمح تذهب بها نحو البحر ، فجعل سليمان ينظر اليها حتى بلغت الماء ، فاذا بضفدعة قد اخرجت رأسها من الماء ففتحت فاها فدخلت النملة فاها وغاصت الضفدعة في البحر ساعة طويلة وسليمان يتفكر في ذلك متعجبا.

ثم انها خرجت من الماء وفتحت فاها فخرجت النملة من فيها ولم يكن معها الحبة ، فدعاها سليمان عليه‌السلام وسألها عن حالها وشأنها واين كانت.

فقالت : يا نبي الله ان في قعر هذا البحر الذي تراه صخرة مجوفة وفي جوفها دودة عمياء ، وقد خلقها الله تعالى هنالك فلا تقدر ان تخرج منها لطلب معاشها ، وقد وكلني الله برزقها ، فانا احمل رزقها ، وسخر الله هذه الضفدعة لتحملني ، فلا يضرني الماء في فيها ، وتضع فاها على ثقب الصخرة وادخلها ، ثم اذا اوصلت رزقها اليها ، خرجت من ثقب الصخرة الى فيها فتخرجني من البحر.

فقال سليمان عليه‌السلام : وهل سمعت لها من تسبيحة؟ قالت : نعم ، تقول : يا من لا ينساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجة برزقك ، لا تنس عبادك المؤمنين برحمتك (٢).

قال الثعلبي في تفسيره : قالت النملة لسليمان عليه‌السلام :

هل علمت لم سمي ابوك داود؟ قال : لا ، قالت : لانه داوى جرحه بود ،

__________________

١ ـ دعوات الراوندي ، عنه البحار : ١٤ ـ ٩٧.

٢٦١

هل تدري لمَ سميت سليمان؟ قال : لا ، قالت : لانك سليم ركنت الى ما أوتيت لسلامة صدرك ، وآن لك ان تلحق بأبيك (١).

مواعظ من منطق الحيوانات

قال الراوي : وصاح ورشان (٢) عند سليمان ، فقال : اتدرون ما تقول؟ قالوا : لا ، قال : فانها تقول : لدوا للموت وابنوا للخراب.

وصاحت فاختة فقال : تقول : ليت الخلق لم يُخلقوا.

وصاح طاووس عنده فقال : اتدرون ما قال؟ قالوا : لا ، قال : فانه يقول : كما تدين تدان.

وصاح هدهد عنده فقال : انه يقول : من لا يَرحم لا يُرحم.

وصاح صرد (٣) عنده فقال : تقول : استغفروا الله يا مذنبين.

وصاح طوطي فقال : يقول كل حي ميت وكل جديد بال.

وصاح خطاف فقال : يقول قدموا خيرا تجدوه.

وهدرت حمامة فقال : تقول : سبحان ربي الاعلى ملء سماواته وارضه.

وصاح قمري فقال : يقول : سبحان ربي الاعلى.

قال : والغراب يدعو على العشار ، والحدأ (٤) يقول : كل شيء هالك الا وجهه ، والقطا (٥) يقول : من سكت سلم. والببغاء يقول : ويل لمن الدنيا همه.

__________________

١ ـ البحار : ١٤ ـ ٩٣.

٢ ـ وَرَشان : نوع من الحمام البري اكدر اللون فيه بياض فوق ذنبه.

٣ ـ صُرد : طائر ضخم الرأس ابيض البطن ، اخضر الظهر.

٤ ـ الحدأ : جمع حِداة ـ طائر من الجوارح.

٥ ـ القطاة : طائر بحجم الحمام.

٢٦٢

والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس.

والباز يقول : سبحان ربي وبحمده.

والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكل مكان.

وصاح دراج عند سليمان بن داود عليه‌السلام فقال : اتدرون ما يقول؟ قالوا : لا ، قال : فانه يقول : الرحمن على العرش استوى. (١)

قالت ام سليمان بن داود لسليمان عليه‌السلام : يا بني اياك وكثرة النوم بالليل فان كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرا يوم القيامة.

وقال سليمان عليه‌السلام لابنه : يا بني اياك والمراء فانه ليست فيه منفعة ، وهو يهيج بين الاخوان العداوة. (٢)

رد الشمس :

نقرأ في حياة النبي سليمان ايضا كثير من القصص الخيالية والمختلقة من قبل المنافقين ووعاظ السلاطين ، والجهلة والمخالفين ، وذلك من اجل المصالح المادية والشخصية ـ كما ذكرنا ـ ، لم نشغل فيها وقت وذهن القارئ العزيز في سردها ، وخاصة ونحن اليوم ومع تطور العلم وانفتاح الذهن ، اصبحت مثل تلك القصص الخيالية واضحة البطلان ولا يقبلها كل ذوعقل سليم.

نذكر هنا نموذج واحد من تلك الاقاويل والتفسيرات الباطلة ، والجواب عليها ، من قبل مولى الموحدين امير المؤمنين عليه‌السلام وذلك في تفسير قوله تعالى : ( ... حتى توارت بالحجاب * ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق ...

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٩٦. ٢ ـ تنبيه الخواطر : ٢ ـ ١٢.

٢٦٣

الخ ) (١).

فسرت هذه الآيات باشكال مختلفة ، حيث ان بعضها فسر بصورة سيئة معارضة لموازين العقل وصدورها من انسان عادي ، فكيف تَرد بحق نبي عظيم كسليمان عليه‌السلام !!

روى الطبرسي رحمه الله عن ابن عباس انه قال : سألت عليا عليه‌السلام عن هذه الآية ، فقال : ما بلغك فيها يا ابن عباس؟ فقلت : سمعت كعبا يقول : اشتغل سليمان بعرض الافراس حتى فاتته الصلاة ، فقال : ردوها علي يعني الافراس ، وكانت اربعة عشر ، فأمر بضرب سوقها واعناقها بالسيف فقتلها ، فسلبه الله ملكه اربعة عشر يوما لانه ظلم الخيل بقتلها.

فقال علي عليه‌السلام : كذب كعب ، لكن اشتغل سليمان بعرض الافراس ذات يوم لانه اراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب ، فقال بأمر من الله تعالى للملائكة الموكلين بالشمس : ردوها علي ، فردت فصلى العصر في وقتها ، وان انبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم لانهم معصومون مطهرون. (٢) فتأمل ... روي عن جابر عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : ان اسم الله الاعظم على ثلاث وسبعين حرفا ، وانما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالارض ما بينه وبين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الارض كما كانت اسرع من طرفة عين.

وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفا ، وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. (٣)

__________________

١ ـ ص : ٣٠ ـ ٣٣.

٢ ـ مجمع البيان : ٨ ـ ٤٧٥ ، البحار : ج ١٤ ص ١٠٣.

٣ ـ تفسير الميزان : ج ١٥ ص ٣٧٠.

٢٦٤

الهدهد وبلقيس :

يشير القرآن في هذا القسم من الآيات الى جانب آخر من حياة سليمان المدهشة ، وما جرى له مع الهدهد وبلقيس ملكة سبأ ، فيقول تعالى في كتابه المجيد :

( وتفقد الطير فقال ما لي لا ارى الهدهد ام كان من الغائبين ) (١).

كان سليمان عليه‌السلام دائما يتحرى اوضاع مملكته لئلا يخفى عليه شيء ، حتى لو كان طائرا واحدا.

وكان سليمان عليه‌السلام عندما يتحرك او يجلس للاستراحة ، تظلل الطير بانواعها فوق رأسه فتكون مثل الخيمة وبينما هو كذلك في احد الايام ، اذ رفع رأسه ونظر الى الطيور فلم يرى الهدهد وعرف غيابه وقال : ( ما لي لا ارى الهدهد ام كان من الغائبين ) (٢). اشارة الى انه هل الهدهد لم يحضر لعذر مقبول ام دون عذر موجه؟.

فبعد فترة عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان ، وعندما توجه نحوه احس بآثار الغضب في وجه سليمان ، ومن اجل ان يزيل ذلك الغضب ، اخبره بخبر مهم ، بحيث كان سليمان نفسه غير مطلع عليه برغم ما عنده من علم.

ولما سكن الغضب عن وجه سليمان ، اخبره الهدهد بالخبر وقال : ان غيابي لم يكن اعتباطا وعبطا ، بل جئتك بخبر يقين.

« ومما ينبغي الالتفات اليه ، ان جنود سليمان عليه‌السلام ـ حتى الطيور الممتثلة لاوامره ـ كانت عدالة سليمان قد اعطتهم الحرية والامن والدعة بحيث يكلمه الهدهد وغيره من الحيوانات ، دون خوف وبصراحة لا ستار عليها ».

__________________

١ ـ النمل : ٢٠ ـ ٤٤.

٢ ـ النمل : ٢٠.

٢٦٥

فان الهدهد اخذ يفصل لسليمان ما حدث ، ( فقال احطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين * اني وجدت امرأة تملكهم واوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ) (١).

ولما سمع سليمان كلام الهدهد طأطأ برأسه وغرق في تفكيره ، الا ان الهدهد لم يمهله طويلا فأخبره بخبر جديد ومزعج مريب ، اذ قال : ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ) (٢).

بعد ان اصغى سليمان الى كلام الهدهد بكل اهتمام ، وفكر مليا ، رفع رأسه ، وكتب كتابا وجيزا ذا مغزى عميق ، وسلمه الى الهدهد وقال له : ( اذهب بكتابي هذا فالقه اليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ) (٣).

ذهب الهدهد مسرعا الى قصر ملكة سبأ ، ودخل مخدعها والقى الكتاب اليها.

فتحت الكتاب واطلعت على مضمونه ، وحيث ان بلقيس كانت من قبل قد سمعت باخبار سليمان واسمه ، وكان الكتاب يدل على اقدامه وعزمه الشديد في شأن بلد سبأ ، وبعد ان فكرت مليا ، دعت من حولها من المستشارين والوزراء ، واخبرتهم بالكتاب ومضمونه وانه من سليمان ومختوم بخاتمه ، وطلبت منهم ان يحكموا بهذه المسألة المهمة والدقيقة وماذا يفعلون.

فالتفت اليها اشراف قومها وقالوا لها : ( نحن اولو قوة واولو بأس شديد والامر اليك فانظري ماذا تأمرين ) (٤).

__________________

١ ـ ٢ ـ النمل : ٢٢ ـ ٢٨.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ النمل : ٣٣ ـ ٣٤.

٢٦٦

فقد اظهروا لها تسليمهم واذعانهم لاوامرها ، كما ابدوا رغبتهم في الاعتماد على القوة والحرب.

ولما رأت الملكة رغبتهم في الحرب ، مع انها لم ترغب في ذلك ولم تَمِل اليه في الباطن ، لذلك قالت لهم ( ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة وكذلك يفعلون ) (١) فيقتلون جماعة منهم ويأسرون آخرين ويهجرونهم و ويُخرجونهم من ديارهم ويخربونها ، وذلك ان ملكة سبأ كانت هي بنفسها ملكة ايضا وتعرف الملوك بصورة جيدة ، حيث شأنهم الافساد والتخريب ، واذلال الاعزة.

ثم قالت للاشراف من قومها : علينا ان نختبر سليمان واصحابه ، لنعرف ماهم وما يريدون؟ وهل سليمان نبي حقا او ملك؟ وهل هو مصلح او مفسد ، وهل يريد العزة والكرامة للناس او الاذلال والحقارة ، فينبغي ان نرسل اليه هدايا غالية ، فاذا قبلها منا فانه ملك ، وينبغي ان نواجهه بالقوة ، واذا الح على كلامه ولم يقبل هديتنا ، فهو نبي ويجب ان نتعامل معه بحكمة وتعقل.

« يظهر من هذا ان الملوك كل تفكيرهم وانشداد قلوبهم الى الهدايا والجاه والمقام والذهب والمال ، ولا يفكرون الا في مصالحهم الشخصية ، ولا يفكرون في مصالح الامة ، في حين ان الانبياء والرسل لا يفكرون الا باصلاح اممهم وسعادتهم وتأمين مصالحهم المادية والمعنوية ».

توجه رُسُل ملكة سبأ بقافلة الهدايا نحو الشام ، وتركوا اليمن ورائهم قاصدين مقر سليمان في الشام ، ظنا منهم ان سليمان سيكون مسرورا بمشاهدته هذه الهدايا من المجوهرات والاموال والجواري والغلمان ... ويرحب بهم.

لكن لما وصلوا سليمان وواجهوه وجها لوجه ، حتى وقفوا مدهوشين امامه لعدم استقباله لهم بالشكل المطلوب فحسب بل قال : ( اتمدونن بمال

٢٦٧

فما آتاني الله خير مما آتاكم بل انتم بهديتكم تفرحون ) (١) فما قيمة المال ازاء مقام النبوة والعلم والهداية والتقوى ، بل انتم الذين تفرحون بالهدايا والزخارف الدنيوية الزائلة.

وبعد ذلك التفت الى رسول الملكة الذي جاء بالهدايا وقال له : ( ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها اذلة وهم صاغرون ) (٢) وهذا التهديد كان تهديدا جديا واخذه الرسول بعين الاعتبار.

واخيرا عاد رسل ملكة سبأ مع هداياهم الى ارضهم واخبروا الملكة بما شاهدوه وسمعوه ، كما بينوا عظمة ملك سليمان وجهاز حكومته ، ولم يكن كسائر الملوك ، بل هو مرسل من قبل الله ونبيا من انبياء الله العظام.

كما اتضح لهم جميعا انهم غير قادرين على مواجهته عسكريا ، لذلك قررت الملكة ان تأتي بنفسها مع اشراف قومها الى سليمان ، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليعرفوا اي مبدأ يحمله سليمان؟

فلما وصل الخبر وعلم سليمان بمجيء الملكة ، اراد ان يُظهر قدرته واعجازه لها من اجل ان يدعوهم الى الاسلام وعبادة الله فالتفت الى من حوله و ( قال يا ايها الملأ ايكم يأتيني بعرشها قبل ان يأتوني مسلمين ) (٣).

وهنا اظهر شخصان استعدادهما لامتثال طلب سليمان عليه‌السلام ، وكان الاول عجيبا والثاني اعجب اذ ( قال عفريت من الجن انا آتيك به قبل ان تقوم من مقامك واني عليه لقوي امين * قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك ) (٤).

__________________

١ ـ ٢ ـ النمل : ٣٦ ـ ٣٧.

٣ ـ النمل : ٣٨.

٤ ـ النمل : ٣٩ ـ ٤٠.

٢٦٨

فلا عجب من ذلك ، فان حياة الانبياء والائمة الاطهار عليهم‌السلام مملوءة بالعجائب والمعاجز الربانية.

واما الشخص الآخر الذي عنده علم من الكتاب هو « آصف بن برخيا » وزير سليمان وابن اخته ، الذي كان عارفا بالاسم الاعظم ، الاسم الذي يخضع له كل شيء ، ويمنح الانسان قدرة خارقة للعادة :

فلما نطق آصف بالاسم الاعظم انشقت الارض وظهر عرش بلقيس امام سليمان ومن كان معه جالسا ، فأمر سليمان ان يوجدوا تغييرات فيه ، من قبيل تبديل بعض علاماته ، من اجل ان يختبر عقل ملكة سبأ وذكائها ، هل تعرفه ام لا؟

فلما جاءت الملكة قيل لها : ( اهكذا عرشك قالت كأنه هو ... ) (١). اجابت جوابا دقيقا ، لا انكار فيه ولا تصديق ـ كأنه هو ـ

وبعد ذلك التفتت الى سليمان وقالت له : اذا كان مرادك من هذا الاعجاز ـ او من هذه المعجزة ـ ان نؤمن بك ونصدقك ، فانا كنا مؤمنين حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة !

وهكذا فان سليمان منعها من عبادة الاصنام وعبادة غير الله تعالى ، فأسلمت ، وخطت خطوة جديدة من الحياة المملوءة بنور الايمان واليقين.

قامت الملكة لتدخل القصر الذي هيئه لها سليمان وكان قد امر ان تصنع في احدى ساحات القصر من قوارير ، وان يجري الماء من تحتها.

فلما وصلت الملكة الى ذلك المكان ، وارادت ان تدخل حَسِبته ماء ، فرفعت ثيابها وكشفت عن ساقيها ، ولكن سرعان ما قال لها سليمان : ( انه صرح

__________________

١ ـ النمل : ٤٢.

٢٦٩

ممرد من قوارير ) وحيثما رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع وانتبهت الى نفسها ( قالت رب اني ظلمت نفسي واسلمت مع سليمان لله رب العاليمن ) (١).

وقالت : لقد كنت فيما مضى اسجد للشمس واعبد الاصنام ، وكنت غارقة في الزينة والتجمل ، وكنت اتصور اني اعلى الناس في الدنيا.

اما الآن فانني افهم انني ضعيفة جدا ، وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الانسان ولا تبل غليل روحه !

رباه ... اتيتك مع قائدي سليمان ، نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي اليك.

« صحيح ان ملكة سبأ كانت قد اعلنت ايمانها قبل هذا ، ولكن هنا كررت ايمانها واكدت اسلامها مرة اخرى مما رأت ».

لم يشر القرآن الكريم الى اكثر من هذا ، ولم يذكر بعد هذا عن مصير ملكة سبأ ، هل رجعت الى وطنها ، او بقيت عند سليمان وتزوجت منه؟ او تزوجت من غيره؟

هذه الامور لم يشير اليها القرآن ، ولكن المؤرخين والمفسرين اختلفوا في ذلك ، كل منهم اختار رأيا.

وطبقا لما قاله اغلب المفسرين ، انها تزوجت من سليمان نفسه ... والله العالم.

سيرة سليمان 7 :

ان ماورد عن سيرة سليمان عليه‌السلام في القرآن الكريم ، يكشف لنا عن مسائل كثيرة ذكرناها في بحثنا هذا ، وهناك مسائل كثيرة ايضا لم يسعنا المجال لذكرها

__________________

١ ـ النمل : ٤٤.

٢٧٠

بل نختصر على البعض منها :

١ ـ ان هذه القصة تبدأ بالحديث عن موهبة سليمان عليه‌السلام وعلمه الوافر التي وهبها الله لسليمان بن داود عليهما‌السلام ، وتنتهي بالتسليم لامر الله ، وتوحيده.

٢ ـ وتدل القصة على ان هذا الطائر والمخلوق الصغير يمكنه احيانا ان يغير مسير تاريخ امة ، وينقذها من الفساد الى الصلاح ، ومن الشرك الى الايمان ، وهذا مثل عن بيان قدرة الله ، وحكومة الحق.

٣ ـ هداية الانسان وتدمير غروره وكبرياءه ، واماطة ستار الظلام عن وجه الانسان ، كما فعل سليمان ، فدمر نمرود وكبرياء ملكة سبأ باحضار عرشها ، وادخالها الصرح الممرد الذي حسبته لجة.

٤ ـ ان الهدف من حكومة الانبياء ـ والحكومة الاسلامية ـ ليس التوسع في رقعة الارض ـ اي التوسع المادي ، بل التوسع المعنوي ـ بل الهدف هو : ان يعترف الظالم بذنبه ، وان يسلم لرب العالمين ، وينتشر السلم والامان والحرية والسعادة في ربوع العالم على النهج السماوي.

٥ ـ قد يحتاج الانسان في بعض الاحيان الى موجود صغير وضعيف كالطائر مثلا ويستعين عليه بعلمه وعمله ، مع ما لديه من قوة وقدرة ومعرفة في امور كثيرة ، ولكنه يبقى محتاج الى غيره ... فتامل.

٦ ـ كان سليمان عليه‌السلام يأكل من كسب يده ، وكان كثير الغزو.

واعطاه الله القدرة انه لا يتكلم احد بشيء الا حملته الريح اليه فيعلم ما يقول.

وكذلك اليوم ، وفي زماننا هذا ، من في المغرب يسمع من في المشرق ويتكلم معه بواسطة الريح وعن طريق ، السلك واللاسلك ، وغير ذلك من العلوم المتطورة والاكتشافات الغريبة.

٢٧١

وفاة النبي سليمان عليه‌السلام :

( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) (١).

قال سليمان بن داود عليهما‌السلام ذات يوم لاصحابه : ان الله تبارك وتعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي سخر لي الريح والانس والجن والطير والوحوش ، وعلمني منطق الطير ، وآتاني من كل شيء ، ومع جميع ما اوتيت من الملك ماتم لي سرور يوم الى الليل.

وقد احببت ان ادخل قصري في غد ، فاصعد اعلاه وانظر الى ممالكي ، فلا تأذنوا لاحد علي لئلا يرد علي ما ينغص علي يومي.

قالوا نعم : فلما كان من الغد اخذ عصاه بيده وصعد الى اعلى موضع في القصر ، ووقف متكئا على عصاه ينظر الى ممالكه مسرورا بما اوتي فرحا بما اعطي.

وبينما هو كذلك اذ نظر الى شاب حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا القصر ، فلما بصر به سليمان عليه‌السلام قال له : من ادخلك الى هذا القصر وقد اردت ان اخلو فيه اليوم؟ فباذن من دخلت؟

فقال الشاب : ادخلني هذا القصر ربه وباذنه دخلت ، فقال : ربه احق به مني ، فمن انت؟ قال : انا ملك الموت ، قال : وفيما جئت؟ قال : جئت لاقبض روحك ، قال : امض لما امرت به فهذا يوم سروري ، وابى الله ان يكون لي يوم سرور دون لقائه.

__________________

١ ـ سبأ : ١٤.

٢٧٢

فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه ، فبقي سليمان عليه‌السلام متكئا على عصاه وهو ميت ما شاء الله ـ وقيل سنة ـ والناس ينظرون اليه وهم يقدرون انه حي ، وكان الجن كذلك ينظر اليه ويعملون له.

وبعد مدة من الزمن بعث الله عزوجل « الارضة » فدبت في عصاه ، فلما اكلت جوفها انكسرت العصا وخر سليمان عليه‌السلام من قصره على وجهه ميتا.

وعلمت الجن بعد ذلك ما التبس عليهم انهم لا يعلمون الغيب ، ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب ، وشكرت الجن الارضة ما صنعت بعصا سليمان ، فما تكاد تراها في مكان الا وعندها ماء وطين.

وقيل ان سليمان عليه‌السلام عاش سبعمائة سنة واثنى عشر سنة ، (١) وقيل اقل من هذا ، وروي ان سليمان عندما توفي دفن الى جنب قبر ابيه داود ، وكان له من العمر يوم ملك اثنتا عشرة سنة ، فمات وله اثنتان وخمسون سنة والله العالم. (٢)

اتضح لنا كيف ان رجلا بكل هذه القدرة والعظمة كان امام الموت ضعيفا لا حول له ولا قوة ، بحيث فارق الدنيا فجاة وفي لحظة واحدة.

وكيف ان الاجل لم يعطه حتى فرصة الجلوس او الاستلقاءعلى سريره.

هذه عبرة وموعظة لمن يتعض البعض حينما يبلغون مقاما او منصبا ان قد اصبحوا مقتدرين حقيقة ، فان المقتدر الحقيقي ، ذلك الذي كان الجن والانس والشياطين خدما بين يديه ، ذلك الذي كان يجول في الارض والسماء ، والذي بلغ قمة الهيبة والحشمة ، ثم في لحظة واحدة قصيرة ـ كزبد البحر ـ فارق الدنيا ... فتامل.

__________________

١ ـ كمال الدين ، عنه البحار : ج ١٤ ص ١٤٠.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ص ٦٠.

٢٧٣
٢٧٤

( ١٧ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي زكريا ويحيى عليهما‌السلام

٢٧٥
٢٧٦

قصة زكريا ويحيى عليهما‌السلام

قال تعالى : ( هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة انك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ) (١).

استجابة دعاء زكريا :

قيل : ان زوجة زكريا ، واسمها : « اليصابات » (٢) وام مريم زوجة عمران واسمها « حنة » كانتا اختين ، وكانتا عاقرين ، وعندما رزقت ام مريم بلطف من الله هذه الذرية الصالحة ، ورأى زكريا خصائصها العجيبة حيث كان كلما يدخل على مريم في محرابها يجد عندها طعام ، فسالها : من اين لك هذا قالت هو من عند الله ، فعند ذلك تمنى زكريا ان يرزقه الله ذرية صالحة وطاهرة وتقية مثل مريم.

وعلى الرغم من كبر سن زكريا وزوجته ، حيث كانت عاقرا ايضا كان يستحيل من الناحية الطبيعية ان يرزقا طفلا ، لكن زكريا لم يستبعد من حصوله

__________________

١ ـ آل عمران : ٣٨ ـ ٣٩.

٢ ـ وقيل اسمها « اشياع بنت فاقوذ » الكامل في التاريخ ج ١ ص ١٩٧.

٢٧٧

على طفل مع شيخوخته ، لذلك راح يتضرع الى الله ويدعو ويصلي في محرابه لطلب الولد.

ولم يمضي وقت طويل حتى اجاب الله دعاء زكريا ، فبينما كان يعبد الله في محرابه ، نادته الملائكة وقالت : ان الله يبشرك بمولود اسمه ـ يحيى ـ وسوف يؤمن بالمسيح عيسى ويشد ازره ، وسيصبح من حيث العلم والعمل قائدا للناس وسيدا وحصورا ، اي يضع نفسه في المحاصرة والمراقبة ويمتنع عن الشهوات المادية ، وسيكون ايضا من الانبياء والصالحين.

فلما سمع زكريا قول الملائكة ، استولى عليه العجب والحيرة ، فقال لدى سماعه بشارة الملائكة ، كيف يمكن ان يولد لي ولد وانا في هذا السن من الشيخوخة ، ثم ان زوجتي عاقرا لا تلد.

فجاءه الجواب : ان الله يفعل ما يشاء وبيده كل شيء.

كم هو جميل ورائع ان يستجيب الله دعاء عبده بهذه الصورة ، ويبشره على تحقيق مراده ، ويعطيه مولودا ذكرا في مقابل طلب الولد ، ويسميه ايضا بنفسه تعالى ، ولم يسبقه احد بهذا الاسم : « لم نجعل له من قبل سميا ».

وكان قبل هذا قد طلب زكريا ايضا من الله ان يجعل له آية وامارة وعلامة وكان يريد ان يمتليء قلبه بالايمان : ( قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاثة ايام الا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار ) (١).

اجاب الله طلب زكريا هذا ايضا ، وعين له علامة ، وهي ان يكف لسانه عن الكلام ثلاثة ايام ، فلم يقدر على المحادثة العادية ، ولكن لسانه كان ينطق بذكر الله والتسبيح فقط ، ويستطيع ان يخاطب الناس بالايماء في الامور الضرورية.

__________________

١ ـ آل عمران : ٤١.

٢٧٨

بعد هذه البشارة والآية الواضحة ، خرج زكريا من المحراب الى الناس فكلمهم بالاشارة ( فخرج على قومه من المحراب فأوحى اليهم ان سبحوا بكرة وعشيا ) (١). هذا بالاضافة الى انه كان يسبح الله ، كذلك طلب من القوم ان يسبحوا لله ويشكروه من اجل ان تقوى اسس الايمان في قلوب الناس.

وروي ان زكريا عليه‌السلام سأل ربه ان يعلمه اسماء الخمسة ، فاهبط عليه جبرئيل عليه‌السلام فعلمه اياها ، فكان زكريا عليه‌السلام اذا ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليا وفاطمة والحسن عليهم‌السلام وانكشف عنه همه وانجلى كربه ، واذا ذكر اسم الحسين عليه‌السلام خنقته العبرة ووقعت عليه الزفرة وتشايع النفس.

فقال ذات يوم : الهي ما بالي اذا ذكرت اربعة منهم تسليت باسمائهم من همومي ، واذا ذكرت الحسين عليه‌السلام تدمع عيني وتثور زفرتي ، فانبأه الله تعالى عن قصة كربلاء وما يجري على الحسين عليه‌السلام وعترته الطاهرة ... (٢)

كفيل مريم عليها‌السلام :

فلما ولدت مريم بنت عمران عليها‌السلام ، وتنافس فيها الرهبان في من يكفلها لانها كانت بنت امامهم ونبيهم ، فقال زكريا : انا اكفلها ، انا احق بها لان خالتها عندي ، لان عمران كان متزوجا « بجنة بنت فاقوراء » ، وكان زكريا متزوجا باختها « اشاع بنت فاقوراء » وكان زكريا رئيس الرهبان فقال الرهبان نقترع عليها ، فاقترعوا فوقعت القرعة على زكريا فاخذها وكفلها وضمها الى خالتها ام يحيى واسترضع لها حتى كبرت.

فكان زكريا كلما يدخل على مريم يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف

__________________

١ ـ مريم : ١١.

٢ ـ البحار : ج ١٤ ص ١٧٨.

٢٧٩

وفاكهة الصيف في الشتاء ، فسالها من اين لك هذا؟ قالت : هو من عند الله ، فلما رأى زكريا ذلك منها دعى الله عزوجل وطلب منه الولد ، فقال : ان الذي فعل بمريم هذا الفعل ورزقها الفاكهة قادر على ان يصلح زوجتي حتى تلد ! فرزقه الله يحيى.

وكان عمر زكريا عليه‌السلام لما ولِد يحيى عليه‌السلام ، مائة وعشرين سنة وكانت امرأته عمرها ، ثمان وتسعين سنة.

شهادة زكريا :

لم يذكر في القرآن كيف توفي زكريا عليه‌السلام ، وكيفية ارتحاله ، ولكن وردت اخبار متكاثرة من طريق العامة والخاصة ، ان قومه قتلوه ، وذلك ان اعداءه قصدوه ليقتلوه فهرب منهم والتجأ الى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثم التامت ، فدلهم الشيطان عليه وامرهم ان ينشروا الشجرة بالمنشار ، ففعلوا وقطعوه نصفين ، فقتل عليه‌السلام عند ذلك ، ثم بعث الله عزوجل الملائكة فغسلوا زكريا وصلوا عليه ودفنوه.

ولادة يحيى عليه‌السلام :

قال تعالى :

( يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) الى ان قال تعالى : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ) (١).

لقد من الله عزوجل على زكريا عند كبره بيحيى ، وبعد ذلك صدر الامر

__________________

١ ـ مريم : ٧ : ١٢.

٢٨٠