حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

مرتضى الميلاني

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ج ٢

المؤلف:

مرتضى الميلاني


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-465-066-x
الصفحات: ٣٣٦

( ١٥ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي داوود عليه‌السلام

٢٢١
٢٢٢

قصة النبي داود عليه‌السلام

قال الله تعالى في كتابه الكريم : ( يا داوود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله ... ) (١).

من هو داود؟

نبي الله داود عليه‌السلام احد كبار انبياء بني اسرائيل ، وقد كان حاكما لدولة كبيرة ، وقد ورد ذكر مقامه العالي في عدة آيات من القرآن الكريم.

داود عليه‌السلام الذي منحه الله قدرة واسعة ، حتى ان الجبال والطيور كانت مسخرة له ، ويسبحن معه حيث يقول تعالى : ( انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق * والطير محشورة كل له اواب ) (٢).

من نعم الله عزوجل على داود ان سخر له بكل مجاميع الطيور كي تسبح الله معه ، وكذلك الجبال مسخرة لداود ومطيعة لاوامره وتسبح معه البارئ عزوجل ، وتعود اليه « كل له اواب » اي كلها تعود الى داود بعدما ترتحل من اماكنها.

اراد الله عزوجل ان يواسي النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما آذاه المشركون

__________________

١ ـ ص : ٢٦.

٢ ـ ص : ١٨ ـ ١٩.

٢٢٣

وعبدة الاصنام في مكة والمدينة ، فضرب له الامثال وقال عزوجل : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الايد انه اواب ) (١).

فداود مع هذه القدرة العظيمة التي منحها اياه رب العالمين ، لم يسلم من تجريح الآخرين ، وفي هذا الكلام مواساة لخواطر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ان هذه المسالة لم تنحصر بك يا رسول الله فقط ، وانما شاركك فيها كبار الانبياء عليهم‌السلام ايضا.

وروي انه لما مات النبي طالوت ، وكان اسمه « شاول » ايضا ، ملك داود على بني يهوذا ، وكان لداود نسوة قد ولدن منه اولادا.

واجتمعت بنو اسرائيل من الاسباط على تمليك داود فملكوه بعد سبع سنين ملكها على بني يهوذا خاصة ، وهي بيت المقدس ، وبنى بها منزلا ، وتزوج النساء ، فولد له بعد ان ملك اولاد كثيرين ، وعز ملكه ، واعظمته بنو اسرائيل ، وكان سليمان افضل ولده ، واصبح نبيا بعد ابيه.

وكان داود عليه‌السلام شجاعا وقاتل في معارك كثيرة وحروب قوية منها : قتاله مع الحنفاء فهزمهم ، وقاتل اهل مؤاب وهزمهم ، وقاتل اد دازار ملك سوبا فهزمه ، واخذ له الف مركب وسبعة آلاف من الخيل.

وعندما اجتمع اهل الشام ودمشق ليقتلوا داود ، فقتل منهم ـ اثنين وعشرين الفا ، واستحوذ على الارض ، فكان اهل الشام جميعا عبيدا له. (٢)

اما من حيث قدرته السياسية ، فقد كانت حكومته قوية ، ومستعدة دائما لمواجهة الاعداء بكل قوة واقتدار ، حتى قيل ان الآلاف من جنده كانت تقف على اهبة الاستعداد من المساء حتى الصباح في اطراف محراب عبادته.

__________________

١ ـ ص : ١٧.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ص ٥١.

٢٢٤

ومن حيث قدرته الاخلاقية والمعنوية والعبادية ، فانه كان يقوم معظم الليل في عبادة الله ، ويصوم نصف ايام السنة.

واما من حيث النعم الالهية ، فقد انعم الله عليه بالكثير من النعم الظاهرية والباطنية.

وخلاصة القول : ان داود عليه‌السلام كان رجلا ذا قوة وقدرة في الحروب والعبادات والعلم والمعرفة والسياسة ، وكان ايضا صاحب نعمة كبيرة.

قضاء النبي داود عليه‌السلام :

كان داود عليه‌السلام ذا علم واسع ومهارة فائقة في امر القضاء ، واراد الله سبحانه وتعالى ان يمتحنه ، فارسل له شخصين تسورا عليه جدار محرابه ليحتكما عنده ، كما ذكرت لنا الآيات المباركة من سورة « ص » من آية ٢١ ـ ٢٥ ، حيث قال تعالى : ( وهل اتاك نبأ الخصم اذ تسوروا المحراب ، ... الخ ) (١).

وذلك عندما كان داود عليه‌السلام في محرابه ، وكان محاطا باعداد كبيرة من الجند والحرس ، فاذا برجلان تسورا جدران المحراب ودخلا عليه من دون استئذان ومن دون علم مسبق ووقفا امامه فجاة ، ففزع داود عند رؤيتهما ، وظن انهم يكنون له السوء.

الا انهما عمدا بسرعة الى تطييب نفسه واسكان روعه وقالا له : لا تخف نحن متخاصمان تجاوز احدنا على الآخر ، فاحكم بيننا وارشدنا الى الطريق الصحيح.

وطرح احدهما المشكلة فورا على داود عليه‌السلام وقال : هذا اخي ، يمتلك

__________________

١ ـ ص : ٢١ ـ ٢٥.

٢٢٥

(٩٩) نعجة ، وانا لا امتلك الا نعجة واحدة ، وانه يصر علي ان اعطيه نعجتي ليضمها الى بقية نعاجه ، وقد شدد علي القول واغلظ.

وهنا وبسرعة التفت داود عليه‌السلام الى المدعي وقبل ان يستمع كلام الآخر واصدر الحكم وقال :

من البديهي انه ظلمك بطلبه ضم نعجتك الى نعاجه. وبعد اصدار الحكم خرج المتخاصمان وغادرا المكان بدون كلام واعتراض.

وبعد خروجهما غرق داود عليه‌السلام في التفكير ، رغم انه كان يعتقد انه قضى بالعدل بين المتخاصمين ، فلو كان الطرف الثاني مخالفا لادعاءات الطرف الاول ، لكان قد اعترض عليه ، اذن فسكوته هو خير دليل على ان القضية هي كما طرحها المدعي.

ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود ان يتريث في اصدار الحكم ولا يتعجل ، وكان عليه ان يسأل من الطرف الثاني ايضا ثم يحكم بينهما ، فلذا ندم كثيرا على عمله هذا ، وظن انما فتنه الباري عزوجل بهذه الحادثة. ( وظن داود انما فتناه ).

وهنا ادركته طبيعته ، حيث انه اواب ، رجع الى ربه طالبا منه العفو والمغفرة وخر راكعا وساجدا تائبا الى الله العزيز الحكيم.

وبعد ذلك شمله الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته وعفا عنه زلته من حيث ترك العمل بالاولى ، وان له منزلة رفيعة عند الله ، كما توضحه الآية المباركة :

( فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مآب ) (١).

كانت هذه الحادثة من جملة الحوادث التي امتحن الله عزوجل بها انبيائه

__________________

١ ـ ص : ٢٥.

٢٢٦

ورسله ، في الواقع مثل هذه الابتلاءات والامتحانات لا تقلل شيئا من شأن ومقام الانبياء والرسل ، بل تزيدهم ايمانا واعتقادا بالله تعالى.

وفي نفس الوقت هي دروس وعبر وتجارب لنا جميعا نستفيد منها ونعتبر بها ، من اجل سعادتنا وسعادة الامة في الدنيا والآخرة ، فاعتبروا يا اولي الابصار ...

ملاحظات :

مع كل الاسف نرى ان اعداء الله من المنافقين والمخالفين من جهة ، والجهلة من جهة اخرى ، بالاضافة الى مؤلفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائما قصص عجيبة وكاذبة من اجل المصالح المادية والسياسية ، قد لعبت اياديهم الخائنة والنفوس الحقودة على الاسلام والمسلمين ، والتي ذكرت في كتب الانجيل والتوراة والزبور المحرفة ، القصص العجيبة والغريبة في حق الانبياء العظام.

ولو طرحت مثل هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والادراك ، لأعترف بان قصص التوراة المحرفة حاليا ، ماهي الا خرافات ، وان اعداء الدين واعداء الانبياء هم الذين صاغوا مثل هذه الخرافات ، وعلى هذا قررنا عدم ذكر مثل هذه القصص والحكايات الباطلة والضعيفة سندا.

وقد وردت جملة من الاحاديث عن الائمة الاطهار عليهم‌السلام ، في تكذيب وبشدة تلك القصص الخرافية والقبيحة الواردة في التوراة ، ونذكر منها ماورد في قصة النبي داود عليه‌السلام :

روي عن الامام امير المؤمنين عليه‌السلام يقول فيما روي عن قصة داود عليه‌السلام والمرأة الجميلة ، او قصة زواجه مع زوجة « اوريا » ، وغير ذلك.

٢٢٧

قال عليه‌السلام فيه : « لو اوتي برجل يزعم ان داود تزوج امرأة اوريا الا جلدته حدين ، حدا للنبوة وحدا للاسلام » (١).

وقد ذكرت قصة داود عليه‌السلام والطائر في مجلس المأمون وبحضور الامام الرضا عليه‌السلام ، وعندما سمع الامام عليه‌السلام الكلام ، ضرب على جبهته وقال : « انا لله وانا اليه راجعون ، لقد نسبتم نبيا من انبياء الله الى التهاون بصلاته حتى خرج في اثر الطير ، ثم بالفاحشة ، ثم بالقتل ».

فسئل الامام الرضا عليه‌السلام : يا ابن رسول الله ، ما كانت خطيئة النبي داود عليه‌السلام؟

فقال : « ويحك ان داود عليه‌السلام انما ظن انه ما خلق الله خلقا هو اعلم منه ، فبعث الله عزوجل اليه الملكين فتسورا المحراب ، ـ وتخاصما عنده ـ فعجل داود على المدعى عليه فقال : « لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه » ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ، ولم يقل للمدعي عليه : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، لا ماذهبتم اليه ، الا تسمع الله عزوجل يقول : ( يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ).

فقال : يابن رسول الله فما قصته مع اوريال؟

قال الرضا عليه‌السلام : « ان المرأة في ايام داود كانت اذا مات بعلها او قتل لا تتزوج بعده ابدا ، فأول من اباح الله عزوجل له ان يتزوج بامرأة قتل بعلها داود عليه‌السلام ، فتزوج بامرأة اوريا لما قتل وانقضت عدتها ، فذلك الذي شق على الناس من قتل اوريا » (٢).

يستفاد من هذا الحديث ، ان داود عليه‌السلام نفذ ما جاء في الرسالة الالهية ، الا ان اعداء الله والجهلة ، حرفوا الكلام عن مواضعه.

__________________

١ ـ مجمع البيان في آيات البحث ، عنه الامثل تفسير سورة ص.

٢ ـ عيون الاخبار ، ما نقله نور الثقلين : ج ٤ ص ٤٤٥.

٢٢٨

فهل يمكن ان ينتخب البارئ عزوجل شخصا ينظر الى شرف المؤمنين والمقربين منه بعين خؤونة ، ويلوث يده بدم الابرياء ، خليفة له في الارض ، ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!

هذا وقد استخدمت التوراة عبارات يجل القلم عن ذكرها ، لهذا نصرف النظر عنها.

وروي ان داود عليه‌السلام لما تزوج بامرأة اوريا بعد وفاة زوجها ، ولدت له سليمان عليه‌السلام واصبح نبيا بعد ابيه.

هذا ايضا دليل آخر على صحة زواج داود عليه‌السلام من امرأة اوريا ، وكما امره الله تعالى بذلك ، لان الانبياء يولدون من ارحام طاهرة مطهرة ، وكلهم معصومون ومنزهون عن السهو والخطا. (١)

الصفات العشرة

١ ـ الله سبحانه وتعالى يأمر نبي الاسلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رغم مكانته العالية بان يتخذ من داود اسوة له في تحمل الصبر ، وذلك في قوله تعالى : ( اصبر على ما يقولون واذكر ... ) (٢).

٢ ـ القرآن وصف داود عليه‌السلام بالعبد ، وفي الحقيقة ان اهم خصوصية لداود هي : عبوديته لله ، قال تعالى ( عبدنا داود ) ونقرا شبيه هذا المعنى بشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسألة المعراج ( سبحان الذي اسرى بعبده ... ) (٣).

٣ ـ امتلاكه للقدرة والقوة ، في طاعة الباري عزوجل والاحتراز عن

__________________

١ ـ راجع كتاب تنزيه الانبياء عليهم‌السلام للشريف المرتضى.

٢ ـ ص : ١٧.

٣ ـ الاسراء : ١.

٢٢٩

ارتكاب المعاصي وحسن تدبيره لشؤون مملكته ، في قوله تعالى : ( ذا اليد ) وجاءت ايضا بشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( هو الذي ايدك بنصره وبالمؤمنين ) (١).

٤ ـ وصفه بالاواب ، ونفي رجوعه المتكرر والمستمر الى الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى : ( انه اواب ).

٥ ـ تسخير الجبال معه لتسبح في الصباح والمساء ، وهذا الأمر يعد من مفاخره، قال تعالى :(انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق).

٦ ـ مناجاة الطيور وتسبيحها الله مع داود ، وهذه من النعم التي انعمها الله على داود ، قال تعالى : ( والطير محشورة ).

فكل الطيور والجبال مسخرة لداود ومطيعة لاوامره ، وتسبح معه ، حتى الحديد الانه الله له يعمل وينسج منه الدروع ، ( ... والنا له الحديد )(٢).

٧ ـ استمرار الجبال والطيور في التسبيح مع داود ، وفي كل مرة يسبح فيها تعود الجبال والطيور وتسبح معه ، وعلى هذا قال تعالى : ( كل له اواب ) تسبح الله عزوجل وتعود اليه.

واحتمال آخر هو : ان كل ذرات العالم تعود اليه ومطيعة لاوامره تعالى.

٨ ـ اعطاه الله الملك والحكومة التي احكمت اسسها ، اضافة الى وضع كل الوسائل المادية والمعنوية التي يحتاجها لنيل اهدافه تحت تصرفه ، قال تعالى : ( وشددنا ملكه ) اي ثبتنا واحكمنا مملكته ، بحيث كان الاعداء يحسبون لمملكته الف حساب.

٩ ـ منحه ثروة مهمة اخرى ، وهي العلم والمعرفة التي تفوق الحد الطبيعي ، والتي هي منبع خير كثير ومصدر كل بركة واحسان اينما كانت ، قال تعالى :

__________________

١ ـ الانفال : ٦٢.

٢ ـ سبأ : ١٠.

٢٣٠

( وآتيناه الحكمة ) الحكمة التي يقول بشانها القرآن المجيد : ( ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا ) (١) ، وتعني العلم والمعرفة وحسن التدبير في امور البلاد ومقام النبوة والحكومة.

١٠ ـ واخيرا فقد من الله عليه بمنطق قوي وحديث مؤثر ونافذ ، وقدرة كبيرة على القضاء والتحكيم بصورة حازمة وعادلة ، قال تعالى : ( وفصل الخطاب ).

وقد استخدمت عبارة « فصل الخطاب » لانه كلمة الخطاب تعني اقوال طرفي النزاع ، اما « فصل » فانها تعني القطع والفصل ، وتعني هذه العبارة : قضاء بالعدل ، والمنطق القوي والتفكر العميق وسموه.

حقا ان اسس اي حكومة لا يمكن ان تصبح محكمة وقوية ومنتصرة بدون هذه الصفات : العلم ، والمنطق ، وتقوى الله ، والقدرة على ضبط النفس ، ونيل مقام العبودية لله تعالى ....

وروي ان معنى « داود » انه داوى جرحه بود وقيل : داوى وده بالطاعة حتى قيل عبد.

وعن ابي جعفر عليه‌السلام قال : ان الله تبارك وتعالى لم يبعث الانبياء ملوكا في الارض الا اربعة بعد نوح : ذو القرنين واسمه عياش ، وداود ، وسليمان ، ويوسف عليهم‌السلام. (٢)

وعنه عليه‌السلام قال : اوحى الله تعالى الى داود عليه‌السلام انك نعم العبد لولا انك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا. (٣)

قال : فبكى داود عليه‌السلام فأوحى الله تعالى الى الحديد ان لن لعبدي داود ،

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٩.

٢ ـ ٣ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ٣٧٨ و٣٨٣.

٢٣١

فالان الله له الحديد ، فكان يعمل كل يوم درعا فيبيعها بالف درهم ، فعمل ثلثمائة وستين درعا ، فباعها بثلثمائة وستين الفا ، واستغنى عن بيت المال. (١)

حزقيل وداود عليهما‌السلام :

روي ان داود عليه‌السلام خرج ذات يوم يقرأ الزبور ، وكان اذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر ولا سبع الا جاوبه ، فما زال يمر حتى انتهى الى جبل ، فاذا على الجبل نبي عابد يقال له « حزقيل » ، فلما سمع دوي الجبال واصوات السباع والطير علم انه داود عليه‌السلام.

فقال داود : يا حزقيل اتأذن لي فاصعد اليك؟ قال : لا ، فبكى داود عليه‌السلام ، فأوحى الله جل جلاله اليه :

يا حزقيل لا تعير داود وسلني العافية ، فقام حزقيل فأخذ بيد داود فرفعه اليه.

فقال داود : يا حزقيل هل هممت بخطيئة قط؟ قال : لا ، قال : فهل دخلك العجب مما انت فيه من عبادة الله عزوجل؟ قال : لا ، قال : فهل ركنت الى الدنيا فاحببت ان تأخذ من شهوتها ولذتها؟ قال : بلى ربما عرض بقلبي ، قال : فماذا تصنع اذا كان ذلك؟ قال : ادخل هذا الشعب فاعتبر بما فيه.

قال : فدخل داود النبي عليه‌السلام الشعب ، فاذا سرير من حديد عليه جمجمة بالية ، وعظام فانية ، واذا لوح من حديد فيه كتابة فقرأها داود عليه‌السلام فاذا هي :

انا اروي سلم (٢) ، ملكت الف سنة ، وبنيت الف مدينة ، وافتضضت الف بكر ، فكان آخر امري ان صار التراب فراشي ، والحجارة وسادتي ، والديدان

__________________

١ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ٣٧٨ و٣٨٣.

٢ ـ وفي نسخة : اروى شلم.

٢٣٢

والحيات جيراني ، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا. (١)

ما اوحى الله تعالى الى داود عليه‌السلام :

ان الله تبارك وتعالى اوحى الى داود عليه‌السلام قال : مالي اراك وحدانا؟ قال : هجرت الناس وهجروني فيك. قال : فمالي اراك ساكتا؟ قال : خشيتك اسكتتني.

قال : فمالي اراك نصبا؟ (٢) قال : حبك انصبني.

قال : فمالي اراك فقيرا وقد اعطيتك؟ قال : القيام بحقك افقرني. قال : فمالي اراك متذللا؟ قال عظيم جلالك الذي لا يوصف ذللني ، وحق ذلك لك يا سيدي.

قال الله جل جلاله : فابشر بالفضل مني ، فلك ما تحب يوم تلقاني ، خالط الناس وخالقهم باخلاقهم ، وزايلهم (٣) في اعمالهم تنل ما تريد مني يوم القيامة. (٤)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اوحى الله عزوجل الى داود عليه‌السلام :

يا داود كما لا تضيق الشمس على من جلس فيها ، كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها.

وكما لا تضر الطيرة من لا يتطير منها ، كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيرون.

وكما ان اقرب الناس مني يوم القيامة المتواضعون ، كذلك ابعد الناس مني يوم القيامة المتكبرون. (٥)

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٢٥.

٢ ـ معناه : مالي اراك مجدا مجتهدا في العبادة متعبا نفسك فيها.

٣ ـ اي فارقهم في اعمالهم الرديئة وافعالهم الرذيلة.

٤ ـ الامالي للصدوق ص ١١٨.

٥ ـ نفس المصدر.

٢٣٣

وروي عن الصادق عليه‌السلام قال : اوحى الله عزوجل الى داود عليه‌السلام : ان العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فابيحه جنتي ، قال : فقال داود عليه‌السلام : يا رب وما تلك الحسنة؟ قال : يُدخل على عبدي المؤمن سرورا ولو بتمرة.

قال : فقال داود عليه‌السلام حق لمن عرفك ان لا يقطع رجاءه منك.

روي عن ابن منبه قال : قرأت في زبور داود عليه‌السلام اسطرا منها ما حفظت ومنها ما نسيت ، فما حفظت قوله :

يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني وهو يحبني ادخلته الجنة.

يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني وهو مستحيي من المعاصي التي عصاني بها غفرتها له ، او انسيتها حافظيه.

يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني بحسنة واحدة ادخلته الجنة.

يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني بحسنة واحدة ادخلته الجنة ، قال داود : يا رب وما هذه الحسنة؟ قال : من فرج عن عبد مسلم ، فقال داود : الهي لذلك لا ينبغي لمن عرفك ان يقطع رجاءه منك.

وان الله اوحى الى داود عليه‌السلام قال : ان العباد تحابوا بالالسن ، وتباغضوا بالقلوب ، واظهروا العمل للدنيا ، وابطنوا الغش والدغل (١).

يا داود : اذكرني في ايام سرائك حتى استجيب لك في ايام ضرائك (٢).

يا داود : احبني وحببني الى خلقي ، قال : يا رب نعم انا احبك فكيف

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٣٧.

٢ ـ البحار : ج ١٤ ص ٣٧.

٢٣٤

احببك الى خلقك؟ قال : اذكر ايادي عندهم فانك اذا ذكرت ذلك لهم احبوني. (١)

يا داود : كما ان اقرب الناس من الله المتواضعون ، كذلك ابعد الناس عن الله المتكبرون (٢).

يا داود : بشر المذنبين ، وانذر الصديقين.

قال : كيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين؟ قال : يا داود بشر المذنبين اني اقبل التوبة واعفو عن الذنب ، وانذر الصديقين ان لا يعجبوا باعمالهم ، فانه ليس عبد انصبه للحساب الا هلك (٣).

يا داود : من احب حبيبا صدق قوله ، ومن آنس بحبيب قبل قوله ورضي فعله ، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه ، ومن اشتاق الى حبيب جد في السير اليه.

يا داود ذكري للذاكرين ، وجنتي للمطيعين ، وزيارتي للمشتاقين ، وانا خاصة للمطيعين (٤).

يا داود قل لفلان الجبار : اني لم ابعثك لتجمع الدنيا على الدنيا ، ولكن لترد عني دعوة المظلوم وتنصره ، فاني آليت على نفسي ان انصره وانتصر له ممن ظُلم بحضرته ولم ينصره (٥).

يا داود : اشكرني حق شكري ، قال : الهي كيف اشكرك حق شكرك وشكري اياك نعمة منك؟ فقال : الآن شكرتني حق شكري.

وكان ايضا فيما اوحى الله عزوجل الى داود عليه‌السلام قال :

يا داود : من انقطع الي كفيته ، ومن سألني اعطيته ، ومن دعاني اجبته ،

__________________

١ ـ قصص الانبياء.

٢ ـ ٣ ـ الكافي : ج ٢ ص ١٢٣.

٤ ـ ارشاد القلوب : ج ١ ص ٧٣.

٥ ـ نفس المصدر.

٢٣٥

وانما اؤخر دعوته وهي معلقة وقد استجبتها حتى يتم قضائي ، فاذا تم قضائي انفذت ما سأل.

قل للمظلوم : انما اؤخر دعوتك وقد استجبتها لك على من ظلمك لضروب كثيرة غابت عنك وانا احكم الحاكمين :

اما ان تكون قد ظلمت رجلا فدعا عليك فتكون هذه بهذه لا لك ولا عليك.

واما ان تكون لك درجة في الجنة لا تبلغها عندي الا بظلمه لك ، لاني اختبر عبادي في اموالهم وانفسهم.

وربما امرضت العبد فقلّت صلاته وخدمته ، ولصوته اذا دعاني في كربته احب الي من صلاة المصلين.

ولربما صلى العبد فاضرب بها وجهه واحجب عني صوته ، اتدري من ذلك يا داود؟ ذلك الذي يكثر الالتفات الى حرم المؤمنين بعين الفسق وذلك الذي حدثته نفسه لو ولى امرا لضرب فيه الاعناق ظلما ....

يا داود : اذا ناولتم الصدقات فاغسلوها بماء اليقين ، فاني ابسط يميني قبل يمين الآخذ ، فاذا كانت من حرام حذفت بها في وجه المتصدق ، وان كانت من حلال قلت : ابنوا له قصورا في الجنة ، وليست الرئاسة رئاسة الملك ، انما الرئاسة رئاسة الآخرة ، سبحان خالق النور.

رحمة الله اوسع :

روي انه بينما كان داود عليه‌السلام جالس وعنده شاب رث الهيئة يكثر الجلوس عنده ويطيل الصمت.

جاء ملك الموت يوما الى داود فسلم عليه وجلس عنده واخذ يمد النظر

٢٣٦

الى الشاب ، فقال داود عليه‌السلام : نظرت الى هذا؟ فقال : نعم ، اني امرت بقبض روحه الى سبعة ايام في هذا الموضع.

فرحمه داود فقال : يا شاب هل لك امرأة؟ قال : لا وما تزوجت قط ، قال داود عليه‌السلام : فات فلانا ـ رجلا عظيم القدر من بني اسرائيل ـ فقل له : ان داود يأمرك ان تزوجني ابنتك ، وتدخلها الليلة ، وخذ من النفقة ما تحتاج اليه وكن عندها ، فاذا مضت سبعة ايام فوافني في هذا الموضع.

فمضى الشاب برسالة داود عليه‌السلام فزوجه الرجل ابنته وادخلوها عليه ، واقام عندها سبعة ايام ، ثم وافى داود يوم الثامن ، فقال له داود عليه‌السلام : يا شاب كيف رأيت ماكنت فيه؟ قال : ماكنت في نعمة ولا سرور قط اعظم مما كنت فيه.

قال داود : اجلس فجلس وداود ينتظر ان يقبض روحه ، فلما طال قال : انصرف الى منزلك فكن مع اهلك ، فاذا كان يوم الثامن فوافني ههنا.

فمضى الشاب ثم وافاه يوم الثامن وجلس عنده ، ثم انصرف اسبوعا آخر ثم اتاه وجلس ، فجاء ملك الموت الى داود عليه‌السلام فقال داود : ألست حدثتني بأنك امرت بقبض روح هذا الشاب الى سبعة ايام؟ قال : بلى ، فقال : فقد مضت ثمانية وثمانية وثمانية. قال : يا داود ان الله تعالى رحمه برحمتك له فأخر في اجله ثلاثين سنة (١).

الصبر والشكر :

روي عن ابي عبد الله عليه‌السلام : انه اوحى الله تعالى الى داود عليه‌السلام : ان خلادة (٢) بنت اوس بشرها بالجنة ، واعلمها انها قرينتك في الجنة.

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٣٨.

٢ ـ وقيل : « جلادة ».

٢٣٧

فانطلق اليها فقرع الباب عليها ، فخرجت وقالت : هل نزل في شيء؟ قال : نعم ، قالت : وماهو؟ قال : ان الله تعالى اوحى الي واخبرني انك قرينتي في الجنة وان ابشرك بالجنة.

قالت : او يكون اسم وافق اسمي؟ قال : انك لانتي هي ، قالت : يا نبي الله ما اكذبك ، ولا والله ما اعرف من نفسي ما وصفتني به.

قال داود عليه‌السلام : اخبريني عن ضميرك وسريرتك ما هو ، قالت : اما هذا فساخبرك به.

اخبرك انه لم يصبني وجع قط نزل بي كائنا ما كان ، وما نزل ضر بي وحاجة وجوع كائنا ماكان الا صبرت عليه ولم اسأل الله كشفه عني حتى يحوله الله عني الى العافية والسعة ، ولم اطلب بها بدلا ، وشكرت الله عليها وحمدته ، فقال داود عليه‌السلام : فبهذا بلغت ما بلغت ، ثم قال ابو عبد الله عليه‌السلام : وهذا دين الله الذي ارتضاه للصالحين. (١)

وروي ان داود عليه‌السلام خرج مصحرا منفردا ، فأوحى الله اليه :

يا داود مالي اراك وحدانيا؟ فقال : الهي اشتد الشوق مني الى لقائك ، وحال بيني وبينك خلقك ، فأوحى الله اليه :

ارجع اليهم فانك ان تاتني بعبد آبق اثبتك في اللوح حميدا. (٢)

كما تدين تدان :

روي انه كانت امرأة على عهد داود عليه‌السلام يأتيها رجل يستكرهها على نفسها ، فالقى الله عزوجل في نفسها فقالت له :

__________________

١ ـ قصص الانبياء مخطوط : البحار ج ١٤ ص ٣٩.

٢ ـ ارشاد القلوب : ١ ـ ٢٠٨.

٢٣٨

انك لا تاتيني مرة الا وعند اهلك من يأتيهم ، قال : فذهب الى اهله فوجد عند اهله رجلا ، فاتى داود عليه‌السلام فقال : يا نبي الله اتى الي ما لم يؤت الى احد ، قال : وما ذاك؟ قال : وجدت هذا الرجل عند اهلي ، فأوحى الله عزوجل الى داود : قل له : كما تدين تدان. (١)

العبرة لمن اعتبر

وان الله تعالى اوحى الى داود عليه‌السلام وقال :

يا داود من تاجرني فهو اربح التاجرين ، ومن صرعته الدنيا فهو اخسر الخاسرين.

ويحك يا ابن آدم ما اقسى قلبك : ابوك وامك يموتان وليس لك عبرة بهما؟! يا ابن آدم الا تنظر الى بهيمة ماتت فانتفخت وصارت جيفة ، وهي بهيمة وليس لها ذنب؟ ولو وضعت اوزارك على الجبال الراسيات لهدتها.

يا داود ! وعزتي ما شيء اضر عليكم من اموالكم واولادكم ، ولا اشده في قلوبكم فتنة منها ، والعمل الصالح عندي مرفوع ، وانا بكل شيء محيط ، سبحان خالق النور.

موعظة :

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان داود عليه‌السلام لما وقف الموقف بعرفة نظر الى الناس وكثرتهم فصعد الجبل فاقبل يدعو.

فلما قضى نسكه اتاه جبرئيل عليه‌السلام فقال له : يا داود يقول ربك ، لِمَ صعدت

__________________

١ ـ من لا يحضره الفقيه : ٤٧١.

٢٣٩

الجبل ، ظننت انه يخفى علي صوت من صوت ، ثم مضى به الى البحر الى جدة ، فرسب به في الماء مسيرة اربعين صباحا في البر ، فاذا صخرة فغلقها فاذا فيها دودة ، فقال :

يا داود يقول لك ربك انا نسمع صوت هذه في بطن هذه الصخرة في قعر هذا البحر ، فظننت انه يخفى علي صوت من صوت. (١)

وعنه عليه‌السلام قال : قال داود النبي عليه‌السلام ، لاعبدن الله اليوم عبادة ولاقرأن قراءة لم افعل مثلها قط ، فدخل محرابه ففعل.

فلما فرغ من صلاته ان هو بضفدع في المحراب ، فقال له : يا داود اعجبك اليوم ما فعلت من عبادتك وقراءتك؟ فقال : نعم ، فقالت : لا يعجبك فاني اسبح الله في كل ليلة الف تسبيحة يتشعب لي مع كل تسبيحة ثلاثة آلاف تحميدة ، واني لاكون في قعر الماء ، فيصوت الطير في الهواء فاحسبه جائعا ، فاطفو له على الماء لياكلني ، ومالي ذنب. (٢)

بناء بيت المقدس ووفاة داود عليه‌السلام :

قيل اصاب الناس في زمان داود عليه‌السلام طاعون جارف ، فخرج بهم داود الى موضع بيت المقدس ، وكان يرى الملائكة تعرج منه الى السماء ، فلهذا قصده ليدعو فيه ، فلما وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم ، فاستجاب له ورفع الطاعون ، فاتخذوا ذلك الموضع مسجدا ، وكان الشروع في بنائه لاحدى عشرة سنة مضت من ملكه ، وتوفي قبل ان يستتم بناءه ، واوصى الى سليمان باتمامه.

__________________

١ ـ ٢ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ٣٨٥.

٢٤٠