بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

أصابكم تمحيص فاصبروا فإنما يبتلي الله المؤمنين ولم يزل إخوانكم قليلا ألا وإن أقل أهل المحشر المؤمنون.

بيان : كان من البلاء عافية لعل المعنى أن عند اشتداد البلاء وتواتره يرجى الفرج كما قال تعالى « إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً » (١)

٦٨ ـ محص : عن معاوية بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول ما من مؤمن إلا وهو يذكر لبلاء يصيبه في كل أربعين يوما أو بشيء في ماله وولده ليأجره الله عليه أو بهم لا يدري من أين هو.

٦٩ ـ محص : عن أبي الحسن الأحمسي عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه واله إن الله ليتعهد عبده المؤمن بأنواع البلاء كما يتعهد أهل البيت سيدهم بطرف الطعام.

توضيح الظاهر أن الأحمسي هو الحسين بن عثمان الثقة وأهل البيت بالنصب وسيدهم بالرفع وفي القاموس الطريف القريب من الثمر وغيره.

٧٠ ـ محص : عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث وربما اجتمعت الثلاث عليه إما أن يكون معه في الدار من يغلق عليه الباب يؤذيه أو جار يؤذيه أو شيء في طريقه وحوائجه يؤذيه ولو أن مؤمنا على قلة جبل لبعث الله إليه شيطانا ويجعل له من إيمانه أنسا لا يستوحش إلى أحد.

٧١ ـ محص : عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

٧٢ ـ محص : عن سدير قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام هل يبتلي الله المؤمن فقال وهل يبتلى إلا المؤمن حتى إن صاحب ياسين : « قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ » (٢) كان مكنعا قلت وما المكنع قال كان به جذام.

__________________

(١) الانشراح : ٥.

(٢) يس : ١٣٠.

٢٤١

٧٣ ـ محص : عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما من مؤمن إلا وبه وجع في شيء من بدنه لا يفارقه حتى يموت يكون ذلك كفارة لذنوبه.

٧٤ ـ محص : عن الأحمسي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : لا تزال الغموم والهموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنبا.

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه يذكره ربه.

٧٥ ـ محص : عن الحارث بن عمر قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إن العبد المؤمن ليهتم في الدنيا حتى يخرج منها ولا ذنب له.

٧٦ ـ محص : عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول قال الله لو لا أن يجد عبدي المؤمن في نفسه لعصبت المنافق عصابة لا يجد ألما حتى يموت.

بيان : في النهاية في حديث الإيمان إني سائلك فلا تجد علي أي لا تغضب من سؤالي يقال وجد عليه يجد وجدا وموجدة.

٧٧ ـ محص : عن علي عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه واله الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فأما المؤمن فيروع فيها وأما الكافر فيمتع فيها.

بيان : الروع الفزع كالارتياع والتروع والروعة الفزعة وراع أفزع كروع لازم متعد (١).

٧٨ ـ محص : عن أبي جميلة عن أبي جعفر عليه السلام قال : إن العبد ليكرم على الله تعالى حتى إنه لو سأله الدنيا وما فيها أعطاه إياها ولم ينقصاه ذلك ولو سأله من الجنة شبرا حرمه وإن الله يتعهد المؤمن بالبلاء كما يتعهد الغائب أهله بالهدية ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض.

بيان : الظاهر أنه سقط من صدر الخبر فقرات.

٧٩ ـ محص : عن أبي الحسن عليه السلام قال : المؤمن بعرض كل خير لو قطع أنملة أنملة كان خيرا له ولو ولي شرقها وغربها كان خيرا له.

__________________

(١) القاموس ج ٣ ص ٣٢.

٢٤٢

بيان : بعرض كل خير أي بمعرض كل خير ومحل عروضه وظهوره لو قطع أنملة أنملة في المصباح الأنملة من الأصابع العقدة وبعضهم يقول الأنامل رءوس الأصابع والأنملة بفتح الهمزة وفتح الميم أكثر من ضمها وابن قتيبة يجعل المضموم من لحن العوام وبعض المتأخرين من النحاة حكى تثليث الهمزة مع تثليث الميم فتصير تسع لغات.

وأقول : كان المعنى قطع جميع بدنه بمقدار الأنملة وكون المراد قطع أنامل يديه ورجليه تدريجا بعيد.

٨٠ ـ محص : عن عيسى بن أبي منصور عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن الله يذود المؤمن عما يشتهيه كما يذود أحدكم الغريب عن إبله ليس منها.

بيان : في المصباح ذاد الراعي إبله عن الماء ذودا وذيادا منعها.

٨١ ـ محص : عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه واله إن العبد المؤمن ليطلب الإمارة والتجارة حتى إذا أشرف من ذلك على ما كان يهوى بعث الله ملكا وقال له عق عبدي وصده عن أمر لو استمكن منه أدخله النار فيقبل الملك فيصده بلطف الله فيصبح وهو يقول لقد دهيت ومن دهاني فعل الله به وفعل وما يدري أن الله الناظر له في ذلك ولو ظفر به أدخله النار.

بيان : في القاموس دهاه دهيا ودهاه أصابه بداهية وهي الأمر العظيم (١) وفعل الله به وفعل كناية عن شتم كثير ودعاء عليه بالسوء.

٨٢ ـ ما : عن جماعة عن أبي المفضل عن محمد بن جعفر الرزاز عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محمد بن أبي عمير عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال : مثل المؤمن مثل كفتي الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه ليلقى الله عز وجل ولا خطيئة له (٢).

__________________

(١) القاموس ج ٤ ص ٣٢٩ ، وفيه : دهاه دهيا ودهاه : نسبه الى الدهاء ، أو عابه وتنقصه ، أو أصابه بداهية إلخ.

(٢) أمالي الشيخ ج ٢ ص ٢٤٤.

٢٤٣

محص : عن علي بن أبي حمزة عنه عليه السلام مثله (١).

جع : عنه عليه السلام مثله.

٨٣ ـ كتاب الإمامة والتبصرة : عن أحمد بن علي عن محمد بن الحسن عن محمد بن الحسن الصفار عن إبراهيم بن هاشم عن النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه واله السقم يمحو الذنوب وقال صلى الله عليه واله ساعات الوجع يذهبن ساعات الخطايا وقال صلى الله عليه واله ساعات الهموم ساعات الكفارات ولا يزال الهم بالمؤمن حتى يدعه وما له من ذنب.

٨٤ ـ كش : عن محمد بن مسعود عن جعفر بن أحمد عن العمركي بن علي عن محمد بن حبيب الأزدي عن عبد الله بن حماد عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم عن ذريح عن محمد بن مسلم قال : خرجت إلى المدينة وأنا وجع ثقيل فقيل له محمد بن مسلم وجع فأرسل إلي أبو جعفر عليه السلام بشراب مع الغلام مغطى بمنديل فناولنيه الغلام وقال لي اشربه فإنه قد أمرني أن لا أرجع حتى تشربه فتناولته فإذا رائحة المسك عنه وإذا شراب طيب الطعم بارد فإذا شربته قال لي الغلام يقول لك إذا شربته فتعال ففكرت فيما قال لي ولا أقدر على النهوض قبل ذلك على رجلي.

فلما استقر الشراب في جوفي فكأنما نشطت من عقال فأتيت بابه فاستأذنت عليه فصوت بي صح الجسم ادخل ادخل فدخلت وأنا باك وسلمت عليه وقبلت يديه ورأسه فقال لي وما يبكيك يا محمد فقلت جعلت فداك أبكي على اغترابي وبعد الشقة وقلة المقدرة على المقام عندك والنظر إليك.

فقال : أما قلة المقدرة فكذلك جعل الله أولياءنا وأهل مودتنا وجعل البلاء إليهم سريعا وأما ما ذكرت من الغربة فلك بأبي عبد الله عليه السلام أسوة بأرض ناء عنا بالفرات صلى الله عليه وأما ما ذكرت من بعد الشقة فإن المؤمن في هذه الدار غريب وفي هذا الخلق المنكوس حتى يخرج من هذه الدار إلى رحمة الله وأما ما ذكرت

__________________

(١) جامع الأخبار ص ١٣٤.

٢٤٤

من حبك قربنا والنظر إلينا وأنك لا تقدر على ذلك فالله يعلم ما في قلبك وجزاؤك عليه (١).

قب : مرسلا مثله (٢).

ختص : عن عدة من أصحابه عن محمد بن جعفر المؤدب عن البرقي عن بعض أصحابنا عن الأصم عن مدلج مثله (٣) بيان قيل له أي لأبي جعفر عليه السلام وفي المناقب قيل لأبي جعفر عليه السلام وفي النهاية في حديث السحر فكأنما أنشط من عقال أي حل وكثيرا ما يجيء في الرواية كأنما نشط من عقال وليس بصحيح يقال نشطت العقدة إذا عقدتها وأنشطتها إذا حللتها وفي القاموس الشقة بالضم والكسر البعد والناحية التي يقصدها المسافر والسفر البعيد والمشقة.

فلك بأبي عبد الله أي الحسين صلوات الله عليه أسوة أي اقتداء أي شابهته في الغربة والتفكر في حالة يسهل عليك غربتك ويكشف هذا الحزن عنك في القاموس الأسوة بالكسر والضم القدوة وما يأتسي به الحزين وأساه تأسية فتأسى عزاه فتعزى. (٤)

وفي هذا الخلق عطف على قوله وفي هذه الدار أي بين هذا الخلق غريب وإنما وصفهم بالنكس لأنهم انخلعوا عن الإنسانية فصاروا كالبهائم والأنعام أو انقلبوا عن حدود الإنسانية إلى حد البهيمية أو هم منكوسو القلوب لا تعي قلوبهم شيئا من الحق أو هو كناية عن الخيبة والخسران أو شبه أسوأ حالاتهم الروحانية بأسوإ حالاتهم الجسمانية أو أنهم لما أعرضوا عن العروج على معارج الكمالات الروحانية وقصروا نظرهم على الشهوات الجسمانية

__________________

(١) رجال الكشي ص ١٥٠ ، تحت الرقم : ٦٧.

(٢) مناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ١٨١.

(٣) الاختصاص ص ٥٢.

(٤) القاموس ج ٤ ص ٢٩٩.

٢٤٥

فكأنهم انتكسوا وانقلبوا.

وفي المناقب وفي هذا الخلق منكوس أي يرونه كذلك أو بينهم بشر الأحوال لا يقدر على شيء كالمنكوس في القاموس نكسه قلبه على رأسه كنكسه والنكس بالكسر الضعيف وكمحدث الفرس لا يسمو برأسه ولا بهاديه إذا جرى ضعفا أو الذي لم يلحق الخيل وانتكس وقع على رأسه (١).

وفي النهاية في حديث أبي هريرة تعس عبد الدنيا وانتكس أي انقلب على رأسه وهو دعاء عليه بالخيبة لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر وفي حديث ابن مسعود قيل له إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا فقال ذلك منكوس القلب.

فالله يعلم ما في قلبك في المناقب فلك ما في قلبك وما في رجال الكشي أظهر.

٨٥ ـ كتاب المؤمن : بإسناده عن سعد بن طريف قال : كنت عند أبي جعفر عليه السلام فجاء جميل الأزرق فدخل عليه قال فذكروا بلايا للشيعة وما يصيبهم فقال أبو جعفر عليه السلام إن أناسا أتوا علي بن الحسين عليه السلام وعبد الله بن عباس فذكروا لهما نحو ما ذكرتم قال فأتيا الحسين بن علي عليه السلام فذكرا له ذلك فقال الحسين عليه السلام والله البلاء والفقر والقتل أسرع إلى من أحبنا من ركض البراذين ومن السيل إلى صمره قلت وما الصمر قال منتهاه ولو لا أن تكونوا كذلك لرأينا أنكم لستم منا.

بيان : في القاموس صمر الماء جرى من حدور في مستوى فسكن وهو جار والصمر بالكسر مستقره (٢).

٨٦ ـ المؤمن : بإسناده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إن الشياطين أكثر على المؤمن من الزنابير على اللحم.

٨٧ ـ محص : عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال : إذا أحب الله عبدا نظر إليه فإذا نظر إليه أتحفه من ثلاث بواحدة إما صداع وإما حمى وإما رمد.

__________________

(١) القاموس ج ٢ ص ٢٥٦.

(٢) القاموس ج ٢ : ٧٢.

٢٤٦

٨٨ ـ نهج : قال عليه السلام وقد توفي سهل بن حنيف الأنصاري رحمه الله بالكوفة مرجعه معه من صفين وكان من أحب الناس إليه لو أحبني جبل لتهافت.

قال السيد رضي‌الله‌عنه ومعنى ذلك أن المحبة تغلظ عليه فتسرع المصائب إليه ولا يفعل ذلك إلا بالأتقياء الأبرار والمصطفين الأخيار وهذا مثل قوله عليه السلام من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلبابا وقد تؤول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره (١).

تبيان : مرجعه منصوب على الظرفية والتهافت التساقط قطعة قطعة من هفت كضرب إذا سقط كذلك وقيل هفت أي تطاير لخفته والمراد تلاشي الأجزاء وتفرقها لعدم الطاقة وتغلظ في بعض النسخ على صيغة المجهول من باب التفعيل وفي بعضها على صيغة المجرد المعلوم يقال غلظ الشيء ككرم ضد رق كما في النسخة وجاء كضرب والاستعداد للشيء التهيؤ له.

ولفظ الرواية على ما ذكره ابن الأثير في النهاية أظهرقال في حديث علي عليه السلام من أحبنا أهل البيت فليعد للفقر جلبابا (٢) أي ليزهد في الدنيا وليصبر على الفقر والعلة والجلباب الإزار والرداء وقيل هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها وجمعه جلابيب كني به عن الصبر لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب البدن.

وقيل إنما كني بالجلباب عن اشتماله بالفقر أي فليلبس إزار الفقر ويكون منه على حالة تعمه وتشمله لأن الغنى من أحوال أهل الدنيا ولا يتهيأ الجمع بين حب الدنيا وحب أهل البيت انتهى.

وقال ابن أبي الحديد (٣) قد ثبت أن النبي صلى الله عليه واله قال : لا يحبك إلا مؤمن

__________________

(١) نهج البلاغة ج ٢ ص ١٦٨ تحت الرقم ١١١ من الحكم والمواعظ.

(٢) قد مر في ذيل ص ٢٢٧ حديث عن المعاني ، يقول فيه الصادق عليه‌السلام أن أصل الحديث « من أحبنا فليعده للفقر جلبابا ، فراجع.

(٣) راجع شرح النهج ج ٤ ص ٢٨٩ ط مصر.

٢٤٧

ولا يبغضك إلا منافق وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه واله قال : إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدورهاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنه عليه السلام لو أحبه جبل لتهافت ولعل هذا هو مراد الرضي رضي‌الله‌عنه بقوله معنى آخر ليس هذا موضع ذكره انتهى وفيه تأمل.

وقال ابن ميثم (١) الجلباب مستعار لتوطين النفس على الفقر والصبر عليه ووجه الاستعارة كونهما ساترين للمستعد بهما من عوارض الفقر وظهوره في سوء الخلق وضيق الصدر والتحير الذي ربما أدى إلى الكفر كما يستر بالملحفة ولما كانت محبتهم عليه السلام بصدق يستلزم متابعتهم والاستشعار بشعارهم ومن شعارهم الفقر ورفض الدنيا والصبر على ذلك وجب أن يكون كل محب مستشعرا للفقر ومستعدا له جلبابا من توطين النفس عليه والصبر.

وقد ذكر ابن قتيبة هذا المعنى بعبارة أخرى فقال من أحبنا فليقتصر على التقلل من الدنيا والتقنع فيها قال وشبه الصبر على الفقر بالجلباب لأنه يستر الفقر كما يستر الجلباب البدن قال ويشهد بصحة هذا التأويل ما روي أنه رأى قوما على بابه فقال يا قنبر من هؤلاء فقال شيعتك يا أمير المؤمنين فقال ما لي لا أرى فيهم سيماء الشيعة قال وما سيماء الشيعة قال خمص البطون من الطوى يبس الشفاه من الظماء عمش العيون من البكاء.

وقال أبو عبيد إنه لم يرد الفقر في الدنيا ألا ترى أن فيمن يحبهم مثل ما في سائر الناس من الغنى وإنما أراد الفقر يوم القيامة وأخرج الكلام مخرج الوعظ والنصيحة والحث على الطاعات فكأنه أراد من أحبنا فليعد لفقره يوم القيامة ما يحسره من الثواب والتقرب إلى الله تعالى والزلفة عنده.

قال : وقال السيد المرتضى ره والوجهان جميعا حسنان وإن كان قول ابن قتيبة أحسن فذلك معنى قول السيد رضي‌الله‌عنه وقد تؤول ذلك على معنى آخر انتهى كلام ابن ميثم.

__________________

(١) شرح النهج لابن ميثم البحراني ص ٥٩٤.

٢٤٨

وقال القطب الراوندي رحمه‌الله بعد ذكر المعنيين المحكيين عن ابن قتيبة وأبي عبيد وقال المرتضى فيه وجها ثالثا أي من أحبنا فليزم نفسه وليقدها إلى الطاعات وليذللها على الصبر عما كره منها فالفقر أن يحز أنف البعير فيلوى عليه حبل يذلل به الصعب يقال فقره إذا فعل به ذلك انتهى.

ولا يخفى أنه لو كان المراد الصبر على الفقر وستره والكف عن إظهار الحاجة إلى الناس وذلك هو المعبر عنه بالجلباب كما أشير إليه أولا لا يقدح فيه ما ذكره أبو عبيد من أن فيمن يحبهم مثل ما في سائر الناس من الغنى لأن الأمر بالصبر والستر حينئذ يتوجه إلى من ابتلاه الله بالفقر فالمراد أن من ابتلي من محبينا بالفقر فليصبر عليه ولا يكشفها ولا يستفاد منه فقد الغنى من الشيعة.

وأما الخبر الأول فقد قيل يحتمل أن تكون مفاده صعوبة حمل محبتهم الكاملة فيكون قريبا من قوله عليه السلام إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان (١).

فتهافت الجبل حينئذ لثقل هذا الحمل وشدة المهابة كقوله تعالى « لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ » (٢) وقوله تعالى « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها » (٣) والظاهر من المقام أنه ليس المراد بالمحبة ما في العوام والأوساط بل ما يستلزم التشبه به عليه السلام على وجه كامل والاقتداء التام به عليه السلام في الفضائل ومحاسن الأعمال على قدر الطاقة وإن كانت درجته الرفيعة فوق إدراك الأفهام وأعلى من أن تناله الأوهام وحق للجبل أن يتهافت عن حمل مثل ذلك الحمل.

__________________

(١) راجع الكافي ج ١ ص ٤٠١. بصائر الدرجات ص ٢٠.

(٢) الحشر : ٢١.

(٣) الأحزاب : ٧٣.

٢٤٩

تتميم

في هذه الأحاديث الواردة من طرق الخاصة والعامة دلالة واضحة على أن الأنبياء والأوصياء عليهم السلام في الأمراض الحسية والبلايا الجسمية كغيرهم بل هم أولى بها من الغير تعظيما لأجرهم الذي يوجب التفاضل في الدرجات ولا يقدح ذلك في رتبتهم بل هو تثبيت لأمرهم وأنهم بشر إذ لو لم يصبهم ما أصاب سائر البشر مع ما يظهر في أيديهم من خرق العادة لقيل فيهم ما قالت النصارى في نبيهم.

وقد ورد هذا التأويل في الخبر وابتلاؤهم تحفة لهم لرفع الدرجات التي لا يمكن الوصول إليها بشيء من العمل إلا ببلية كما أن بعض الدرجات لا يمكن الوصول إليها إلا بالشهادة فيمن الله سبحانه على من أحب من عباده بها تعظيما وتكريما له كما ورد في خبر شهادة سيد الشهداء عليه السلام أنه رأى النبي صلى الله عليه واله في المنام فقال له يا حسين لك درجة في الجنة لا تصل إليها إلا بالشهادة.

واستثنى أكثر العلماء ما هو نقص ومنفر للخلق عنهم كالجنون والجذام والبرص وحمل استعاذة النبي صلى الله عليه واله عنها على أنها تعليم للخلق.

وقال المحقق الطوسي قدس‌سره في التجريد فيما يجب كونه في كل نبي العصمة وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكلما ينفر عنه الخلق من دناءة الآباء وعهر الأمهات والفظاظة والغلظة والأبنة وشبهها والأكل على الطريق وشبهه.

وقال العلامة في شرحه وأن يكون منزها عن الأمراض المنفرة نحو الأبنة وسلس الريح والجذام والبرص لأن ذلك كله مما ينفر عنه فيكون منافيا للغرض من البعثة وضم القوشجي سلس البول أيضا.

وقال القاضي عياض من علماء المخالفين في كتاب الشفاء قال الله تعالى

٢٥٠

« وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ » (١) وقال « مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ » (٢) وقال « وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ » (٣) وقال « قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ » (٤).

محمد صلى الله عليه واله وسائر الأنبياء من البشر أرسلوا إلى البشر ولو لا ذلك لما أطاق الناس مقاومتهم والقبول عنهم ومخاطبتهم قال الله تعالى « وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً » (٥) أي لما كان إلا في صورة البشر الذين يمكنكم مخالطتهم إذ لا تطيقون مقاومة الملك ومخاطبته ورؤيته إذا كان على صورته وقال « لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً » (٦) أي لا يمكن في سنة الله إرسال الملك إلا لمن هو من جنسه أو من خص الله تعالى واصطفاه وقواه على مقاومته كالأنبياء والرسل.

فالأنبياء والرسل وسائط بين الله وخلقه يبلغونهم أوامره ونواهيه ووعده ووعيده ويعرفونهم بما لم يعلموه من أمره وخلقه وجلاله وسلطانه وجبروته وملكوته فظواهرهم وأجسادهم وبنيتهم متصفة بأوصاف البشر طارئ عليها ما يطرأ على البشر من الأعراض والأسقام والموت والفناء ونعوت الإنسانية وأرواحهم وبواطنهم متصفة بأعلى من أوصاف البشر متعلقة بالملإ الأعلى متشبهة بصفات الملائكة سليمة من التغيير والآفات ولا يلحقها غالبا عجز البشرية ولا ضعف الإنسانية.

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) المائدة : ٧٨.

(٣) الفرقان : ٢٠.

(٤) الكهف : ١١.

(٥) الأنعام : ٩.

(٦) الإسراء : ٩٥.

٢٥١

إذ لو كانت بواطنهم خالصة للبشرية كظواهرهم لما أطاقوا الأخذ عن الملائكة ورؤيتهم ومخاطبتهم كما لا يطيقه غيرهم من البشر ولو كانت أجسامهم وظواهرهم متسمة بنعوت الملائكة وبخلاف صفات البشر لما أطاق البشر ومن أرسلوا إليه مخاطبتهم كما تقدم من قول الله تعالى.

فجعلوا من جهة الأجسام والظواهر مع البشر ومن جهة الأرواح والبواطن مع الملائكة كما قال صلى الله عليه واله تنام عيناي ولا ينام قلبي وقال : إني لست كهيئتكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني فبواطنهم منزهة عن الآفات مطهرة من النقائص والاعتلالات.

وقال في موضع آخر قد قدمنا أنه صلى الله عليه واله وسائر الأنبياء والرسل من البشر وأن جسمه وظاهره خالص للبشر يجوز عليه من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام وتجرع كأس الحمام ما يجوز على البشر هذا كله ليس بنقيصة فيه لأن الشيء إنما يسمى ناقصا بالإضافة إلى ما هو أتم منه وأكمل من نوعه وقد كتب الله على أهل هذه الدار « فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ » (١) وخلق جميع البشر بمدرجة الغير فقد مرض صلى الله عليه واله واشتكى وأصابه الحر والقر وأدركه الجوع والعطش ولحقه الغضب والضجر وناله الإعياء والتعب ومسه الضعف والكبر وسقط فجحش شقه وشجه الكفار وكسروا رباعيته وسقي السم وسحر وتداوى واحتجم وتعوذ ثم قضى نحبه فتوفي صلى الله عليه واله ولحق بالرفيق الأعلى وتخلص من دار الامتحان والبلوى.

وهذه سمات البشر التي لا محيص عنها وأصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منها وقتلوا قتلا ورموا في النار ووشروا بالمياشير (٢) ومنهم من وقاه الله

__________________

(١) الأعراف : ٢٥.

(٢) المياشير : المناشير : جمع ميشار بمعنى منشار.

٢٥٢

ذلك في بعض الأوقات ومنهم من عصمه كما عصم نبينا صلى الله عليه واله بعد من الناس.

فلئن لم يكف عن نبينا ربه تعالى يد ابن قميئة يوم أحد ولا حجبه عن عيون عداه عند دعوة أهل الطائف فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور وأمسك عنه سيف غورث وحجر أبي جهل وفرس سراقة ولئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم من سم اليهودية وكذا سائر أنبيائه مبتلى ومعافى.

وذلك من تمام حكمته ليظهر شرفهم في هذه المقامات ويبين أمرهم ويتم كلمته فيهم وليحقق بامتحانهم بشريتهم ويرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم وليكون في محنهم تسلية لأممهم ووفور لأجورهم عند ربهم تماما على الذي أحسن إليهم.

قال بعض المحققين وهذه الطواري والتغييرات المذكورة إنما يختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ومعاناة بني آدم لمشاكلة الجسم وأما بواطنهم فمنزهة غالبا عن ذلك معصومة منه متعلقة بالملإ الأعلى والملائكة لأخذها عنهم تلقيها الوحي منهم وقد قال صلى الله عليه واله إن عيني تنامان ولا ينام قلبي وقال : إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني وقال : إني لست أنسى ولكن أنسى ليستن بي.

فأخبر أن سره وباطنه وروحه بخلاف جسمه وظاهره وأن الآفات التي تحل ظاهره من ضعف وجوع ونوم وسهر لا يحل منها شيء باطنه بخلاف غيره من البشر في حكم الباطن لأن غيره إذا نام استغرق النوم جسمه وقلبه وهو في نومه عليه السلام حاضر القلب كما هو في يقظته حتى إنه جاء في بعض الآثار أنه كان محروسا من الحدث في نومه لكون قلبه يقظان كما ذكرناه.

٢٥٣

وكذلك غيره إذا جاع ضعف لذلك جسمه وحارت قوته وبطلت في الكلية حملته وهو عليه السلام قد أخبر أنه لا يعتريه ذلك وأنه بخلافهم بقوله لست كهيئتكم وكذلك أقول إنه في هذه الأحوال كلها من وصب ومرض وسحر وغضب لم يجر على باطنه ما يحل به ولا فاض منه على لسانه وجوارحه ما لا يليق به كما يعتري غيره من البشر.

تذييل

قال المحقق الطوسي قدس الله روحه في التجريد بعض الألم قبيح يصدر منا خاصة وبعضه حسن يصدر منه تعالى ومنا وحسنه إما لاستحقاقه أو لاشتماله على النفع أو دفع الضرر الزائدين أو لكونه عاديا أو على وجه الدفع ويجوز في المستحق كونه عقابا ولا يكفي اللطف في ألم المكلف في الحسن ولا يشترط في الحسن اختيار المتألم بالفعل والعوض نفع مستحق خال عن تعظيم وإجلال ويستحق عليه تعالى بإنزال الآلام وتفويت المنافع لمصلحة الغير وإنزال الغموم سواء استندت إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن لا ما يستند إلى فعل العبد وأمر عباده بالمضار وإباحته أو تمكين غير العاقل بخلاف الإحراق عند الإلقاء في النار والقتل عند شهادة الزور والانتصاف عليه تعالى واجب عقلا وسمعا فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم من دون عوض في الحال يوازي ظلمه.

فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله أعواضه على الأوقات أو تفضل عليه بمثلها وإن كان من أهل العقاب أسقط بها جزءا من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يفرق الناقص على الأوقات ولا يجب دوامه لحسن الزائد بما يختار معه الألم وإن كان منقطعا ولا يجب حصوله في الدنيا لاحتمال مصلحة التأخير والألم على القطع ممنوع مع أنه غير محل النزاع ولا يجب إشعار صاحبه بإيصاله عوضا ولا يتعين منافعه ولا يصح إسقاطه والعوض عليه تعالى يجب

٢٥٤

تزايده إلى حد الرضا عند كل عاقل وعلينا تجب مساواته.

وقال العلامة نور الله ضريحه في شرحه اعلم أنا قد بينا وجوب الألطاف والمصالح وهي ضربان مصالح في الدين ومصالح في الدنيا أعني المنافع الدنياوية ومصالح الدين إما مضار أو منافع والمضار منها آلام وأمراض وغيرهما كالآجال والغلاء والمنافع الصحة والسعة في الرزق والرخص.

واختلف الناس في قبح الألم وحسنه فذهبت الثنوية إلى قبح جميع الآلام وذهبت المجبرة إلى حسن جميعها من الله تعالى وذهبت البكرية وأهل التناسخ والعدلية إلى حسن بعضها وقبح الباقي واختلفوا في وجه الحسن.

إلى أن قال : وقالت المعتزلة إنه يحسن عند شروط أحدها أن يكون مستحقا وثانيها أن يكون نفع عظيم يوفى عليها وثالثها أن يكون فيها دفع ضرر أعظم منها ورابعها أن يكون مفعولا على مجرى العادة كما يفعله الله تعالى بالحي إذا ألقيناه في النار وخامسها أن يكون مفعولا على سبيل الدفع عن النفس كما إذا آلمنا من يقصد قتلنا لأنا متى علمنا اشتمال الألم على أحد هذه الوجوه حكمنا بحسنه قطعا وشرط حسن الألم المبتدإ الذي يفعله الله تعالى كونه مشتملا على اللطف إما للمتألم أو لغيره لأن خلو الألم عن النفع الزائد الذي يختار المولم معه الألم يستلزم الظلم وخلوه عن اللطف يستلزم العبث وهما قبيحان ولذا أوجب أبو هاشم في أمراض الصبيان مع الأعواض الزائدة اشتمالها على اللطف لمكلف آخر.

وجوز المصنف كأبي الحسين البصري أن تقع الآلام في الكفار والفساق عقابا للكافر والفاسق ومنع قاضي القضاة من ذلك وجزم بكون أمراضهم محنا لا عقوبات وذهب المصنف كالقاضي والشيخين إلى أنه لا يكفي اللطف في ألم المكلف في الحسن بل لا بد من عوض خلافا لجماعة اكتفوا باللطف ولو فرضنا اشتمال اللذة على اللطف الذي اشتمل عليه الألم هل يحسن منه تعالى فعل الألم بالحي

٢٥٥

لأجل لطف الغير مع العوض الذي يختار المكلف لو عرض عليه قال أبو هاشم نعم وأبو الحسين منع ذلك وتبعه المصنف.

ولا يشترط في حسن الألم المفعول ابتداء من الله تعالى اختيار المتألم للعوض الزائد عليه بالفعل وقيد الخلو عن تعظيم وإجلال ليخرج به الثواب.

والوجوه التي يستحق به العوض على الله تعالى أمور :

الأول إنزال الآلام بالعبد كالمرض وغيره.

الثاني : تفويت المنافع إذا كانت منه تعالى لمصلحة الغير فلو أمات الله تعالى ابنا لزيد وكان في معلومه تعالى أنه لو عاش لا ينفع به زيد لاستحق عليه تعالى العوض عما فاته من منافع ولده ولو كان في معلومه تعالى عدم انتفاعه به لأنه يموت قبل الانتفاع منه لم يستحق منه عوضا لعدم تفويت المنفعة منه تعالى ولذلك لو أهلك ماله استحق العوض بذلك سواء أشعر بهلاك ماله أو لم يشعر لأن تفويت المنفعة كإنزال الألم ولو آلمه ولم يشعر به لاستحق العوض وكذا لو فوت عليه منفعة لم يشعر بها وعندي في هذا الوجه نظر.

الثالث : إنزال الغموم بأن يفعل الله تعالى أسباب الغم أما الغم الحاصل من العبد نفسه فإنه لا عوض فيه عليه تعالى.

الرابع : أمر الله تعالى عباده بإيلام الحيوان أو إباحته سواء كان الأمر للإيجاب أو للندب فإن العوض في ذلك كله على الله تعالى.

الخامس : تمكين غير العاقل مثل سباع الوحش وسباع الطير والهوام وقد اختلف أهل العدل هنا على أربعة أقوال فذهب بعضهم إلى أن العوض على الله تعالى مطلقا ويعزى إلى الجبائي وقال آخرون إن العوض على فاعل الألم عن أبي علي وقال آخرون لا عوض هنا على الله تعالى ولا على الحيوان.

وقال القاضي : إن كان الحيوان ملجأ إلى الإيلام كان العوض عليه تعالى وإن لم يكن ملجأ كان العوض على الحيوان وإذا طرحنا صبيا في النار فاحترق فإن الفاعل للألم هو الله تعالى والعوض علينا ويحسن لأن فعل الألم واجب

٢٥٦

في الحكمة من حيث إجراء العادة والله قد منعنا من طرحه ونهانا عنه فصار الطارح كأنه الموصل إليه الألم فلهذا كان العوض علينا دونه تعالى وكذلك إذا شهد عند الإمام شاهدا زور بالقتل فإن العوض على الشهود وإن كان الله تعالى قد أوجب القتل والإمام تولاه وليس عليهما عوض لأنهما أوجبا بشهادتهما على الإمام إيصال الألم إليه من جهة الشرع فصار كأنهما فعلاه لأن قبول الشاهدين عادة شرعية يجب إجراؤها على قانونها كالعادات الحسية.

واختلف أهل العدل في وجوب الانتصاف عليه تعالى فذهب قوم منهم إلى أن الانتصاف للمظلوم من الظالم واجب على الله تعالى عقلا لأنه هو المدبر لعباده فنظره نظر الوالد لولده وقال آخرون منهم إنه يجب سمعا والمصنف رحمه‌الله اختار وجوبه عقلا وسمعا وهل يجوز أن يمكن الله تعالى من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي ظلمه فمنع منه المصنف قدس‌سره.

وقد اختلف أهل العدل هنا فقال أبو هاشم والكعبي إنه يجوز لكنهما اختلفا فقال الكعبي يجوز أن يخرج من الدنيا ولا عوض له يوازي ظلمه وقال إن الله تعالى يتفضل عليه بالعوض المستحق عليه ويدفعه إلى المظلوم وقال أبو هاشم لا يجوز بل يجب التقية لأن الانتصاف واجب والتفضل ليس بواجب ولا يجوز تعليق الواجب بالجائز.

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه إن التقية تفضل أيضا فلا يجوز تعليق الانتصاف بها فلهذا وجب العوض في الحال واختاره المصنف رحمه‌الله لما ذكرناه.

واعلم أن المستحق للعوض إما أن يكون مستحقا للجنة أو للنار فإن كان مستحقا للجنة فإن قلنا إن العوض دائم فلا بحث وإن قلنا إنه منقطع توجه الإشكال بأن يقال لو أوصل العوض إليه ثم انقطع عنه حصل له الألم بانقطاعه.

والجواب من وجهين الأول أنه يوصل إليه عوضه متفرقا على الأوقات بحيث لا يتبين له انقطاعه فلا يحصل له الألم الثاني أن يتفضل الله تعالى عليه

٢٥٧

بعد انقطاعه بمثله دائما فلا يحصل له ألم وإن كان مستحقا للعقاب جعل الله عوضه جزءا من عقابه بمعنى أنه يسقط من عقابه بإزاء ما يستحقه من الأعواض إذ لا فرق في العقل بين إيصال النفع ودفع الضرر في الإيثار.

فإذا خفف عقابه وكانت آلامه عظيمة علم أن آلامه بعد إسقاط ذلك القدر من العقاب أشد ولا يظهر له أنه كان في راحة أو نقول إنه تعالى ينقص من آلامه ما يستحقه من أعواضه متفرقا على الأوقات بحيث لا تظهر له الخفة من قبل.

واختلف في أنه هل يجب دوام العوض أم لا فقال الجبائي يجب دوامه وقال أبو هاشم لا يجب واختاره المصنف رحمه‌الله ولا يجب إشعار مستحق العوض بتوفيره عوضا له بخلاف الثواب وحينئذ أمكن أن يوفره الله تعالى في الدنيا على بعض المعوضين غير المكلفين وأن ينتصف لبعضهم من بعض في الدنيا ولا تجب إعادتهم في الآخرة والعوض لا يجب إيصاله في منفعة معينة دون أخرى بل يصح توفيره بكل ما يحصل فيه شهوة المعوض بخلاف الثواب لأنه يجب أن يكون من جنس ما ألفه المكلف من ملاذه.

ولا يصح إسقاط العوض ولا هبته ممن وجب عليه في الدنيا ولا في الآخرة سواء كان العوض عليه تعالى أو علينا هذا قول أبي هاشم والقاضي وجزم أبو الحسين بصحة إسقاط العوض علينا إذا استحل الظالم من المظلوم وجعله في حل بخلاف العوض عليه تعالى فإنه لا يسقط لأن إسقاطه عنه تعالى عبث لعدم انتفاعه به.

ثم قال بعد إيراد دليل القاضي على عدم صحة الهبة مطلقا والوجه عندي جواز ذلك لأنه حقه وفي هبته نفع للموهوب ويمكن نقل هذا الحق إليه وعلى هذا لو كان العوض مستحقا عليه تعالى أمكن هبة مستحقه لغيره من العباد أما الثواب المستحق عليه تعالى فلا يصح منا هبته لغيرنا لأنه مستحق بالمدح فلا يصح نقله إلى من لا يستحقه.

٢٥٨

ثم قال العوض الواجب عليه تعالى يجب أن يكون زائدا على الألم الحاصل بفعله أو بأمره أو بإباحته أو بتمكينه لغير العاقل زيادة تنتهي إلى حد الرضا من كل عاقل بذلك العوض في مقابلة ذلك الألم لو فعل به لأنه لو لا ذلك لزم الظلم أما مع مثل هذا العوض فإنه يصير كأنه لم يفعل.

وأما العوض علينا فإنه يجب مساواته لما فعله من الألم أو فوته من المنفعة لأن الزائد على ما يستحق عليه من الضمان يكون ظلما ولا يخرج ما فعلناه بالضمان عن كونه ظلما قبيحا فلا يلزم أن يبلغ الحد الذي شرطناه في الآلام الصادرة عنه تعالى.

انتهى ملخص ما ذكره قدس‌سره وإنما ذكرناها بطولها لتطلع على ما ذكره أصحابنا تبعا لأصحاب الاعتزال وأكثر دلائلهم على جل ما ذكر في غاية الاعتلال بل ينافي بعض ما ذكروه كثير من الآيات والأخبار ونقلها وتحصيلها وشرحها وتفصيلها لا يناسب هذا الكتاب والله أعلم بالصواب وسيأتي بعض القول إن شاء الله تعالى عن قريب.

١٣

(باب)

(أن المؤمن مكفر)

أقول : سنورد إن شاء الله تعالى عدة أخبار في هذا المعنى في طي بابين من أبواب كتاب العشرة كما ستعرف ولنذكر هنا أيضا شطرا منها.

١ ـ ع : عن ابن المتوكل عن السعدآبادي عن البرقي بإسناده يرفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : المؤمن مكفر وذلك أن معروفه يصعد إلى الله عز وجل فلا ينتشر في الناس والكافر مشهور وذلك أن معروفه للناس ينتشر في الناس

٢٥٩

ولا يصعد إلى السماء (١).

٢ ـ ع : عن علي بن حاتم عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل عن الحسين بن موسى عن أبيه عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جده عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه واله مكفرا لا يشكر معروفه ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي ومن كان أعظم معروفا من رسول الله صلى الله عليه واله على هذا الخلق.

وكذلك نحن أهل البيت مكفرون لا يشكر معروفنا وخيار المؤمنين مكفرون لا يشكر معروفهم (٢).

٣ ـ كا : عن محمد بن يحيى عن ابن عيسى عن الحجال عن داود بن أبي يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال : المؤمن مكفر وفي رواية أخرى وذلك أن معروفه يصعد إلى الله فلا ينشر في الناس والكافر مشكور (٣).

بيان : المؤمن مكفر على بناء المفعول من التفعيل أي لا يشكر الناس معروفه بقرينة تتمة الخبر وقد قال الفيروزآبادي المكفر كمعظم المجحود النعمة مع إحسانه والموثق في الحديد وقال الجزري في النهاية فيه المؤمن مكفر أي مرزأ في نفسه وماله لتكفر خطاياه انتهى وهذا الوجه لا يحتمل في هذه الأخبار.

وكأن المراد بالتعليل أن معروفه لما كان خالصا لله مقبولا عنده لا يرضى له بأن يثيبه في الدنيا فتكفر نعمته ليكمل ثوابه في الآخرة والكافر لما لم يكن مستحقا لثواب الآخرة يثاب في الدنيا كعمل الشيطان.

وقيل : هو مبني على أن المؤمن يخفي معروفه من الناس ولا يفعله رئاء ولا سمعة فيصعد إلى الله ولا ينتشر في الناس والكافر يفعله علانية رياء وسمعة

__________________

(١) علل الشرائع ج ٢ ص ٢٤٧.

(٢) المصدر ج ٢ ص ٢٤٧.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٢٥١.

٢٦٠