المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

٦١٣ ـ الواسطة في العروض

هو المعبّر عنه بمصحّح الحمل بحيث لولاه لكان الحمل غلطا أو كذبا ، وهي عبارة عمّا يقوّم العرض « المحمول » ، فمثلا : حينما يقال : « الميزاب جار » فإنّ المصحّح لنسبة الجريان للميزاب ـ رغم انّه ليس هو الجاري حقيقة ـ هو الماء فهو مقوّم العرض « الجريان » أي انّ موضوع الجريان حقيقة هو الماء ، فالماء هو الواسطة في العروض أي هو المصحّح لحمل الجريان على الميزاب.

وبتعبير آخر : انّ الواسطة في العروض هي المصحّح للإسناد المجازي ، فإنّ اسناد الجريان للميزاب مجازي والمصحّح لهذا الإسناد هو الماء والذي تربطه بالميزاب علاقة الظرفيّة والمظروفيّة ، فلأنّ الماء مظروف للميزاب والميزاب ظرفه صحّ أن يحمل الجريان والذي هو العرض المتقوّم بالماء حقيقة على الميزاب.

فالواسطة في العروض هي ما يصحّح اسناد الشيء الى غير ما هو له.

* * *

٦١٤ ـ الوجوب الاضطراري

الوجوب الاضطراري تارة يلاحظ من جهة موضوعه وأخرى يلاحظ من جهة متعلّقه.

فإذا لوحظ من جهة الموضوع فهو بمعنى الوجوب الثابت في ظرف العجز عن امتثال الوجوب الاختياري والذي يكون متعلّقه واجدا لتمام الأجزاء والشرائط. فالعجز عن امتثال الوجوب الاختياري هو موضوع الوجوب الاضطراري.

وأمّا إذا لوحظ من جهة المتعلّق فهو بمعنى الوجوب الثابت لمتعلّق لم يكن مطلوبا وواجدا للملاك لو لا العجز والاضطرار.

وبذلك يتّضح أنّ الوجوب الاضطراري لا يصحّ إطلاقه إلاّ على مورد يكون واجدا لكلا الخصوصيّتين ؛ الأولى خصوصيّة الموضوع والتي هي العجز عن امتثال

٦٠١

الوجوب الاختياري ، والثانية هي خصوصيّة المتعلّق حيث لا يكون الوجوب اضطراريّا إلاّ عند ما يكون متعلّقه واجدا لملاك الأمر حين العجز وفاقدا له في ظرف القدرة على متعلّق الوجوب الاختياري.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ الأمر الأقلّ أهميّة في مقابل الأمر الأهمّ ملاكا في ظرف التزاحم ليس أمرا اضطراريّا ، فهو وإن كانت فعليّته منوطة مثلا بالعجز عن امتثال الأمر الأكثر أهميّة إلاّ أنّ متعلّقه واجدا للمصلحة في نفسه وبقطع النظر عن الوجوب الأكثر أهميّة.

وأمّا الوجوب الاضطراري فليس كذلك حيث أنّ متعلّقه لا يكون واجدا للملاك إلاّ مع افتراض العجز عن متعلّق الوجوب الاختياري.

ومثال الوجوب الاضطراري هو الوجوب الثابت للصلاة الفاقدة لبعض الأجزاء أو الشرائط ، وكذلك وجوب التيمّم ، ففي كلا المثالين يكون الوجوب واجدا لكلا الخصوصيّتين ، إذ أنّ موضوع الوجوب للتيمّم مثلا هو العجز عن امتثال الأمر بالوضوء أو الغسل ، ثمّ إنّ التيمّم والذي هو متعلّق الوجوب ليس واجدا لملاك الجعل لو لا العجز عن متعلّق الأمر بالوضوء.

* * *

٦١٥ ـ الوجوب والواجب

الوجوب حكم تكليفي معناه الإلزام بفعل ممّن له حقّ الطاعة ، فمعنى وجوب الصوم هو الإلزام من قبل المولى بفعله ، فهو بتعبير آخر اعتبار اللزوم لفعل ثابتا في عهدة من تجب عليه الطاعة للمعتبر.

وأمّا الواجب فهو متعلّق الوجوب أي الفعل المطلوب بنحو اللزوم ، فكلّ فعل أمر المولى بإيجاده على نحو اللزوم فهو واجب ، فالواجب وصف للفعل اللازم إيجاده ، فهو ليس حكما شرعيّا وإنّما هو متعلّق الحكم الشرعي.

ومثاله الصوم والصلاة والحجّ والنفقة على الزوجة فهذه كلّها أفعال صحّ وصفها بالواجبات ، لأنّ المولى

٦٠٢

أوقع الوجوب عليها.

وخلاصة الكلام أنّ الوجوب وصف للإلزام ، وأمّا الواجب فهو وصف للفعل المطلوب بنحو الإلزام.

* * *

٦١٦ ـ الوجود الرابط والوجود الرابطي

ينقسم الوجود بلحاظ التصوّر الى قسمين :

القسم الأول : هو ما يعبّر عنه بالوجود في نفسه ، وهو ما يكون تصوّره بنحو الاستقلال عينا كتصوّر المفاهيم الماهويّة المعبّر عنها في المصطلح الاصولي بالمعاني الاسميّة ، وعندئذ يكون الوجود كأحد المعاني الاسمية القابلة لأن تقع موضوعا أو محمولا في القضايا.

ولأنّ الوجود عادة ما يقع محمولا عبّر عن هذا القسم بالوجود المحمولي ، فالوجود المحمولي هو ما يكون محمولا على احدى الماهيّات ، ويعبّر عن القضايا التي يكون الوجود محمولا فيها على احدى الماهيات بالقضايا الثنائية أو القضايا البسيطة ، كما يعبّر عن حمل الوجود على احدى الماهيات بالحمل البسيط.

ومنشأ التعبير عن هذا القسم بالوجود في نفسه ـ كما يعبّر عن حمل الوجود على احدى الماهيات بالحمل البسيط.

ومنشأ التعبير عن هذا القسم بالوجود في نفسه ـ كما أفاد الشيخ المطهري رحمه‌الله ـ هو ما ذكره علماء اللغة في مقام تعريف الاسم بأنّه « ما دلّ على معنى في نفسه » أي ما كان حضوره في الذهن بنحو مستقل فلا يناط تصوّره بتصوّر شيء آخر.

القسم الثاني : هو ما يعبّر عنه بالوجود لا في نفسه ، وهو ما يكون تصوّره منوطا بتصوّر مفهومين استقلالين وتكون وظيفته الربط بينهما ، وهذا هو المعبّر عنه بالوجود الرابط ، فهو ليس موضوع القضيّة الحملية كما انّه ليس محمولا فيها وانّما هو الرابط بين المحمول والموضوع ،

٦٠٣

فحينما يقال : « زيد عالم » فإنّ الوجود ليس طرفا في هذه القضيّة وانّما هو الرابط بين زيد والعالم ، إذ انّ مآل هذه القضيّة هو انّ « زيدا الموجود عالم » ، ولهذا يعبّر عن هذه القضايا بالقضايا الثلاثيّة أو القضايا المركبة.

وبهذا اتضح منشأ التعبير عن الوجود لا في نفسه بالوجود الرابط ، وأمّا منشأ التعبير عنه بالوجود لا في نفسه فهو ما ذكره علماء اللغة في مقام التعريف للحرف وانّه « ما دلّ على معنى في غيره » ، فكما انّ معنى الحرف غير قابل للتصوّر بنحو مستقل عن طرفيه فكذلك الوجود الرابط.

والمتحصل انّ الوجود إذا كان بنحو المعنى الاسمي فهو وجود محمولي ، واذا كان بنحو المعنى الحرفي فهو وجود رابط.

ثمّ انّ الوجود المحمولي ينقسم الى وجود في نفسه لنفسه والى وجود في نفسه لغيره ، وهذا التقسيم للوجود المحمولي لا يتصل بعالم الذهن كما هو الحال في التقسيم الأول بل هو بلحاظ الخارج ، فالوجود المحمولي بلحاظ الخارج تارة يكون لنفسه وتارة يكون لغيره ، فإذا كان الوجود قائما بنفسه أي انّ له تقرر في الخارج بنحو مستقل عن الوجودات الاخرى فهو الموجود في نفسه لنفسه ويعبّر عنه بالوجود الجوهري وبالموجود لا في موضوع كوجود الإنسان والشجر والحجر.

أمّا لو كان الوجود متقوّما بغير ـ بمعنى انّ وجوده حالة وصفه لغيره ـ فهذا هو الموجود في نفسه لغيره ، أمّا انّه موجود في نفسه فلان تصوّره يكون بنحو المعنى الاسمي الاستقلالي ، وأمّا انّه موجود لغيره فلأنّ وجوده في الخارج لا يكون إلاّ في اطار موضوع ، وهذا هو المعبّر عنه بالعرض وهو الوجود الرابطي.

* * *

٦١٧ ـ الوجود المحمولي

الوجود المحمولي هو الوجود بمفاد كان التامّة ، ومفاد كان التامّة هو ثبوت الوجود لشيء ، فعند ما يحمل الوجود على واحد من الماهيات فإنّ

٦٠٤

ذلك معناه ثبوت الوجود لتلك الماهيّة وهذا ما يعبّر عنه بالوجود المحمولي.

وبتعبير آخر :

إنّ الوجود المحمولي يعني انتساب الوجود لواحد من الماهيات بما يؤدّي روحا إلى تشكّل قضيّة حمليّة موضوعها واحد من الماهيات ومحمولها الوجود ، فحينما ينتسب الوجود لزيد فإنّ معنى ذلك أنّ زيدا موجود ، وهذه قضيّة حمليّة موضوعها زيد ومحمولها الوجود.

ولمزيد من التوضيح راجع ما ذكرناه تحت عنوان الاستصحاب في المحمولات الثانويّة.

* * *

٦١٨ ـ الوجود النعتي

المراد من الوجود النعتي هو الوجود بمفاد كان الناقصة ، ومفاد كان الناقصة هو ثبوت نعت من النعوت لموضوع بعد الفراغ عن وجوده المحمولي.

وبتعبير آخر :

تارة يحمل الوجود على الموضوع ، وهذا هو ما يعبّر عنه بالوجود المحمولي ، وتارة يحمل واحد من النعوت على موضوع ، وهذا ما يعبّر عنه بالوجود النعتي ، والحمل الثاني يقتضي أن يكون الوجود المحمولي مفروغا عن ثبوته للموضوع ، إذ ثبوت نعت لموضوع فرع وجود الموضوع في مرحلة سابقة.

ولمزيد من التوضيح راجع ما ذكرناه تحت عنوان الاستصحاب في المحمولات الثانويّة وعنوان العدم النعتي.

* * *

٦١٩ ـ الورود

المراد من الورود هو أن يكون أحد الدليلين نافيا لموضوع الدليل الآخر حقيقة إلاّ انّ منشأ الرفع الحقيقي هو التعبّد الشرعي ، بمعنى انّ الواسطة في ارتفاع موضوع الدليل المورود حقيقيّة هو التعبّد الشرعي ، وهذا يقتضي أن يكون موضوع الحكم في الدليل المورود من العناوين التي يمكن

٦٠٥

ارتفاعها حقيقة بواسطة التعبّد الشرعي ، وهذا في مقابل العناوين التي لا يتعقّل ارتفاعها حقيقة بواسطة التعبّد الشرعي ، فإمّا أن تكون مرتفعة تكوينا وإلاّ فلا مجال لرفعها بواسطة الشارع حقيقة ، نعم يمكن ارتفاعها بواسطة التعبّد تنزيلا.

وهذا هو المائز الجوهري بين الورود والتخصّص حيث انّ كلاهما يشتركان في انّ موردهما هو ارتفاع موضوع أحد الدليلين بالدليل الآخر حقيقة ، والفرق بينهما انّما هو من جهة سنخ الموضوع المرتفع حقيقة بواسطة الدليل الآخر ، فإن كان من العناوين التي لا يتعقّل ارتفاعها بواسطة التعبّد فهذا معناه انّ رفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر كان بنحو التخصّص ، وان كان من العناوين التي يتعقّل ارتفاعها حقيقة بواسطة التعبّد وكان منشأ الارتفاع الحقيقي لموضوع الدليل الأوّل هو التعبّد فهذا هو الورود.

ومثال ذلك : قوله تعالى : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (١) ، فإنّ هذه الآية الشريفة تقتضي جواز نكاح النساء ، فلو قام الدليل القطعي على انّ هندا ليست من النساء وانّما هي خنثى فإنّ هذا الدليل يكون نافيا لموضوع الدليل الأوّل حقيقة ، وانتفاء موضوع الدليل الأوّل بنحو الحقيقة لا يكون إلاّ بالتخصّص ، وذلك لأنّ سنخ الموضوع المأخوذ في الدليل الاوّل لا يتعقّل انتفاؤه حقيقة بواسطة التعبّد كما هو واضح ، إذ ضابطة ما يمكن ارتفاعه حقيقة بواسطة التعبّد هو ما يمكن ثبوته حقيقة بواسطة التعبّد.

ومن الواضح انّ اثبات انّ هذا الإنسان من النساء لا يمكن ان يثبت بواسطة التعبّد ، فحتّى لو أخبر الشارع انّه من النساء فإنّه محض اخبار ، فهو من الوسائل التي يتعرّف بها على ثبوت الموضوع أو انتفاؤه واقعا ، ولهذا حتى لو ثبت انّ هذه خنثى بواسطة اخبار الشارع فإنّ انتفاء موضوع الدليل الأوّل يكون بالتخصّص أيضا.

نعم يمكن أن ينفي الشارع موضوعا من سنخ هذه الموضوعات التي لا

٦٠٦

يتعقّل نفيها حقيقة بواسطة التعبّد إلاّ انّ هذا النفي لن يكون حقيقيّا بل هو نفي تنزيلي ، وهذا هو المعبّر عنه بالحكومة ، ومثاله ان يعتبر الشارع انّ هذه المرأة ليست من النساء ، وبهذا ينتفي موضوع الدليل الأوّل ، فلا يكون نكاحها جائزا.

وأمّا مثال الورود فهو ما لو قال المولى : « يحرم الإسناد بغير حجّة » ثمّ قام الدليل على انّ خبر الثقة حجّة ، فإنّ هذا الدليل الثاني يكون نافيا لموضوع الدليل الأوّل حقيقة ، ولهذا لا يكون الإسناد الى الشارع اعتمادا على خبر الثقة حراما لانتفاء موضوع الحرمة وهو عدم الحجّة حقيقة ، غايته انّ انتفاء موضوع الحرمة كان بواسطة التعبّد الشرعي.

وتلاحظون انّ انتفاء هذا النحو من الموضوعات حقيقة مما يتعقّل تحقّقه بواسطة التعبّد الشرعي ، إذ انّ الحجّة والتي هي المنجّزيّة والمعذريّة من الموضوعات التي للشارع بما هو شارع خلقها وايجادها بنحو الحقيقة ، أي انّ جعل الشارع الحجيّة لشيء يصيره حجّة حقيقة ، ولهذا يكون الدليل الثاني واردا على الدليل الأوّل ونافيا لموضوعه حقيقة غايته انّ ذلك تمّ بواسطة التعبّد الشرعي. وبهذا القيد اتّضح انّ اسناد شيء للشارع بواسطة القطع ليس من الورود ، وذلك لأنّه وان كان الموضوع من سنخ العناوين القابلة للنفي والإثبات الحقيقي بواسطة التعبّد الشرعي إلاّ انّ انتفاء موضوع الدليل الأوّل في الفرض المذكور لم يتمّ بواسطة التعبّد وانّما تمّ بواسطة القطع.

وبما ذكرناه يتّضح انّ الورود لا يكون إلاّ في حالة يكون الموضوع فيها من سنخ العناوين القابلة للنفي والإثبات الحقيقي بواسطة التعبّد الشرعي على أن يكون انتفاء موضوع الدليل الأوّل تمّ بواسطة التعبّد الشرعي ، إذ قد لا يتّفق ذلك.

فمثلا : لو قام الدليل على وجوب التصدّق على الفقير ، ثمّ قام دليل آخر على انّ الفقير هو الذي لا يملك قوت يومه فإنّ هذا الدليل يكون واردا على

٦٠٧

الدليل الأوّل ، وذلك لأنّ عنوان الفقير من الموضوعات التي يمكن نفيها واثباتها بواسطة التعبّد الشرعي ، وبذلك ينتفي موضوع الدليل الأوّل حقيقة عن الشخص الذي يملك قوت يومه وإن لم يكن مالكا لقوت سنته ولذلك لا يجب التصدّق عليه.

إلاّ انّه قد لا ينتفي موضوع الدليل الأوّل بواسطة التعبّد كما لو لم يتصدّ الشارع لتحديد معنى الفقير واتّكل في ذلك على العرف واتّفق ان كان معنى الفقير بنظر العرف هو من لا يملك قوت يومه ، فإنّ هذا الفهم العرفي لمعنى الفقير يكون نافيا لموضوع الدليل الأوّل ، بمعنى انّه ناف لموضوعيّة الذي يملك قوت يومه ـ وإن لم يكن مالكا لقوت سنته ـ للدليل الأوّل وبذلك لا يجب التصدّق عليه إلاّ انّ هذا الانتفاء لا يكون من الورود ، إذ لم يثبت الانتفاء بواسطة التعبّد وان كان الموضوع المنتفي من سنخ الموضوعات القابلة للنفي والإثبات الحقيقي بواسطة التعبّد الشرعي.

وبهذا يتحدّد المراد من الورود وانّه ليس بين الدليل الوارد والدليل المورود تعارض ، إذ انّ التعارض ـ كما اتّضح في محلّه ـ يعني التنافي بين مدلولي الدليلين ، وهذا يعني تكاذب الدليلين في مرحلة الجعل ، فأحدها ينفي واقعيّة مدلول الدليل الآخر ، وأمّا المقام فليس من هذا القبيل ، إذ لا تنافي أصلا بين الدليل الوارد والدليل المورود في مرحلة الجعل ، والتنافي بينهما انّما هو في مرحلة المجعول ، فأحدهما ينفي فعليّة الحكم للآخر بواسطة نفي موضوعه والذي يكون تحقّقه ووجوده هو مناط بلوغ الحكم مرحلة الفعليّة ـ كما أوضحنا ذلك مرارا ـ ولهذا لا يكون تقدّم الدليل الوارد على الدليل المورود محتاجا لأكثر من تصوّر المطلب.

* * *

٦٢٠ ـ الوضع

لا إشكال بين الأعلام في أنّ ثمّة علاقة سببيّة بين اللفظ والمعنى

٦٠٨

بمقتضاها يكون خطور اللفظ في الذهن سببا لانخطار المعنى في الذهن ، وهذه السببيّة الواقعة بينهما لا يمكن أن تنشأ دون مبرّر ، ولهذا وقع البحث عمّا هو المبرّر لهذه العلاقة السببيّة ، وهنا احتمالان ثبوتيان :

الاحتمال الأوّل : انّ المبرّر لهذه العلاقة هي المناسبة الذاتيّة بين اللفظ والمعنى ، أي انّ دلالة اللفظ على المعنى المحسوسة بالوجدان ناشئة عن كون اللفظ بذاته سببا لوجود المعنى ، فالمعنى لازم ذاتي للفظ كما انّ الحرارة لازم ذاتي للنار ، أي انّها ناشئة عن مقام الذات للنار ، ولهذا يستحيل تخلّفها عن النار ، وهكذا الكلام في المعنى بالنسبة للفظ فهو محمول خارج عن ذات اللفظ لازم له وهذا اللزوم ناشئ عن مقام الذات للفظ ، وهو ما يقتضي استحالة تخلّف انخطار المعنى عند اطلاق اللفظ.

الاحتمال الثاني : انّ المبرّر لهذه العلاقة هو عامل خارجي أي انّ العلاقة ليست مقتضاة عن ذات اللفظ والمعنى بل هي ناشئة عن الجعل والاعتبار وهذا هو المعبّر عنه بالوضع.

وهذا الاحتمال هو الذي تبنّاه الأعلام حيث اتّفقوا على انّ منشأ العلقة الواقعة بين اللفظ والمعنى هو الوضع إلاّ انّهم اختلفوا فيما هي حقيقة هذا الوضع. فقد ذكر السيّد الصدر رحمه‌الله انّه يمكن تقسيم الإتجاهات في تفسير حقيقة الوضع الى اتّجاهين :

الاتّجاه الأوّل : يفسّر العلاقة بين اللّفظ والمعنى على أساس انّها ملازمة واقعيّة تكوينيّة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له اللفظ ، فهي نظير الملازمات الواقعيّة التكوينيّة الثابتة بين شيئين أو أشياء ، كالملازمة بين زوجيّة العدد والانقسام الى متساويين ، فإنّ هذه الملازمة ثابتة في نفس والواقع ، وهكذا الحال في العلاقة بين اللفظ والمعنى ، غايته انّ الملازمة الذاتيّة التكوينيّة ثابتة من الأزل ، وأمّا الملازمة بين اللفظ والمعنى فإنّها وان كانت واقعيّة تكوينيّة إلاّ انّها ناشئة عن الجعل والاعتبار ، وهذا لا

٦٠٩

يعني انّ الجعل والاعتبار هو المقوّم للملازمة بل بمعنى انّه علّة لإحداث الملازمة وبعد انحداث الملازمة بواسطة الجعل تصبح ملازمة واقعيّة تكوينيّة ، فنشوؤها عن الجعل والاعتبار لا يضرّ بواقعيّتها.

وقد أورد على هذا الاتّجاه بأن افتراض نشوء الملازمة عن الجعل والاعتبار يساوق عدم كون الملازمة واقعيّة ، إذ انّ الملازمة الواقعيّة لا تنشأ إلاّ عن سببيّة ذاتيّة حقيقيّة والفرض انّ الجعل والاعتبار ليس كذلك ، وحينئذ لا يكون مسبّبة واقعيا حقيقيا.

وبتعبير آخر : انّ الامور الواقعيّة غير قابلة للجعل والاعتبار إذ انّها لا تنشأ إلاّ عن أسباب حقيقيّة ، بمعنى انّ السببيّة تنشأ عن مقام الذات للسبب ، فإذا لم تكن سبيّة الاعتبار ذاتيّة فمن غير المعقول أن يكون مسبّبها واقعيا لعدم التسانخ بين السبب والمسبّب.

الاتّجاه الثاني : انّ العلاقة بين اللفظ والمعنى تنشأ عن عمليّة معيّنة يمارسها الواضع تنحدث عنها سببيّة بين اللفظ والمعنى ، هذه العمليّة عبارة عن اعتبار صفة خاصّة للفظ ـ كاعتباره علامة أو وجودا تنزيليّا للمعنى ـ هذه الصفة المعتبرة للفظ ينشأ عنها انخطار المعنى عند اطلاق اللفظ.

وهذا الاتّجاه هو السائد بين الأعلام إلاّ أنّهم مع ذلك اختلفوا في حقيقة هذه العمليّة التي يترتّب عليها علاقة السببيّة فالمشهور ذهبوا الى انّها عمليّة اعتبارية مع اختلافهم فيما هو المعتبر ، وأمّا السيّد الخوئي رحمه‌الله فذهب الى انّها عبارة عن التعهّد ، وقد أوضحنا المراد من نظريّة الاعتبار ونظريّة التعهّد تحت عنوانيهما.

* * *

٦٢١ ـ الوضع التعييني والتعيّني

الوضع التعييني هو الوضع الذي ينشأ عن تصدّي الواضع لجعل لفظ دالا على معنى بحيث يبذل عناية خاصّة يقصد منها انشاء علاقة السببيّة بين اللفظ والمعنى ، ومثاله ان يعتبر الواضع لفظ الأسد دالا على

٦١٠

الحيوان المفترس.

وأمّا الوضع التعيّني فهو العلاقة بين اللفظ والمعنى الناشئة اتفاقا ودون تصد من الواضع لذلك كأن يتفق أن يكثر استعمال لفظ في معنى بحيث تكون هذه الكثرة الاستعماليّة هي التي أنشأت الإنس الذهني بين اللفظ والمعنى لدرجة يكون اطلاق اللفظ موجبا لانخطار المعنى.

* * *

٦٢٢ ـ الوضع الشخصي

وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بنفسه ، أي انّ الملحوظ للواضع هو شخص اللفظ ، وذلك بأن يتصوّر الواضع اللفظ بمادته وهيئته ثمّ يضعه بإزاء معنى من المعاني ، فاللفظ بخصوصيّاته الشخصيّة المتّصلة بمادّته وهيئته والتي تميّزه عمّا سواه هو الملحوظ في الوضع الشخصي ، بمعنى انّه لو تخلّفت احدى الخصوصيّات لما كان ذلك اللفظ هو مورد الوضع.

ويمكن التمثيل لهذا القسم من الوضع بأسماء الأجناس وبأسماء الأعلام الشخصيّة ، إذ انّ الواضع يتصوّر مثلا لفظ « أسد » بمادّته ـ وهي الألف والسين والدال ـ وهيئته « فعل » بفتح الفاء والعين ثمّ يضع هذا اللفظ بإزاء معنى كلّي وهو الحيوان المفترس.

وهذا هو الوضع الشخصي لأسماء الأجناس ، وأمّا الوضع الشخصي لأسماء الأعلام الشخصيّة فمثاله أن يتصوّر الواضع لفظ « زيد » بمادّته وهيئته ثمّ يضعه بإزاء معنى جزئي وهو في المثال ذات من أفراد الإنسان.

* * *

٦٢٣ ـ وضع المركّبات

البحث في المقام عن أنّ المركّبات اللفظيّة هل وضعت بإزاء معان محدّدة بوضع مستقلّ عن وضع موادها وهيئاتها أو أنّه ليس في البين سوى وضع الموادّ بوضع شخصي ووضع الهيئات بوضع نوعي.

وبيان ذلك :

إنّ كلّ مركّب لفظي يتمّ تحصيل

٦١١

مفاده بواسطة وضعين ؛ الأوّل يعبّر عنه بالوضع الشخصي وهذا النحو من الوضع يكون للأسماء وموادّ الأفعال وسائر المشتقّات ، والثاني يعبّر عنه بالوضع النوعي وهو ما يكون للهيئات الأفراديّة وهيئات الجمل التامّة والناقصة.

أمّا الهيئات الأفراديّة فمثل هيئة الفعل واسم الفاعل واسم المفعول وصيغ المبالغة ، وأمّا هيئات الجمل فمثل هيئة الجمل الفعليّة والجمل الاسميّة وهيئة الجمل الوصفيّة والشرطيّة والحصريّة وغير ذلك.

فحينما يقال ( زيد نائم ) فإنّ المعنى المتحصّل من هذا المركّب اللفظي استفيد بواسطة الوضع الشخصي لاسم زيد ، ومادّة اسم الفاعل ( نوم ) ، والوضع النوعي لهيئة اسم الفاعل ( نائم ) وهيئة الجملة الاسميّة الموضوعة لقصد الحكاية والإخبار.

وعندئذ يقع البحث عن هذا المركّب وهو ( زيد نائم ) هل وضع بوضع آخر غير الوضعين المذكورين ، وهكذا لو غيّرنا موادّ المركّب فقلنا مثلا ( محمّد عالم ) فهل يكون هذا المركّب قد وضع بوضع آخر غير الموضوع له المركّب السابق وهكذا المركّب الثالث والرابع.

وبذلك يتّضح محلّ النزاع وأنّه عبارة عن البحث عن كلّ مركّب إذا اختلفت موادّه فهل يكون قد وضع بوضع مستقلّ عن الوضعين المذكورين أو لا.

فلو كان الجواب بالإيجاب لكان معنى ذلك هو أنّ صياغة عشرين مركّب بموادّ مختلفة وهيئة واحدة تقتضي أن يكون في البين عشرون وضع ، كلّ وضع على حدة ، ولكان معنى ذلك أنّ وضع المركّبات من سنخ الأوضاع الشخصيّة عينا كما هو الحال في وضع الأسماء وموادّ الهيئات.

والمتحصّل أنّ المقصود من وضع المركّبات هو أنّ كلّ مركّب اختلفت موادّه عن المركّب الآخر فهو موضوع بوضع آخر غير الموضوع له المركّب السابق وهكذا ، فمناط تعدّد الوضع هو

٦١٢

اختلاف موادّ المركّب عن موادّ المركّب الآخر اتّحد معه من حيث الهيئة أو اختلف.

هذا وقد اتّفق الأصوليّون ـ خلافا لما نسب إلى بعض الأدباء ـ على أنّه ليس في البين وضع مستقلّ للمركّبات وأنّ المعنى المتحصّل من كلّ مركّب يستفاد من وضع الموادّ والهيئات.

واستدلّوا على ذلك بلغويّة هذا الوضع وعبثيّته ، كما أنّ تأليف واختراع المركّبات لا يتناهى إلى حدّ فليس ثمّة مركّبات محدّدة يستعملها المتكلّم حين إرادة الإفادة لمعانيه بل إنّ كلّ متكلّم يخترع مركّباته اختراعا ، ولذلك فهم يتفاوتون من حيث البلاغة والفصاحة.

* * *

٦٢٤ ـ الوضع النوعي

وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بعنوان عام ومشير ، وذلك بأن يتصوّر الواضع مادّة في هيئة من الهيئات تكون هذه المادة عنوانا مشيرا للهيئة ثمّ يضع المادّة المتهيّئة بتلك الهيئة الخاصّة بإزاء معنى كلّي ، وليس غرضه من الوضع سوى تحديد هيئة لمعنى الكلّي وانّما جعل الهيئة في ضمن مادّة لأجل الإشارة الى الهيئة لعدم قدرة الواضع على احصاء كلّ المواد المتهيّئة بهذه الهيئة.

ومثال ذلك : أن يتصوّر الواضع هيئة الفعل الماضي في ضمن عنوان مشير اليها وهو « فعل » وهو انّما احتاج في تصوّر هيئة الفعل الماضي الى المادّة باعتبار انّ الهيئة لا تكون إلاّ في ضمن مادّة من المواد ، ثمّ انّه بعد ذلك يضع المادّة المتهيّئة بهذه الهيئة المخصوصة بإزاء معنى كلّي وهو في المثال الحدث الذي مضى زمانه.

ومنشأ تسمية هذا النحو من الوضع بالوضع النوعي هو انّ اللفظ المتصوّر حال الوضع ليس مقصودا بنفسه وانّما بهيئته والتي يمكن تطبيقها على سائر المواد المتهيّئة بمثل هذه الهيئة.

٦١٣

هوامش حرف الواو

(١) سورة النور : ٣٢.

٦١٤

حرف الياء

٦١٥

عناوين حرف الياء

٦٢٥ ـ قاعدة اليد

٦٢٦ ـ قاعدة اليقين

٦٢٧ ـ اليقين الاستقرائي

٦٢٨ ـ اليقين المنطقي واليقين الاصولي

٦٢٩ ـ اليقين والشك

٦١٦

حرف الياء

٦٢٥ ـ قاعدة اليد

ومورد القاعدة هو الشكّ في ملكيّة شخص لما تحت يده أو قل لما في حوزته وتحت سلطانه وتصرّفه ، والبحث هو انّ وقوع الشيء القابل للملكيّة تحت سلطان الشخص هل هو أمارة الملكيّة في ظرف الشك أو لا؟

والظاهر انّه لا خلاف في أماريّة اليد وانّها موجبة لثبوت ملكيّة ذي اليد لما تحت يده وانّه لا يطالب بالبيّنة على اثبات ذلك وانّ تمام الآثار المترتّبة على ملكيّة الشيء مترتّبة على ما في حوزته وتحت سلطانه.

وقد استدلّ على ذلك بمجموعة من الروايات وفيها ما هو معتبر سندا ، كما انّ السيرة العقلائيّة الممضاة قاضية بذلك.

ثمّ انّه قد يتوسّع في أماريّة اليد فيدعى شمولها لحالات الشك في زوجيّة المرأة لمن تحت يده وحالات الشك في ثبوت ولاية شخص على وقف هو تحت نظارته أو ولايته على أموال القاصرين هي خارجا ضمن إدارته ورعايته وهكذا لو وقع الشكّ في بنوة أطفال له مع افتراضهم في كنفه.

ولو ثبت هذا التوسّع في القاعدة لكان معنى اليد هو مطلق ما يعبّر عن الحيثيّة المناسبة لنحو السلطنة والتي هي بيد ذي اليد خارجا.

والذي يهمّ الاصولي من بحثه عن القاعدة هو علاقتها مع الاستصحاب من حيث ما هو المقدّم منهما في ظرف تصادقهما على مورد واحد.

٦١٧

والمعروف بينهم هو تقدّم قاعدة اليد في ظرف التصادق حتى بناء على القول بأماريّة الاستصحاب ، وذلك لأنّه لو كان البناء هو تقدّم الاستصحاب على قاعدة اليد للزم من ذلك عدم وجود مورد تجري فيه القاعدة ، وإذا كان هناك مورد فهو نادر جدا ، وذلك لأنّ الاستصحاب يجري في أكثر موارد جريان القاعدة ، إذ انّ أكثر حالات الشك في الملكيّة مسبوق بالعلم بعدم الملكيّة فلو كان الاستصحاب هو المقدّم لما كان ثمّة مبرّر لجعل القاعدة ، وهذا ما يعبّر عن تقدّم القاعدة في مورد التصادق ، على انّ تقديم الاستصحاب يلزم منه المحذور الذي أشارت إليه بعض روايات القاعدة وهو قوله عليه‌السلام : « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ».

* * *

٦٢٦ ـ قاعدة اليقين

وهي من القواعد التي قد يقع الخلط بينها وبين الاستصحاب ، ولهذا تصدّى الاصوليون لبيان الفرق بينهما.

ولعلّ منشأ الخلط بينهما هو ما يقال من تقوّم كلّ من قاعدة اليقين والاستصحاب باليقين والشك وانّ متعلّق اليقين والشك في كل من القاعدتين يكون واحدا وانّ متعلّق اليقين فيهما يكون سابقا على متعلّق الشك إلاّ انّه مع ذلك هناك فرق جوهري بين القاعدتين وهو انّ الشك في قاعدة اليقين يكون من نحو الشك الساري ، وهذا بخلاف الشك في قاعدة الاستصحاب فإنّه يكون من نحو الشك الطارئ ، فالفرق بين نحوي الشك هو المائز الأساسي بين القاعدتين.

وبيان ذلك : انّ الشك في مورد الاستصحاب وان كان يتعلّق بعين ما تعلّق به اليقين إلاّ انّ جهة الشك في متعلّق اليقين انّما هو البقاء والاستمرار ، أمّا أصل الحدوث فيظلّ على حاله متيقّنا ، بمعنى انّ الشك لا يوجب زوال أصل اليقين بحدوث الحادث ، نعم هو يوجب التردّد في بقاء

٦١٨

واستمرار وجوده.

مثلا : لو كنا على يقين بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ وقع الشك في بقاء العدالة ليوم السبت مع انحفاظ اليقين بعدالته يوم الجمعة فإنّ هذا الفرض هو مورد الاستصحاب ، لأنّ جهة الشك في متعلّق اليقين هي بقاؤه واستمراره ، فمتعلّق اليقين والشك وان كان واحدا والذي هو « عدالة زيد » إلاّ انّ حيثيّة الشكّ مباينة لحيثيّة اليقين ، ثمّ انّ حيثيّة الشك لمّا كانت هي البقاء والاستمرار فهذا يعني انّ الشكّ في متعلّق اليقين يكون متأخرا زمانا عن اليقين بالمتعلّق ، إذ لا معنى للشكّ في بقاء المتعلّق ما لم يكن المتعلّق متيقّنا في رتبة سابقة.

ولهذا قالوا انّ الاستصحاب هو ما كان متعلّق اليقين والشك فيه متّحدا ذاتا ومتغايرا زمانا إلاّ انّ ذلك لا يعني لزوم تقدّم حالة اليقين بالحادث على الشك فيه ، فقد تكون كذلك وقد تكون الحالتين متزامنتين كما قد تكون حالة الشك متقدّمة على حالة اليقين ، فالمناط في جريان الاستصحاب هو أن يكون الحادث متيقّنا في زمن سابق ويكون مشكوكا في زمن لا حق أمّا أنّ اليقين يكون متقدّما أو متأخّرا أو مقارنا فهذا ما لا دخل له في قوام الاستصحاب وبما ذكرناه يتّضح انّ الشك في مورد الاستصحاب انّما هو الشك الطارئ على الحادث المتيقّن والذي لا يوجب زوال اليقين بأصل الحدوث وانّما يوجب التردّد في بقاء وجود الحادث واستمراره. ثمّ انّه يمكن أن يقال ان متعلّق اليقين ومتعلّق الشك في مورد الاستصحاب متباينان بالنظر الدقي ، وذلك بأن يقال انّ متعلّق اليقين هو أصل الحدوث ومتعلّق الشك هو البقاء والاستمرار ، وأصل الحدوث غير بقائه واستمراره ، وبهذا لا يكون اليقين والشكّ متواردين على متعلّق واحد.

وأمّا الشك في مورد قاعدة اليقين فهو من نحو الشك الساري والذي يسري لنفس متعلّق اليقين بالحادث ويوجب زوال اليقين عنه وانعدامه

٦١٩

وتبدّله الى الشك ، فاليقين والشكّ يتواردان على متعلّق واحد ويكون زمانهما متّحدا ، نعم تكون حالة اليقين في مورد القاعدة متقدّمة على حالة الشك.

مثلا : لو كنّا على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة ثمّ وقع الشك في أصل اشتماله على العدالة في يوم الجمعة ، بمعنى تبدّل اليقين بالعدالة الى الشك فيها ، فالشكّ في مورد القاعدة يسرى لنفس اليقين ويطرده عن المتعلّق ويحلّ محلّه ، وهذا هو معنى الاتحاد الذاتي بين متعلّق اليقين والشك والاتّحاد الزماني في مورد قاعدة اليقين ، إذ انّ متعلّقهما هو العدالة في المثال وزمانهما واحد وهو يوم الجمعة ، غايته انّ حالة اليقين نشأت قبل حالة الشك.

وبهذا اتّضح الفرق بين موردي قاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب. هذا وقد ذكر السيّد الصدر رحمه‌الله فرقا آخر بين القاعدتين يتّصل بمنشإ اعتبار القاعدتين بنظر العقلاء.

فالاستصحاب لو كان من الأمارات العقلائيّة فإنّ منشأ اعتباره هو ما يقتضيه طبع وجود الحادث من البقاء والاستمرار ، فإنّ هذا الطبع التكويني ينتج وثوقا لدى العقلاء ببقاء ما وقع وان زواله بعد حدوثه خلاف ما يقتضيه طبع الحادث.

وأمّا منشأ اعتبار قاعدة اليقين فهو انّ اليقين عادة ما يكون مطابقا للواقع وانّ اتفاق الخطأ في حالات اليقين نادرة ، وهذا ما يوجب البناء على واقعيّة متعلّق اليقين ـ وان عرضه الشك بعد ذلك ـ اعتماد على أقربيّة اليقين للواقع.

إذن فملاك اعتبار الاستصحاب يختلف عن ملاك اعتبار قاعدة اليقين ، فملاك الأوّل هو ما يقتضيه طبع الحادث من البقاء والاستمرار ، وملاك الثاني هو أقربيّة اليقين للواقع.

* * *

٦٢٧ ـ اليقين الاستقرائي

قد أوضحنا المراد منه تحت عنوان التواتر.

* * *

٦٢٠