المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

والمعقولات الأوليّة هي المفاهيم المنعكسة عن الخارج ابتداء ومباشرة ، أي هي صور الأعيان الواقعيّة التي تحضر للذهن بواسطة الحسّ الأعم من الحسّ الظاهري كالرؤية والسمع أو الحسّ الباطني كما هو الحال في مفهوم الخوف والحبّ والبغض ، فإنّها مفاهيم وصور ذهنيّة كليّة منعكسة عما هو موجود في النفس بواسطة الحسن الباطني.

وبما ذكرناه يتّضح انّ المعقولات الأوليّة ينحصر تحصيلها بواسطة الاتّصال المباشر بين الذهن والواقع عبر المدارك الحسيّة الظاهريّة والباطنيّة ، غايته انّ الوجودات الخارجيّة عند ما تنعكس صورها الى الذهن يقوم الذهن بعد ذلك امّا بعمليّة تجريدها عمّا به الامتياز ويحتفظ بما به الاشتراك ، وعندها يتحصّل الذهن بواسطة هذه العمليّة على مفهوم كلّي بمعنى انّ الذهن يقوم بعمليّة تحليل ذلك الموجود الخارجي المتلقى بواسطة الحواس فيلغي عنه تمام مشخّصاته ويتحفّظ على القدر المشترك فيتحصّل بذلك على مفهوم كلّي.

هذا ما نسب الى ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي رحمهما الله ، أو انّ الذهن عند ما يتلقى صور الأشياء عن الخارج يحتفظ بصورها الحسيّة ثمّ يمرّ بها عبر مراحل ثلاث أو أربع ـ كما قيل ـ حتى يصل بها الى مرحلة يعبّر عنها بالإدراك العقلي ، وعندها تصبح مفهوما كليّا ، وهذا هو المنسوب لصدر المتألّهين رحمه‌الله.

وكيف كان فالمعقولات الأوليّة مفاهيم كليّة منعكسة عن الواقع الخارجي ، وليس ثمّة طريق لتحصيلها سوى الحواس الظاهريّة أو الباطنيّة.

وحتى يتّضح المراد من مبنى ابن سينا وملاّ صدرا رحمهما الله في كيفيّة تحول الأعيان الخارجيّة المنعكسة عن الخارج الى مفاهيم كليّة في الذهن نذكر هذا التطبيق :

انّه عند ما يقع نظرنا على زيد فإنّ صورته تنعكس بواسطة النظر الى الذهن ، وعندئذ يقوم الذهن ـ بنظر

٤٨١

ابن سينا ـ بعمليّة تحليليّة لهذه الصورة فيصنفها الى صنفين ، الاول هو مجموع المشخّصات الخاصّة بزيد والتي لا تصدق على غيره ، وهذا هو معنى ما به الامتياز ، والثاني هي الجهة المشتركة القابلة للصدق على كثيرين مثل ما تتقوّم به الذات من جنس وفصل ، وبعد هذا التحليل يتمّ الغاء ما به الامتياز ، ويتحصّل الذهن عندئذ على مفهوم كلّي هو مفهوم الإنسان المعبّر عنه بالمفهوم الماهوي ، وهو المعقول الأولي.

وأمّا بنظر صدر المتألهين رحمه‌الله فالعمليّة التي يتمّ بها تحصيل المفهوم الماهوي الكلّي تختلف عمّا ذكره ابن سينا والخواجة الطوسي رحمهما الله ، فالعقل عند ما يتلقى الصورة الحسيّة والتي هي صورة زيد ، فإنّه يحتفظ بهذه الصورة الشخصيّة في مرتبة الإدراك الحسي والتي هي أول مراتب الإدراك ثم يخلق صورة مناسبة لمرتبة أعلى من مرتبة الإدراك الحسي أو قل القوّة الحسيّة ، هذه المرتبة الأعلى هي مرتبة الإدراك الخيالي وفي نظره انّ الخلاق لهذه الصورة هي القوّة الخياليّة ، ثمّ تترقى هذه الصورة الى مرتبة أعلى من مراتب الإدراك العقلي ، وفي هذه المرتبة تصبح هذه الصورة مفهوما كليا ، إذ انّ هذه الصورة كلما انتقلت الى مرتبة تخلقت بشكل يتناسب مع تلك المرتبة والمناسب لمرتبة الإدراك العقلي هو ان تصبح الصورة كليّة.

هذا اذا لم نقل انّ ثمّة مرتبة تتوسط بين مرتبة القوّة الخياليّة والقوّة العقليّة والتي هي القوّة الواهمة وإلاّ فالصورة المنعكسة عن الخارج لا تصل الى مرحلة المفهوم الماهوي الكلّي إلاّ بعد المرور بأربع مراحل تكون المرحلة الرابعة وهي مرحلة الإدراك العقلي هي ظرف إدراك المعقول الأولي.

وبما ذكرناه يتّضح المراد من انّ المعقولات الأوّليّة لها ما بإزاء في الخارج هذا حاصل ما أفاده الشيخ مرتضى المطهري رحمه‌الله.

ثمّ انّ هناك اتّجاه آخر لتفسير

٤٨٢

المعقولات الأوليّة ، وهو الذي يتبناه الحكيم السبزواري رحمه‌الله ، وحاصله : انّ المعقول الأولي هو المفهوم الذي يكون ظرف عروضه على معروضه واتّصاف معروضه به هو الخارج.

وبتعبير آخر : انّ المعقول الأولي هو المحمول الذي يكون ظرف حمله على موضوعه هو الخارج واتّصاف موضوعه به هو الخارج ، وذلك مثل زيد إنسان ، فإنّ مفهوم الإنسان معقول أولي ، لأنّ الوعاء الذي يتمّ فيه حمل الإنسان على زيد هو الخارج.

وبذلك تكون المحمولات في القضايا الخارجيّة معقولات أوليّة ، وذلك لأنّ عروضها على موضوعاتها واتّصاف موضوعاتها بها انّما هو في الخارج بعد ان كانت موضوعات القضايا الخارجيّة هي الأفراد المتحقّقة الوجود فعلا ، أي عند تأليف القضيّة الخارجيّة ، فعند ما يقال : « أولاد زيد سود » فإنّ ظرف اتّصاف أولاد زيد بالسواد هو الخارج كما انّ عروض السواد على أولاد زيد يتمّ في الخارج ، ولهذا لو قيل : أين حصل عروض السواد على أولاد زيد وفي أيّ ظرف اتّصفوا بالسواد؟ لكان الجواب هو انّ ظرف ذلك هو الخارج ، وهذا ما يعبّر عن انّ السواد معقول أولي.

* * *

٥٤٣ ـ المعقولات الثانية

هي المفاهيم الكليّة التي يكون ظرف وجودها وظرف تحقّقها هو الذهن وليس لها ارتباط بالخارج أصلا ، نعم هي لها نحو ارتباط بالمعقولات الأوليّة المرتبطة بالخارج ، فإذا كان للمعقولات الثانية ارتباط بالخارج فهو بواسطة المعقولات الأوليّة ، ولأنّ ظرف وجود وتحقّق المعقولات الثانية هو الذهن لذلك هي لا تصدق على الأعيان الخارجيّة ، وانّما تصدق على ما ظرفه الذهن فحسب.

والمعقولات الثانية تنقسم الى قسمين :

القسم الأوّل : المعقولات الثانية

٤٨٣

المنطقيّة ، وهي عبارة عن المفاهيم المنطقيّة مثل الكليّة والجزئيّة والنوع والجنس والعرض الخاصّ والعامّ والقضيّة والموضوع والمحمول ، فكلّ هذه المفاهيم المنطقيّة معقولات ثانية منطقيّة.

وتلاحظون انّ أيّ واحد من هذه المفاهيم لا تتّصف بها لأعيان الخارجيّة وانّما تتّصف به المعقولات الأوليّة بعد ان تلقاها العقل عن الخارج وحولها الى مفاهيم كليّة ، فالمتّصف بهذه المفاهيم انّما هي المعقولات الأوليّة التي لا وجود لها في الخارج ، كما انّ ظرف اتّصاف المعقولات الأوليّة بالمفاهيم المنطقيّة هو الذهن فحسب.

فلا يقال : « انّ زيدا نوع ولا فصل ولا عرض خاص ولا عام ، كما لا يقال عنه انّه موضوع أو محمول ، نعم يقال لمفهوم الانسان والذي هو معقول أولي نوع ويقال للناطق انّه فصل والماشي عرض عام والضاحك عرض خاصّ ، كما يقال الإنسان موضوع والضاحك محمول ، كما لا يقال انّ زيدا جزء ، لأنّ الجزء مفهوم منطقي معناه ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين والحال انّ زيدا الخارجي ليس مفهوما ، وهكذا لا يقال عن زيد انّه موضوع ، وذلك لأنّ الموضوع المنطقي هو المفهوم الواقع طرفا في القضيّة الحمليّة ، وزيد الخارجي ليس مفهوما وليس ثمة قضية حملية في الخارج يقع زيد طرفا لها كما هو واضح.

وتلاحظون أيضا انّ ظرف اتّصاف هذه المعقولات الأوليّة مثل الإنسان والضاحك والماشي بالمعقولات الثانية المنطقيّة انّما هو الذهن ، فظرف اتّصاف الإنسان بالكلّي أو الموضوع أو النوع ، وظرف اتّصاف الماشي بالعرض العام والضاحك بالعرض الخاصّ هو الذهن.

وبما ذكرناه يتّضح انّ المعقولات الثانية المنطقيّة منخلقة في الذهن ومظروفة له ، ولها تحقّق ووجود في الذهن في مرحلة سابقة عن مرحلة عروضها على المعقولات الأوليّة ، والعروض والاتّصاف انّما يتمّ بعد أن

٤٨٤

يحول العقل صور الأعيان الخارجيّة المتلقّاة عن الخارج الى مفاهيم ماهويّة كليّة ، أي بعد أن تصبح معقولات أوليّة.

ومن هنا قال الحكماء انّ المعقولات الثانية المنطقيّة هي ما يكون معها ظرف عروض المحمول على الموضوع هو الذهن كما انّ اتّصاف الموضوع بها لا يكون إلاّ في الذهن ، فهذا هو ما يكشف عن انّ المحمول معقول ثان منطقي.

القسم الثاني : المعقولات الثانية الفلسفيّة ، وهي عبارة عن المفاهيم الفلسفيّة مثل العلّة والمعلول والعلّيّة والإمكان والامتناع والوجوب وهكذا ، وهذه المعقولات تختلف عن المعقولات الأوليّة ، لأنّ تحصيلها لا يتمّ بواسطة ما تعكسه الحواس الى الذهن ، كما انّها ليست من المعقولات الثانية المنطقيّة ، لأنّ المعقولات المنطقيّة لا يمكن أن يكون لها مصداق في الخارج ، فليس ثمّة شيء في الخارج يتّصف بها ، وأمّا المعقولات الثانية الفلسفيّة فيمكن أن تتّصف بها الأعيان الخارجيّة ، فيقال : هذه النار علّة وهذه الحرارة معلول كما يقال : بين هذه النار وهذه الحرارة علّيّة ومعلوليّة ، ويقال : انّ زيدا ممكن الوجود وانّ الله جلّ وعلا واجب الوجود ، وواضح انّ اتّصاف النار بالعلّة والحرارة بالمعلول انّما هو الخارج وأمّا مفهوم النار فليس علّة لوجود الحرارة.

وبهذا يتّضح انّ المعقولات الفلسفيّة توجد في الخارج إلاّ انّ إدراكها لا يتمّ بواسطة الحسّ لا الظاهري ولا الباطني ، كما انّ وجودها ليس من سنخ الماهيّات الموجودة في الخارج بل انّ وجودها في الخارج يعني انّها صفات للأعيان الخارجيّة وانّ اتّصاف الأعيان الخارجيّة بها يكون في ظرف الخارج ، فليس لها وجود في مقابل الأعيان الخارجيّة يمكن أن يشار إليه باستقلاله كما يشار الى الشجر والحجر ، فالعليّة والمعلوليّة وهكذا الإمكان والوجوب صفات

٤٨٥

واقعيّة تتّصف بها الأعيان الخارجيّة في ظرف الخارج وليس لها وجود في عرض وجود هذه الأشياء الخارجيّة بل انّ هذه الأعيان الخارجيّة إمّا أن تكون علّة أو تكون معلولا كما قد تكون واجبة وقد تكون ممكنة ، وليس ثمّة مفهوم فلسفي لا يكون منطبقه شيئا من الوجودات الخارجيّة ، وهذا ما يميّزها عن المعقولات الثانية المنطقيّة والتي لا يكون واحدا منها منطبقا على الخارج أصلا ، كما انّ اتّصاف المعقولات الأوليّة بها لا يكون إلاّ في ظرف الذهن.

كما انّ الذي يميّز المعقولات الفلسفيّة عن المعقولات الأوليّة هو انّ المعقولات الأوليّة حينما تحمل على الأعيان الخارجيّة يكون لها دور التحديد لماهياتها ، فحينما يقال : « زيد انسان » فإنّ اتّصاف زيد بالإنسان يكون له دور التحديد لهويّة زيد ، وأمّا المعقولات الثانية الفلسفيّة فليس لها هذا الدور ، فهي لا تحدّد هويّة وماهيّة موضوعها وانّما تحدّد كيفيّة علاقته بالموجودات الاخرى ، فحينما يقال : « النار علّة للحرارة » فإنّ اتّصاف النار بالعلّة يعبّر عن نحو العلاقة بين النار والحرارة.

ثمّ انّ هنا مائزا آخر يميزها عن المعقولات الأوليّة ذكره الحكم السبزواري رحمه‌الله وبعض المتأخّرين وهو انّ المعقول الأولي يكون ظرف اتّصاف الموضوع به وظرف عروض المعقول الأولي على موضوعه هو الخارج ، وأمّا المعقول الثاني الفلسفي فهو وان كان ظرف اتّصاف الموضوع به هو الخارج إلاّ انّ ظرف عروضه على الموضوع يكون في الذهن.

والفرق بين الاتّصاف والعروض هو انّ العلاقة بين الموضوع والمحمول حينما تلاحظ من جهة الموضوع يعبّر عنها بالاتّصاف ، وحينما تلاحظ من جهة المحمول يعبّر عنها بالعروض ، وعليه يكون عروض المعقولات الثانية الفلسفيّة على موضوعاتها في الذهن ، وذلك لأنّ العارض « المعقول

٤٨٦

الفلسفي » ليس له وجود الخارج وراء وجود معروضه ، وهذا هو مبرّر الدعوى بأن العروض يكون في الذهن ، وأمّا الموضوع الموجود في الخارج فهو يتّصف بالمعقولات الفلسفيّة في الخارج.

وعلّق الشيخ المطهري رحمه‌الله على ذلك بأنّ الاتّصاف والعروض لا يقبلان التفكيك إلاّ أن يكون ذلك مجرّد اصطلاح كما ذكر السبزواري رحمه‌الله نفسه في تعليقته على الأسفار.

* * *

٥٤٤ ـ المفاهيم الأدويّة

المفاهيم الأدويّة مصطلح آخر للمعاني الحرفيّة ، وقد أوضحنا المراد منه تحت عنوان المعاني الحرفيّة.

ومنشأ التعبير عنها بالمفاهيم الأدويّة هو الإشارة إلى آليّة المعاني الحرفيّة في مقابل المعاني الاسميّة والتي هي معان استقلاليّة.

* * *

٥٤٥ ـ المفاهيم الإفراديّة

المقصود من المفاهيم الإفراديّة هو المعاني الاسميّة المستفادة من مثل أسماء الأجناس والأعلام الشخصيّة وموادّ الأفعال.

وبتعبير آخر : المفاهيم الإفراديّة هي المعاني الاستقلاليّة المستفادة من الأسماء كمفهوم الأسد ومفهوم الضرب وذلك في مقابل المعاني المستفادة من هيئات الجمل التركيبيّة والتي تستفاد من الكيفيّة التركيبيّة للجملة.

ولمزيد من التوضيح لاحظ عنوان المعاني الحرفيّة والمعاني الاسميّة وعنوان الهيئة التركيبيّة.

* * *

٥٤٦ ـ المفهوم

المراد من المفهوم بحسب المتفاهم العرفي هو مطلق المعنى المنطبع في الذهن بقطع النظر عن منشئه ، إذ قد يكون المنشأ هو الأوضاع اللغويّة ،

٤٨٧

وقد يكون المنشأ هو الإشارة والكتابة ، وقد يكون المنشأ هو الملازمات العقليّة أو العاديّة أو الطبعيّة وقد تكون المشاهد الحسيّة ، وقد يكون منشأ ذلك هو التصورات وقد يكون غير ذلك ، كما لا فرق بين أن يكون المدلول من سنخ المفاهيم التركيبيّة أو المفاهيم الأفراديّة وبين أن يكون جزئيا أو كليّا أو أن يكون من الأعيان الخارجيّة أو المجرّدات ، ففي تمام هذه الحالات يعبّر عن المعنى بالمفهوم.

إلاّ انّ هذا المعنى للمفهوم على سعته ليس هو مقصود الاصوليين من عنوان المفهوم ، وتوضيح المراد من المفهوم الاصولي يتمّ برسم امور :

الأمر الأوّل : انّ الدلالة اللفظيّة تارة تكون مطابقيّة واخرى التزاميّة ، وأمّا الدلالة التضمنيّة فقد اتّضح حالها من بحث « المنطوق ».

ثمّ انّ الدلالة المطابقيّة وكذلك الالتزاميّة قد تكون أفراديّة كما قد تكون تركيبيّة ، بمعنى انّها قد تنتج مفهوما أفراديا كما قد تنتج مفهوما تركيبيّا ، والدلالة بقسميها المنتجة للمفهوم الأفرادي خارجة عن محلّ البحث ، والدلالة المطابقيّة المنتجة للمفهوم التركيبي هي المنطوق ، أي انّ نفس المدلول المطابقي هو المنطوق ، وهو خارج أيضا عن محلّ البحث.

فيتعيّن البحث في الدلالة الالتزاميّة ، وقد قسّمها المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى قسمين بلحاظ اللازم والذي هو المدلول للدلالة الالتزاميّة :

القسم الأوّل : الدلالة التي يكون لازمها بيّنا بالمعنى الأخصّ ، وهو عبارة عن المعنى الخارج عن مدلول اللفظ الاّ انّه لازم له على أن لا يكون تصوّره محتاجا لأكثر من تصوّر مدلول اللفظ.

القسم الثاني : الدلالة التي يكون لازمها بينا بالمعنى الاعم ، وهو عبارة عن المعنى الخارج عن مدلول اللفظ اللازم له إلاّ انّ إدراكه يحتاج لتوسيط مقدّمة عقليّة ، وبهذا لا يكون اللازم بالمعنى الأعمّ من المداليل

٤٨٨

اللفظيّة باعتبار انّ انتقال الذهن اليه لا يتمّ بواسطة اللفظ وانّما يتمّ بتوسيط العقل.

ومثل رحمه‌الله لذلك بمقدّمة الواجب ، وبالملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، ولم يستبعد انّ مثل دلالة الاقتضاء ، وكذلك دلالة الإيماء والإشارة من قبيل الدلالة الالتزاميّة بالمعنى الأعم.

ثمّ رتّب على ذلك خروج القسم الثاني عن محلّ البحث وانّ المفهوم يختصّ باللازم البيّن بالمعنى الأخصّ وانّه عبارة عن المدلول الالتزامي والذي تكون الدلالة الالتزاميّة معه بيّنة بالمعنى الأخص وتستفاد من نفس اللفظ ، ولا يتمّ إدراكه بتوسّط العقل.

إلاّ انّ السيّد الخوئي رحمه‌الله أورد على هذا التقسيم بما حاصله : انّ اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ من المداليل اللفظيّة ولا يكون إدراكه مفتقرا إلى مقدّمة عقليّة بل انّه يستفاد من نفس اللفظ كما هو الحال في اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ ، غايته انّ اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ لا يحتاج تصوّره لأكثر من تصوّر مدلول اللفظ « الملزوم » ، وأمّا اللازم البيّن بالمعنى الأعم فلا يتمّ انتقال الذهن اليه إلاّ بعد تصوّر الملزوم « مدلول اللفظ » واللازم والنسبة بينهما إلاّ انّ كلا اللازمين لا يحتاج تصورهما الى توسّط مقدّمة خارجيّة.

وبهذا يتّضح انّ التعريف الذي أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله للازم البيّن بالمعنى الأعمّ ليس تاما ، والصحيح انّه تعريف للازم غير البيّن ، وهو كما أفاد رحمه‌الله ليس من المداليل اللفظيّة وان ادراكه يحتاج الى توسط مقدّمة عقليّة وانّ مثل مقدّمة الواجب ومسألة الضدّ من نحو هذه اللوازم ، فهي خارجة عن بحث المفهوم. ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « اللازم البيّن واللازم غير البيّن ».

والمتحصّل انّ اللوازم قد تكون بيّنة وقد لا تكون بيّنة ، وغيّر البيّنة خارجة عن بحث المفهوم بلا إشكال وانّما البحث في اللوازم البيّنة والتي

٤٨٩

تارة تكون بيّنة بالمعنى الأخصّ واخرى تكون بيّنة بالمعنى الأعمّ ، فهل المفهوم هو مطلق اللازم البيّن أو هو مختصّ باللازم البيّن بالمعنى الأخصّ؟

ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله وكذلك السيّد الخوئي رحمه‌الله الى اختصاص المفهوم باللازم البيّن بالمعنى الأخص ، إذ هو الذي يحصل الوثوق بإرادة المتكلّم له بمجرّد استظهار إرادة المنطوق ، وأمّا اللازم البيّن بالمعنى الأعم والذي يحتاج تصوّره الى تصور الملزوم واللازم والنسبة بينهما فقد يغفل المتكلّم عنه فلا يكون مريدا له بالإضافة الى إرادة المنطوق ، فلا يمكن استظهار إرادته بمجرّد استظهار إرادة المنطوق.

الأمر الثاني : نسب الى الحاجبي تعريف المفهوم « بأنّه ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق » ، وعرّف أيضا بأنّه « حكم غير مذكور » وبأنّه « حكم لغير مذكور » ، والتعاريف الثلاثة تناسب ما ذكرناه في الأمر الأوّل.

أمّا التعريف الاوّل : فالمراد من مدلول اللفظ الذي لا يكون واقعا في محلّ النطق هو اللازم البيّن ، إذ اللازم غير البيّن ليس مدلولا للفظ ـ كما تقدّم ـ وانّما هو مدلول للمقدّمة العقليّة كدلالة وجوب الشيء على وجوب مقدّمته ودلالة وجوب الشيء على حرمة ضده.

ثمّ انّ المراد من اللازم هو خصوص اللازم البيّن بالمعنى الأخص ، وذلك لأنّ اللازم البيّن بالمعنى الأعم وان كان من المداليل اللفظيّة إلاّ انّه غير مقصود من التعريف لعدم امكان احراز إرادة المتكلّم له بمجرّد احراز إرادته للمنطوق ، إذ من الممكن جدا غفلة المتكلّم عنه لاحتياج تصوّره الى تصوّر الملزوم واللازم والنسبة بينهما ، وهذا بخلاف اللازم بالمعنى الأخصّ فإنّ تصوّر الملزوم « مدلول اللفظ » يساوق تصوّر اللازم ، ومنه يمكن استظهار إرادته بمجرّد استظهار إرادة المنطوق. وبهذا يتعيّن إرادة اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ من تعريف الحاجبي.

٤٩٠

وأمّا التعريف الثاني : فالمراد من الحكم غير المذكور هو الحكم الذي يكون لازما بيّنا بالمعنى الأخصّ لما هو منطوق.

مثلا : لو قيل « إذا جاء زيد فأكرمه » فإنّ لازم هذه القضيّة انّه إذا لم يجيء زيد فلا يجب اكرامه ، فعدم وجوب الإكرام هو الحكم غير المذكور والذي استفيد بواسطة تعليق وجوب الإكرام هو الحكم غير المذكور والذي استفيد بواسطة تعليق وجوب الإكرام على مجيء زيد.

هذا في مفهوم المخالفة ، وأمّا مفهوم الموافقة فالحكم غير المذكور وان كان مسانخا للحكم المذكور إلاّ انّه غيره ، فلا يكون مذكورا وانّما هو لازم لما هو مذكور.

مثلا : قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (١) ، فالحكم المذكور في الآية الشريفة هو حرمة التأفّف من الوالدين ، وأمّا ما هو لازم لهذا الحكم فهو حرمة الضرب وهو حكم غير مذكور.

وأمّا التعريف الثالث : فكذلك يراد من الحكم لغير المذكور اللازم لما هو مذكور في محلّ النطق ، والمراد من غير المذكور هو موضوع أو متعلّق الحكم واللذين تمّ انفهامهما بواسطة القضيّة المذكورة.

ففي مثالنا الأوّل يكون عدم المجيء هو الموضوع غير المذكور والذي انفهم بواسطة تعليق الوجوب على المجيء فينتفي بعدم المجيء الحكم الثابت حين المجيء في القضيّة المذكورة.

وفي المثال الثاني يكون الضرب هو المتعلّق غير المذكور والذي انفهم بواسطة ثبوت الحرمة للتأفّف في القضيّة المذكورة ، وبهذا تثبت الحرمة للضرب والذي هو المتعلّق غير المذكور في القضيّة ، وأمّا المراد من الحكم في التعريف فهو الأعمّ من المباين للحكم المذكور في القضيّة المذكورة كما في مفهوم المخالفة أو المسانخ للحكم الذكور في القضيّة المذكورة كما في مفهوم الموافقة.

والمتحصّل من هذا التعريف انّ المفهوم هو القضيّة التي ثبت فيها حكم لموضوع أو متعلّق غير مذكور ، على

٤٩١

أن تكون تلك القضيّة لازمة بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ للقضيّة المذكورة.

وبهذا البيان تمّ توجيه التعريفات الثلاثة بنحو يتناسب مع التعريف الذي ذكره المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله والذي هو عبارة عن كون المفهوم مدلولا لفظيّا التزاميّا بينا بالمعنى الأخصّ.

الأمر الثالث : وهو بيان الفرق بين مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة ، وهذا ما سنوضّحه تحت عنواني « مفهوم الموافقة » و « مفهوم المخالفة » ، فراجع.

* * *

٥٤٧ ـ مفهوم الاستثناء

لاحظ « مفهوم الحصر ».

* * *

٥٤٨ ـ مفهوم الحصر

المراد من الجملة الحصريّة هي ما يكون مفادها انحصار شيء بشيء وانتفاؤه عن غيره ، وهذا الحصر قد يستفاد من منطوق الجملة كما في الحصر المفاد بمادة الحصر أو القصر أو يكون مفادا بأداة « انّما » التي وضعت للدلالة على الحصر ، وهذا خارج عن بحث المفهوم ، إذ لا اشكال في افادة ذلك لنفي طبيعي الحكم عن غير المحصور به الحكم كما هو المتفاهم العرفي.

وما هو داخل في محلّ البحث هو الحصر المستفاد بواسطة المفهوم المعبّر عنه باللازم البيّن بالمعنى الأخصّ للجملة كما هو الحال في الجمل الاستثنائيّة المستفادة بواسطة « إلاّ ».

ودلالة الجمل الاستثنائية على المفهوم منوط بأن لا تكون كلمة « إلاّ » مستعملة في معنى الوصف كما في قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ، ) أي لو كان فيهما آلهة متّصفة بأنّها غير الله تعالى لفسدتا.

فلا بدّ إذن من أن تكون كلمة « إلاّ » مستعملة في الاستثناء ، أي اخراج المستثنى عن حكم المستثنى

٤٩٢

منه ، وحينئذ تكون دالّة على المفهوم لرجوع الاستثناء عندئذ الى الحكم ، وهذا معناه انتفاء طبيعي الحكم المذكور للمستثنى منه عن المستثنى وهذا هو معنى المفهوم.

وكيف كان فيكفي في استظهار انتفاء طبيعي الحكم عن غير الموضوع المحصور به الحكم ثبوت دلالة الجملة على الحصر ، فالنزاع انّما يقع في دلالة الجملة على الحصر وعدم دلالتها على ذلك.

* * *

٥٤٩ ـ مفهوم الشرط

المراد من مفهوم الشرط هو انتفاء طبيعي الحكم المعلّق على الشرط عند انتفاء الشرط. والبحث عن مفهوم الشرط بحث عن دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم بالمعنى الذي ذكرناه ، وهذا يعني البحث عن توفّر الجملة الشرطيّة على ضابطة المفهوم فإن أمكن إثبات انّ الجملة الشرطيّة واجدة لضابطة المفهوم ثبت انّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في المفهوم وإلاّ فلا.

والمعروف بين الأعلام هو دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم إلاّ انّهم اختلفوا في كيفيّة تقريب هذه الدلالة ، والبحث في ذلك واسع ومتشعّب ، ونكتفي في المقام ببيان بعض التقريبات دون ذكر تعليق الأعلام عليها.

التقريب الأوّل : انّ الجملة الشرطيّة وضعت للدلالة على انّ الشرط علّة منحصرة للجزاء ، ومبرّر هذه الدعوى هو التبادر ، وإذا كان كذلك فبانتفاء علّة الجزاء ينتفي الجزاء ، لافتراض ظهور الجملة الشرطيّة في انحصار العلّة وهي الشرط بمعنى انّ لا بدليل لهذه العلّة ، وعندئذ ينتفي احتمال ثبوت الحكم بواسطة علّة اخرى ، كما انّ افتراض انحصار العلّة بالشرط المذكور في الجملة يقتضي أن لا يثبت مثل الحكم بواسطة علّة اخرى ، إذ المفترض انّ معلول الشرط هو طبيعي الحكم فيكون المنتفي عند انتفاء الشرط هو طبيعي الحكم.

٤٩٣

وبذلك يثبت المفهوم للجملة الشرطيّة لتوفّرها على ضابطة المفهوم بركنيها.

التقريب الثاني : انّ الجملة الشرطيّة موضوعة للدلالة على التلازم بين الجزاء وهو الحكم وشرطه ولا يقتضي الوضع أكثر من ذلك إلاّ انّه وبواسطة الانصراف يثبت انّ هذا اللزوم الواقع بين الجزاء والشرط لزوم علي انحصاري.

ومبرّر هذا الانصراف هو انّ اللزوم وان كانت له انحاء متعدّدة إلاّ انّ أكملها هو اللزوم العلّي الانحصاري ، ومن هنا ينسبق للذهن إرادة هذا اللزوم دون غيره ، وبذلك يثبت المفهوم للجملة الشرطيّة.

التقريب الثالث : انّ ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة يتمّ استظهاره بواسطة مجموعة من المقدّمات :

المقدّمة الاولى : انّ أداة الشرط وضعت للدلالة على الربط اللزومي بين الشرط والجزاء.

المقدّمة الثانية : انّ تفرّع الجزاء على الشرط المستفاد من وضع الجملة الشرطيّة لذلك يكشف عن إرادة هذا التفرّع واقعا ، أي يكشف عن انّ المراد الجدّي للمتكلّم هو تفريع الجزاء على الشرط ، وذلك لأصالة التطابق بين الدلالة التصوريّة والدلالة التصديقيّة الجديّة.

المقدّمة الثالثة : هو انّ عدم ذكر شرط آخر للجزاء مع الشرط المذكور يعبّر عن انّ الشرط المذكور علّة تامّة للجزاء وإلاّ لو كان ثمّة شرط آخر لذكر لافتراض انّ المتكلّم في مقام ذكر ما يترتّب على وجوده الجزاء ، على انّ ذلك يكشف عن انّ هذه التماميّة ثابتة في جميع أحوال الجزاء ، اذ هو مقتضى الإطلاق الاحوالي للشرط وعدم تقييده بحالة دون اخرى ، وبهذا يكون ترتّب الجزاء عليه ثابت بقطع النظر عن الحالات التي تكتنفه.

وإذا ثبت انّه علّة تامّة لترتّب الجزاء في تمام الأحوال ثبت انّ عليّته لترتّب الجزاء انحصاريّة ، إذ لو لم تكن انحصاريّة لكان معنى ذلك انتفاء تماميّة

٤٩٤

علته في حالة اقترانه بعلّة اخرى ، إذ مع الاقتران بعلّة اخرى يلزم أن يكون المجموع منهما علّة واحدة لترتّب الجزاء لاستحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، وهذا معناه صيرورته جزء علّة لترتّب الجزاء وهو خلف ما استظهرناه من انّه علّة تامّة بمقتضى الإطلاق الاحوالي.

وبتعبير آخر : انّ الإطلاق الأحوالي للشرط معناه تماميّة عليّته لترتّب الجزاء ، وتماميّة عليّته لذلك يقتضي انّها علّة انحصاريّة ، إذ انّ عدم انحصارها معناه عدم تماميّة الإطلاق الأحوالي للشرط وهو خلف تماميّة الإطلاق المستكشف بواسطة عدم تقييد الشرط بحالة دون حالة.

* * *

٥٥٠ ـ مفهوم العدد

الجملة العدديّة هي الجملة التي قيّد موضوعها أو متعلّق الحكم فيها بعدد محدّد ، والبحث عن ظهورها في المفهوم معناه البحث عن انّ طبيعي الحكم الثابت للموضوع أو المتعلّق ذي العدد هل ينتفي عن الموضوع الغير المحدّد بذلك العدد.

فلو قال المولى : « أطعم عشرة مساكين » أو قال : « صلّ ركعتين » فهل انّ معنى ذلك هو انتفاء طبيعي الوجوب عن اطعام أكثر من العشرة أو اطعام الأقل من العشرة ، وهل يعني انتفاء طبيعي الوجوب عن الصلاة الزائدة أو الناقصة عن العدد المذكور؟

الظاهر انّه لم يقع خلاف بين الأعلام في عدم ظهور الجملة العدديّة في المفهوم ، وانّ دلالة الجملة العدديّة على عدم اجزاء الأقلّ انّما ينشأ عن انّ الأقل ليس مأمورا به في هذا الخطاب ، وغير المأمور به لا يجزي عن المأمور به إلاّ انّ ذلك لا يمنع من ثبوت مثل الحكم للعدد الأقلّ ، فمن الممكن ثبوت حكم آخر بوجوب اطعام خمسة مساكين وبصلاة ركعة واحدة ، فالمنتفي عن غير العدد المذكور انّما هو شخص الحكم الثابت للعدد المذكور.

٤٩٥

وبتعبير آخر : انّ الجملة المتصدّية لبيان ثبوت حكم لعدد معيّن لا دلالة لها على انتفاء طبيعي الحكم عن عدد آخر فهي ساكتة عن حكم الأعداد الاخرى ، ومن هنا يمكن أن يثبت مثل الحكم لأعداد اخرى.

وبهذا يتّضح عدم صلاحيّة الجملة العدديّة لنفي طبيعي الحكم عن العدد الأكثر أيضا بنفس البيان ، كما انّها لا تصلح لنفي الإجزاء لو جاء المكلّف بأكثر من العدد المذكور في الخطاب بل انّ ذلك يخضع لقرينة اخرى لا تتّصل بطبيعة الجملة العدديّة ، فتارة تقوم القرينة على انّ العدد المذكور في الجملة ملحوظا بنحو البشرطلا ، أي بشرط عدم الزيادة وعندئذ تكون الزيادة مقتضية لعدم الإجزاء ، وان لم تقم قرينة على ملاحظة العدد بنحو البشرطلا فإنّ الإطلاق يكون حينئذ مقتضيا لعدم ضائريّة الزيادة وان كان ذكر العدد يعبّر عن عدم وجوب الزيادة.

ومع كلّ ذلك لا تكون الجملة العدديّة نافية لطبيعي الحكم عن العدد الزائد بل هي غير متصدّية لأكثر من انّ شخص الحكم ثابت لهذا العدد ، امّا انّ مثله لا يثبت لغير هذا العدد فهو ممّا لا تتكفّل الجملة العدديّة لبيانه وهذا هو معنى عدم دلالتها على المفهوم.

* * *

٥٥١ ـ مفهوم الغاية

قد أوضحنا المراد من معنى الغاية تحت عنوانها وقلنا انّها تارة ترجع الى موضوع الحكم واخرى لمتعلّقه وثالثة للحكم المستفاد من مدلول الهيئة أو المستفاد من المفهوم الاسمي.

ودلالة الجملة الغائيّة على المفهوم معناه انتفاء طبيعي الحكم الثابت للمغيا عند بلوغ الغاية بمعنى ان تحقّق الغاية التي حدّد بها الحكم يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع.

وكيف كان فقد ذكر السيّد الخوئي رحمه‌الله انّ الضابط في ظهور الجملة الغائية في المفهوم هو رجوع الغاية الى الحكم وإلاّ فإذا كانت راجعة الى

٤٩٦

الموضوع أو المتعلّق فإنّ حالها يكون كحال الجملة الوصفيّة ، لأنّ الغاية حينئذ توجب تضييق دائرة الموضوع أو المتعلّق ، فلو كان لها مفهوم فهو من مفهوم الوصف.

هذا من جهة مقام الثبوت ، وأما مقام الإثبات فالحكم في الجملة الغائيّة إمّا أن يكون مستفادا من الهيئة مثل صيغة الأمر ، وأمّا أن يكون مستفادا من المادة كالتعبير بالواجب أو المحرم ، فإن كان مستفادا من الهيئة فالظاهر هو رجوع القيد لمتعلّق الحكم لا إلى نفس الحكم إلاّ أن تقوم قرينة على رجوع القيد للحكم أو موضوع الحكم ، كما مثلنا لذلك في بحث الغاية ، فمع عدم قيام قرينة خاصّة على رجوعه للموضوع أو للحكم فإنّ الظاهر هو رجوعه لمتعلّق الحكم ، كما لو قيل « صم إلى الليل » فإنّ الظاهر هو رجوع الغاية الى المعنى الحدثي وهو الصيام لا الى صيغة فعل الأمر ، وعليه يكون معنى الجملة المذكورة هو « انّ الصيام المحدّد والمغيّى بالليل واجب » فتكون الغاية قيد لمتعلّق الحكم وليست قيدا للحكم ، إذ انّ معنى رجوع الغاية للحكم انّ الوجوب محدّد ومغيّا بالليل وهو خلاف المتفاهم العرفي من الجملة المذكورة.

وإذا ثبت انّ الغاية راجعة لمتعلّق الحكم أصبحت الجملة الغائيّة من الجمل الوصفيّة ، إذ انّ الجمل الوصفيّة هي مطلق الجمل التي قيّد موضوعها أو متعلّق الحكم فيها بقيد من القيود بحيث يكون ذلك القيد موجبا لتضييق دائرة الموضوع أو متعلّق الحكم بقطع النظر عن انّ ذلك القيد من قبيل النعت النحوي أو الغاية أو غيرهما من القيود.

وأما إذا كان الحكم في الجملة الغائيّة مستفادا من المادّة ـ كما لو قيل « الصوم واجب الى الليل » ـ فله صورتان :

الصورة الأولى : أن يكون متعلّق الحكم مذكورا في الجملة كما في المثال المذكور ، فإنّ متعلّق الوجوب وهو

٤٩٧

الصوم مذكور في الجملة ، فهنا لا يكون للجملة ظهور من جهة رجوع الغاية للحكم أو متعلّق الحكم إلاّ ان تكون ثمّة قرينة خاصة على ذلك.

ومن هنا لا يكون للجملة ظهور في المفهوم ، لأنّ ظهورها في المفهوم منوط باستظهار رجوع الغاية للحكم ، والمفترض انّ الجملة مجملة من هذه الجهة.

الصورة الثانية : أن لا يكون متعلّق الحكم مذكورا في الجملة الغائيّة ، كما لو قيل « يحرم الخمر الى ان يضطر اليه المكلّف » فإنّ متعلّق الحرمة وهو الشرب لم يذكر في هذه الجملة ، كما انّ الحكم مستفاد من المادّة وهي قوله « يحرم ».

ومن هنا تكون الجملة الغائيّة ظاهرة في رجوع الغاية للحكم ، وذلك لأنّ رجوعها للمتعلّق المقدّر خلاف الأصل فيتعيّن رجوعها للحكم المفاد بالمادة وبنحو المفهوم الاسمي ، وإذا ثبت رجوعها للحكم كانت ظاهرة في المفهوم ، إذ انّها حينئذ كالجملة الشرطيّة من حيث انّ المقيّد بالشرط هو الحكم ، فتكون دلالتها على المفهوم بنفس التقريب.

هذا حاصل ما يستفاد من كلمات السيّد الخوئي رحمه‌الله.

* * *

٥٥٢ ـ مفهوم اللقب

الجملة اللقبيّة هي التي يكون فيها موضوع الحكم أو متعلّقه اسما جامدا غير موصوف بوصف أو يكون وصفا غير معتمد على موصوف مذكور ، ومثال الأوّل ما لو قيل « أكرم رجلا » أو « أكرم زيدا » ومثال الثاني ما لو قيل « أكرم عالما ».

والبحث عن ثبوت المفهوم للجملة اللقبيّة معناه البحث عن انّ طبيعي الحكم الثابت للقب هل ينتفي بانتفاء اللقب أو لا؟ فعند ما ينتفي زيد في المثال الأوّل وينتفي العالم في المثال الثاني هل يكون انتفاؤه مقتضيا لانتفاء طبيعي الحكم بحيث لا يمكن أن يثبت مثل الحكم لغير زيد في المثال

٤٩٨

الأوّل ولغير العالم في المثال الثاني.

لا ريب في عدم ظهور الجملة اللقبيّة في المفهوم ، أمّا في الصورة الاولى فواضح ، إذ انّ ثبوت الحكم لموضوع لا يعني عدم ثبوت مثله لموضوع آخر حتى يكون انتفاء الموضوع مقتضيا لانتفاء طبيعي الحكم ، نعم انتفاء الموضوع يقتضي انتفاء شخص الحكم الثابت له إلاّ انّ هذا غير المفهوم ، إذ قلنا انّ معنى المفهوم يقتضي انتفاء طبيعي الحكم ونوعه لا انتفاء شخص الحكم الناشئ عن تبعيّة الأحكام لموضوعاتها وجود وانتفاء.

وأمّا الصورة الثانية وهي ما لو كان موضوع الحكم أو متعلقه وصفا غير معتمد على موصوف مذكور فحيث انّ الجملة الوصفيّة ـ والتي يكون فيها الوصف معتمدا على موصوف ـ ليست ظاهرة في المفهوم فهنا كذلك بل انّ ذلك في المقام أوضح ، إذ انّ ذكر الوصف بعد ذكر موصوفه مشعر بالتعليق المنتج لاحتمال انتفاء الحكم بانتفاء الوصف ، أما المقام فليس كذلك ، إذ انّ الحكم جعل ابتداء على العنوان الاشتقاقي ، وكونه معتمدا واقعا على موصوف لا يؤثر في استظهار الانتفاء عند الانتفاء ، وذلك لأنّ الاستظهارات تخضع لما تقتضيه صياغة الكلام بحسب ضوابط أهل المحاورة.

* * *

٥٥٣ ـ مفهوم المخالفة

وهو المفهوم المنتج لانتفاء طبيعي الحكم المجعول لموضوعه عند انتفاء قيده وهذا الانتفاء ينشأ عن اشتمال الجملة بطبيعتها الخاصة على لازم بيّن بالمعنى الأخص هذا اللازم هو الذي يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء قيده.

فمفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة يشتركان في انّهما من قبيل اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ إلاّ انّ طرف الملازمة في مفهوم الموافقة هو المدلول ، وأمّا طرف الملازمة في مفهوم المخالفة فهو

٤٩٩

الدلالة كدلالة الجملة الشرطيّة أو الوصفيّة ، راجع مفهوم الموافقة.

ثمّ انّهم ذكروا انّ ضابطة الجملة ذات المفهوم أي التي تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء هو ان تشتمل على ركنين أساسيين :

الركن الأوّل : أن يكون القيد المرتبط بالحكم في المنطوق علّة منحصرة للحكم بحيث لا يقوم شيء مقام القيد لتحقيق الحكم.

وبتعبير آخر : لا بدّ وأن تكون الجملة ذات المفهوم متهيّئة بهيئة يستظهر منها العرف كون الربط بين الحكم وقيده ربطا عليّا انحصاريا بحيث ينفهم منها انتفاء الحكم عند انتفاء قيده المأخوذ في المنطوق ، ومن الواضح انّ انتفاء الحكم بانتفاء قيده يتقوّم بثلاثة ركائز :

الأولى : وجود ملازمة بين الحكم وقيده.

الثانية : أن تكون هذه الملازمة بنحو العليّة.

الثالثة : أن تكون عليّة القيد للحكم عليّة انحصاريّة ، إذ لو لم تكن انحصاريّة لأمكن أن ينتفي القيد ولا ينتفي معه الحكم ، لجواز أن يكون للحكم علّة اخرى.

الركن الثاني : أن يكون الربط في المنطوق واقعا بين طبيعي الحكم وبين القيد ، إذ لو كان الربط بين شخص الحكم وبين القيد لكان ذلك يقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء قيده ، وهو غير المفهوم المبحوث عنه.

وبتعبير آخر : لا بدّ من أن تكون الجملة ذات المفهوم ظاهرة في انّ الربط الواقع بين الحكم وقيده ربط بين طبيعي الحكم وسنخه وبين القيد حتى يكون انتفاء القيد مقتضيا لانتفاء المرتبط به وهو طبيعي الحكم.

هذا وقد اجريت على الركن الأوّل بالخصوص بعض التعديلات لا مجال لبيانها لخروج ذلك عن الغرض.

ثمّ انّ البحث عن الجمل التي يكون لها مفهوم يقوم على أساس البحث عن اشتمالها على ضابطة المفهوم أو عدم اشتمالها على ذلك ، فالبحث إذن عن

٥٠٠