المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

المقسمي ، فهو عنوان منتزع في رتبة متأخّرة عن عروض هذه التقسيمات على الماهيّة فهي إذن معقول ثانوي.

ومع اتّضاح ذلك يتّضح انّ الماهيّة اللابشرط المقسمي لا يمكن أن تكون كليّا طبيعيّا ، إذ لا قابليّة لها للانطباق على ما في الخارج حيث لا وجود لها إلاّ في الذهن بعد أن كانت معقولا ثانويا منتزعا عن عروض الأقسام الثلاثة على الماهيّة.

وأمّا انّ الكلّي الطبيعي ليس هو الماهيّة اللابشرط القسمي فلأننا قلنا انّ الماهيّة اللابشرط القسمي تعني الماهيّة الملحوظة بشرط السريان والإطلاق ، وهذا معناه انّ انطباقها على أفرادها ومصاديقها فعلي في حين انّ الكلّي الطبيعي لا يعني أكثر من القابليّة للانطباق على أفراده ، وأمّا فعليّة الانطباق فهي غير معتبرة في الكلّي الطبيعي.

وبتعبير آخر : انّ الماهيّة الملحوظة بشرط الإطلاق والسريان تعني الماهيّة الفانية فعلا في تمام أفرادها ومصاديقها ، وهذا غير الكلّي الطبيعي ، إذ انّه الماهيّة القابلة للصدق على أفرادها ومصاديقها.

وبهذا يتنقّح انّ المراد من الكلّي الطبيعي هو الماهيّة المهملة والمقصور فيها اللحاظ على الذات والذاتيات ، فهي القابلة للصدق على أفرادها الخارجيّة دون أن تكون فانية في أفرادها.

وبما ذكرناه يتّضح الفرق بين الماهيّة اللابشرط القسمي والكلّي الطبيعي ، إذ انّ الماهيّة اللابشرط القسمي عبارة عن لحاظ الطبيعة سارية ومطلقة تستوجب فناء الماهيّة في أفرادها الخارجيّة فعلا ، بحيث تلغى معها تمام الخصوصيات الفرديّة فلو قيل « أكرم العالم » وكانت طبيعة العالم ملحوظة بنحو السريان والإطلاق فإنّ هذه الطبيعة تكون صادقة على تمام أفرادها فعلا فكأنّه قيل « أكرم كلّ عالم » الفاسق منه والعادل والأعجمي والعربي والكبير والصغير.

٤٢١

وأمّا الكلّي الطبيعي والذي هو الماهيّة المهملة فلا يعتبر فيه أكثر من القابليّة للصدق على أفراده ، وذلك لأنّ مصبّ اللحاظ هو الماهيّة بما هي هي ، فالملاحظ لا يرى إلاّ الطبيعة دون الأفراد ، نعم هذه الطبيعة لمّا كانت هي الحقيقة المشتركة بين الأفراد فإنّ ذلك هو الذي برّر القابليّة للصدق على هذه الأفراد.

التفسير الرابع : وهو الذي ذهب إليه السيّد الصدر رحمه‌الله وهو المناسب لبعض عبائر المناطقة ، وحاصله انّ الكلّي الطبيعي عبارة عن المفهوم الموجود في ضمن افراده الخارجيّة ، فالعقل انّما ينتزع هذا المفهوم من الخارج ابتداء ، بمعنى انّ العقل حينما يلحظ هذه الأفراد يجرّدها عن تمام خصوصيّاتها الشخصيّة ، فيتبلور عن ذلك مفهوم كلّي جامع صادق على تمام أفراده ، هذا المفهوم الكلّي الجامع هو المعبّر عنه بالكلّي الطبيعي وهو الماهيّة اللابشرط القسمي.

* * *

٥٠٤ ـ الكلّي العقلي

المقصود من الكلّي العقلي هو الماهيّة المجرّدة ، وهي الماهيّة الملحوظة مع خصوصيّة خارجة عن ذات الماهيّة وذاتياتها على أن تكون هذه الخصوصيّة الملحوظة هي عنوان التجرّد عن تمام العوارض الطارئة والتي يمكن أن تعرض الماهيّة خارجا.

مثلا : حينما يلاحظ مفهوم الإنسان بقيد التجرّد عن تمام ما يمكن أن يطرأ على طبيعة الإنسان خارجا فهذه الطبيعة الملحوظة بهذا اللحاظ يعبّر عنها بالماهيّة المجرّدة وبالماهيّة بشرط لا ، وهي الكلّي العقلي.

ومنشأ التعبير عنها بالكلّي العقلي هو انّ وعاء تقرر وجود هذه الماهيّة هو العقل فلا يمكن أن يكون لها وجود في الخارج ، ولهذا لا تحمل عليها إلاّ المعقولات الثانويّة كأن يقال : الإنسان نوع والحيوان جنس.

وقد عرف المناطقة الكلّي العقلي بتعريف أشبه بالتعريف المدرسي إلاّ

٤٢٢

انّه يرجع لما ذكرناه من تعريف ، وحاصله : انّ الكلّي العقلي هو ملاحظة الطبيعة بوصفها كليّة ، فالملحوظ في الكلّي العقلي هو المركّب من الطبيعة والكلّي ، كأن نلاحظ الإنسان بوصفه كليّا.

ومن الواضح انّ الماهيّة إذا لوحظت بوصفها كليّة فإنّ ذلك يعني عدم تعقّل وجودها في الخارج ، إذ لا وجود للطبيعة بقيد الكليّة في الخارج. ثمّ انّ الطبيعة إذا لوحظت بقيد الكليّة فإنّ هذا يعني لحاظها متجرّدة عن تمام العوارض التي يمكن ان تطرأ على الماهيّة في الخارج.

وبهذا يتّضح انّ الكلّي العقلي في اصطلاح الاصوليين هو عينه في اصطلاح المناطقة وانّ الطبيعة بقيد الكليّة لا يحمل عليها إلاّ ما هو معقول ثانوي كالجنس والفصل.

* * *

٥٠٥ ـ الكلّي المنطقي

هو ملاحظة مفهوم الكلّي بقطع النظر عن عروضه على أيّ طبيعة أو ماهيّة ، بمعنى أن يلاحظ العقل مفهوم قابليّة الصدق على كثيرين وبهذا يكون موطن الكلّي المنطقي هو العقل أيضا.

ومنشأ التعبير عنه بالكلّي المنطقي هو انّ المنطقي عند ما يبحث عن الكلّي يبحث عنه بما هو وبقطع النظر عن عروضه على ماهيّة من الماهيّات ، أي انّ الضوابط والأحكام التي يجعلها على الكلّي انّما يجعلها للكلّي بهذا المعنى ، فيقال : مثلا : « انّ الكلّي هو في مقابل الجزئي » « وانّ الكلّي موطنه العقل » وهكذا.

٤٢٣
٤٢٤

حرف اللاّم

٤٢٥

عناوين حرف اللاّم

٥٠٦ ـ اللابشرط القسمي

٥٠٧ ـ اللابشرط المقسمي

٥٠٨ ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار

٥٠٩ ـ لا النافية للجنس

٥١٠ ـ لحن الخطاب

٥١١ ـ اللزوم البيّن وغير البيّن

٥١٢ ـ لوازم الأدلّة

٥١٣ ـ ليس التامّة والناقصة

٥١٤ ـ اللوازم الذاتيّة

٤٢٦

حرف اللام

٥٠٦ ـ اللابشرط القسمي

الماهية اللابشرط القسمي هي الماهيّة المطلقة ويعبّر عنها بالماهيّة المرسلة ، وقد ذكر لها معنيان :

المعنى الأوّل : انّ الماهيّة اللابشرط القسمي عبارة عن الماهيّة الملحوظة مع خصوصيّة خارجة عن ذاتها وذاتياتها ، وهذه الخصوصيّة هي عنوان الإطلاق والإرسال والانطباق على مصاديقها خارجا.

وبتعبير آخر : الماهيّة اللابشرط القسمي هي الماهيّة التي لوحظت فانية في أفرادها الخارجيّة ، أي لوحظ معها الانطباق على أفرادها الخارجيّة ، فحينما يقال : « أكرم الإنسان » فإنّ ماهيّة الإنسان لوحظت فانية في أفرادها ، بمعنى إلغاء الخصوصيّات الخارجيّة الثابتة للأفراد ، وهذا ما يصحّح فعليّة انطباق الحكم الثابت للماهيّة على تمام أفرادها.

فمعنى اللابشرط القسمي هو نفي القيود الخارجيّة المانعة عن انطباق الماهيّة على أفرادها ، ومن هنا يكون وجوب الإكرام ثابتا للعالم والجاهل والكبير والصغير والعربي والأعجمي وهكذا ، لأنّ تمام هذه الخصوصيّات غير ملحوظة في الماهيّة التي ثبت لها الوجوب ، وما هو ملحوظ مع هذه الماهيّة هو فعليّة الانطباق والسريان.

هذا ما ذهب إليه جمع من الأعلام كالمحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله وجمع من الفلاسفة.

المعنى الثاني : وهو ما تبنّاه جمع

٤٢٧

من الأعلام كالحكيم السبزواري وصاحب الكفاية رحمهما الله والشيخ الأنصاري رحمه‌الله على ما نسبه إليه بعض الأعلام ، وحاصله : انّ الماهيّة اللابشرط القسمي هي الماهيّة التي لوحظت معها خصوصيّة خارجة عن ذاتها وذاتياتها ، وهذه الخصوصيّة هي التقييد بالإطلاق ، فالماهيّة المطلقة هي الماهيّة المقيّدة بالإطلاق والإرسال ، وهي الماهيّة المقيّدة باللابشرطية ، فاللابشرطية قيد اخذ في الماهيّة اللابشرط القسمي.

والفرق بين هذا المعنى والمعنى الاول واضح ، إذ انّ المعنى الثاني اعتبر اللابشرطيّة والإرسال قيدا في الماهيّة اللابشرط القسمي ، وأمّا المعنى الأوّل فلم يعتبر ذلك فيها ، غايته انّ الماهيّة اللابشرط القسمي ـ بناء عليه ـ ملحوظ معها عنوان الإرسال واللابشرطيّة وليس مأخوذا بنحو القيديّة فيها ، ومعنى ذلك هو لحاظ الماهيّة فانية في أفرادها ومنطبقة عليها فعلا باعتبار انّ هذا اللحاظ يقتضي الغاء تمام الخصوصيّات والقيود المانعة عن انطباق الماهيّة على أفرادها.

والثمرة التي تظهر بين المعنيين هي انّ الماهيّة اللابشرط القسمي ـ بناء على المعنى الأوّل ـ موجودة في الخارج بوجود أفرادها ، وأمّا بناء على المعنى الثاني فلا موطن لها إلاّ الذهن ، وذلك لأنّ الماهيّة المقيّدة بالإطلاق لا وجود لها في الخارج ، فليس ثمّة فرد في الخارج يمكن أن تصدق عليه الماهيّة المقيّدة بالإطلاق ، فزيد لا يكون إنسانا بقيد الإطلاق.

* * *

٥٠٧ ـ اللابشرط المقسمي

الماهيّة اللابشرط المقسمي هي الماهيّة الملحوظ معها شيء خارج عن ذاتها وذاتياتها وهو لحاظها مقسما للأقسام الثلاثة ، وهي الماهيّة اللابشرط القسمي والماهيّة البشرطشيء والماهيّة البشرطلا ، والقسم الأوّل هو المعبّر عنه بالماهيّة المطلقة ، والثاني هو الماهيّة المخلوطة ، والثالث

٤٢٨

هو الماهيّة المجرّدة ، فإذا لوحظت الماهيّة باعتبارها مقسما لهذه الأقسام الثلاثة فهي الماهيّة اللابشرط المقسمي.

مثلا : لو لاحظنا مفهوم الإنسان باعتباره مقسما للإنسان بلحاظ الإرسال والإطلاق ، وللإنسان بلحاظ تجرّده عن تمام العوارض والطوارئ ، وللإنسان باعتبار اتّصافه بخصوصيّة خارجيّة ، إذا لاحظنا ماهيّة الإنسان باعتبارها مقسما لهذه الأقسام فهذه هي الماهيّة اللابشرط المقسمي ، وهي الكلّي الطبيعي بنظر الحكيم السبزواري رحمه‌الله خلافا لكثير من الأعلام. لاحظ عنوان « الكلّي الطبيعي » وعنوان « اعتبارات الماهيّة ».

* * *

٥٠٨ ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار

أما المراد من لفظي الضرر والضرار فقد أوضحناه في حرف الضاد ، وأمّا ما هو المراد من هذه الجملة المنفيّة بلا النافية للجنس فقد ذكر له عدّة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : وهو الذي تبناه شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه‌الله وهو انّ النفي اريد منه النهي ، فيكون مفاد الرواية الشريفة هو مفاد قوله تعالى : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ) (١) ، وحينئذ يكون معنى الرواية الشريفة هو حرمة الإضرار بالغير وحرمة الضرار بالمعنى الذي ذكرناه في محلّه.

وقد ذكرنا في بحث لا النافية للجنس انّ استعمال النفي لغرض إنشاء النهي ممكن وواقع في الاستعمالات العربيّة ، كما في قوله تعالى : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ) إلاّ انّه لا بدّ من ابراز قرينة على إرادة الإنشاء والنهي من النفي كما في الآية الشريفة ، إذ لا يتعقّل ـ كما قلنا ـ أن تكون الآية متصدّية للإخبار عن انتفاء وقوع الرفث في الخارج.

الاحتمال الثاني : أن تكون الرواية الشريفة من موارد استعمال الجمل المنفيّة في نفي الحكم بلسان نفي

٤٢٩

الموضوع ، فالمنفي وان كان هو الضرر إلاّ انّ الغرض منه نفي الحكم الثابت في ظرف الضرر ، فهي نفي للحكم الضرري بواسطة نفي الضرر ، فيكون مؤدى الرواية الشريفة هو نفي الأحكام الثابتة لموضوعاتها لو اتّفق اشتمال هذه الموضوعات على الضرر ، فالوجوب الثابت للوضوء مثلا منفي لو اتّفق ضرريّة الوضوء.

إلاّ انّ هذا الاستعمال لا يتناسب مع ما ذكرناه في المورد الثاني من موارد استعمال الجمل المنفيّة بلا النافية ، حيث قلنا انّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع معناه نفي الطبيعة عن أن تكون متحقّقة في ضمن فرد ، وقلنا انّ الغرض من ذلك هو نفي الحكم الثابت للطبيعة عن بعض أفرادها ، وهذا معناه انّ الطبيعة المنفيّة قد ثبت لها حكم في مرحلة سابقة ويكون مفاد هذه الصياغة هو نفي ذلك الحكم عن فرد من أفراد الطبيعة كما هو في قوله عليه‌السلام : « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّ طبيعة الربا قد ثبت لها حكم سابق هو الحرمة وهذه الرواية تصدّت لنفي انطباق طبيعة الربا على فرد هو الربا الواقع بين الوالد وولده ، وبانتفاء الطبيعة عن هذا الفرد ينتفي حكم الطبيعة عنه ، ولو لا هذه الرواية لكان حكم الطبيعة شاملا لهذا الفرد باعتباره فردا من أفرادها حقيقة.

وهذا البيان لا يمكن تطبيقه على رواية « لا ضرر ولا ضرار » ، وذلك لوضوح انّها ليست بصدد نفي انطباق طبيعة الضرر على فرد من أفرادها فيكون معنى ذلك هو نفي الحكم الثابت لطبيعة الضرر عن ذلك الفرد بل انّ ما يفهمه صاحب هذا المسلك هو انّ الرواية بصدد نفي الحكم الثابت للموضوعات الاخرى في ظرف تلبسها بالضرر ، وهذا لا يناسب دخول النفي على عنوان الضرر ، إذ المناسب لدخول النفي على عنوان الضرر هو نفي الحكم الثابت للضرر بلسان نفي الضرر ، وهذا معناه نفي الحرمة عن الضرر بلسان نفي الضرر وهو غير مراد قطعا.

٤٣٠

هذا حاصل بعض ما أورده السيّد الخوئي رحمه‌الله على هذا الاحتمال الذي تبنّاه صاحب الكفاية رحمه‌الله.

الاحتمال الثالث : أن يكون المنفي في الرواية الشريفة هو الحكم الضرري ابتداء ، فيكون مؤدى الرواية هو نفي وجود الحكم الذي ينشأ عن امتثاله الضرر في الشريعة ، وهذا معناه عدم جعل الشارع حكما يكون امتثاله موجبا للوقوع في الضرر.

والمصحّح لنفي الضرر رغم إرادة نفي الحكم الضرري هو انّ الضرر انّما ينشأ عن الحكم ، أي عن امتثاله ، فهو معلول للحكم ، فيكون مساق الرواية الشريفة هو نفي العلّة بواسطة نفي معلولها ، إذ لا يتعقّل انتفاء المعلول « الضرر » ما لم تكن علته منتفية والتي هي الحكم.

وتوضيح ذلك : انّ الوضوء في حالات المرض ليس هو المنشأ للوقوع في الضرر ، إذ للمكلّف ان لا يتوضّأ فلا يقع في الضرر إلاّ انّه حينما يجعل الشارع الوجوب على الوضوء في حالات المرض فإنّ المكلّف حينئذ يكون ملزما بامتثاله وبامتثاله يقع في الضرر ، فالضرر إذن معلول للحكم بوجوب الوضوء في حالات المرض ، وذلك لأنّ الحكم بالوجوب يكون علّة للزوم الامتثال ، والامتثال موجب للوقوع في الضرر ، فتكون النتيجة هي انّ الضرر انّما ينشأ عن الحكم ، وهذا هو المصحّح لدخول النفي على عنوان الضرر رغم إرادة نفي الحكم ، إذ انّه حينما ينفي الضرر فهذا يلازم عرفا نفي العلّة الموجبة له ، وليس من علّة للوقوع في الضرر سوى جعل الحكم الضرري على المكلّف ولزوم امتثاله له.

وبهذا يكون النفي واردا على الحكم الضرري ابتداء ، فيكون مؤدى الرواية الشريفة هو انّ الشارع لم يجعل حكما يلزم منه الضرر ، وهذا الاحتمال تبنّاه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله وتبعه في ذلك السيّد الخوئي رحمه‌الله.

* * *

٤٣١

٥٠٩ ـ لا النافية للجنس

والبحث المتّصل بغرض الاصولي عن لا النافية للجنس من جهتين :

الجهة الاولى : افادتها للعموم أو الإطلاق ، وهذا ما سوف نبينه تحت عنوان « النكرة في سياق النفي » انّ شاء الله تعالى.

الجهة الثانية : هو بيان موارد استعمالها ، وهذا ما سوف نبيّنه في المقام ، فنقول : انّ السيّد الخوئي رحمه‌الله ذكر انّ موارد استعمال الجمل المنفيّة بلا النافية للجنس ثلاثة :

المورد الأوّل : أن تكون مستعملة لغرض الإنشاء ، والتعبير عن مبغوضيّة مدخولها ، فهي وان كان مساقها الإخبار إلاّ انّ الغرض منها الإنشاء والنهي التحريمي.

ومثاله قوله تعالى : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ) (٢) فالجمل المنفيّة بلا النافية في هذه الآية المباركة سيقت لغرض الإنشاء والنهي التحريمي ، وذلك بقرينة عدم تعقّل تصدّي الآية المباركة لنفي الوجود والتحقّق جدّا وواقعا ، وهذا ما يعبّر عن انّ نفي التحقّق انّما هو لغرض التعبير عن الإنشاء والنهي.

وأمّا ما هو المصحّح لاستعمال النفي في إنشاء النهي فقد ذكرت لذلك مجموعة من التقريبات تذكر عادة تحت عنوان الجمل الخبريّة المستعملة في الطلب.

ومن هذه التقريبات هو انّ المصحّح للإخبار عن النفي هو الكناية عن الملزوم بواسطة الإخبار عن اللازم ، فهو وان كان يريد الملزوم إلاّ انّه توسّل في الكشف عن إرادته بواسطة الإخبار عن اللازم ، كما يقال : « زيد كثير الرماد » فإنّ الإخبار عن زيد بكثير الرماد انّما استعمل لغرض الكناية عن كرمه ، إذ انّ لازم الكرم هو كثرة الرماد في داره لكثرة طبخه للطعام ، فالمتكلّم أراد الإخبار عن الملزوم وهو الكرم بواسطة الإخبار عن اللازم وهو كثرة الرماد في دار زيد.

٤٣٢

والمقام من هذا القبيل ، إذ انّ الغرض من الإخبار عن انتفاء الرفث في الحجّ هو الكناية عن الإنشاء والنهي ، فالإخبار عن عدم وقوع الرفث من المتدين في الحجّ لازم لمطلوبيّة ذلك شرعا ، فالشارع أراد انشاء مطلوبيّة عدم ايقاع الرفث في الحجّ بواسطة الإخبار عن اللازم وهو عدم وقوع ذلك من المتدين ، إذ لا معنى لعدم صدور الرفث في الحجّ من المتدين إلاّ مطلوبيّة ذلك شرعا ، إذ مع عدم مطلوبيته لا يكون عدم وقوعه من المتدين ـ وبالتالي الإخبار عنه ـ مبرّرا.

وصدور ذلك من المؤمن أحيانا لا يلزم منه كذب الإخبار بعدم الوقوع ، وذلك لأنّ الإخبار لم يكن بقصد الحكاية وانّما هو بقصد الإنشاء ، والإخبار انّما هو وسيلة للتعبير عن الإنشاء.

كما انّ الثابت في بحث الكناية انّ مناط الصدق والكذب في الإخبارات المستعملة لغرض الكناية انّما هو مطابقة الملزوم للواقع وعدم مطابقته ، لا مطابقة اللازم ـ المخبر به ابتداء ـ للواقع وعدم مطابقته.

فقولنا « زيد كثير الرماد » لا يكون كذبا لو لم يكن في داره رماد أصلا إلاّ انّه كان كريما ، وذلك لأنّ المخبر عنه في هذه الجملة انّما هو كرم زيد ، والمفترض ثبوته واقعا ، هذا إذا كان ملزوم الجملة الكنائيّة هو الإخبار ، وأمّا إذا كان ملزومها الإنشاء فلا يتعقّل في موردها الكذب كما هو واضح.

المورد الثاني : أن يكون مساقها الإخبار عن انتفاء تحقّق الطبيعة في ضمن فرد ، ولكن لغرض نفي الحكم الثابت للطبيعة عن ذلك الفرد ، فليس الغرض من نفي شمول الطبيعة لفرد هو انتفاء ذلك الفرد عن الطبيعة تكوينا بل الغرض هو بيان انتفاء الحكم الثابت للطبيعة عن ذلك الفرد.

والمبرّر للتصدي لهذا النفي هو صدق الطبيعة على ذلك الفرد تكوينا ، فلو لا النفي لكان الحكم الثابت للطبيعة

٤٣٣

ثابتا لذلك الفرد باعتبار فرديّته لها واقعا.

ومثاله : قوله عليه‌السلام : « « لا ربا بين الوالد وولده » (٣) و « لا شك لكثير الشك » ، فنفي طبيعة الربا عن أن تكون منطبقة على الحصّة من الربا الواقع بين الوالد والولد انّما سيق لغرض نفي الحكم الثابت للطبيعة ـ وهو الحرمة ـ عن هذه الحصّة ، وهذا هو المعبّر عنه بنفي الحكم بلسان نفي الموضع كما أوضحنا ذلك تحت هذا العنوان.

المورد الثالث : أن يكون مساقها الإخبار عن انتفاء مدخول لا النافية عن أن يكون موجودا في الشريعة المقدّسة ، فيكون مفادها نفي المشروعيّة التشريع عن مدخول النفي ، ولهذا المورد صورتان :

الصورة الاولى : أن يكون النفي عن الشريعة موضوعا من الموضوعات الثابتة في شريعة من الشرائع أو الثابتة في مجتمع من المجتمعات أو أن يكون المنفي من المتبنيات العقلائيّة ، وحينئذ يكون مفاد الجملة المنفيّة هو نفي المشروعيّة عن الموضوع المنفي وجوده في الشريعة.

ومثاله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا رهبانيّة في الإسلام » (٤) ، وقوله عليه‌السلام : « لا مناجشة في الإسلام » (٥) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا قياس في الدين » (٦) ، فإنّ الرواية الاولى تنفي مشروعيّة الرهبانيّة والتي كانت مشروعة في بعض الشرائع السابقة ، والرواية الثانية تنفي مشروعيّة ظاهرة اجتماعيّة والتي هي المناجشة ، إذ انّ هذه الظاهرة كانت سائدة ، وأمّا الرواية الثالثة فهي تنفي مشروعيّة القياس في الدين والذي هو من المرتكزات العقلائيّة ، فلو خلّي العقلاء وطبعهم لحكّموا القياس في الدين.

الصورة الثانية : أن يكون مدخول النفي هو الحكم الشرعي ابتداء فيكون ذلك معبّرا عن عدم تشريع ذلك الحكم في الدين ، ومثاله قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٧) ، فالآية الكريمة تنفي أن يكون الشارع

٤٣٤

قد جعل حكما حرجيّا ، أي حكما يلزم من امتثاله الحرج.

* * *

٥١٠ ـ لحن الخطاب

وهو اصطلاح آخر لمفهوم الموافقة ، والتعبير عنه بلحن الخطاب ناشئ ـ كما قيل ـ عن انّ المتكلّم توسّل في بيان مراده بالتلويح بدلا عن التصريح ، وهذا ما يناسب المعنى اللغوي للفظ اللحن ، إذ انّ اللحن في اللغة يعني الفطنة وسرعة الفهم ، فكأنّما المتكلّم اعتمد على فطنة المخاطب فلم يصرّح بمراده واستعاض عن ذلك بالتلويح.

كما انّه قد يستعمل لفظ لحن الخطاب ويراد منه دلالة الاقتضاء ، ووجه المناسبة يتضح بملاحظة ما ذكرناه تحت عنوان « دلالة الاقتضاء ».

* * *

٥١١ ـ اللزوم البيّن وغير البيّن

تنقسم اللوازم الذاتيّة الى قسمين :

القسم الأوّل : هو اللزوم البيّن ، وهو الذي لا يحتاج إدراكه الى برهان تثبت بواسطته الملازمة بين الملزوم ولازمه ، وهو ينقسم الى قسمين :

الأوّل : اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ : وهو الذي يكون معه تصوّر الملزوم كافيا في تصوّر اللازم والجزم بالملازمة بينهما ، بمعنى انّ إدراك اللازم لا يحتاج لأكثر من تصوّر الملزوم ، ويمكن التمثيل بالنار والحرارة ، فإنّ النار هي الملزوم والحرارة هي لازم النار ، وتصوّر الحرارة والإذعان بكونها لازما للنار لا يحتاج لأكثر من تصوّر معنى النار.

الثاني : اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ : وهو ما يكون معه اللزوم مفتقرا تصوّره الى تصوّر الملزوم وتصوّر اللازم وتصوّر النسبة بينهما ، وحينئذ يتحقّق إدراك اللازم والجزم بالملازمة بينه وبين ملزومه.

ويمكن التمثيل له بالفرديّة والعدد سبعة ، فإنّ إدراك الملازمة بين العدد سبعة وبين الفرديّة يحتاج الى تصوّر

٤٣٥

معنى العدد سبعة والذي هو الملزوم وتصوّر معنى الفردية والتي يفترض انّها اللازم ثمّ تصوّر الملازمة بينهما بأن يجمع بين التصورين ويناسب بينهما ، وحينئذ يتحقّق الإدراك والجزم بالملازمة وانّ الفرديّة لازم للسبعة.

وتلاحظون انّ إدراك اللازم والملازمة في القسمين لم يفتقر الى مقدّمة خارجيّة ، نعم اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ يحتاج الى مئونة زائدة ، فما لم تبذل لا يتحقّق الإدراك بمجرّد تصوّر الملزوم إلاّ انّ هذه المئونة لا تخرج عن اطار الملزوم واللازم والنسبة بينهما.

القسم الثاني : اللزوم غير البيّن وهو من اللوازم الذاتيّة أيضا إلاّ انّ إدراك اللازم في مورده والجزم بالملازمة بينه وبين ملزومه لا يكون إلاّ بواسطة البرهنة على الملازمة ، والمقصود من البرهنة هو مطلق ما يكون خارجا عن اطار تصوّر الملزوم واللازم والنسبة بينهما ، بمعنى انّ وضوح البرهان لا يبرّر اعتبار اللزوم بيّنا ، ولذلك عدل السيّد الخوئي رحمه‌الله عن التعبير بالبرهان والدليل الى التعبير بالمقدّمة الخارجيّة ، أي انّ اللزوم غير البيّن هو ما يكون إدراكه والجزم به مفتقرا الى مقدّمة خارجة عن إطار تصوّر اللازم والملزوم والنسبة بينهما.

وذكر رحمه‌الله انّ اعتبار المحقّق النائيني رحمه‌الله وجوب مقدّمة الواجب من اللوازم البيّنة بالمعنى الأعمّ يعدّ خلطا بين اللازم البيّن واللازم غير البيّن ، وذلك لأنّ إدراك الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة يحتاج الى مقدّمة خارجيّة وهي ما يدركه العقل من انّ ايجاب شيء يستلزم ايجاب مقدّماته ، ووضوح هذا البرهان على الملازمة لا يبرّر اعتبار هذا النحو من الملازمة لزوما بيّنا بالمعنى الأعمّ.

ثمّ انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو انّ افتقار اللزوم غير البيّن الى البرهان لا ينافي ما ذكرناه من انّ اللازم الذاتي لا يتخلّف عن ملزومه

٤٣٦

وانّه ناشئ عن مقام الذات للملزوم وانّه لا يعلّل.

وذلك لأنّ البرهان انّما هو لغرض الكشف عن ثبوت الملازمة ، فليس هو علّة لثبوت الملازمة ، إذ قد يكون بين الشيئين تلازم ذاتي إلاّ انّ هذا التلازم غير مدرك فتكون وظيفة البرهان هو الكشف عن التلازم الذاتي ، ولو لم نعثر على دليل الملازمة فإنّ ذلك لا يقتضي انتفاؤها لو كانت ثابتة في نفس الأمر والواقع.

فوظيفة البرهان على الملازمة كوظيفة الأمارة على الحكم الشرعي ، فإنّ الأمارة لا تكون علّة لثبوت الحكم الشرعي واقعا ، وانّما دورها الكشف عنه ، ولهذا لو لم تقم الأمارة على الحكم الشرعي فإنّ هذا لا يعني عدم وجوده بل قد يكون الحكم الشرعي ثابتا في نفس الأمر والواقع غايته انّ المكلّف يجهله.

* * *

٥١٢ ـ لوازم الأدلّة

ومن أجل أن يتّضح هذا المطلب لا بدّ من بيان مقدّمة.

كلّ دليل سواء كان قطعيّا أو غير قطعي ، وسواء كان محرزا أو أصلا عمليّا يمكن أن يكون له مدلول التزامي إضافة إلى مدلوله المطابقي ، ولكي تتّضح هذه الدعوى نذكر مثالا يناسب الدليل المحرز بكلا قسميه : القطعي ، وغير القطعي ؛ ومثالا يناسب الأدلّة العمليّة المعبّر عنها بالأصول العمليّة.

أمّا ما يناسب الدليل المحرز ، فمثاله : لو أخبر مخبر عن غرق زيد فإنّ هذا الخبر له مدلولان :

الأوّل : هو أنّ زيدا قد غرق في الماء ، وهذا ما يسمّى بالمدلول المطابقي.

الثاني : هو إنّ زيدا قد مات ، وهذا هو المدلول الالتزامي للخبر ، إذ أنّ الخبر وبحسب المدلول اللغوي لألفاظه لا يدلّ على أكثر من غرق زيد في

٤٣٧

الماء ، نعم ثبوت غرق زيد ـ وبواسطة مقدّمة خارجيّة وهي أنّ الغرق موجب للموت ـ قد دلّ على موت زيد.

إذن ثبوت موت زيد نشأ عن مقدّمتين الأولى إخبار المخبر بغرقه والثانية هي العلم الخارجي بأنّ الغرق من موجبات الموت.

وأمّا ما يناسب الأصل العملي ، فنذكر له مثالا في الاستصحاب ، فنقول : لو كنّا على يقين سابق بحياة زيد ثمّ شككنا في بقائه على قيد الحياة فإنّ مقتضي الاستصحاب هو أنّ زيدا لا زال حيّا ، وهذا هو المدلول المطابقي للاستصحاب ، وللاستصحاب مدلول آخر وهو « أنّ زيدا يأكل ويشرب » وهذا هو المدلول الالتزامي للاستصحاب وهو لا يقتضيه الاستصحاب بنفسه إذ أنّ الاستصحاب لا يعني أكثر من إسراء الحالة السابقة المتيقّنة إلى ظرف الشكّ ، ومن الواضح أنّ كون زيد يأكل ويشرب الآن ليس مستفادا من حاق المستصحب « حياة زيد » ، نعم هو مستفاد من الاستصحاب باعتبار أنّه صار واسطة في إثبات موضوع الملازمة ، فالاستصحاب أثبت حياة زيد فترتّب اللازم من حياة زيد وهو أنّه يأكل ويشرب.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة ، يقع البحث حول الدلالة الالتزاميّة من حيث ثبوت الحجّيّة بالإضافة إلى المدلول المطابقي وعدم ثبوت الحجّيّة ، وهل أنّه كلّما ثبتت الحجّيّة لدليل فإنّها تثبت لكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي أو لا؟

ويمكن تصنيف البحث إلى موارد أربعة نذكرها تباعا :

المورد الأول : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلّة المحرزة القطعيّة ، كما لو قام الدليل القطعي على غرق زيد في الماء ، وفي مثل هذا المورد لا إشكال في ثبوت الحجّيّة لكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي ، وذلك لأنّ القطع بالمدلول المطابقي قطع بالمدلول الالتزامي ، ولذلك قالوا « إنّ العلم بشيء علم بلوازمه ».

٤٣٨

إذن المنشأ لثبوت الحجّيّة للمدلول الالتزامي هو العلم بالملازمة ، إذ هو الذي يؤدّي إلى العلم باللازم بعد العلم بتحقّق الملزوم ـ وهو المدلول المطابقي ـ وفي المثال المذكور يكون القطع بغرق زيد قطع بموته ، ولذا يمكن ترتيب جميع الآثار المترتّبة على موت زيد كاعتداد زوجته وتقسيم تركته.

المورد الثاني : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلّة المحرزة الظنّيّة ، والذي قام الدليل القطعي على حجيّته بكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي بأن كان موضوع الحجّيّة الثابت لهذا الدليل هو كلا المدلولين ، فهنا لا إشكال أيضا في ثبوت الحجّيّة للمدلول الالتزامي وذلك لأنّه وقع موضوعا للحجيّة بمعنى أنّ الدليل المثبت للحجيّة قد أثبتها لكلا المدلولين على حدّ سواء.

ومثال ذلك : خبر الثقة لو استظهرنا من الأدلة التي دلّت على حجيّته أنّها في مقام إثبات الحجّيّة لكلا مدلولي الخبر المطابقي والالتزامي فإنّ خبر الثقة في مثل هذه الحالة يكون حجّة في المدلول الالتزامي كما هو حجّة في المطابقي ، فلو أخبر الثقة بغرق زيد فإنّ هذا الخبر يكون حجّة في إثبات موت زيد.

المورد الثالث : لو كان الدليل من الأدلّة المحرزة الظنّيّة إلاّ أنّ الدليل الذي دلّ على حجّيّته دلّ على حجّيّة المدلول المطابقي دون أن تكون له دلالة على حجّيّة المدلول الالتزامي.

ومثال ذلك : الإجماع ، فإنّ الدليل الذي دلّ على حجّيّته لم يدل على أكثر من حجية معقد الإجماع ـ والذي هو المدلول المطابقي ـ فلا يكون المدلول الالتزامي لمعقد الإجماع مشمولا لدليل الحجّيّة ، فلو قام الإجماع مثلا على وجوب صلاة الجمعة فإنّ وجوب صلاة الجمعة هي معقد الإجماع إلاّ أنّ لذلك مدلول التزامي وهو عدم وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ، وهذا المدلول الالتزامي خارج عن موضوع الحجّيّة ، إذ أنّ موضوع الحجّيّة ـ كما قلنا ـ هو معقد الإجماع ـ والذي هو في المثال وجوب

٤٣٩

صلاة الجمعة ـ.

ومن هنا قد يقال بعدم حجّيّة المدلول الالتزامي ، فلو كان له آثار فإنّها لا تترتّب ، وذلك لأنّ موضوع الحجّيّة ليس شاملا لها ، نعم من الممكن ثبوتا ان تكون الحجّيّة شاملة للمدلول الالتزامي ، ولكنّ ذلك لا ينفع لإثبات الحجّيّة له إذ أنّ إمكان ثبوت الحجّيّة له لا يسوّغ الاعتماد عليه ما لم يقم دليل إثباتي على الحجّيّة ، وفرض الكلام عدم شمول الحجّيّة للمدلول الالتزامي ، وكوننا نعلم أنّ ثبوت المدلول المطابقي يلازم خارجا ثبوت المدلول الالتزامي لا يسوّغ أيضا ثبوت الحجّيّة للمدلول الالتزامي ، وذلك لأنّ فرض الكلام أنّ الدليل المحرز دليل ظنّي يفتقر في ثبوت الحجّيّة له إلى التعبّد الشرعي ، ومن الممكن جدّا أن يتعبّدنا الشارع بحجّيّة المدلول المطابقي دون أن يتعبّدنا بحجّيّة المدلول الالتزامي ، فيقول مثلا : إنّ الزوج إذا كان مفقودا ولم يعرف له خبر فإنّه قد مات تعبّدا ولكن مع ذلك لا تنفصل عنه زوجته إلا بطلاق الحاكم الشرعي في حين أنّ موت الزوج يلازم شرعا عدم الحاجة إلى الطلاق.

ومن هنا ذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله إلى عدم حجّيّة المدلول الالتزامي في هذا المورد ، وفي مقابل هذا القول ذهب المشهور إلى حجّيّته وأنّه لا فرق في الحجّيّة بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي إذا كان المدلول المطابقي من قبيل الأدلّة الظنّيّة المحرزة « الأمارة » ، ولذلك قالوا : « إنّ مثبتات الأمارة مطلقا حجّة » أي أنّ المدلولات الالتزامي للأمارة مطلقا تكون حجّة وهذا هو ما ذهب إليه السيّد الصدر رحمه‌الله واستدلّ له بما حاصله :

إنّ الدليل الظنّي المحرز ـ الذي قام الدليل القطعي على حجّيّته ـ هو ما كان منشأ جعله الكاشفيّة عن متعلّقه وليس له منشأ وسبب غير كاشفيّته عن متعلّقه وبالتالي تكون حجّيّة هذا الدليل ثابتة لكلّ ما كشف عنه هذا الدليل ، ومن الواضح أنّ كاشفيّة

٤٤٠