المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

بالغا ، فلا تظهر ثمرة في هذه الفرضيّة بين القائلين باستصحاب العدم الأزلي وبين النافين لهذا الاستصحاب.

الفرضيّة الثانية : ان يفترض انّ الموضوع مركب من معروض وعدم عرضه مع افتراض الملازمة بين وجود المعروض ووجود عرضه وبين عدم العرض وعدم معروضه.

ومثاله ما لو كان الموضوع مركبا من وجود المرأة وعدم كونها قرشيّة ، فإنّ ذلك هو موضوع عدم حيضيّة الدم الذي تراه المرأة بعد الخمسين ، وواضح انّ المرأة لو كانت قرشيّة فإنّ اتّصافها بالقرشيّة ملازم لها من حين وجودها ، فلا يتّفق وجود المرأة أولا ثمّ عروض عنوان القرشيّة عليها ، وحينئذ لو كنا على يقين بعدم المرأة وبالتالي عدم قرشيّتها ثمّ أحرزنا وجود المرأة إلاّ انّه وقع الشك في قرشيتها أي في انتفاء عدم القرشيّة عنها الثابت من الأزل ، فهل يمكن استصحاب عدم القرشيّة وبالتالي يتنقّح الموضوع المركّب من وجود المرأة وعدم كونها قرشيّة أو انّه لا يمكن استصحاب عدم القرشيّة.

وهذا هو محلّ النزاع بين الأعلام ، فبناء على جريان استصحاب العدم الأزلي يمكن تنقيح الموضوع المركّب بواسطة الوجدان والأصل ، فما يثبت بالوجدان هو وجود المرأة ، وما يثبت بالأصل هو عدم اتّصافها بالقرشيّة ، وأمّا مع عدم جريان استصحاب العدم الأزلي فلا سبيل لإحراز الموضوع المركّب بهذه الوسيلة.

والفرق بين هذه الفرضيّة والفرضيّة الاولى انّه في الفرضيّة لو لم نقل بجريان استصحاب العدم الأزلي فإنّه يمكن احراز الموضوع بواسطة استصحاب آخر ، وأما في الفرضيّة الثانية فلا يتمّ احراز الموضوع إلاّ بواسطة استصحاب العدم الأزلي ، ولهذا اختصّ استصحاب العدم الأزلي بهذا الفرض ، وهو ما لو كان العرض ملازما في وجوده لوجود المعروض بحيث لا يكون ثمّة حالة أو زمن يفترض فيها وجود المعروض دون أن

٣٠١

يكون العرض موجودا معه ، ولهذا لا تكون لعدم العرض حالة سابقة متيقّنة إلاّ حالة عدم وجود المعروض.

وكيف كان فقد اختلف الأعلام في جريان استصحاب العدم الأزلي بالنحو الذي ذكرناه في الفرض الثاني ، فذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى عدم جريانه وذهب جمع من الأعلام كالشيخ الآخوند والسيّد الخوئي رحمهما الله الى جريانه.

والخلاف بين السيّد الخوئي والمحقّق النائيني رحمهما الله صغروي كما أفاد السيّد الصدر رحمه‌الله حيث انّهما يتّفقان على عدم امكان جريان استصحاب العدم النعتي لإحراز الموضوع المركب من المعروض وعدم عرضه إذا كان عدم عرضه مأخوذا بنحو العدم النعتي ولم تكن للعدم النعتي حالة سابقة متيقّنة ، فلو كان موضوع عدم حيضيّة الدم الذي تراه المرأة بعد الخمسين هو المرأة المتّصفة بعدم القرشيّة فإنّ استصحاب اتّصاف المرأة بعدم القرشيّة غير ممكن ، وذلك لما ذكرناه في العدم النعتي من انّه منوط بوجود موضوعه في رتبة سابقة على اتّصافه بالعدم النعتي ، فلا يمكن أن يتّصف الموضوع بعدم وصف ما لم يكن موجودا ، ومن هنا يكون اتّصاف المرأة بعدم القرشيّة ليس له حالة سابقة حتى تستصحب ، إذ انّه قبل وجود المرأة لا يمكن اتّصافها بعدم القرشيّة وبعد وجودها نشك في اتّصافها بالقرشيّة أو عدم القرشيّة ، والمفروض انّ الاتّصاف بالقرشيّة لو كان ثابتا لكان ملازما لأول وجودها ، وعليه لا تكون هناك حالة يمكن ان توجد فيها المرأة ولا تكون متّصفة بالقرشيّة أو عدمها.

كما انّ المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله يتّفقان على انّه لو كان الموضوع مركبا من جزءين وكان أحدهما معنون بعنوان وجودي والآخر معنون بعنوان عدمي إلاّ انّ المعنون بالعنوان العدمي ليس مأخوذا بنحو يكون صفة ونعتا للعنوان الوجودي بل هو عدم محمولي ، فيكون الموضوع مركبا من عنوانين

٣٠٢

ليس أحدهما وصفا للآخر وانّما أحدهما واقع بحيال الآخر فهنا لا ريب عند العلمين في امكان احراز الموضوع المركّب بواسطة الوجدان والأصل ، فنحرز العنوان الوجودي بالوجدان كما نحرز العنوان العدمي بالاستصحاب الثابت من الأزل.

فلو كان موضوع عدم حيضيّة الدم الذي تراه المرأة بعد الخمسين هو المرأة وعدم الانتساب لقريش وليس الموضوع هو اتّصاف المرأة بعدم الانتساب لقريش ، وعدم الانتساب لقريش له حالة سابقة متيقّنة فيمكن استصحابه ، وبهذا يكون أحد الجزءين محرزا بالوجدان والآخر وهو عدم الانتساب لقريش ـ وهو العدم المحمولي ـ محرز بالأصل.

فحال هذا الفرض نظير ما لو كان الموضوع المركّب هو وجود زيد وعدم وجود عمرو فإنّ عدم وجود عمرو عدم محمولي له حالة سابقة متيقّنة ، ولهذا يمكن احراز الموضوع المركّب بواسطة الوجدان والاستصحاب بأن نحرز وجود زيد بالوجدان ونحرز عدم وجود عمرو بالاستصحاب الثابت من الأزل.

فالمتحصل انّ العدم المحمولي لو كان هو الجزء الآخر للموضوع المركّب لكان بالإمكان احرازه بواسطة استصحاب العدم الثابت من الأزل بلا ريب.

انّما الخلاف بين المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله هو انّ المحقق النائيني رحمه‌الله يدّعي انّ الموضوع إذا كان مركبا من العرض ومحلّه أي من المعروض وعرضه فلا بدّ أن يكون العرض قد اخذ بنحو النعتيّة لمعروضه ، وهكذا إذا كان الموضوع مركبا من المعروض وعدم عرضه فإنه ظاهر في كون عدم العرض مأخوذا بنحو النعتيّة ، أي بنحو العدم النعتي للمعروض ، فالقرشيّة عرض والمرأة معروضه ، فإذا كان الموضوع مركبا من المرأة وعدم القرشيّة فلا بدّ من أن يكون عدم القرشيّة مأخوذا على انّه نعت للمرأة أي مأخوذ بنحو العدم

٣٠٣

النعتي ، وإذا كان كذلك فلا يمكن احراز الموضوع بواسطة استصحاب عدم القرشيّة ، لأنّه عدم نعتي ليس له حالة سابقة متيقّنة.

وأمّا السيّد الخوئي رحمه‌الله فيدعي خلاف ذلك وانّ عدم العرض المأخوذ في الموضوع ظاهر في العدم المحمولي أي بنحو مفاد كان التامة ، وذلك لأنّ أخذ عدم الوصف بنحو النعتيّة يحتاج الى مئونة زائدة وهي خلاف الظاهر.

ومن هنا كان الظاهر عند ما يكون الموضوع مركبا من عنوان وجودي وعنوان عدمي هو انّ العنوان العدمي ليس مأخوذا بنحو النعتيّة للعنوان الوجودي بل هو جزء بحيال الجزء الاول ، كما هو الحال لو كان الموضوع مركبا من جوهر وعدم جوهر آخر.

وعليه لا مانع من احراز موضوع عدم حيضيّة الدم بعد الخمسين بواسطة الوجدان والاستصحاب ، بأن نحرز وجود المرأة وجدانا ونستصحب عدم قرشيّتها ، ولا محذور في ذلك بعد ان كان عدم قرشيتها عدما محموليّا.

هذا هو المقدار الذي نراه مناسبا لوضع الطالب الكريم في الصورة. ثم انّه لو قلنا بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فإنّه يمكن الاستفادة منه في ثلاثة موارد :

المورد الاول : تنقيح موضوع العام المخصّص بمخصّص مشتبه بنحو الشبهة المصداقيّة.

وبيان ذلك : انّه لا ريب في عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة ، فلو ورد عام مفاده « أكرم العلماء إلاّ العالم الاموي » أو ورد دليل منفصل مفاده « لا يجب اكرام العالم الاموي » ، فلو سلمنا انّ ذلك يوجب تقييد العام بعنوان عدمي ، فيكون حاصل موضوع حكم العام هو العالم غير الاموي ، فهنا لو أحرزنا انّ زيدا عالم غير اموي فلا ريب في دخوله تحت حكم العام ، أمّا لو وقع الشك في انّ زيدا العالم هل هو اموي فيكون داخلا تحت المخصّص أو انّه غير اموي فيكون داخلا تحت العام ، فهنا لا ريب في عدم جواز التمسّك بالعام لإدخال

٣٠٤

زيد تحت حكم العام إلاّ انّه يمكن اثبات انّ زيدا من أفراد العام بواسطة استصحاب عدم كونه امويا ، بمعنى ان نحرز موضوع العام المركب بواسطة الوجدان والاستصحاب ، فاحراز عالميّة زيد يثبت بالوجدان واحراز عدم امويّته يثبت بواسطة استصحاب العدم الأزلي ، وبذلك يتنقّح انّ زيدا موضوع لحكم العام.

المورد الثاني : هو تنقيح انّ هذا الفرد المشتبه ليس موضوعا للخاص لو افترضنا انّ حكم الخاص كان إلزاميا ولم يكن من الممكن احراز انّ هذا الفرد موضوع للعام.

مثلا : لو ورد عام مفاده « أكرم العلماء » و « يحرم عليك اكرام العالم الاموي » واشتبه الحال في شأن زيد فلو افترضنا اننا لم نحرز عالميّة زيد ، فهنا لا يكون استصحاب عدم أمويّته نافعا في تنقيح انّه من أفراد العام إلاّ انّ استصحاب عدم امويّة زيد الثابت من الأزل ينفع لنفي حرمة الإكرام ، لأنّ المفترض انّ الذي يحرم اكرامه انّما هو العالم الاموي ، وبواسطة استصحاب عدم امويّة زيد ينتفي كونه موضوعا لحكم الخاص ، فلا يكون مشمولا لحرمة الإكرام.

المورد الثالث : ان لا يفترض ثمّة عام مخصّص بمخصّص مشتبه بنحو الشبهة المصداقيّة بل انّ هناك حكما مجعولا على موضوع ، هذا الموضوع مسبوق بالعدم الأزلي ، فهنا نتوسل باستصحاب العدم الأزلي لنفي الموضوع ، وعندئذ ينتفي الحكم المرتّب عليه.

ومثاله : ما لو قال المولى : « لا تتزوج المرأة النبطيّة » فلو شككنا في نبطيّة هذه المرأة فإنّ بالإمكان نفي نبطيّتها بواسطة استصحاب العدم الأزلي ، وعليه ينتفي الحكم المرتب على ذلك العنوان.

* * *

٤٣٩ ـ العدم المحمولي

هو العدم بمفاد ليس التامة النافية للوجود عن الشيء ، فالعدم المحمولي

٣٠٥

يعني سلب الوجود عن الماهيّة ، فحينما يقال « زيد معدوم » فهذا العدم محمولي.

والتعبير عنه بالعدم المحمولي ناشئ عن حمل العدم على الماهيّة ، وذلك في مقابل الوجود المحمولي والذي يكون فيه المحمول على الماهيّة هو الوجود.

* * *

٤٤٠ ـ العدم النعتي

هو العدم بمفاد ليس الناقصة النافية لاتّصاف الموضوع بنعت من النعوت ، فالعدم النعتي هو العدم الخاص المضاف لموضوع من الموضوعات ، وذلك في مقابل العدم المطلق المعبّر عنه بالعدم المحمولي.

وبتعبير آخر : انّه تارة يحمل العدم على ماهيّة من الماهيات ، كأن يقال « زيد معدوم » فهذا العدم محمولي ، وذلك لكونه محمولا على الماهيّة ومفيدا لسلب الوجود عنها ، وتارة اخرى يكون العدم بمعنى نفي العرض عن معروضه ونفي النعت عن موضوع ، كأن يقال « زيد ليس بعالم » فالعدم هنا نعتي لأنّه يعني نفي اتّصاف الموضوع بنعت ما أو قل نفي اتّصاف المعروض بالعرض وهو مفاد ليس الناقصة ، وذلك في مقابل الوجود النعتي والذي يعني اتصاف الموضوع بنعت من النعوت بمفاد كان الناقصة ، كأن يقال : « كان زيد عالما ».

ثمّ انّ العدم النعتي كالوجود النعتي منوط بالفراغ عن وجود موضوعه خارجا ، فكما إنّه لا يمكن حمل الوجود النعتي على موضوع إلاّ بعد تحقّقه خارجا لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له فكذلك حمل العدم النعتي على شيء فرع وجود الموضوع المحمول عليه العدم النعتي.

والوجه في ذلك ـ كما أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ انّ العدم النعتي والوجود النعتي كالعدم والملكة من حيث افتقارهما للموضوع ، فكما انّ التقابل بين العدم والملكة مفتقر الى وجود محلّ يتبادلان الحلول فيه فكذلك المقام ، وكما انّ العدم والملكة يمكن ان يرتفعا

٣٠٦

دون أن يلزم من ذلك ارتفاع النقيضين فكذلك المقام ، فالعمى مثلا ـ وهو عدم البصر ـ والبصر يتبادلان على موضوع هو الإنسان ، ويستحيل تحققهما بلا مورد قابل للاتّصاف بالبصر.

والمقام كذلك ، فالوجود النعتي والعدم النعتي يتبادلان على موضوع مفروغ عن وجوده في رتبة سابقة ، كما انّه يمكن ان يرتفعا دون أن يلزم من ذلك ارتفاع النقيضين كما لو كان موضوعهما معدوما ، فإنّه لا يتّصف بالوجود النعتي كما لا يتّصف بالعدم النعتي.

امّا عدم اتّصافه بالوجود النعتي فلأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وأمّا عدم اتّصافه بالعدم النعتي فلأنّ العدم ليس هو العدم المطلق المعبّر عنه بالعدم المحمولي بل هو عدم خاص مضاف الى موضوع خاص ، وهذا يقتضي الفراغ عن وجود الموضوع الذي يراد اضافة العدم النعتي اليه ، فمع افتراض انعدام الموضوع لا يكون قابلا للاتّصاف بالعدم النعتي كما لا يكون قابلا للاتّصاف بالوجود النعتي والذي هو اشبه بالملكة.

فالوجود النعتي والعدم النعتي يمكن ارتفاعهما دون أن يلزم من ذلك ارتفاع النقيضين ، وهذا بخلاف الوجود المحمولي والعدم المحمولي فإنّ ارتفاعهما معا معناه ارتفاع النقيضين ، وذلك لأنّ الماهيّة إذا قيست الى الوجود فإمّا أن تكون موجودة أو لا تكون موجودة ، أمّا افتراضها موجودة ولا موجودة فهذا معناه ارتفاع النقيضين ، وهو مستحيل.

فالمتحصّل انّ العدم النعتي كالوجود النعتي منوط بوجود موضوعه خارجا.

* * *

٤٤١ ـ العرض الذاتي

اختلف الأعلام في تفسير العرض الذاتي من حيث سعة مفهومه وضيقه ، وقد أحصينا ستّة اتّجاهات في ذلك :

٣٠٧

الاتّجاه الأوّل : انّ المراد من العرض الذاتي هو المحمول المنتزع عن مقام الذات للموضوع أو قل هو المحمول الذي تقتضيه نفس ذات الموضوع ، فليس ثمّة واسطة غير ذات الموضوع سبّبت حمل العرض على معروضه « الموضوع ».

ومثاله : أن يقال : « العقل مدرك للكليّات » فإنّ إدراك الكليّات ناشئ عن مقام الذات للعقل ومنتزع عن هويّته وماهيته ، ولم تكن ثمّة واسطة غير ذات العقل سبّبت حمل إدراك الكليات على العقل ، وسيتّضح هذا الاتّجاه أكثر من ملاحظة ما سنذكره ان شاء الله تعالى.

الإتجاه الثاني : انّ المراد من العرض الذاتي هو المحمول الذي يعرض الموضوع باقتضاء ذات الموضوع أو باقتضاء أمر يساوي ذات الموضوع ، فهو إمّا ناشئ عن مقام الذات أو ناشئ عن أمر مساو للذات.

وبتعبير آخر : امّا أن يكون عروض المحمول على موضوعه بلا واسطة أصلا غير الذات أو يكون بواسطة أمر خارج عن الذات إلاّ انّه مساو للذات ، فالمحمول الذي يكون منشأ عروضه على موضوعه أحد هذين الأمرين يعبّر عنه بالعرض الذاتي. والظاهر انّ هذا هو المعنى المشهور للعرض الذاتي.

ومثال عروض المحمول على موضوعه باقتضاء نفس ذات الموضوع هو ما ذكرناه في الاتّجاه الأوّل وبنفس التقريب ، وأمّا مثال عروض المحمول على موضوعه بواسطة أمر مساو للذات فهو كما قيل « الإنسان ضاحك » ، فالضحك عرض ذاتي للإنسان باعتبار انّ منشأ عروضه على ذات الإنسان هو شيء خارج عن ذات الإنسان إلاّ انّه مساو لها وهو التعجّب ، فالتعجّب وان كان خارجا عن ذات الإنسان إلاّ انّه مساو لها ، وهذا ما أوجب تعنون المحمول الثابت للموضوع بواسطته بعنوان العرض الذاتي للموضوع.

٣٠٨

الاتّجاه الثالث : انّ المراد من العرض الذاتي هو المحمول الذي يعرض الموضوع إمّا باقتضاء ذات الموضوع أو باقتضاء أمر خارج عن الموضوع مساو لذات الموضوع أو يكون العروض باقتضاء جزء ذات الموضوع المساوي للموضوع أو باقتضاء جزء ذات الموضوع الأخصّ من الموضوع أو باقتضاء جزء ذات الموضوع الأعم من الموضوع.

فالعرض الذاتي بناء على هذا الإتجاه تكون له خمسة أقسام :

القسم الأوّل والثاني : ذكرناهما في الإتجاه الثاني.

القسم الثالث : هو أن يتمّ عروض المحمول على الموضوع بواسطة جزء ذات الموضوع والذي يكون مساويا لذات الموضوع ، هذا الجزء هو الذي سبّب عروض المحمول على الموضوع.

ومثاله : أن يقال : « الإنسان متكلّم » ، فإنّ عروض التكلّم على الإنسان تمّ بواسطة الناطقيّة والتي هي جزء ذات الإنسان إلاّ انّ هذا الجزء ليس أخصّ من الإنسان ولا هو أعمّ منه بل هو مساو للانسان ، فالإنسان مساو للناطق خارجا وان لم يكن هو تمام ذاته ، إذ انّ الإنسان مركّب تحليلا من حيوان وناطق.

فباعتبار انّ عروض التكلّم على الإنسان كان مسببا عن جزء الذات للإنسان فإنّ ذلك يقتضي ـ بناء على هذا الاتّجاه ـ أن يكون التكلّم عرضا ذاتيا للإنسان ، وهكذا الكلام في تمام العوارض التي تعرض النوع بسبب الفصل ، أي انّ العوارض التي تعرض الفصل أولا وبالذات إذا عرضت على نوع ذلك الفصل فإنّها تكون عرضا ذاتيا للنوع ، فالتكلّم يعرض على الناطق باقتضاء نفس ذات الناطق دون واسطة أصلا وهذا ما يبرّر اعتبار التكلّم عرضا ذاتيا للإنسان باعتباره هو النوع الذي تكون الناطقيّة فصله وجزؤه المساوي ، وقد قلنا انّ عوارض الفصل الناشئة عن مقام ذاته تكون أعراضا ذاتيّة لنوعه.

القسم الرابع : هو ان يتمّ عروض

٣٠٩

المحمول على الموضوع بواسطة جزء ذات الموضوع الأخص ، فهذا الجزء الداخلي الأخصّ إذا كان هو الموجب لعروض المحمول على الموضوع فإنّ المحمول حينئذ يكون عرضا ذاتيا للموضوع.

ومثاله : أن يقال : « الكلمة مرفوعة » ، فإنّ عروض الرفع على الكلمة تمّ بواسطة جزء الكلمة الاخصّ وهو الفاعليّة ، إذ انّ الفاعليّة أخصّ من الكلمة كما هو واضح ، واعتبار انّ الرفع عرض ذاتي للكلمة ناشئ عن انّ عروض الرفع على الكلمة تمّ بواسطة جزء الكلمة الأخصّ.

وهكذا الكلام في تمام الحالات التي تعرض فيها عوارض النوع أو الفصل على الجنس باعتبار انّ النوع أو الفصل هو الجزء الداخلي الأخصّ للجنس ، فكلّ محمول على الجنس بواسطة نوعه أو فصله يكون عرضا ذاتيا.

القسم الخامس : هو أن يتمّ عروض المحمول على الموضوع بواسطة جزء ذات الموضوع الأعم ، فهذا الجزء الداخلي الأعمّ إذا كان هو الموجب لعروض المحمول على الموضوع فإنّ المحمول يكون حينئذ عرضا ذاتيا للموضوع.

ومثاله : أن يقال : « الإنسان ماش » ، فإنّ الإنسان مركب من جزءين تحليلين هما الحيوانيّة والناطقيّة ، والحيوانيّة هي جزؤه الأعم ، فإذا كان عروض المحمول على الإنسان باقتضاء جزئه الأعم فإنّ ذلك المحمول يكون عرضا ذاتيا للانسان.

وهكذا الكلام في كلّ محمول يكون من عوارض الجنس باقتضاء ذاته ، فإنّ ذلك المحمول إذا عرض على نوع ذلك الجنس أو فصله يكون عرضا ذاتيا للنوع والفصل ، والسبب في ذلك هو انّ منشأ العروض هو جزء ذات النوع أو الفصل.

الإتجاه الرابع : هو نفس الإتجاه الثالث ولكن مع إلغاء القسم الرابع

٣١٠

وهو أن يتمّ عروض المحمول على الموضوع بواسطة الجزء الأخص لذات الموضوع ، ولذلك قالوا انّ عوارض النوع والفصل ليست ذاتيّة للجنس ، فإدراك الكليّات ليس عرضا ذاتيا للحيوان.

الاتّجاه الخامس : هو نفس الاتّجاه الرابع ولكن مع إلغاء القسم الخامس أيضا ، وهو أن يتمّ عروض المحمول على الموضوع بواسطة الجزء الأعمّ لذات الموضوع ، ولذلك قالوا انّ عوارض الجنس ليست ذاتيّة للنوع ، فالماشي ليس عرضا ذاتيا للإنسان ، وعليه تكون الأعراض الذاتيّة ـ بناء على هذا الاتّجاه ـ ثلاثة ، الأوّل والثاني والثالث.

الإتجاه السادس : انّ المراد من العرض الذاتي هو المحمول الذي يعرض الموضوع بلا واسطة في العروض وان كان بواسطة في الثبوت ، وهذا هو الذي تبنّاه صاحب الكفاية رحمه‌الله تبعا للحكيم السبزواري رحمه‌الله.

وقبل إيضاح المراد من هذا الاتّجاه نقول ـ إجمالا وسيأتي ايضاحه في محلّه ـ انّ الفرق بين الواسطة في العروض والواسطة في الثبوت انّ الواسطة في الثبوت هي العلّة الحقيقيّة الموجبة لعروض المحمول على الموضوع واقعا ، كالنار التي هي علة حقيقيّة لثبوت الاحتراق لزيد ، فحينما يقال « زيد محترق » فإنّ النار هي الواسطة في ثبوت الاحتراق لزيد.

وأمّا الواسطة في العروض فهي المصحّح لاسناد المحمول للموضوع بحيث لو لا هذه الواسطة لكان اسناد المحمول للموضوع غلطا أو كذبا.

وبتعبير آخر : الواسطة في العروض هي المصحّح للإسناد المجازي ، كما لو قيل : « الميزاب جار » فإنّ المصحّح لهذه النسبة هو كون الميزاب محلا لجريان الماء ، فالماء هو الجاري ، والميزاب انّما هو ظرفه ومحله ، وهذه الظرفيّة هي المصحّحة لحمل الجريان على الميزاب ، فاسناد الجريان للميزاب مجازي ، والواسطة

٣١١

في هذا الإسناد هي الظرفيّة ، ولهذا تكون واسطة في العروض.

وباتّضاح هذه المقدمة نقول : انّ مقصود صاحب الكفاية رحمه‌الله من انّ العرض الذاتي هو المحمول الذي يعرض على الذات بلا واسطة في العروض انّ مقصوده من ذلك هو انّ المحمول إذا كان عروضه على الموضوع بنحو الحقيقة لا بنحو المجاز أو الكذب ، فالمحمول حينئذ يكون عرضا ذاتيا ، وعلى هذا يكون المحمول العارض على الموضوع باقتضاء ذات الموضوع أو باقتضاء الواسطة في الثبوت والتي هي العلّة الحقيقيّة لثبوت المحمول للموضوع يكون عرضا ذاتيا.

ومن هنا يكون المحمول العارض للموضوع إذا كان منشأ العروض أمرا مباينا لذات الموضوع إلاّ انّه علّة تامّة لثبوت المحمول للموضوع فإنّ المحمول يكون عرضا ذاتيا للموضوع ، كما في الاحتراق العارض على زيد بواسطة النار ، فإنّ الاحتراق يكون عرضا ذاتيا لزيد ، وذلك لأنّ الواسطة التي أوجبت عروض الاحتراق على زيد علّة حقيقيّة لثبوت الاحتراق لزيد.

وبهذا تكون ضابطة العرض الذاتي ـ بناء على هذا الإتجاه ـ هي كلّ محمول يكون ثبوته لموضوعه حقيقيّا ويمتنع سلبه عنه بقطع النظر عن انّ منشأ الثبوت هو اقتضاء الذات أو انّه بواسطة جزء الموضوع الأعمّ أو المساوي الداخلي أو المساوي الخارجي أو المباين إذا كان علّة تامّة لثبوت المحمول للموضوع.

وأمّا إذا كان عروض المحمول للموضوع بواسطة جزء الموضوع الأخصّ فإنّه يكون عرضا ذاتيا للموضوع لو كان الموضوع قد اخذ بنحو اللابشرط ، فإدراك الكليّات يكون عرضا ذاتيا للحيوان إذا اخذ الحيوان بنحو اللابشرط من جهة فصوله ، فيكون حينئذ حمل الإدراك للكليّات على الحيوان عرضا ذاتيا ، أمّا إذا اخذ الحيوان بشرط الصاهليّة أو الافتراس مثلا فإنّ حمل الإدراك

٣١٢

للكليّات عليه يكون عرضا غريبا. وذلك لأنّ عروض الإدراك للكليّات على الحيوان بهذا اللحاظ لا يكون حقيقيّا.

* * *

٤٤٢ ـ العرض الغريب

والمراد من العرض الغريب هو كلّ ما لا يكون عرضا ذاتيا ، ولذلك تتّسع دائرته وتضيق بحسب اختلاف الإتجاهات في تعريف العرض الذاتي.

إلاّ انّ القدر المتيقّن من العرض الغريب ـ بناء على الإتجاهات الخمسة ـ هو المحمول العارض للموضوع بواسطة أمر مباين لذات الموضوع كعروض الحرارة للماء ، فإنّ هذا العروض تمّ بواسطة أمر مباين لذات المعروض « الماء » ، وهذه الواسطة هي النار ، فإنّ النار مباينة لذات الماء.

أو المحمول العارض لذات الموضوع بواسطة أمر خارج أعمّ من المعروض ، مثل عروض الحركة على الأبيض ، فإنّ هذا العروض تمّ بواسطة انّ الأبيض جسم ، والجسم أعمّ من الأبيض ، إذ انّ الجسم يكون أبيضا ويكون أسودا ويكون غير ذلك ، فلأنّ عروض الحركة على الأبيض كان بواسطة شيء أعمّ من الأبيض كان المحمول وهو الحركة عرضا غريبا.

وأمّا القدر المتيقّن ـ بناء على الإتجاه السادس ـ فهو المحمول الذي يكون عروضه للموضوع مجازيا باحدى العلائق المصحّحة للمجاز في الاسناد.

* * *

٤٤٣ ـ العرض والعرضي

العرض في مصطلح الفلاسفة هو ما يقابل الجوهر ، ويقصدون منه المقولات التسع والتي هي الكم والكيف والإضافة والأين والملك والفعل والانفعال والوضع والمتى ، وضابطها كما قالوا هو انها لا توجد إلاّ في موضوع ، وذلك في مقابل الجوهر وهو الموجود لا في موضوع.

٣١٣

وأمّا العرض باصطلاح المناطقة فهي المحمولات العارضة على موضوعاتها بقطع النظر عن كونها من قبيل الجواهر أو الأعراض باصطلاح الفلاسفة ، ومن هنا يكون مثل الناطق عرض باصطلاح المناطقة إذا حمل على الحيوان وإن كان جوهرا باصطلاح الفلاسفة حتى في ظرف حمله على موضوع.

والاصوليّون عادة ما يستعملون العرض في مطلق ما يحمل على الشيء بقطع النظر عن كون المحمول من الجواهر أو من قبيل الأعراض. فاستعمالهم للعرض كاستعمال المناطقة له.

وأمّا العرضي فهو في مصطلح الفلاسفة يطلق على المحمول الخارج عن ذات الموضوع العارض عليه بقطع النظر عن كون المحمول من مقولة الجوهر أو من مقولة العرض الفلسفي ، فالماشي والضاحك وان كانا من مقولة الجوهر إلاّ انّ كلّ واحد بالنسبة للحيوان عرضي ، لأنّه خارج عن ذات الحيوان محمول عليه ، كما انّه لا فرق في العرضي بين أن يكون ذاتيا للموضوع أو غير ذاتي.

وأمّا العرضي في مصطلح المناطقة فهو يطلق على المحمول الخارج عن ذات الموضوع على أن لا يكون ذاتي باب الكليات الخمس فلا يكون جنسا ولا فصلا ولا نوعا له ، نعم قد يكون ذاتيا في باب البرهان ـ كما أوضحنا المراد منه في محلّه ـ ولهذا فهم يقسمون العرضي الى قسمين ، الاول هو الخاصة والثاني هو العرض العام.

ومثال الأوّل : هو الضاحك المحمول على الإنسان ، فإنّ الضاحك ليس جنسا ولا نوعا ولا فصلا للإنسان ولكنه عرض ذاتي للإنسان بنحو الذاتي في باب البرهان.

ومثال الثاني : الماشي المحمول على الإنسان فهو امّا عرض ذاتي أو عرض غريب على اختلاف المباني في تشخيص العرض الذاتي كما أوضحنا ذلك.

وبما ذكرناه يتّضح انّ العرضي في

٣١٤

مصطلح الفلاسفة يستعمل في مطلق المحمول بقطع النظر عن كونه من مقوّمات الموضوع أي انّه ذاتي باب الكليّات أو ليس من مقوماته سواء كان المحمول الغير المقوّم للموضوع ذاتي باب البرهان أو لم يكن كذلك ، فالأوّل مثل الضاحك العارض على الإنسان ، فإنّه ذاتي باب البرهان وهو عرضي للانسان باصطلاح الفلاسفة. والثاني مثل الأبيض والأسود العارضين على الإنسان ، فإنّ كلا منهما عرضي للإنسان وليس من ذاتي باب البرهان كما هو ليس ذاتي باب الكليات.

وأمّا العرضي في مصطلح المناطقة فهو يستعمل في خصوص المحمول الذي لا يكون من مقوّمات الموضوع ، أي الذي لا يكون ذاتي باب الكليات إلاّ انّه لا يختصّ بذاتي باب البرهان ، ولهذا يكون الأبيض والأسود عرضي في مصطلح المناطقة.

واتّضح أيضا ممّا ذكرناه انّ الاصوليين يستعملون العرض فيما يشمل العرض الفلسفي والعرضي الفلسفي ، بمعنى انّ العرض عندهم هو مطلق المحمول العارض على الموضوع سواء كان من مقولة الجوهر أو العرض الفلسفي وسواء كان ذاتي باب الكليّات أو ذاتي باب البرهان أو لم يكن كذلك.

* * *

٤٤٤ ـ العرف

المراد من العرف هو الأمر المألوف والمأنوس نتيجة تباني الناس على سلوكه بقطع النظر عن منشأ ذلك التباني فإنّ كلّ ما هو مألوف ومتعارف يعبّر عنه بالعرف سواء كان ناشئا عن نكتة عقلائيّة مقتضية لذلك للتباني أو كان ناشئا عن ظروف موضوعيّة أو عوامل تربويّة أو بيئيّة أو ما إلى ذلك.

ومن هنا تتفاوت الأعراف ، فهناك أعراف لا تختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة ، وهناك أعراف تختلف من مجتمع لآخر ويطرأ عليها التغيير بتمادي الزمان ، كما انّ هناك أعراف تتّصل بشريحة اجتماعيّة خاصة ، وكلّ

٣١٥

ذلك ناشئ عن النكتة المقتضية للتعارف والتباني.

والبحث في المقام عن صلاحيّة العرف للكشف عن مجموعة من الأمور :

الأمر الأوّل : صلاحيته للكشف عن الحكم الشرعي.

الأمر الثاني : صلاحيته لتحديد موضوعات الحكم الشرعي.

الأمر الثالث : صلاحيته لتحديد المراد من الخطابات الشرعيّة.

أما الأمر الأول : فالبحث عنه من جهتين :

الجهة الاولى : هي انّه هل يكون التعارف والتباني على شيء ولو من قبل جميع العقلاء مناطا لجعل الشارع حكما مناسبا لذلك التعارف والتباني بحيث يكون التعارف معبّرا دائما عن موافقة الشارع لما عليه العرف أو لا؟

المستظهر من كلمات بعض العامة انّ الامور المتعارفة من مناطات الأحكام ، بمعنى انّ نفس التعارف على شيء يكون ملاكا لجعل الشارع الحكم على طبقة ، وهذا هو مبرّر استكشاف حكم الشارع بواسطة الامور العرفيّة.

واستدلوا لذلك بمقطوعة ابن مسعود « بأنّ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن » (١) بتقريب انّ استحسان المسلمين لفعل وتعارف البناء عليه بينهم يكون مناطا لقبول الشارع لذلك الفعل وجعل الحكم على ما يتناسب مع المتعارف عندهم.

واستدلّوا أيضا بمجموعة من الموارد التي تطابق فيها حكم الشارع مع ما هو متعارف عند العرب كوضع الدية على العاقلة وتحديد مقدار الدية بما هو محدّد عند العرب.

إلاّ انّ كلا الدليلين لا يصلحان لإثبات الدعوى.

أما الدليل الاول : فبالإضافة إلى عدم احراز انّها رواية واحتمال انّها من كلام ابن مسعود رحمه‌الله ؛ وذلك لكونها مقطوعة وغير منسوبة للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإضافة لذلك فهي غير ظاهرة في الدعوى بل هي تحتمل أكثر من معنى :

٣١٦

الاحتمال الاول : انّها تشير الى حجيّة المدركات العقليّة العمليّة والتي هي من قبيل ما يدركه العقل من حسن العدل وقبح الظلم ، وهذا ما يمكن أن يستظهر من قرينة التعبير بالرؤية والذي يعطي بأنّ استحسانهم الذي يكون مقبولا عند الله تعالى انّما هو الاستحسان المدرك بواسطة العقل لا الاستحسان الذي يكون ناشئا عن الانس والألفة والاسترسال كما يتّفق كثيرا.

والمانع عن هذا الاستظهار هو نسبة الرؤية للمسلمين والحال انّ المناسب لهذا الاستظهار هو نسبة الرؤية للعقلاء.

إلاّ انّه قد يجاب عن ذلك بأنّ نسبة الرؤية للمسلمين انّما هو باعتبار سلامة فطرتهم ، إذ غالبا ما يكون عدم التديّن مانعا عن اللجوء الى ما يقتضيه المدرك العقلي ومقتضيا لملاحظة المصالح الخاصة أو المصالح المتّصلة بالانتماءات ، فيكون ذلك حائلا دون إدراك الحقائق أو موجبا للالتفاف عليها لو اتفق إدراكهم لها ، وحينئذ لا يكون من المناسب تصريح الشارع بقبول ما يدركه العقلاء ليست لأنّ ما يدركونه بمحض عقولهم ليس مقبولا بل انّ عدم التصريح ناشئ عن حيثيّة خارجيّة هي عدم توسّل غير المتديّنين غالبا بالعقل للتعرف على الحقائق.

والمتحصّل انّه من الممكن أن يكون منشأ نسبة الرؤية لخصوص المسلمين هو ما عليه الواقع الخارجي لغير المسلمين خصوصا فيما يتّصل بالسلوك العملي والذي غالبا ما يكون الرجوع فيه لمقتضيات العقل العملي منافيا للمصالح الشخصيّة أو الفئويّة.

الاحتمال الثاني : انّها تشير الى انّ الله تعالى شأنه غرس في جبلّة الإنسان ما يتعرف به على موارد الفضيلة والرذيلة والخير والشرّ ، فإذا أراد أن يتعرّف الإنسان على ما هو مرضي عند الله تعالى فليرجع الى ضميره فإنّه دليل الخير والصلاح ، وأمّا نسبة ذلك لخصوص المسلمين فلأنّ ضمائرهم

٣١٧

على الفطرة لم تتغلّق بحجب المعصية والضلال.

فالرواية ليست متصدّية للكشف عن انّ أحكام الله تابعة لرؤى المسلمين بل من المحتمل انّها متصدّية للتعبير عن انّ الضمائر التي هي على الفطرة صالحة للكشف عن مواطن رضا الله عزّ وجلّ ، فهي إذن من الروايات الاخلاقية. وقد تعرضنا لهذه الرواية في بحث « الاستحسان » وذكرنا لها احتمالات اخرى.

وكيف كان فالرواية لا صلة لها بالدعوى حتى لو لم يقبل ما احتملناه ، وذلك لأنّ التعبير بالرؤية لا يساوق معنى العرف والألفة والعادة ، إذ كثيرا ما تكون الألفة ناشئة عن مبرّرات تتّصل بالظروف الموضوعيّة ، فليست الرؤى والأفكار هي الخلاقة دائما للأعراف بل كثيرا ما تنشأ الأعراف عن ظروف قاهرة تقتضيها الأجواء البيئيّة والتركيبة الاجتماعيّة والثقافات الموروثة أو التي فرضتها ظروف الحياة والمتغيّرات الناشئة عن التداخل بين الامم مثلا ، وليس شيء من ذلك يتّصل بالرؤية والفكر وإذا كان لها دخل فليس هي العامل الأساسي أو الدائمي لانخلاق العادات والأعراف.

وعليه لو كانت رؤى المسلمين هي ملاكات الأحكام فإنّ ذلك لا يساوق انّ ما عليه المسلمون من أعراف هي ملاكات الأحكام ، إذ انّ معنى الرؤية لا يساوق معنى العادة والألفة.

وأما دعوى تبعيّة الأحكام الشرعيّة لرؤى المسلمين أو لاجتهاد المجتهد ـ كما قالوا ـ فهو خارج عن محل الكلام ، وقد ثبت فساده عندنا لاستلزامه التصويب.

وأمّا الدليل الثاني : فيمكن النقض عليه بموارد كثيرة خالف الشارع فيها ما هو متعارف عند العرب ، وأمّا اتّفاق مطابقة بعض الأحكام الشرعيّة لما هو متعارف عند العرب فهذا لا يعبّر عن انّ الأعراف هي مناط الأحكام الشرعيّة ، إذ لا مانع من اتّفاق ما عليه العرف للواقع إلاّ انّ ذلك لا يلازم انّ كلّ ما عليه العرف فهو مطابق للواقع.

٣١٨

ثمّ انّه بناء على ذلك يلزم أن يكون للشارع في الواقعة الواحدة أكثر من حكم ، وذلك لاختلاف الأعراف من مجتمع لآخر بل انّ الأعراف العربيّة تختلف في بعض الأحيان باختلاف قبائلهم ، على انّه ما معنى ان يناط الحكم الشرعي بالعرف وما هو المصحّح لذلك!!

فإن كان المصحّح هو الملازمة بين ما هو متعارف وبين المصالح والمفاسد الواقعيّة فهذا معناه عصمة الأعراف عن الخطأ ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك.

وان كان المصحّح هو انّ الأعراف دائما تكون ناشئة عن المدركات العقليّة القطعيّة فهذا ما اتّضح فساده ممّا تقدم ، ولو اتّفق ذلك في بعض الاحيان فهو لا يبرّر اناطة الأحكام الشرعيّة بكلّ ما هو متعارف ، على انّ ذلك لو كان هو المصحّح لما كانت الأعراف هي مناط الأحكام وانّما هي كاشفة عن اشتمال متعلقاتها على مناطات الأحكام وهو خروج عن الدعوى.

وأمّا لو كان المصحّح هو محض كون الشيء متعارفا ومألوفا فهو ما لا يقبل العقلاء الالتزام به فضلا عن الشارع المقدّس ، إذ كيف يكون محض التعارف والألفة مبرّرا لجعل الحكم على وفقه. على انّ كلّ هذه المحتملات منقوضة بموارد كثيرة حكم الشارع فيها على خلاف ما هو متعارف.

فقد كان من المتعارف الزواج بأكثر من أربع ، وعدم استحقاق المرأة للميراث ، والزواج بزوجات الآباء وتبني غير الاولاد ، والحاق أولاد الزنا بآبائهم العرفيّين ، والتوارث بالولاية وبضمان الجريرة حتى مع وجود الطبقات.

كلّ ذلك كان مألوفا ومتعارفا ، فلو كان محض كون الشيء متعارفا هو مناط الحكم فما معنى أن تكون الأحكام الشرعيّة الثابتة بالضرورة منافية لهذه الأعراف.

وأمّا احتمال انّ الشارع لاحظ الأعراف فوجد انّ غالبيتها مطابقة

٣١٩

للشارع فهو بالإضافة الى منافاته للدعوى ، إذ انّ ذلك يعبّر عن انّ مناط الأحكام ليس هو العرف ، وانّ انما هو كاشف ، بالإضافة لذلك فهو منقوض بالموارد الكثيرة التي لو ادعينا انّ أكثر الأعراف التي كانت متداولة قد ردع عنها الشارع لما كان في هذه الدعوى مجازفة.

إلاّ ان يقال انّ المقصود هو الأعراف الناشئة بعد أن أصبح للمسلمين كيان. إلاّ انّ ذلك أيضا لا ينفع ، لأنّ الأعراف التي نشأت بعد ذلك لو كانت متلقاة عن الشارع فهو خروج عن الفرض ، ولو لم تكن كذلك فإنّه يرد عليها ما ذكرناه آنفا ، بالإضافة الى ما نشاهده من منافاة كثير من الأعراف الطارئة ـ بعد ان أصبح للمسلمين كيان ـ للأحكام الثابتة بالكتاب والسنة.

على انّ الأعراف لو كانت من مناطات الأحكام لما كان ثمّة معنى لتصدى الشارع لبيان أحكام كثير من المعاملات التي كانت متداولة ومتعارفة ، فنلاحظ انّ الشارع ألغى بعض الشروط المتعارفة وقال انّ كلّ شرط حلّل حراما أو حرّم حلالا فهو باطل وانّ كلّ شرط ينافي كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو باطل ، وأضاف شروطا لم تكن متعارفة ، وألغى بعض العقود والإيقاعات التي كانت متداولة بين الناس.

كما نلاحظ انّ سيرة المتشرّعة والمتديّنين بل جميع المسلمين جارية على مراجعة الشارع في كلّ شيء حتى في الامور المتّصلة بما هو متعارف ومألوف ، فلو كانت الأعراف من مناطات الأحكام لكان على الشارع أن يحيل الناس عليها ، ولما كان من مبرّر لتصدّيه لبيان تفاصيلها ، ولكان ذلك من الوضوح بحيث لا يخفى على أحد لشدّة اتّصال الدعوى لو كانت ثابتة بعامة المكلّفين.

الجهة الثانية : هي انّه هل يكون التعارف والتباني على شيء كاشفا عن الحكم الشرعي أو لا؟

نقول : انّ هذا التعارف ان كان

٣٢٠