المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

٢٨٦ ـ الحرمة

الحرمة حكم تكليفي معناه الإلزام ـ ممّن له حقّ الطاعة ـ بترك فعل معيّن ، فالحرمة وصف للإلزام الذي يكون متعلّقه ترك الفعل.

ومنشأ التعبير عن هذا الحكم بالحرمة هو أنّ إلزام المولى لعبده بترك فعل معناه اعتبار العبد محروما من هذا الفعل ، إذ لو لا الحرمة لكان في سعة من جهة فعله أو تركه.

وأمّا الحرام فهو وصف للفعل المجعول عليه الحرمة ، فهو متعلّق الحرمة ، وذلك مثل الزنا وشرب الخمر والقرض الربوي ، فهذه كلّها أفعال وقعت متعلّقا للحرمة ولذلك لا توصف بالحرمة ، وإنّما توصف بالحرام أو بالمحرّمات ، والذي يصحّ وصفه بالحرمة هو الاعتبار الشرعي بالإلزام.

* * *

٢٨٧ ـ الحرمة الذاتيّة والحرمة العرضيّة

المراد من الحرمة الذاتيّة هو الحكم التكليفي الناشئ عن مفسدة في ذات متعلّقه.

فحرمة الزنا ذاتيّة لأنّها نشأت عن مفسدة في نفس فعل الزنا ، فحينما يكون متعلّق الحرمة مبغوضا ذاتا وواجدا لمفسدة في نفسه فالحرمة الواقعة عليه يعبّر عنها بالحرمة الذاتيّة.

وأمّا الحرمة العرضيّة فهي الحكم التكليفي الناشئ عن مفسدة فيما يقترن بمتعلّقه وإلاّ فالمتعلّق في حدّ ذاته غير واجد للمفسدة بل قد يكون واجدا للمصلحة لو خلّي ونفسه.

ومثاله السفر للمعصية أو الصلاة في الأرض المغضوبة ، فإنّ السفر لو خلّي ونفسه ليس مبغوضا وليس واجدا للمفسدة ولكن بسبب اقترانه بالمعصية أصبح مبغوضا لترشّح مفسدة المعصية منها إليه وهكذا الحال بالنسبة للصلاة في الأرض المغصوبة.

* * *

٢١

٢٨٨ ـ الحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة

نقل الشيخ الأنصاري رحمه‌الله عن الوحيد البهبهاني رحمه‌الله انّه نسب للأخباريين رحمهم‌الله مذاهب أربعة في الشبهة الحكميّة عند فقدان النصّ ، الأوّل : التوقّف ، والثاني : الاحتياط ، والثالث : الحرمة الظاهريّة ، والرابع : الحرمة الواقعيّة.

وما يهمنا في المقام هو بيان الفرق بين الحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة ، فنقول : انّ الشيخ الانصاري رحمه‌الله احتمل للفرق بينهما احتمالات ثلاثة بعد احتمال انّ المذاهب الأربعة تؤول الى معنى واحد وانّ الاختلاف انّما هو في التعبير بلحاظ الاختلاف في الأدلّة المعتمدة عندهم ، فمن قال بالتوقف تحفظ على التعبير الوارد في بعض الروايات المعبّر عنها بروايات التوقّف ، وهكذا الكلام فيمن قال بالاحتياط فإنّه تحفظ على التعبير الوارد في روايات الاحتياط ، وأمّا من قال بالحرمة الظاهريّة فإنّه اعتمد على روايات التثليث والتي تقتضي ترك اقتحام الشبهات ، وهذا ما يقتضي كون الحرمة ثابتة في ظرف الشك في الواقع ، وهو تعبير آخر عن الحكم الظاهري والذي موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، وأمّا من قال بالحرمة الواقعيّة فمراده انّ المشتبه بنفسه موضوع للحرمة ، فالحكم بالحرمة موضوع ابتداء على ما هو مشتبه ، وهذا هو مبرّر التعبير بالحرمة الواقعيّة.

وأمّا الاحتمالات الثلاثة للفرق بين الحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة فهي كما يلي :

الاحتمال الاول : انّ مقصود القائل بالحرمة الظاهرية هو انّ هذه الحرمة لم تثبت إلاّ لموضوع لا يعلم ما هو حكمه الواقعي ، وهذا يقتضي كون الحرمة الثابتة له حرمة ظاهريّة ، إذ كلّ حكم يثبت في ظرف الجهل بما هو الحكم الواقعي للموضوع فهو حكم ظاهري.

٢٢

وأمّا مقصود القائل بالحرمة الواقعيّة فهو انّ المشتبه بنفسه موضوع للحرمة لا انّ الحرمة ثابتة له باعتباره مجهول الحكم ، فعنوان المشتبه كسائر العناوين التي يعرضها الحكم ابتداء دون أن يؤخذ في عروض الحكم لها الشك في الحكم الواقعي ، ومتى ما كان كذلك فإنّ الحكم عندئذ يكون من الأحكام الواقعيّة.

الاحتمال الثاني : انّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل انّ الحكم الواقعي للمشتبه هو الإباحة فتكون أدلّة الاجتناب عن الشبهات قاضية بتحريم المشتبه ظاهرا.

وأمّا القائل بالحرمة الواقعيّة فيبني على أصالة الحظر في الأشياء المستفادة من حكم العقل بقبح التصرّف في مال الغير دون إذنه ، فهي مستند القائل بالحرمة الواقعيّة لا انّ مستنده روايات الاحتياط.

ومن الواضح انّ حكم العقل بأصالة الحظر في الاشياء حكم واقعي موضوعه التصرّف بالشيء الذي لم يأذن ذو الحقّ في التصرّف به ، وهذا هو أحد المباني في أصالة الحظر في الأشياء.

الاحتمال الثالث : انّ مقصود القائل بالحرمة الظاهريّة هو انّ حكم المشتبهات ظاهرا هو الحرمة مطلقا أي سواء كان المشتبه محرما واقعا أو كان حكمه الواقعي هو الإباحة ، ومن هنا يكون المرتكب للشبهات مستحقا للعقاب بنحو مطلق.

وأمّا القائل بالحرمة الواقعيّة فمقصوده عدم ثبوت الحرمة ظاهر للمشتبهات إلاّ انّه لو اتّفق ان كان المشتبه حراما واقعا فإنّ المكلّف يكون مستحقا للعقاب على تركه ، وأمّا مع عدم اتّفاق الحرمة الواقعيّة للمشتبه فإنّ المكلّف لا يكون مؤاخذا على تركه ، فأدلّة الاحتياط لا تقتضي أكثر من لزوم امتثال ما هو محرّم واقعا.

ولعلّ منشأ هذا القول هو انّ أدلّة الاحتياط لا تقتضي أكثر من الإرشاد ، ولذلك لا يترتّب عليه أكثر ممّا يترتّب على الواقع ، فموافقة أو

٢٣

مخالفة الاحتياط ليس لهما موضوعيّة بل العبرة هو التحفّظ على الواقع ، فمتى ما اتّفق موافقة الواقع فإنّ الاحتياط لا يترتّب على مخالفته شيء ، ومتى ما اتّفق مخالفة الواقع فإنّ المكلّف لا يكون مستحقّا للعقوبة على مخالفة الاحتياط بل انّه يعاقب على مخالفة الواقع ، فحال الأمر بالاحتياط كحال أوامر الطبيب ، فكما انّ أوامر الطبيب لا يترتّب على الالتزام بها أو عدم الالتزام أكثر ممّا يترتب على الواقع فكذلك الاحتياط.

ثمّ علّق الشيخ الانصاري رحمه‌الله بأن هذا المبنى في فهم أدلّة الاحتياط تام لو لا انّ هذا القائل يذهب الى لزوم الاحتياط والحال انّ الصحيح عدم دلالة أدلّة الاحتياط على أكثر من أولويّة الالتزام به.

* * *

٢٨٩ ـ الحسن والقبح

ذكرت للحسن والقبح أربعة معان ، ثلاثة منها تؤول روحا الى بيان ما هو منشأ اتّصاف الأفعال بالحسن والقبح.

المعنى الاول : انّ الحسن هو ما يلائم النفس ويوجب انبساطها والقبيح هو ما يوجب انقباض النفس واستيحاشها. وبناء على هذا المعنى لا تختصّ صفتا الحسن والقبح بالأفعال الاختياريّة ، وذلك لأنّ ما يوجب انقباض النفس وانبساطها قد يكون فعلا اختياريا كالإحسان والإساءة ، وقد لا يكون كذلك كالمنظر الجميل والمنظر القبيح.

المعنى الثاني : انّ المراد من الحسن هو ما أوجب الكمال والمراد من القبيح هو ما أوجب النقص ، فكلّ فعل يساهم في كمال النفس مثلا فهو من الافعال المتّصفة بالحسن كما انّ كلّ فعل يساهم في سقوط النفس وتسافلها فهو من الأفعال المتّصفة بالقبح ، هذا لو كان المراد من الكمال هو الكمال في مصطلح علماء الأخلاق.

أمّا لو كان المراد من الكمال هو الغاية التي تنتهي عندها كلّ قوّة من

٢٤

القوى بحيث تبلغ معها حدّ التماميّة فإن الحسن بناء على هذا المعنى يكون صفة لكلّ ما أوجب اشتداد قوّة من القوى وسار بها نحو غايتها ، كما انّ القبح يكون بمعنى ما يوجب تسافل قوّة من القوى والمسير بها على عكس ما تقتضيه غايتها.

وباعتبار انّ القوى متفاوتة فيما بينها وقد يكون كمال بعضها على حساب كمال الاخرى يلزم ان يتّصف الفعل الواحد ـ بناء على هذا المعنى ـ بالكمال والنقص في آن واحد ولكن باعتبارين.

مثلا : التروّي والتأمل والتأني أفعال تسير بالقوّة العاقلة نحو غايتها وكمالها إلاّ انّها توجب ضمور القوّة الغضبيّة والسبعيّة وتسير بها على عكس ما يقتضيه كمالها ، فهذه الأفعال حسنة بلحاظ القوّة العاقلة وقبيحة بلحاظ القوة الغضبيّة.

وكيف كان فالحسن والقبح بناء على المعنى الثاني بصورتيه لا يختصّ بالأفعال الاختياريّة كما هو واضح.

المعنى الثالث : انّ الحسن بمعنى المصلحة والقبح بمعنى المفسدة أو انّ الحسن ما كان موجبا للمصلحة والقبيح ما كان موجبا للمفسدة.

وهذا المعنى يحتمل مجموعة من الاحتمالات :

منها : انّ المصلحة بمعنى الكمال الشخصي لكلّ قوّة من القوى والمفسدة هي النقص الشخصي أيضا.

ومنها : انّ المصلحة تعني الكمال النوعي وهو النظام الاجتماعي الأتم ، وعليه يكون كلّ فعل يسير بالمجتمع نحو النظام الأتمّ فهو حسن لأنّه موجب للمصلحة النوعيّة ، والمفسدة تعني اختلال النظام الاجتماعي وتبدّده ، فكلّ فعل ينحدر بالمجتمع نحو السقوط فهو قبيح ، بل كلّ فعل يمنع عن الصعود بالنظام الاجتماعي الى الكمال فهو قبيح.

ومنها : انّ المصلحة بمعنى ما يوجب الكمال الشخصي المتّصل بالنفس على ان لا يتنافى ذلك مع الكمال النوعي وان تنافى مع الكمال لسائر القوى ،

٢٥

وبتعبير آخر : المصلحة هي الكمال الشخصي الملائم للكمال النوعي والمفسدة ما كان عكس ذلك.

ولخروج هذا البحث عن محلّ الكلام نكتفي بهذا المقدار.

المعنى الرابع : انّ الحسن هو كلّ فعل يدرك العقل انبغاء فعله ، والقبيح هو ما يدرك العقل انبغاء تركه ، بمعنى انّ العقل يدرك استحقاق فاعل ما ينبغي فعله المدح واستحقاق فاعل ما ينبغي تركه الذم.

وواضح انّ الحسن والقبح بهذا المعنى يختص بالأفعال الاختياريّة ، كما انّ الحسن والقبح بهذا المعنى من مدركات العقل العملي وهو الذي وقع محلا للنزاع ، فالمعروف بين الاصوليين هو انّ الحسن والقبح من مدركات العقل العملي وانّهما من صفات بعض الأفعال الذاتيّة ، وذهب لذلك جمع من المعتزلة أيضا.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب جمع من الأشاعرة الى انّ صفتي الحسن والقبح ليستا من صفات الأفعال الذاتيّة ، فليس ثمّة فعل يقتضي بذاته الحسن أو القبح بل انّهما من الصفات التي تعرض الأفعال بواسطة الشارع ، فكلّ فعل حكم الشارع بحسنه فهو حسن لتحسين الشارع له لا لأنّه يقتضي الحسن بنفسه ، وكلّ فعل حكم الشارع بقبحه فهو قبيح لتقبيح الشارع له لا لأنّه يقتضي القبح بذاته.

وأمّا الأخباريّون فقد ذهبوا الى قصور العقل عن درك واقع الأفعال من حيث اتّصافها بالحسن والقبح ، فهم وان كانوا لا يمنعون عن انّ الأفعال قد تكون متّصفة ذاتا بالحسن والقبح في نفس الأمر والواقع إلاّ انّ إدراك ذلك بواسطة العقل غير ممكن لقصوره عن الإحاطة بواقع الأشياء. فالوسيلة التي يمكن بواسطتها التعرّف على واقع الأفعال من حيث اتّصافها بالحسن أو القبح هي الشارع ، فكلّ ما أخبر الشارع عن حسنه فهو حسن واقعا وكلّ ما أخبر الشارع عن قبحه فهو قبيح واقعا ، وبهذا يمتاز مبنى الإخباريين عن مبنى الأشاعرة.

٢٦

وهناك مبنى رابع ذهب اليه مشهور فلاسفة المسلمين ، وهو انّ الحسن والقبح ليسا من مدركات العقل العملي ، وهذا معناه انّهما ليسا من الصفات الذاتيّة للأفعال وانّما هما من القضايا المشهورة المعبّر عنها بالآراء المحمودة ، فالحسن هو ما تبانى العقلاء على حسنه ، كما انّ القبيح هو ما تبانى العقلاء على قبحه. وهذا يرتبط بنكات عقلائيّة تختلف باختلاف الأنظمة الاجتماعيّة والظروف الموضوعيّة.

وبهذا المعنى يكون الحسن والقبح من الصفات الاعتباريّة للأفعال والتي ليس لها واقع وراء اعتبار العقلاء ، وهذا المعنى لا يختلف عن مبنى الأشاعرة إلاّ من حيث المعتبر ، فالمعتبر بنظر مشهور فلاسفة المسلمين هم العقلاء ، وأمّا بنظر الأشاعرة فالمعتبر هو الشارع المقدّس.

* * *

٢٩٠ ـ الحسن والقبح الذاتيان

المراد من ذاتيّة الحسن والقبح انّهما من الصفات الواقعيّة لمتعلّقاتهما ، بمعنى انّ الحسن والقبح ينشئان عن مقام الذات لبعض الأفعال.

والمقصود من الذاتيّة في المقام هو الذاتي في باب البرهان لا الذاتي في باب الكليّات الخمس ، بمعنى انّ الحسن ـ مثلا ـ ليس هو عين الفعل المتّصف به ، كما انّه ليس جزؤه المقوم بل بمعنى انّ وجود ذات الفعل كاف في اتّصافه بالحسن ، وهذا هو الذاتي في باب البرهان.

وهذه الدعوى هي مبنى مشهور الاصوليين إذا أضفنا اليها انّ ذاتيّة الحسن والقبح للأفعال مدركه بواسطة العقل العملي. ولكي تتجلّى هذه الدعوى أكثر نقول انّهم قسموا الأفعال الى ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : أن يكون الفعل علّة تامّة في عروض صفة الحسن والقبح عليه ، بمعنى أن لا يكون هناك عنوان آخر غير ذات الفعل يساهم في ثبوت صفة الحسن والقبح للفعل ، كما انّه ليس ثمّة مانع يمنع عن اتّصاف الفعل

٢٧

بالحسن والقبح ، فلذات الفعل تمام التأثير في ان يتّصف بالحسن أو القبح. وهذا النحو من الأفعال هو الذي يكون الحسن أو القبح له ذاتي.

وتلاحظون انّ الذاتي في المقام هو الذاتي في باب البرهان ، وذلك لأنّ الحسن مثلا ليس مقوّما ذاتيا للفعل وإنّما هو لازم ذاتي له لا يتخلّف عنه بحال من الأحوال ، إذ انّ افتراض كون التلازم بنحو العلّيّة يقتضي ذلك ، فالفعل إذن علّة لعروض صفة الحسن عليه ، فالحسن محمول خارج عن ذات الفعل لازم له وهذا التلازم نشأ عن مقام ذات الفعل.

ومثال هذا النحو من الأفعال هو العدل والظلم ، فالعدل علّة تامّة لعروض صفة الحسن عليه ، كما انّ الظلم علّة تامّة لعروض عنوان القبح عليه.

القسم الثاني : ان يكون الفعل مقتضيا بذاته لعروض صفة الحسن أو القبح عليه ، وهذا معناه انّ الفعل غير مستقلّ بذاته في التأثير بل انّ تأثير اقتضائه لأثره منوط بانتفاء الموانع ، فمتى ما توفر الفعل على هاتين الحيثيّتين لزم عن ذلك عروض صفة الحسن أو القبح عليه.

الحيثيّة الاولى : ناشئة عن مقام ذاته وهي الاقتضاء للحسن والقبح.

الحيثيّة الثانية : هي انتفاء الموانع الموجبة للحيلولة عن تأثير المقتضي الذاتي لأثره.

ومثال هذا القسم من الافعال الصدق والكذب ، فالصدق لو خلّي وذاته لكان موجبا لعروض صفة الحسن عليه إلاّ انّه قد يطرأ عليه عنوان يمنع عن اتّصافه بالحسن ولو لا عروض ذلك العنوان لكان متّصفا بالحسن ، فالحسن اذن ليس لازما ذاتيا للصدق وإلاّ لما تخلّف عنه ، إذ انّ اللازم الذاتي لا يتخلّف عن ملزومه بحال من الأحوال ، وهكذا الكلام في الكذب.

القسم الثالث : أن لا يكون الفعل علّة تامّة في الاتّصاف بالحسن والقبح كما انّه ليس مقتضيا لهما إلاّ انّه قد

٢٨

يتّصف بأحدهما بواسطة خارجيّة في الثبوت ، بمعنى انّ الفعل لو خلّي وذاته لا يكون علّة لأن يتّصف بالحسن أو القبح كما لا يكون مقتضيا لذلك إلاّ انّه قد تطرأ على هذا الفعل بعض العناوين فتؤثر في اتّصافه بالحسن أو القبح إمّا بنحو التأثير الاقتضائي أو بنحو التأثير العلّي.

ومثال هذا القسم من الأفعال شرب الماء ، فهو بذاته لا يؤثر في أن يتّصف بالحسن أو القبح إلاّ انّه قد يطرأ عليه عنوان يقتضي اتّصافه بالقبح ، كما لو كان الشرب معصية لمن له حقّ الطاعة ، فطرو عنوان المعصية على شرب الماء صار واسطة في ثبوت صفة القبح له.

وباتّضاح الأقسام الثلاثة يتّضح انّ ذاتيّة الحسن والقبح انّما هو للقسم الأوّل من الأفعال ، وبه يتّضح انّ دعوى مشهور الاصوليّين انّما هي ثبوت الحسن والقبح الذاتيّين بنحو الموجبة الجزئيّة في مقابل السلب الكلّي المدعى من قبل الأشاعرة ومشهور فلاسفة المسلمين القائلين بأنّ الحسن والقبح من القضايا المشهورة المعبّر عنها بالآراء المحمودة والتأديبات الصلاحيّة.

* * *

٢٩١ ـ الحسن والقبح العقلائيّان

قلنا انّ مشهور فلاسفة المسلمين أنكروا انّ صفتي الحسن والقبح من الصفات الذاتيّة والواقعيّة للأفعال ، وقالوا انّ منشأ اتّصاف بعض الأفعال بالحسن والقبح انّما هو التباني العقلائي وبهذا تكون صفتا الحسن والقبح من الصفات الاعتباريّة والتي ليس وراء اعتبار العقلاء لها واقع.

وبهذا يكون مبنى مشهور الفلاسفة مشابه الى حدّ كبير لمبنى الاشاعرة ، إذ انّ الأشاعرة أيضا يبنون على انّ الحسن والقبح من الصفات الاعتباريّة التي ليس لها واقع وراء اعتبار المعتبر ، غايته انّ المعتبر ـ بصيغة الفاعل ـ بنظر الأشاعرة هو الشارع وأمّا بنظر مشهور الفلاسفة فالمعتبر هم العقلاء.

٢٩

ولغرض اتّضاح مبنى الحسن والقبح العقلائيّين لا بدّ من بيان المراد من القضايا المشهورة. فنقول :

انّ المراد من المشهورات هو ما تطابقت عليه آراء الناس جميعا إمّا بما هم عقلاء أو بما هم انفعاليّون أو بما هم واقعون تحت تأثير العادات والتقاليد المتوارثة أو لاقتضاء الخلقيّات لذلك أو بسبب التلقين أو غير ذلك ، وتطلق القضايا المشهورة أيضا على القضايا التي تطابقت عليها آراء صنف من الأصناف أو مجتمع من المجتمعات.

وقد صنّفت القضايا المشهورة الى قسمين :

القسم الاول : المشهورات بالمعنى الاعم : ويقصدون منها القضايا التي وقع التطابق عليها بقطع النظر عن منشأ ذلك التطابق والتباني ، فقد يكون منشأ التباني هو انّها قضايا يقينيّة بديهيّة من نحو الاوّليات أو الوجدانيات أو المتواترات وهكذا ، كما قد يكون منشأ التباني والتطابق هو انّها من الآراء المحمودة من نحو الخلقيّات أو التأديبات الصلاحيّة والتي لا تعدو عن كونها متبنيات عقلائيّة ليس لها وراء اعتبار العقلاء واقع.

القسم الثاني : المشهورات بالمعنى الأخصّ ، ويعبّر عنها بالمشهورات الصرفة ـ كما ذكر ذلك المحقّق المظفّر رحمه‌الله ، والمقصود منها القضايا التي وقع التطابق والتباني عليها من قبل العقلاء دون أن يكون لها وراء تباني العقلاء واقع ، بمعنى انّها ليست من القضايا المدركة بواسطة العقل وانّما هي متبنّيات عقلائيّة أو عرفيّة تقتضيها في بعض الأحيان المصلحة النوعيّة والتي ترتبط بحفظ النظام الاجتماعي ، ويعبّر عن مثل هذه القضايا بالتأديبات الصلاحيّة وبالآراء المحمودة ، كما قد تقتضيها الانفعالات النفسانيّة كالحياء والغيرة ، أو تقتضيها العادات المتوارثة كطبيعة لباس الرجال ، ويعبّرون عن الاولى بالانفعاليّات وعن الثانية بالعادات.

والجامع المشترك بين تمام

٣٠

المشهورات بالمعنى الأخصّ على اختلاف مناشئها انّها ليست قضايا برهانيّة ناشئة عن مدركات العقل وليس لها واقع وراء التباني والتطابق ، فلو اتّفق ان انتفت تلك المناشئ لما كان للعقل إدراك تلك القضايا.

ومع اتّضاح المراد من القضايا المشهورة نقول : انّ مشهور فلاسفة المسلمين ادعوا انّ اتّصاف بعض الأفعال بالحسن والقبح ـ كاتّصاف العدل بالحسن والظلم بالقبح ـ انّما هو من القضايا المشهورة بالمعنى الأخص ، وعليه لا يكون وراء اشتهارها واقع ولا تكون من مدركات العقل العملي ، إلاّ انّهم قالوا انّ الحسن والقبح من القضايا الناشئة عن التأديبات الصلاحيّة والآراء المحمودة والتي تقتضيها المصلحة النوعيّة المرتبطة بحفظ النظام الاجتماعي.

وبتعبير آخر : انّ الحسن والقبح من القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء لا بما هم انفعاليّون مثلا ولا بما هم واقعون تحت تأثير العادات أو غير ذلك ، بل لأنّهم وجدوا انّ مجموعة من الأفعال تساهم في التحفّظ على النظام أو تصعد به الى مستوى الكمال الاجتماعي ، وانّ هنا مجموعة من الأفعال تنحدر بالمجتمع نحو السقوط وتؤدي الى اختلال نظامه ، فلأنّهم وجدوا ذلك بنوا على حسن الاولى وقبح الاخرى ، ويبقى اتّصاف هذه الأفعال بالحسن والقبح مطردا ما دامت لها هذه النتائج ، أمّا لو اتّفق انتفاء هذه النتائج عنها أو اتّفق تبدّلها الى الضد فإنّ اتّصافها بالحسن والقبح لا يبقى على حاله بل يكون اتّصاف الأفعال بهما تابع لما يترتّب على هذه الأفعال من نتائج.

وهكذا لو قدّر عدم وجود مجتمع فإنّه لا تباني حينئذ من العقلاء ، أو بتعبير آخر : انّ العقل لا يدرك اتّصاف الأفعال بالحسن والقبح لو لم يكن هناك وجود اجتماعي وانّ ادراك العاقل للحسن والقبح في ظرف الوجود الاجتماعي انّما هو باعتبار

٣١

انسلاكه في اطار النظام الاجتماعي.

فالبناء على حسن العدل وقبح الظلم ليس كالتصديق باستحالة اجتماع النقيضين أو أنّ المعلول لا يتخلّف عن علّته التامّة ، فإنّ التصديق والبناء على هاتين القضيّتين ناشئ عن إدراك العقل ولا صلة للتصديق بهما بالتباني والتطابق العقلائي ، كما لا يرتبط التصديق بهما بما يترتّب عليهما من نتائج ، كما انّ الحكم فيهما لا يتغيّر بتغيّر الظروف ، وما ذلك إلاّ لأنّ وراء إدراكهما واقعا متقرّرا في نفس الأمر.

هذا هو حاصل مبنى مشهور الفلاسفة في الحسن والقبح ، وقد وقع الخلط في كلمات الشيخ المظفر رحمه‌الله من حيث انّه ادعى انّ الحسن والقبح من مدركات العقل العملي وفسّر ذلك بالقضايا المشهورة والآراء المحمودة ، وأصرّ على انّ الحسن والقبح من القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء وانّه ليس وراء تطابقهم واقع ، وهذا ما يعني انّها من المشهورات بالمعنى الأخص ولا صلة لها بمدركات العقل العملي ، إذ لا ريب انّ لمدركات العقل العملي واقعا متقررا في نفس الأمر ، ولا يرتبط بالبناء العقلائي الناشئ عن التأديبات الصلاحيّة أو غيرها.

فالصحيح انّ هنا مبنيين مختلفين اختلافا جوهريا ، المبنى الاول هو مبنى مشهور الاصوليّين القائل بأنّ الحسن والقبح من الصفات الواقعيّة الذاتيّة المدركة بواسطة العقل العملي ، والتي لا تخضع لاعتبار العقلاء كما انّها ليست ناشئة عن اعتبار الشارع المقدّس.

والمبنى الآخر هو انّ الحسن والقبح من القضايا المشهورة والآراء المحمودة المتبناة من قبل العقلاء وليس لها وراء تباني العقلاء واقع ، وهذا هو مبنى مشهور الفلاسفة وبعض الاصوليّين كالمحقّق الأصفهاني رحمه‌الله. ومن هنا يعبّر عن الحسن والقبح بحسب هذا المبنى بالحسن والقبح العقلائيّين ، ووصفهما بالعقليّين تسامح محض.

* * *

٣٢

٢٩٢ ـ الحسن والقبح العقليّان

والمراد من الحسن والقبح العقليّين هو انّ العقل يدرك انّ من الأفعال ما ينبغي فعلها وانّ من الأفعال ما ينبغي تركها ، وانّ من يفعل ما ينبغي فعله فهو مستحقّ عقلا للمدح ، ومن يفعل ما ينبغي تركه فهو مستحقّ للذم.

وبهذا يكون الحسن والقبح من مدركات العقل العملي بل قيل انّ التحسين والتقبيح هما عين العقل العملي ، وتستبطن هذه الدعوى ـ كما قلنا ـ انّ اتّصاف بعض الأفعال بالحسن والقبح ذاتي ، أي ناشئ عن مقام الذات ، وهذا هو مبنى مشهور الاصوليّين.

وقد عرّف الشهيد الصدر رحمه‌الله الحسن والقبح ـ بحسب مبنى الاصوليّين ـ بالضرورة الخلقيّة الثابتة في لوح الواقع بقطع النظر عن اعتبار أي معتبر ، وأفاد أنّها مباينة للضرورة التكوينيّة من حيث الماهيّة ومن حيث المرتبة ، فالضرورة التكوينيّة تعني الوجوب المقابل للإمكان والامتناع.

وأمّا الضرورة الخلقيّة فهي بمعنى اتّصاف الفعل بانبغاء فعله أو بانبغاء تركه ، وبتعبير آخر : انّ الضرورة الخلقيّة تعني انّ الفعل متّصف ذاتا بأولويّة فعله أو تركه أو قل بأن الأخرى به ان يفعل أو بأن لا يفعل.

ومن هنا تكون الضرورة الخلقيّة في طول السلطنة والتي هي بمعنى الاختيار بحسب مبنى السيّد الصدر رحمه‌الله.

وبهذا يتّضح معنى انّ الضرورة الخلقيّة مختلفة عن الضرورة التكوينيّة رتبة ، إذ انّ الضرورة التكوينيّة والتي هي بمعنى الوجوب واللابدّيّة تقع في عرض السلطنة وأمّا الضرورة الخلقيّة فهي في طول السلطنة باعتبار انّ الحسن والقبح صفات الأفعال الناشئة عن الاختيار « السلطنة ».

وببيان آخر : انّ الموروث عن الفلسفة هو انّه إذا نسب شيء لآخر ، فإمّا أن يكون ذلك الشيء ضروري الثبوت للشيء الآخر : أو ضروري

٣٣

الانتفاء أو لا هو ضروري الثبوت ولا هو ضروري الانتفاء ، فالأوّل يعبّر عنه بالوجوب ، والثاني يعبّر عنه بالامتناع ، والثالث يعبّر عنه بالإمكان ، وهذه القسمة عقليّة حاصرة.

ثمّ انّ نسبة الفعل الى فاعله لا تكون إلاّ بنحو الوجوب والضرورة التكوينيّة ، بمعنى انّ الفعل ما لم يجب لا يوجد ، فلا بدّ أن تكون النسبة بين الفعل « المعلول » وفاعله « العلّة » هي الضرورة وإلاّ استحال وجود الفعل ، ولا يختلف الحال في ذلك بين الأفعال الاختياريّة وبين الأفعال غير الاختياريّة ، فهي على حدّ سواء من جهة هذه القاعدة وهي « انّ الشيء ما لم يجب لا يوجد » ، ولهذا وقعوا في مشكلة عويصة جدا ، وهي كيفيّة تفسير معنى الاختيار في الافعال الاختياريّة.

وأمّا السيّد الصدر رحمه‌الله فهو في راحة من هذه المشكلة ، وذلك لأنّه ادّعى انّ النسبة بين الفاعل وفعله قد تكون الوجوب وقد تكون الامتناع وهذه النسبة هي المعبّر عنها بالضرورة التكوينيّة ، وقد تكون النسبة بين الفاعل وفعله هي نسبة السلطنة ، والاولى هي نسبة الفاعل الى الأفعال غير الاختياريّة ، وهي موضوع قاعدة « انّ الشيء ما لم يجب لا يوجد » ، والثانية هي نسبة الفاعل المختار الى الأفعال الاختياريّة وهي غير مشمولة لقاعدة « انّ الشيء ما لم يجب لا يوجد ».

وعليه يكون تمام القاعدة هو « انّ الشيء لا يوجد إلاّ بالوجوب أو السلطنة » ، والوجوب معناه لا بدّية الفعل ، وأمّا السلطنة فهي بمعنى « انّ له أن يفعل وله أن لا يفعل » ، والتباين بين الوجوب وبين السلطنة واضح بعد بيان المراد منهما.

وعليه يتّضح الفرق بين الضرورة التكوينيّة والضرورة الخلقيّة ، فالأولى هي نسبة الفعل غير الاختياري الى الفاعل ، وأمّا الثانية فهي نسبة واقعيّة بين السلطنة وبين الفعل ، إذ انّ

٣٤

الضرورة الخلقيّة تعني ـ كما قلنا ـ اتّصاف الفعل الاختياري بأوليّة فعله أو تركه في مقابل الفعل الاختياري الغير المتّصف بأولويّة فعله أو تركه ، وان كان كلاهما واقعان تحت السلطنة اذا صحّ التعبير.

ومن هنا كانت الضرورة الخلقيّة مباينة للضرورة التكوينيّة ماهية ومختلفة معها رتبة ، إذ انّ الواقع في رتبة الضرورة التكوينيّة هو السلطنة ، وأمّا الضرورة الخلقيّة فهي متأخّرة رتبة عن السلطنة.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ الحسن والقبح من الصفات الواقعيّة لبعض الأفعال الاختياريّة ، فالفعل الاختياري المتّصف واقعا بأولويّة فعله حسن ، والفعل الاختياري المتّصف بأولويّة تركه واقعا قبيح ، وأولويّة الفعل أو الترك ـ والذي هو الضرورة الخلقيّة أو الحسن والقبح ـ لا يتعقّل إلاّ مع افتراض السلطنة والتي هي بمعنى انّ للفاعل ان يفعل وله ان لا يفعل ، إذ لو قلنا انّ النسبة بين الفعل والفاعل هي الوجوب والضرورة التكوينيّة دائما لما كان هناك معنى معقول لأولويّة الفعل ، فإمّا أن يكون الفعل بالنسبة لفاعله ضروري الوجود أو ضروري العدم.

هذا حاصل ما أفاده السيّد الصدر رحمه‌الله في مقام بيان الحسن والقبح العقليّين ، ثمّ أفاد انّ المشهور عرّفوا الحسن والقبح بأن الحسن هو الذي يصحّ المدح على فعله والقبيح هو ما صحّ الذم على فعله.

وأورد على هذا التعريف بأنّ من المقطوع به عدم صحّة ذم فاعل القبيح عند جهله بقبحه وتوهّمه حسنه ، وعدم صحّة مدح فاعل الحسن عند جهله بحسنه وتوهمه قبحه ، فإذا قلنا انّ الحسن معناه صحّة المدح وانّ القبح معناه صحّة الذم لزم من ذلك أن يكون الحسن والقبح منوطين بعلم الفاعل ، إذ انّ صحّة المدح والذم منوطان بذلك.

* * *

٣٥

٢٩٣ ـ أصالة الحظر

قد أوضحنا المراد منها تحت عنوان « أصالة الإباحة ».

* * *

٢٩٤ ـ حقّ الطاعة

لا ريب في ثبوت حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا وانّ ذلك هو مقتضى ما يدركه العقل العملي القطعي ، فالبحث في حقّ الطاعة انّما هو عن حدود هذا الحقّ ، فنقول انّ الأقوال في ذلك ثلاثة.

الأوّل : انّ حقّ الطاعة يتحدّد بالتكاليف المقطوعة ، بمعنى انّ كلّ قطع يكشف عن التكليف المولوي فهو ينقح موضوع حقّ الطاعة دون اعتبار نوع خاص من القطع ، فالقطع سواء نشأ عن مقدمات عقلائيّة أو غير عقلائيّة وسواء كان منشؤه الكتاب والسنّة أو كان منشؤه المدركات العقليّة فإنّه منجّز للتكليف. وهذا القول تبناه أكثر الاصوليين.

الثاني : انّه ليس كلّ قطع بالتكليف ينقّح موضوع حقّ الطاعة وانّما الذي ينقّح موضوع حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا هو بعض القطوعات دون بعض ، وهذا مثل التفصيل الذي ذهب إليه بعض الأعلام بين القطع الذي ينشأ عن مبرّرات عقلائيّة والقطع الذي ينشأ عن مبرّرات غير عقلائيّة « قطع القطاع » فالأوّل يثبت به حقّ الطاعة دون الثاني. وكالتفصيل الذي ذهب اليه بعض الاخباريّين من انّ القطع الناشئ عن غير الكتاب والسنّة لا يثبت به التكليف ، فليس للمولى حقّ الطاعة فيما ينكشف بواسطة المدركات العقليّة.

الثالث : انّ مطلق الانكشاف منقّح لموضوع حقّ الطاعة سواء كانت مرتبته هي القطع والذي هو أعلى مراتب الانكشاف أو كانت مرتبته الظن أو الاحتمال ، وهذا هو مبنى السيّد الصدر رحمه‌الله.

وتلاحظون انّ هذه الأقوال الثلاثة تتفاوت من حيث ما هي حدود حقّ

٣٦

الطاعة فالقول الثاني يضيف من دائرة حقّ الطاعة بحيث لا يكون للمولى جلّ وعلا حقّ الطاعة إلاّ في بعض موارد القطع وأمّا القول الاول فهو يثبت حقّ الطاعة بنحو أوسع من القول الثاني ، إذ انّ حقّ الطاعة معه ثابتة في تمام موارد القطع بالتكليف المولوي ، وأمّا القول الثالث فقد توسّع في حدود حقّ الطاعة بحيث بنى على انّ مطلق الانكشاف ينقّح موضوع حقّ الطاعة سواء كان بمرتبة القطع أو بمرتبة الظنّ أو الاحتمال وان حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا لا يصحّ تنظيره بحقّ الطاعة للموالي العرفيين والذي يختصّ بموارد القطع ، وذلك لأنّ هذا الحقّ انّما نشأ عن الاعتبار العقلائي ، ولذلك فهو يتحدّد بحدود ما هو معتبر عقلائيا ، وحيث انّ الاعتبار العقلائي ـ المتّصل بعلاقة الموالي العرفيين بالعبيد ـ قام على اساس ثبوت الحقّ في اطار الاوامر المقطوعة فإنّ هذا الحقّ الاعتباري يتحدد بحدود ما هو المعتبر عندهم.

وأمّا حق الطاعة للمولى جلّ وعلا فهي من اللوازم الذاتيّة لمولويّة المولى وحينئذ فهي لا تخضع للاعتبار العقلائي ، بل لا بدّ من ملاحظة حدود هذا الحقّ على أساس ما هو الثابت واقعا بمقتضى المدركات العقليّة.

وعند ما يتّجه البحث عن ما هو مقتضى المدركات العقليّة نجد انّ عقولنا تدرك انّ حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا لا تتحدد بالتكاليف المقطوعة بل انّها تتّسع لتشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو بمستوى الظن بل والاحتمال ، وهذا المدرك العقلي البديهي لا يفتقر إلى أكثر من تصور الموضوع والحكم وعندئذ يحصل الجزم بالنسبة ، فهي من القضايا الضروريّة التي قياستها معها.

ثم انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه وهو انّ مبنى مشهور الاصوليّين هو انّ حقّ الطاعة للمولى ثابت حتى في موارد احتمال التكليف إذا لم يكن مؤمنا عنه ، غايته انّ ثمّة مؤمنا عقليا عن التكاليف المحتملة وهو ما يدركه

٣٧

العقل من قبح العقاب بلا بيان المقتضي للبراءة عن التكاليف غير المعلومة ، وتظهر الثمرة في موارد عدم امكان جريان البراءة العقليّة والشرعيّة حيث لا مؤمن حينئذ عن التكليف المحتمل ، كما في الشبهات الحكميّة قبل الفحص ، وقد أوضحنا ذلك في بحث « الاحتياط العقلي ».

* * *

٢٩٥ ـ مسلك حقّ الطاعة

ويراد منه الإشارة الى القاعدة العقليّة المقتضية للاحتياط العقلي في موارد الشك في التكليف ، وذلك في مقابل قاعدة قبح العقاب بلا بيان المقتضية للبراءة العقليّة.

وحاصل المراد من مسلك حقّ ـ والذي تبناه السيد الصدر رحمه‌الله في مقابل مشهور الاصوليّين ـ هو انّ العقل يدرك منجّزية التكليف المنكشف بأيّ مرتبة من مراتب الانكشاف ، أي سواء كان بمرتبة القطع أو الظن أو حتى الاحتمال.

ومن هنا كانت القاعدة الاوليّة عند الشك في التكليف هو الاحتياط العقلي إلاّ أن يرد عن الشارع ما ينفي مسئوليّة المكلّف عن التكليف المشكوك ـ كما هو كذلك ـ وحينئذ يكون المرجع في نفي المسئوليّة عن التكاليف المشكوكة هو خصوص البراءة الشرعيّة وإلاّ فمقتضى الأصل العقلي الأولي بقطع النظر عن أدلّة البراءة الشرعيّة هو الاحتياط.

ومنشأ تبنّي السيّد الصدر رحمه‌الله لهذا المبنى هو ما ادّعاه من اتّساع حدود حقّ الطاعة وشموله لموارد التكاليف المظنونة والتكاليف المحتملة.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب مشهور الاصوليّين الى انّ القاعدة الاوليّة عند الشك في التكليف هو البراءة العقليّة ، وذلك بمقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ لا يختصّ المرجع في موارد الشك في التكليف بالبراءة الشرعيّة بل يمكن الرجوع في مثل هذه الموارد الى البراءة العقليّة.

٣٨

ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « الاحتياط العقلي » « وقاعدة قبح العقاب بلا بيان » « حقّ الطاعة ».

* * *

٢٩٦ ـ أصالة الحقيقة

وهي من الاصول اللفظيّة التي يتمسّك بها العقلاء عند الشك فيما هو المراد ، إذ انّ تمام الاصول اللفظيّة يلجأ العقلاء عند الشك في المراد ، إمّا من جهة أصل المراد أو من جهة حدوده.

وأصالة الحقيقة تكون مرجعا لتحديد أصل المراد ، وموردها الشك في مراد المتكلّم من حيث انّه أراد المعنى الحقيقي من اللفظ المستعمل أو أراد المعنى المجازي ، وهذا ما يستبطن كون المعنى الحقيقي للفظ مشخصا لدى المتلقي للفظ ، غايته انّ مراد المتكلّم هو المجهول لدى المتلقي للفظ ، إذ لعلّ المتكلّم أراد المعنى الحقيقي ولعلّه أراد المعنى المجازي ، وذلك لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز. ومن هنا يأتي دور أصالة الحقيقة لتحديد المراد ، بمعنى انّ العقلاء يتمسّكون في هذا الفرض بأصالة الحقيقة لإثبات انّ مراد المتكلّم من اللفظ المستعمل هو المعنى الحقيقي.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ موضوع أصالة الحقيقة هو الشك في مراد المتكلّم مع عدم قيام قرينة على المجاز ، إذ لا معنى للتمسّك بأصالة الحقيقة مع قيام القرينة على المجاز ، وذلك لأنّ افتراض قيام القرينة معناه انتفاء الشك في المراد ، وهذا ما ينفي موضوع أصالة الحقيقة ، كما انّ احتفاف اللفظ المستعمل بما يصلح للقرينيّة مانع عن التمسّك بأصالة الحقيقة ، وذلك لأنّ أصالة الحقيقة انّما تنقّح الظهور في إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقي ومع وجود ما يصلح للقرينيّة على خلاف ذلك لا يتنقّح الظهور في إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقي لاحتمال اعتماد المتكلّم على قرينيّة الموجود لبيان مراده ، نعم لا مجال لاستظهار إرادته للمجاز بعد ان لم تكن القرينة ظاهرة في القرينيّة ، وبذلك يكون مراد المتكلّم من اللفظ مجملا.

٣٩

والعمدة انّ العقلاء انّما يتمسّكون بأصالة الحقيقة عند ما لا تكون ثمّة قرينة أو ما يصلح للقرينيّة على المجاز ، ومنشأ ذلك هو عدم انعقاد الظهور عندئذ في إرادة المعنى الحقيقي.

ثمّ انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه وهو انّه نسب الى السيد المرتضى علم الهدى رحمه‌الله دعوى انّ مورد التمسّك بأصالة الحقيقة هو الشك في المعنى الموضوع له اللفظ ، بمعنى انّ أصالة الحقيقة تكون مرجعا لتحديد المعنى الحقيقي للّفظ ، فحينما نجد مثلا انّ أهل اللغة يستعملون لفظا في معنى معيّن ولا ندري انّ هذا الاستعمال استعمال للفظ فيما وضع له او انّه استعمال له في غير ما وضع له فإنّه يمكن التمسّك بأصالة الحقيقة لإثبات انّ المعنى المستعمل في اللفظ حقيقي.

والصحيح عدم تماميّة هذه الدعوى لما ذكرناه من انّ الاصول اللفظيّة انّما تكون مرجعا لتحديد المراد لا أنّها مرجع لتحديد نحو الاستعمال وكيفيّته ، إذ انّ ذلك من شأن علائم الحقيقة والمجاز وأصالة الحقيقة ليس منها إلاّ ان نفترض تعبّد الشارع لنا بالبناء على الحقيقة في موارد الشك فيما هو الموضوع له اللفظ ، وهو خلف الفرض ، إذ المفترض في المقام انّما هو البحث عمّا هو الأصل اللفظي العقلائي ، وواضح انّه ليس ثمة تبان من العقلاء على اعتبار الاستعمال علامة الحقيقة وانّه كلّما استعمل لفظ في معنى وشككنا في انّ هذا الاستعمال حقيقي أو مجازي فإنّه لا بدّ من البناء على انّه استعمال حقيقي ، نعم المتبانى عليه عند العقلاء هو استظهار إرادة المعنى الحقيقي عند الشك فيما هو مراد المتكلّم وهل انّه أراد المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي ، وهذا معناه الفراغ عما هو المعنى الحقيقي للفظ أي معرفة المتلقي لما هو الموضوع له اللفظ.

* * *

٢٩٧ ـ الحقيقة الشرعيّة

المعنى الحقيقي للفظ هو المعنى الموضوع له اللفظ ، وذلك في مقابل

٤٠