المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

وفي كلا القسمين لا بدّ لإثبات صلاحيّة السيرة العقلائيّة للدليليّة على الحكم الشرعي من امضاء الشارع لهذه السيرة ، ولكي يثبت امضاء الشارع للسيرة لا بدّ من تنقيح أمرين :

الأمر الاول : هو معاصرة السيرة لزمن المعصوم عليه‌السلام ، إذ مع عدم احراز ذلك لا تكون ثمّة وسيلة لإثبات الإمضاء ، وذلك لأنّه غالبا ما يكون الإمضاء بواسطة السكوت وعدم الردع ، وهذا ما يستبطن معايشة المعصوم للسيرة وعندها يمكن الاستدلال بالسكوت وعدم الردع على التقرير والامضاء.

وهكذا لو كان الإمضاء بواسطة التصريح فإنّه لا يتعقل إلاّ مع معاصرة المعصوم عليه‌السلام للسيرة إلاّ انّه عندئذ يكون التصريح بالإمضاء أحد أمارات معاصرة المعصوم عليه‌السلام للسيرة ، نعم لو لم يكن لبيان الامام عليه‌السلام المناسب للإمضاء دلالة على وجود السيرة فإنّ معاصرة السيرة لا يثبت بذلك إلاّ انّه يمكن إثبات مناسبة ما عليه السيرة الفعليّة لنظر الشارع بذلك ، والحجيّة حينئذ لكلام المعصوم عليه‌السلام دون السيرة ، وهو خروج عن الفرض.

وبهذا يتنقح اعتبار معاصرة المعصوم عليه‌السلام للسيرة التي يكون لها الدليليّة والكاشفيّة عن الحكم الشرعي.

الأمر الثاني : أن يكون عدم الردع للسيرة المعاصرة للمعصوم عليه‌السلام كاشفا عن الامضاء ، وهذا لا يكون إلاّ إذا كان عدم الردع موجبا لامتداد السيرة للشئون الشرعيّة ، وعندها تكون أغراض الشريعة معرضا للخطر لو لم تكن متناسبة مع مقتضى السيرة ، ففي مثل هذا الفرض يكون عدم الردع معبّرا عن الإمضاء.

وهناك فرض آخر يكون معه عدم الردع معبّرا عن الإمضاء وهو ما لو كانت السيرة من الاستحكام والاستيثاق بحيث يحتمل امتدادها للشئون الشرعيّة ، وحينئذ يكون من

١٨١

الحكمة الردع عنها لو لم تكن متناسبة مع نظر الشارع ، إذ انّ عدم الردع حينئذ ينافي الحكمة المقتضية للتحفّظ على الأغراض عن أن تكون في معرض الخطر.

على انّه لا بدّ من التنبيه على أمر يتّضح بالتأمّل فيما ذكرناه وهو انّه قد تكون السيرة منافية لنظر الشارع إلاّ انّ امتدادها للشئون الشرعيّة لا يمثل خطرا على الاغراض الشرعيّة ، وفي مثل هذا الفرض لا يكون عدم الردع معبّرا عن الإمضاء.

ومثال ذلك ما لو كان نظر الشارع هو التخيير في حالات التزاحم بين دفع المفسدة وجلب المصلحة المتساويين في الأهميّة وكانت السيرة جارية على تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة في حالات التساوي في الأهميّة ، فإنّ عدم الردع عن هذه السيرة لا يشكّل خطرا على غرض الشارع بعد افتراض انّ نظره في مثل هذا الفرض هو التخيير.

ثمّ انّ هذين القسمين للسيرة هما اللذان لو ثبت امضاؤهما لكانا صالحين للكشف عن الحكم الشرعي أو الحجّة الشرعيّة ، وهناك قسمان آخران للسيرة ليس لهما هذه الصلاحيّة.

القسم الأوّل : هو السيرة العقلائيّة التي تنقّح موضوعات الأحكام الشرعيّة الثابتة بأدلتها ، وهي على نحوين :

النحو الأول : السيرة التي ينخلق بها موضوع الحكم الشرعي ويتحدّد بواسطتها كيفيّة امتثاله والخروج عن عهدته ، ومثال ذلك حكم الشارع بوجوب الإنفاق على الزوجة بالمعروف ، فلو قامت السيرة على انّ الإنفاق بالمعروف لا يتمّ إلاّ بمستوى معين من النفقة فإنّ هذه السيرة تقتضي صيرورة موضوع الوجوب هو خصوص المقدار المحدّد من قبلها وانّ المقدار الأقل ممّا حددته السيرة لا يكون من النفقة بالمعروف ، وحينئذ لا يكون لأحد الإنفاق بمستوى أقل وان كان يرى عدم تماميّة ما عليه السيرة ،

١٨٢

كما انّ وجود سيرة سابقة على غير ما هي عليه فعلا لا يصحّح إلغاء السيرة الفعليّة ، إذ انّ تحديد الموضوعات خاضع للظروف المزامنة لامتثال التكليف ، وبطبيعة الحال انّ ذلك مختصّ بالموضوعات التي يخضع تبلورها للظروف والملابسات الخارجيّة.

النحو الثاني : السيرة التي يكون لها دور الكشف عن تحقّق موضوع الحكم الشرعي خارجا ، ومثاله ما لو كانت سيرة العقلاء جارية على عدم الإقدام على المعاملة الغبنيّة وانّهم يجرون في معاملاتهم على أساس التحفّظ على مالية ما عندهم من أموال فحينئذ نستكشف من هذه السيرة وجود شرط ضمني في كلّ معاملة وهو التقارب بين مالية العوضين ، فلو اتّفق ان كانت المعاملة غبنيّة فإنّ للمغبون خيار الغبن باعتبار انّ عدم الغبن شرط ضمني في العقد كشفت عنه السيرة العقلائيّة.

وتلاحظون انّ السيرة هنا كشفت عن تحقّق موضوع الحكم الشرعي والذي هو وجود شرط ضمني بعدم الغبن ، ومن هنا ترتب الحكم الشرعي والذي هو ثبوت الخيار.

والفرق العملي بين النحو الاول والثاني هو انّ النحو الثاني من السيرة لا يتنقّح بها موضوع الحكم الشرعي لو أقدم المتعاقدان على المعاملة مع البناء على الالتزام بمقتضاها ولو اتّفق الغبن ، وذلك لأنّ السيرة في النحو الثاني انّما تكشف عن وجود شرط ضمني مثلا فلو ألغى المتعاملان هذا الشرط فلا كاشفيّة للسيرة حينئذ عن وجود الشرط ، وهذا بخلاف النحو الاول من السيرة فإنّها لا تخضع لإرادة أحد من العقلاء بل انّها موجبة لانخلاق موضوع الحكم الشرعي ، فليس دورها الكشف بل انّ دورها الإيجاد للموضوع.

وبما ذكرناه يتّضح انّ هذا القسم من السيرة بنحويه لا تناط فاعليته بمعاصرة السيرة للمعصوم عليه‌السلام بل انّه لو كانت السيرة في زمن المعصوم عليه‌السلام

١٨٣

على خلاف ما عليه السيرة الفعليّة فإنّ ذلك لا يؤثر على ما هي الوظيفة المناطة بهذا القسم من السير ، وهي تنقيح موضوع الحكم الشرعي.

القسم الثاني : هي السيرة العقلائيّة التي تساهم في فهم الدليل وتكشف عن حدود مدلوله ، إذ لا ريب انّ للمتبنّيات العقلائيّة والمرتكزات العرفيّة دورا في تبلور الظهور للأدلّة اللفظيّة ، وانّ الظهور لا يتحدّد بالمداليل اللغويّة فحسب بل انّ المتبنيات العقلائيّة تشكّل قرائن لبيّة متّصلة يتحدّد بواسطتها ما هو المراد الجدّي من الأدلة اللفظيّة.

وهذا القسم من السير منوط باحراز معاصرتها للمعصوم عليه‌السلام ، إذ انّ الظهور المعتمد للأدلّة اللفظيّة انّما هو الظهور المزامن لعصر صدور النصّ ، نعم يمكن الاستفادة من السيرة الفعليّة لإثبات أحد أمرين :

الأمر الأول : عدم امكان التمسّك بالمدلول اللغوي للدليل بقطع النظر عمّا هو مقتضى السيرة ، وذلك لأنّ السيرة الفعليّة توجب احتمال اكتناف الدليل بقرينة متّصلة مانعة عن ظهور الدليل فيما يناسب المدلول اللغوي ، وهذا الاحتمال لا نافي له ، فإمّا ان ننتهي الى القول باجمال الدليل وامّا ان نتمسّك بالدليل بالمقدار الذي تقتضيه السيرة.

الأمر الثاني : انّ هذه السيرة تساهم في الكشف عن انّ المستظهر من الدليل في عصر النصّ هو عينه الظهور الفعلي للدليل والمناسب لما تقتضيه السيرة ، وذلك لأنّ احراز السيرة الفعليّة موجب لإحراز الظهور الفعلي وعندئذ نتمسّك بأصالة عدم النقل المعبّر عنها بأصالة الثبات في اللغة ، فإنّ هذا الأصل لا يختصّ بالمدلول اللغوي ، بمعنى انّ هذا الأصل لا يثبت بقاء المدلول اللغوي وعدم تبدّله بتمادي الزمن فحسب بل يتّسع ليشمل حالات الشك في تبدّل الظهور المرتبط بالقرائن اللبيّة والمرتكزات العقلائيّة.

فإن كان الظهور المرتبط بالقرائن اللبيّة محرزا فعلا وشككنا في انّ هذا

١٨٤

الظهور هل هو عينه الذي كان في زمن صدور النصّ أو انّه تبدّل بتمادي الأزمنة فإنّ بالامكان التمسّك بأصالة عدم النقل ـ والمعبّر عنه بالاستصحاب القهقرائي ـ لإثبات معاصرة هذا الظهور لعصر النص.

هذا بعض ما استفدناه من كلمات السيد الصدر رحمه‌الله.

* * *

٣٧٤ ـ السيرة المتشرعيّة

المراد من السيرة المتشرعيّة هو تعارف المتشرعة ـ بما هم متدينون وملتزمون بما يمليه عليهم الشارع المقدس ـ على سلوك معيّن بقطع النظر عن كون هذا السلوك مناسبا لما يقتضيه الطبع العقلائي أو انّه غير مناسب لذلك ، فمحض التباني منهم على سلوك معيّن مصحح للتعبير عن هذا السلوك بالسيرة المتشرعيّة ، نعم اتفاق كون هذا السلوك منافيا لما هو مقتضى الطبع العقلائي يوجب اكتساب السيرة المتشرعيّة دلالة أوضح على تلقّي السلوك عن الشارع ، إذ لمّا كان هذا السلوك منافيا للطبع العقلائي أوجب انتفاء احتمال جريان المتشرعة على مقتضى طبعهم باعتبارهم عقلاء ، وبذلك يتعيّن تلقي المتشرعة لهذا السلوك عن الشارع وإلاّ فلا موجب لصدوره عنهم بعد افتراض منافاته للطبع العقلائي.

إلاّ انّه مع ذلك يمكن التعبير عن السلوك المتشرعي المناسب للطبع العقلائي بالسيرة المتشرعيّة ، ويمكن استكشاف تلقي ذلك السلوك عن الشارع المقدّس ، وذلك لافتراض تديّن المتشرعة والتزامهم بما يمليه عليهم الشارع وعدم خروجهم عن اطار الشريعة والتفاتهم الى انّ السيرة العقلائيّة وحدها لا تكفي لتصحيح السلوك ما لم يكن ذلك عن امضاء من الشارع.

واحتمال جريانهم على ما هو مقتضى طبعهم بما هم عقلاء غفلة دون مراجعة الشارع للتعرّف على رأيه في هذا السلوك ، هذا الاحتمال بعيد

١٨٥

غايته ، إذ لا يعقل ان يغفل جميع المتشرعة عن ذلك مع حرصهم باعتبارهم متشرعة على ان لا يخرجوا عن الإطار الشرعي في جميع شئونهم الحياتيّة.

ومع اتضاح المراد من السيرة المتشرعيّة يتّضح اناطة دليليتها وحجيّتها بمعاصرتها لزمن المعصوم عليه‌السلام ، بمعنى انّه لا بدّ من احراز انّ السيرة المتشرعيّة الفعليّة لها امتداد يتصل بعصر الظهور للمعصوم عليه‌السلام وإلاّ لم تكن صالحة للدليليّة والكاشفيّة عن الحكم الشرعي ، وذلك لأنّ التمسك بالسيرة المتشرعيّة انما هو لاستكشاف وجود دليل شرعي لم يصل الينا بواسطة الأخبار المنقولة عن المعصوم عليه‌السلام ، فإذا لم تكن السيرة معاصرة للمعصوم عليه‌السلام فكيف يتسنّى لنا احراز وجود دليل شرعي اعتمده المتشرعة إلاّ انّه لم يصل الينا نصه والحال انّ السيرة انعقدت بعد عصر المعصوم عليه‌السلام.

وبتعبير أدق : انّه مع افتراض معاصرة السيرة للمعصوم عليه‌السلام لا يكون ثمة احتمال لتلقيهم رأي الشارع بواسطة الحدس ولو كان لكان موهوما ، إذ انّ فرص التعرّف الرأي الشرعي بواسطة الحس أو ما يقرب منه متوفرة ومتكاثرة لقربهم من المعصوم عليه‌السلام أو ممن يسمع منه ويرى فعله ويشاهد تقريره ، فلو اتفق بعد البعض أو غفلتهم أو ضعف إدراكهم فإنّ ذلك لا يتفق للجميع كما هو مقتضى حساب الاحتمالات ، وهذا بخلاف السيرة المنعقدة بعد عصر النص فإنّ من المحتمل قويا اعتمادهم على الحدس وفتاوى الفقهاء والتي يكون أحسن حال يفترض لها هو الإجماع.

ثم انّه اتّضح مما بيناه أيضا انّ حجيّة السيرة المتشرعيّة غير منوطة باحراز عدم الردع ، إذ لا مبرّر لهذا الشرط بعد ان كانت السيرة المتشرعيّة كاشفة بنحو الإن عن وجود دليل شرعي هو واقعا مستند السيرة ، نعم لو كانت السيرة المتشرعيّة مناسبة لما يقتضيه

١٨٦

الطبع العقلائي فإنّها تكون منوطة باحراز الإمضاء من الشارع إلاّ انّ نفس السيرة المتشرعيّة ـ كما قلنا ـ محرزة للإمضاء ، إذ لو لم يمض الشارع هذا السلوك الذي يقتضيه الطبع لما سلكه المتشرعة بعد افتراض تدينهم والتفاتهم الى انّ اقتضاء الطبع العقلائي لهذا السلوك لا يبرّر صحة البناء عليه دون أن يكون ذلك عن امضاء من الشارع.

وبهذا يتّضح انّ دليلية السيرة العقلائيّة منوطة بالإمضاء المستكشف عن السكوت ، واما السيرة المتشرعيّة فهي بنفسها كاشفة بنحو الإن عن وجود الدليل الشرعي.

١٨٧
١٨٨

حرف الشّين

١٨٩

عناوين حرف الشين

٣٧٥ ـ شبهة ابن قبة

٣٩٣ ـ الشرط المسوق لبيان تحقّق الموضوع

٣٧٦ ـ شبهة الانفصال

٣٩٤ ـ الشرط من أجزاء العلّة

٣٧٧ ـ الشبهة البدويّة

٣٩٥ ـ الشرطية والسببيّة والمانعيّة

٣٧٨ ـ الشبهة التحريميّة

٣٩٦ ـ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني

٣٧٩ ـ الشبهة الحكميّة

٣٩٧ ـ الشك

٣٨٠ ـ الشبهة العبائيّة

٣٩٨ ـ الشك الساري والشك الطارئ

٣٨١ ـ شبهة الكثير في الكثير

٣٩٩ ـ الشك بين الجزئيّة والمانعيّة

٣٨٢ ـ شبهة الكعبي

٤٠٠ ـ الشك في التكليف

٣٨٣ ـ الشبهة المصداقيّة

٤٠١ ـ الشك في الحجيّة

٣٨٤ ـ الشبهة المفهوميّة

٤٠٢ ـ الشك في المحصّل

٣٨٥ ـ الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي

٤٠٣ ـ الشك في المكلّف به

٣٨٦ ـ الشبهة الموضوعيّة

٤٠٤ ـ شمول الأحكام للجاهل

٣٨٧ ـ الشبهة الوجوبيّة

٤٠٥ ـ الشهرة الروائيّة

٣٨٨ ـ الشبهة غير المحصورة

٤٠٦ ـ الشهرة العمليّة

٣٨٩ ـ شرائط الجعل والمجعول

٤٠٧ ـ الشهرة الفتوائيّة

٣٩٠ ـ شرط الاتّصاف

٣٩١ ـ شرط الترتّب

٣٩٢ ـ الشرط المتقدم والمتأخر والمقارن

١٩٠

حرف الشين

٣٧٥ ـ شبهة ابن قبة

وهي شبهة تتّصل بما عليه واقع التعبّد بالظن من حيث الإمكان والامتناع ، والغرض من إثارة هذه الشبهة هو إثبات استحالة التعبّد بالظن عقلا.

وحاصلها بحسب ما نقله الشيخ الانصاري رحمه‌الله عن ابن قبّة انّه يستحيل التعبّد بالظن كخبر الواحد ، وذلك لدليلين :

الاول : انّه لو صحّ التعبّد بالظن فيما ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصحّ التعبّد بالظن فيما ينقل عن الله جلّ وعلا ، وهو مما لا يمكن الالتزام به لقيام الإجماع على ذلك ، أي لقيام الإجماع على عدم صحة التعويل على الظنون كخبر الواحد فيما لو كان الإخبار عن الله جلّ وعلا.

ولعلّه يشير الى عدم صحّة التعويل على الظنون في اصول العقيدة ، وانّه لا بدّ في موردها من القطع.

الثاني : انّ العمل بالأمارات الظنيّة قد يفضي الى الوقوع فيما هو حرام واقعا أو الى ترك ما هو حلال واقعا ، فلو تعبّدنا الشارع بالعمل بالظن لكان معنى ذلك ايقاع المكلف في محذور ارتكاب الحرام الواقعي لو كان مفاد الأمارة هو حلية ما هو حرام واقعا وكذلك العكس.

هذا هو حاصل ما هو منقول عن ابن قبّة في مقام الاستدلال على استحالة التعبّد بالظن ، وقد قرّرت هذه الشبهة بنحو أعمق مما أفاده ابن قبّة.

١٩١

ونقرّر هنا ما أفاده السيّد الصدر رحمه‌الله في مقام بيان الإشكال على الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، حيث أفاد انّ الإشكال على التعبّد بالظن من جهتين :

الجهة الاولى : تتّصل بما يدركه العقل النظري من استحالة التعبّد بالظن ، وذلك بتقريبين :

التقريب الاول : انّ التعبّد بالأمارات الظنيّة يلزم منه اجتماع الضدين أو المثلين ، وكلاهما مستحيل ، اما استلزامه لاجتماع الضدين فلأنّه لو كان مؤدى الأمارة الظنيّة هو الوجوب وكان الواقع هو الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة لكان معنى ذلك هو اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد ، إذ انّ الاحكام متضادة فيما بينها في عالم المبادئ والملاكات كما هو ثابت في محلّه.

وأما استلزامه لاجتماع المثلين فلأنّه لو كان مؤدى الأمارة هو الوجوب مثلا واتّفق ان كان الواقع هو الوجوب أيضا للزم من ذلك اجتماع حكمين متماثلين على موضوع واحد ، وهو مستحيل كما هو واضح.

وبتعبير آخر : انّ التعبّد بالأمارة يساوق جعل حكم ظاهري مناسب لمؤدى الأمارة ، وحينئذ ان كان الحكم المجعول ظاهرا مغايرا للحكم المجعول واقعا لزم من ذلك اجتماع الضدين ، وان كان الحكم الظاهري مسانخا للحكم الثابت واقعا لزم من ذلك اجتماع المثلين ، فاستحالة التعبّد بالامارة وجعل الحكم الظاهري ثابتة على أيّ تقدير.

التقريب الثاني : انّ التعبّد بالظن يلزم منه نقض الغرض ، وذلك لأنّ التعبّد بالظن قد يفوّت الغرض الواقعي للمولى لو كان مؤدى الامارة الظنيّة منافيا للواقع ، وحينئذ وبعد افتراض إدراك المولى لاستلزام التعبّد بالظن وجعل الحكم الظاهري لتفويت الغرض الواقعي فإنّ عدم ترك التعبّد بالظن معناه نقض الغرض ، وهو مستحيل من جهة انّ الغرض علة

١٩٢

تامة لما يناسبه من فعل أو ترك ، ومن الواضح انّ المناسب للغرض الواقعي هو ترك التعبّد بالظن ، فيكون ترك التعبّد بالظن معلولا للغرض الواقعي ، ويستحيل تخلّف المعلول عن علته التامّة.

وتلاحظون انّ الاستحالة بهذا التقريب من مدركات العقل النظري ، إذ انّ منشأ الاستحالة ـ بناء على هذا التقريب ـ هو استلزام التعبّد بالظن لتخلّف المعلول عن علته التامة.

الجهة الثانية : وهي تتّصل بما يدركه العقل العملي من استحالة التعبّد بالظن ، وحاصل الإشكال من هذه الجهة انّ الأحكام الواقعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، بمعنى انّه ما من حكم إلاّ وينشأ عن ملاك في متعلق ذلك الحكم ، فلو جعل الشارع الحجيّة للظن واتفق ان كان مؤدى الامارة الظنيّة منافيا للواقع لكان ذلك مفضيا إمّا لإيقاع المكلّف في مفسدة الواقع لو كان الواقع هو الحرمة وكان مؤدى الأمارة هو الوجوب أو الإباحة مثلا ، أو مفضيا لتفويت مصلحة الواقع على المكلّف لو كان الواقع هو الوجوب ـ المستلزم لاشتمال متعلقه على المصلحة ـ وكان مؤدى الامارة هو الحرمة أو الإباحة مثلا.

ومن الواضح انّ تفويت المصلحة على المكلف أو ايقاعه في المفسدة قبيح ، وهذا ما يوجب القطع باستحالة صدوره عن المولى جلّ وعلا.

هذا حاصل الشبهة التي أثارها ابن قبّة على امكان التعبّد بالظن بتقرير من الاصوليين ، وقد أسهب الاصوليون في الجواب عن هذه الشبهة.

* * *

٣٧٦ ـ شبهة الانفصال

راجع عنوان « اتصال زمان الشك باليقين ».

* * *

٣٧٧ ـ الشبهة البدويّة

وهي التي يكون أحد أطرافها غير لزومي كدوران الأمر بين الوجوب

١٩٣

وعدم الوجوب أو دوران الأمر بين الحرمة وعدمها أو دوران الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة أو الاستحباب أو الكراهة أو دوران الأمر بين النجاسة والطهارة ، فالضابطة في الشبهة البدويّة هو انّ أحد أطرافها لو كان هو المتعيّن واقعا لما كان منجّزا ، ومن هنا يخرج دوران الأمر بين المحذورين عن الشبهة البدوية ، إذ انّ طرفيه هو الوجوب والحرمة ، فلو كان الاول هو الواقع لكان منجّزا وكذلك لو كان الواقع هو الثاني.

ويخرج عن الشبهة البدويّة الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي كدوران الأمر بين وجوبين أو تحريمين ، كما لو دار الأمر بين وجوب الصلاة أو وجوب اطعام الفقير أو دار الأمر بين حرمة لحم الأرنب أو حرمة العصير العنبي ، لأن كلّ طرف من طرفي الشبهة لو كان هو المتعيّن واقعا لكان منجّزا.

وهكذا لو دار الأمر بين وجوب أحد الطرفين أو حرمة أحد الطعامين أو نجاسة أحد الإنائين أو فساد احدى الصلاتين أو العقدين بنفس التقريب.

* * *

٣٧٨ ـ الشبهة التحريميّة

وهي التي يكون متعلّق الشك فيها هو الحرمة ، كما لو وقع الشك في حرمة العصير العنبي. والشبهة التحريميّة تارة تكون شبهة حكمية واخرى تكون موضوعيّة.

أما الشبهة التحريميّة الحكميّة فهي ما لو كان متعلّق الشك هو الحرمة الكليّة ، بمعنى الشك في أصل الجعل للحرمة على طبيعة من الطبائع ، كما لو وقع الشك في جعل الحرمة لطبيعة العصير العنبي أو وقع الشك في جعل الحرمة لطبيعة لحم الأرنب.

وأمّا الشبهة التحريميّة الموضوعيّة فهي ما لو كان متعلّق الشك هو الحرمة الجزئيّة ، بمعنى اننا نحرز جعل الحرمة لطبيعة من الطبائع إلاّ انّ الشك في الحرمة نشأ عن الشك في مصداقيّة

١٩٤

مورد الشك للطبيعة المحرز حرمتها ، فلو كنا نحرز جعل الحرمة على طبيعة لحم الأرنب إلاّ اننا شككنا في حرمة هذا اللحم بسبب الشك في مصداقيته للحم الأرنب ، فالشك ليس من جهة ما هو المجعول لطبيعة لحم الأرنب وانّما من جهة انطباق الحكم الكلي المجعول على هذا المورد.

ولمزيد من التوضيح راجع « الشبهة الموضوعيّة ».

ثم انّه لم يقع خلاف بين الفقهاء في جريان أصالة البراءة أو الحل في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة إذا كانت شبهة بدويّة ولم تكن لها حالة سابقة.

انّما الكلام في الشبهة التحريميّة الحكميّة فقد وقع النزاع بين الإخباريين والاصوليين فيما هو الأصل الجاري في موردها ، فقد ذهب الأخباريون الى انّ الأصل الجاري في موردها هو الاحتياط الشرعي ، وذهب الاصوليّون الى جريان أصالة البراءة والحل في موارد الشبهات التحريميّة إذا كانت الشبهة بدويّة ولم يكن لها حالة سابقة.

راجع « الشك في التكليف ».

* * *

٣٧٩ ـ الشبهة الحكميّة

المراد من الشبهة الحكميّة هو ما يكون متعلّق الشك والشبهة فيها حكم من الأحكام الشرعيّة الكليّة من غير فرق بين أن يكون الحكم المشكوك من سنخ الأحكام التكليفيّة أو الأحكام الوضعيّة.

وعادة ما يكون منشأ الشك في مورد الشبهات الحكميّة هو فقدان النصّ أو اجماله ـ لو كان ـ أو تعارضه مع نصّ آخر.

ومثال الشبهة في الأحكام التكليفيّة هو ما لو وقع الشك في وجوب صلاة الجمعة أو وقع الشك في حرمة العصير العنبي ، بمعنى وقوع الشك في جعل الشارع الوجوب لصلاة الجمعة والحرمة للعصير العنبي ، وأمّا مثال الشبهة في الأحكام الوضعيّة فهو ما لو وقع الشكّ في طهارة الكتابي

١٩٥

أو وقع الشك في شرطيّة الاطمئنان في الصلاة أو مانعيّة القران بين السور في الصلاة أو شرطية البلوغ في صحّة العقد.

والشبهة الحكميّة قد تكون بدويّة وقد تكون مقرونة بالعلم الإجمالي ، ولا ريب في منجزيتها في الفرض الثاني ، وأمّا في الفرض الاول فالمعروف هو جريان الاصول المؤمنة في موردها لو لم تكن لها حالة سابقة متيقّنة وإلاّ فهي مجرى لأصالة الاستصحاب على المبنى المعروف خلافا للسيّد الخوئي رحمه‌الله.

ولمزيد من التوضيح راجع « الشبهة الموضوعيّة ، والشك في التكليف ».

* * *

٣٨٠ ـ الشبهة العبائيّة

وهي شبهة أثارها السيّد اسماعيل الصدر رحمه‌الله ، وحاصل المراد منها انّه وبناء على طهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، كما لو علمنا بنجاسة أحد الإنائين فإنّ هذه شبهة محصورة ، فلو وضع المكلّف يده في أحد الإنائين دون الآخر فإنّ معنى ذلك انّ المكلّف قد لاقى أحد أطراف الشبهة المحصورة ، وحينئذ نقول هل انّ يده محكومة بالنجاسة أولا؟

المعروف هو الحكم بعدم نجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، فبناء على هذا المبنى لو علمنا بوقوع النجاسة على أحد طرفي العباءة فقام المكلّف بتطهير أحد الطرفين دون الآخر ـ ولنفترضه الطرف الاول ـ فحينئذ يكون ملاقي الطرف الاول محكوم بالطهارة قطعا ، وذلك للقطع بطهارة ذلك الطرف أمّا من جهة انّه لم يكن متنجسا من أول الأمر واما من جهة تطهيره لو كان هو المتنجس واقعا.

وأما الطرف الثاني فبناء على عدم تنجّس الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة فلا بدّ من البناء على عدم تنجّس ما يلاقيه ، وهذا لا إشكال فيه لو اقتصر المكلّف على ملاقاته دون

١٩٦

ملاقات الطرف الاول ، أما لو لاقى كلا الطرفين ، الطرف المقطوع الطهارة والطرف الآخر المحتمل النجاسة فالمفروض هو البناء على عدم تنجّس الملاقي ، وذلك لأنّه لاقى ما هو مقطوع الطهارة وهو الطرف الاول وأحد طرفي الشبهة المحصورة والتي قلنا بعدم تنجّس الملاقي لها ، فلا بدّ وان تكون النتيجة هي الحكم بعدم تنجّس الملاقي لكلا الطرفين إلاّ انّ ذلك ينافي استصحاب النجاسة والذي يفترض انّه استصحاب كلّي من القسم الثاني ، لأننا كنا نحرز وقوع النجاسة على أحد الطرفين وهذا معناه العلم بوقوع كلّي النجاسة على العباءة فلو كان طرف النجاسة واقعا هو الطرف الاول لكانت النجاسة قد ارتفعت يقينا ، ولو كان طرف النجاسة هو الطرف الثاني لكانت باقية يقينا إلاّ انّه لما لم نكن نعلم بطرف النجاسة الواقعي ولم يكن بالإمكان استصحاب النجاسة في الطرف الاول أو الثاني لعدم احراز وقوعه في أحدهما تعيينا يتعيّن ان نستصحب كلّي النجاسة ، إذ انّ ذلك هو المعلوم سابقا والمشكوك لاحقا.

ومن الواضح انّ استصحاب النجاسة يقتضي البناء على تنجّس الملاقي لكلا الطرفين ، وهذا ما يوجب التنافي مع ما تقتضيه قاعدة عدم تنجّس الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة. فإمّا ان نتنازل عن قاعدة عدم تنجّس ملاقي أحد أطراف الشبهة أو نتنازل عما يقتضيه الاستصحاب الكلّي للنجاسة ، فالالتزام بالقاعدة والاستصحاب غير ممكن.

هذا هو حاصل المراد من الشبهة العبائية ، وقد تصدى الاعلام لعلاجها ، وبيان ذلك خارج عن الغرض.

* * *

٣٨١ ـ شبهة الكثير في الكثير

هذه الفرضية متصلة ببحث الشبهة غير المحصورة والبناء على عدم منجّزية العلم الإجمالي في موارد

١٩٧

الشبهات غير المحصورة ، وحاصل المراد من هذه الفرضيّة :

هو انّه لو افترض انعقاد علم اجمالي في أطراف كثيرة وكان المعلوم بالإجمال كثيرا أيضا ، فهل انّ كثرة الأطراف موجبة لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية كما هو الحال في كلّ شبهة غير محصورة أو انّ لهذا الفرض خصوصيّة باعتبار انّه وان كانت اطراف العلم الإجمالي غير محصورة إلاّ انّ مقدار ما هو معلوم بالاجمال كثير أيضا.

وتلاحظون انّ هذه الفرضيّة مبنيّة على القول بسقوط المنجّزيّة عن العلم الإجمالي في موارد الشبهات غير المحصورة ، إذ انّه بناء على منجزيّة العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة لا معنى للبحث عن ثبوت المنجّزيّة وعدم ثبوتها في هذه الفرضية بل ان ثبوت المنجّزية للعلم الإجمالي حينئذ أولى منه في الصور الاخرى للشبهة غير المحصورة ، فالبحث عن هذه الفرضيّة إذن مبني على القول بعدم منجّزية العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة.

ومثال هذه الفرضيّة ما لو انعقد علم اجمالي بوطء مائة شاة في ضمن ألف شاة ، فأطراف العلم الإجمالي وان كانت كثيرة إلاّ انّ مقدار ما هو معلوم بالاجمال كثير أيضا ، إذ انّ نسبة ما هو معلوم بالإجمال الى أطراف العلم الإجمالي نسبة الواحد للعشرة ، بمعنى اننا لو قسمنا الألف الى عشرات لكان مقدار ما هو معلوم بالاجمال هو الواحد من عشرة.

هذا هو حاصل المراد من شبهة الكثير في الكثير ، فالكثير الاول معناه المعلوم بالاجمال ، والكثير الثاني هو أطراف العلم الإجمالي. والبحث هنا عن انّ افتراض كثرة ما هو معلوم بالإجمال في الشبهة غير المحصورة هل يقتضي منجّزية أطراف الشبهة غير المحصورة أو لا؟.

وقد أجاب السيد الخوئي رحمه‌الله عن ذلك بما حاصله : انّه بناء على مسلك الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في تحديد ما هو

١٩٨

المراد من الشبهة غير المحصورة تكون الشبهة غير المحصورة في هذه الفرضيّة منجّزة لأطرافها ، وذلك لأنّ هذه الفرضيّة تقتضي خروج موردها عن الشبهة غير المحصورة ، إذ انّ مناط الشبهة غير المحصورة بنظره هو ان يكون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ طرف عند ملاحظته موهوما بنحو لا يعتد العقلاء بمثله ، وفي هذه الفرضيّة لا يكون احتمال الانطباق موهوما بنظر العقلاء بل انّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف عند ملاحظته معتد به لدى العقلاء ، وبهذا تكون الشبهة في هذه الفرضيّة شبهة محصورة.

وأمّا بناء على مسلك المحقق النائيني رحمه‌الله وانّ المناط في تحقّق الشبهة غير المحصورة هو عدم تمكن المكلّف من المخالفة القطعيّة فإنّ هذه الفرضيّة لا تحول دون صدق الشبهة غير المحصورة على المورد ، وذلك لبقاء عجز المكلّف عادة عن ارتكاب المخالفة القطعيّة. ومن هنا يكون العلم الاجمالي غير منجّز في هذه الفرضيّة باعتبارها من صور الشبهة غير المحصورة.

* * *

٣٨٢ ـ شبهة الكعبي

الكعبي من علماء المعتزلة ـ كما قيل ـ وعند ما يقال شبهة الكعبي في كتب الاصول فإنّه يراد منها الشبهة التي أراد بها إثبات انّ أفعال المكلّف الاختياريّة لا تخلو امّا أن تكون واجبة أو محرمة ، وليس ثمّة فعل اختياري للمكلّف يخلو عن هذين الحكمين ، ولهذا تعنون هذه الشبهة بشبهة انتفاء المباح ، والمقصود من الإباحة هي الإباحة بالمعنى الأعم الشاملة للكراهة والاستحباب.

وحاصل المراد من الشبهة انّ ترك الحرام يتوقف دائما على فعل من الأفعال المباحة بالمعنى الأعم فيكون ذلك الفعل واجبا باعتباره مقدمة لترك الحرام ، وقرّب هذه الدعوى بمقدّمتين ، كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله :

١٩٩

المقدّمة الاولى : انّ المكلّف لا يخلو حاله اما ان يترك الحرام أو ان يفعل الحرام ، والحالة الاولى وهي ترك الحرام لا بدّ وان تكون بواسطة القيام بفعل من الأفعال الاختياريّة ، وذلك لامتناع ان يخلو حال المكلّف من فعل من الأفعال ، وباعتبار افتراضه تاركا للحرام يتعيّن انّ ما عليه من فعل يكون واجبا ، لتوقف ترك الحرام على الفعل الذي هو عليه.

وبتعبير آخر : انّ المكلّف إمّا أن يشتغل بفعل الحرام وهذا لا كلام فيه ، واما ان لا يشتغل بالحرام ، وهذا لا يكون إلاّ بالاشتغال بفعل آخر ، إذ يستحيل أن يخلو حال المكلّف من فعل الحرام ومن فعل غير الحرام ، فإذا افترضنا عدم اشتغاله بالحرام فهذا معناه اشتغاله بغير الحرام ، وحينئذ يكون غير الحرام واجبا ، إذ انّه لو لم يفعله لفعل الحرام حيث لا برزخ بين الحالتين ، فالفعل غير المحرّم واجب باعتباره الوسيلة الوحيدة لترك الحرام.

المقدّمة الثانية : انّ كلّ فعل اختياري فهو محتاج الى علة ، واحتياجه الى علة لا يختص بحدوثه فحسب بل هو مفتقر الى العلة حدوثا وبقاء.

وبتماميّة هذه المقدّمة يتّضح انّ ما ذكر في المقدّمة الاولى من توقف ترك الحرام على فعل من الأفعال الاختياريّة لا يختص بترك الحرام ابتداء بل انّ ترك الحرام الممتد في عمود الزمان يحتاج دائما الى علة ، ومن هنا تكون الأفعال الاختياريّة الطوليّة الواقعة في عمود الزمان كلّها واجبة ، وذلك لأن ترك الحرام بقاء متوقف عليها.

وبهذا البيان يثبت بنظر الكعبي انّ أفعال المكلّفين لا تخلو من واحد من الحكمين الحرمة أو الوجوب ، فإذا لم يكن الفعل حراما فهو واجب حتما.

وقد أجاب السيد الخوئي رحمه‌الله عن هذه الشبهة بما ملخّصه : انّ ترك الضد « الحرام » ليس معلولا الى وجود ضده بل هو إمّا معلول لعدم إرادته

٢٠٠