المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

رأسه في الوضوء نكسا ومع ذلك لم يتصدّ لتنبيهه على منافاة فعله لما هو المعتبر شرعا ، فهذا يقتضي عدم منافاة المسح نكسا لما هو المعتبر شرعا في الوضوء ، وإلاّ كان على الإمام عليه‌السلام بمقتضى وجوب تعليم الجاهل أن ينبّه المكلّف على منافاة فعله لما هو المطلوب شرعا ، وإلاّ كان عليه‌السلام مخالفا لفريضة من فرائض الدين ، وهذا لا يناسب العصمة.

التقريب الثاني : إنّ المعصوم لمّا كان مشرّعا ، فإنّ ذلك يقتضي عقلا عدم السماح بتفويت وتضييع أغراضه ، فسكوته عن الفعل إذا كان موجبا لتفويت أغراضه بما هو شارع يعني أنّ الإمام عليه‌السلام ينقض غرضه ويضيّعه بنفسه ، وهذا لا يتناسب مع عقلانيّته ، إذ أنّ الحكيم لا يضيّع غرضه بل يسعى للمحافظة على أغراضه ، وهذا التقريب ـ إذا تمّ ـ فإنّه منوط بإحراز ناقضيّة الفعل ـ على افتراض منافاته للشارع ـ لغرض الشارع إذ أنّ الفعل قد يكون منافيا لما عليه الشارع إلاّ أنّ ارتكابه لا يؤدي إلى تفويت أغراض الشارع.

ولمزيد من التوضيح نذكر لكلّ من الحالتين مثالا :

ونذكر أوّلا مثالا على كون السكوت لا يوجب نقض الغرض في بعض الحالات ، وهذا المثال هو : أنّ المعصوم عليه‌السلام قد يشاهد مكلّفا يمتنع عن ارتكاب فعل بتوهّم أنّه حرام شرعا وهو في واقعه مكروه ، فإنّ هذا الامتناع من المكلّف ينافي ما عليه الشارع إلاّ أنّ السكوت عنه لا يعدّ نقضا للغرض ، فلا يكون السكوت في حالة من هذا القبيل كاشفا عن الإمضاء.

وأمّا مثال ما يكون السكوت نقضا للغرض فهو مشاهدة المعصوم عليه‌السلام اعتماد المكلّفين على خبر الثقة في الوصول إلى الأحكام الشرعيّة ، فإنّ سكوته يكشف عن الإمضاء ، إذ أنّ ذلك لو كان منافيا لما عليه الشارع لكان السكوت نقضا للغرض ، فلو كان نظر الشارع هو عدم جواز

١٢١

الاعتماد على أخبار الثقات ومع ذلك سكت ولم ينبّه على عدم الجواز مع أنّه يشاهد المكلّفين يعوّلون على خبر الثقة في مقام التعرّف على الأحكام الشرعيّة ، فهذا من أجلى مصاديق تفويت الغرض والذي هو مستحيل على العاقل الملتفت.

وكذلك لو كان العقلاء يرتّبون الأثر على خبر الثقة في شئونهم اليوميّة ، وكانت هذه الممارسة تنذر بالسريان إلى الشرعيّات ، فإنّ عدم تنبيه الشارع على عدم صحّة الاتّكال على خبر الثقة في معرفة الأحكام الشرعيّة يعدّ نقضا للغرض المنفي عن العاقل الملتفت.

وأمّا الدليل الاستظهاري :

على دليليّة السكوت على الإمضاء ، فهو أنّ المعصوم عليه‌السلام لمّا كان منصوبا من قبل الله عزّ وجلّ لغرض تبليغ الأحكام الشرعية وإرشاد الناس إلى الصواب في جميع سلوكيّاتهم وتقويم ما انحرف منها عن جادّة الحق اقتضى ذلك استظهار الإمضاء من سكوت المعصوم عليه‌السلام عن الردع عن ممارسة المكلّف لسلوك بمرأى منه عليه‌السلام.

ويمكن تنظير ذلك بالمشرف على عمل من الأعمال ، فإنّ العامل حينما يمارس وظيفته بمرأى من المشرف ومع ذلك يظلّ المشرف ساكتا رغم أنّه في مقام تقويم الأخطاء التي يرتكبها العامل ، فإنّ العرف حينئذ يستظهر من حال المشرف الإمضاء لعمل العامل ، وإلاّ كان عليه ـ بحكم كونه في مقام التقويم ـ أن ينبّه العامل على خطئه.

وإذا تمّ هذا الدليل الاستظهاري فهو لا يفتقر إلى إحراز شرائط النهي عن المنكر كما هو مقتضى التقريب الأوّل من الدليل العقلي ، كما لا يفتقر إلى إحراز ناقضيّة السكوت للغرض كما هو مقتضى التقريب الثاني من الدليل العقلي.

* * *

٣٤٤ ـ الدلالة المطابقيّة

والمراد منها دلالة اللفظ على تمام

١٢٢

المعنى على أن تكون دلالته على ذلك ناشئة عن الوضع وإلاّ فلو كانت دلالته ناشئة عن غير الوضع فإنّ الدلالة حينئذ لا تكون مطابقيّة ، كما في دلالة لفظ الأسد على طبيعة الرجل الشجاع فإنّها دلالة على تمام المعنى إلاّ انّ هذه الدلالة لمّا لم تكن ناشئة عن الوضع ـ بل ناشئة عن التناسب بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ـ فإنّها لا تكون مطابقيّة بحسب الاصطلاح.

ومثال الدلالة المطابقيّة دلالة لفظ الإنسان على الحيوان الناطق ، فإنّ لفظ الإنسان يدلّ على تمام طبيعة الانسان والتي هي الحيوان الناطق كما انّ منشأ الدلالة على تمام المعنى هو الوضع.

* * *

٣٤٥ ـ الدلالة الوضعيّة

وهي الدلالة التصوريّة ، وعبّر عنها بالوضعيّة باعتبار نشوئها عن معرفة الاوضاع اللغويّة ، هذا بناء على مسلك الاعتبار في الوضع.

وأمّا بناء على مسلك السيّد الخوئي رحمه‌الله من انّ الوضع بمعنى التعهد فالدلالة لا تكون إلاّ تصديقيّة أي تصديقيّة اولى وذلك لأنّ التعهّد لا يكون إلاّ من المريد الملتفت ، وسيأتي ايضاح ذلك تحت عنوان « الدلالة الوضعيّة تصوريّة أو تصديقيّة؟ ».

* * *

٣٤٦ ـ الدلالة الوضعيّة تصوريّة أو تصديقيّة؟

الدلالة الوضعيّة هي الدلالة الناشئة عن الوضع ، وهذا المقدار لا إشكال فيه انّما الإشكال فيما هي الدلالة الناشئة عن الوضع وهل هي الدلالة التصوريّة والتي هي الانتقال من اللفظ الى المعنى أو قل حصول صورة المعنى في الذهن عند اطلاق اللفظ ، أو انّ الدلالة الناشئة عن الوضع هي الدلالة التصديقيّة التفهيميّة والتي تعبّر عن إرادة المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ ، أي انّ الدلالة الوضعيّة توجب انتقال صورة المعنى

١٢٣

الى الذهن وتكشف عن إرادة المتكلّم تفهيم هذا المعنى المنخطر في الذهن بواسطة اللفظ.

ذهب المشهور الى انّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصوريّة لا توجب أكثر من انتقال صورة المعنى الى الذهن عند اطلاق اللفظ ، وانّ الدلالة على إرادة المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ انّما هو بدال آخر وأمّا حاق اللفظ فلا يقتضي عند اطلاقه الاّ انخطار معناه في ذهن السامع.

وذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى انّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة تكشف عن إرادة المتكلّم إخطار المعنى من اللفظ ، وادعى رحمه‌الله انّ ذلك لا يختصّ بمسلكه في الوضع بل انّ هذه الدعوى تناسب مسلك المشهور في الوضع ، غايته انّه بناء على مسلكه تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة حتما ، أمّا بناء على مسلك المشهور فليس كذلك بل يمكن دعوى انّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصوريّة.

وبيان ذلك : انّه بناء على مسلك السيّد الخوئي رحمه‌الله في الوضع وهو انّه عبارة عن التعهّد والالتزام من كلّ متكلّم بأن لا يستعمل هذا اللفظ إلاّ حين إرادة تفهيم المعنى تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة حتما ، وذلك لأنّ تصوّر المعنى من اللفظ عند ما لا يكون المتلفّظ عاقلا ملتفتا لا يكون هذا التصوّر مستندا الى الوضع ، لأنّه لا يتعقّل التعهّد والالتزام من غير العاقل الملتفت ، والمفترض انّ الوضع هو نفس التعهّد والالتزام مما يعبّر عن انّ هذا التصوّر لم يستند للوضع ، فلا تكون الدلالة التصوريّة ـ لو صحّ ان نعبّر عنها بالدلالة ـ لا تكون دلالة وضعيّة.

ومن هنا تكون الدلالة الوضعيّة متمحّضة في الدلالة التصديقيّة ، إذ هي المناسبة لمسلك التعهّد والذي يقتضي انّ كلّ متكلّم استعمل لفظا انّه يريد من استعمال هذا اللفظ اخطار المعنى وتفهيمه للسامع ، وهذه هي الدلالة التصديقيّة.

وأمّا بناء على مسلك المشهور في

١٢٤

الوضع وانّه عبارة عن اعتبار اللفظ دالا على المعنى فإنّ الدلالة الوضعيّة تصديقيّة أيضا ، وذلك لأنّ الاعتبار ليس جزافيا لافتراض انّ المعتبر حكيما ، وإذا كان كذلك فمن الواضح انّ الغرض من الوضع واعتبار اللفظ دالا على المعنى هو تفهيم المعنى ، أي انّ غرض الواضع جعل اللفظ وسيلة لتفهيم المعنى ، وحينئذ تتحدّد الدلالة بحدود الغرض من الوضع ، ولمّا كان الغرض هو إرادة تفهيم المعنى فإنّ الدلالة الوضعيّة لا تتّسع لأكثر من الغرض وإلاّ كان الاعتبار أوسع من الغرض ولا مبرّر عقلائي لذلك ، وحتى ننزّه الواضع عمّا ينافي الحكمة يلزم حمل اعتباره اللفظ دالا على المعنى على خصوص الحالة التي يكون فيها المتكلّم مريدا لتفهيم المعنى من اللفظ. وبهذا تكون الدلالة الوضعيّة مختصّة بحالة إرادة المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ ، وهذه هي الدلالة التصديقيّة التفهيميّة.

ومن هنا تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة دائما سواء على مسلك التعهّد أو مسلك الاعتبار ، وما نشاهده من انخطار المعنى بمجرّد اطلاق اللفظ حتى من غير العاقل الملتفت لا يستند الى الدلالة الوضعيّة ، أي انّ ذلك التصوّر لم ينشأ عن الوضع وانّما هو ناشئ عن الانس الحاصل بين اللفظ والمعنى نتيجة كثرة استعمال اللفظ في هذا المعنى أو نتيجة منشأ آخر ، وعلى أيّ حال فإنّ هذا التصوّر ليس مستندا للوضع. هذا هو حاصل ما أفاده السيّد الخوئي رحمه‌الله في مقام إثبات دعوى انّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب جمع من الأعلام الى انّ منشأ الدلالة على إرادة المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ انّما هو ظهور حاله في ذلك ، وهذا الاستظهار ناشئ عن امارة عقلائيّة وهي غلبة ان لا يستعمل المتكلّم الملتفت لفظا إلاّ أن يكون قاصدا تفهيم معناه ، فليس من دأب العاقل الملتفت أن يأتي بكلام لا يقصد منه سوى

١٢٥

تحريك لسانه وفتح فمه. ومن هذه الأمارة العقلائيّة ينشأ الظهور التصديقي لحال كلّ متكلّم في إرادة تفهيم المعنى من كلامه وإلاّ فليس لحاق اللفظ دلالة على الإرادة.

وأمّا دعوى انّ اعتبار اللفظ دالا على المعنى بنحو مطلق ـ حتى مع عدم إرادة التفهيم ـ خروج عن حدود الغرض ، هذه الدعوى لو سلّمت فإنّه يمكن تبريرها بدعوى انّ جعل اللفظ دالا على المعنى في ظرف إرادة التفهيم فحسب غير ممكن ، وهذا ما جعل الواضع يتخطّى حدود الغرض من الوضع ويعتبر اللفظ دالا على المعنى بنحو مطلق أي سواء كان المتكلّم مريدا لتفهيم المعنى أو لم يكن كأن كان المتلفّظ غير عاقل. ومن هنا تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصوريّة وليست تصديقيّة.

ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « تبعيّة الدلالة للإرادة ».

* * *

٣٤٧ ـ دلالة فعل المعصوم (عليه‌السلام)

إنّ الفعل الصادر عن المعصوم عليه‌السلام تارة يكون مكتنفا بما يدلّ على أنّ المعصوم في مقام التعليم للمكلّفين ، كقول الإمام عليه‌السلام : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، ثمّ أخذ في بيان الوضوء عملا ، أو كما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال قبل الشروع في مناسك الحج : « خذوا منّي مناسككم » ، وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ، وكذلك لو قامت القرينة الحاليّة على أنّ المعصوم عليه‌السلام في مقام التعليم العملي للمكلّفين ، فإنّه في حالة من هذا القبيل تكون دلالة فعل المعصوم على الحكم الشرعي تابعة لمقدار دلالة تلك القرينة اللفظية أو الحاليّة ، وهذا خارج عن محل الكلام.

إنّما الكلام فيما يكشف عنه الفعل المجرّد عن مثل هذه القرائن ، فنقول : إنّه تارة يراد استكشاف الحكم من فعل المعصوم وأخرى يراد استكشافه

١٢٦

من ترك الفعل ، وكلّ من الفعل والترك تارة يصدر عن المعصوم في مورد أو موردين وتارة يكون بنحو المداومة والالتزام ، فيمكن تقسيم الفعل وتركه إلى أربعة أقسام :

القسم الأوّل : صدور الفعل عن المعصوم في موارد محدودة ، وهنا لا يدلّ ذلك الفعل على أكثر من عدم حرمة ذلك الفعل الصادر عنه عليه‌السلام ، فإنّ هذا هو مقتضى عصمته ، إذ أنّ العصمة لا تتنافى مع ارتكاب المكروه في حالات نادرة كما أنّ العصمة لا تستلزم عدم صدور غير المستحبّ عنه ، نعم لو كان الفعل الصادر عنه فعلا عباديّا فإنّ صدوره عنه يستلزم كونه راجحا شرعا ، إذ أنّ الفعل العبادي لا يخلو عن أحد حالتين ، إمّا أن يكون محرّما أو يكون راجحا ، فإذا صدر عن المعصوم عليه‌السلام فإنّ ذلك يقتضي مشروعيّته ، ومشروعيّة الفعل العبادي هي عين راجحيّته شرعا ، ومن هنا يكون الفعل العبادي الصادر عن المعصوم يكشف عن راجحيّته ، إلاّ أنّ استكشاف الراجحيّة هنا لا تستفاد من حاقّ الفعل الصادر عنه عليه‌السلام ، إذ أنّ صدور الفعل عنه لا يكشف عن أكثر من عدم الحرمة ، غاية ما في الأمر أنّ عدم الحرمة هنا تستلزم الراجحيّة الشرعيّة.

وما ذكرناه من عدم دلالة الفعل على أكثر من عدم الحرمة مبنيّ على أنّ العصمة لا تقتضي عدم صدور الفعل المرجوح في موارد محدودة ، أمّا لو بنينا على أنّ المعصوم لا يصدر منه ما ينافي الأولى ولو في موارد محدودة فإنّ صدور الفعل عنه حينئذ يدلّ ـ بالإضافة على عدم الحرمة ـ على راجحيّة ذلك الفعل ، ولو لم يكن من قبيل الأفعال العباديّة.

القسم الثاني : ترك المعصوم لفعل من الأفعال في موارد محدودة ، فهنا لا يدلّ تركه عليه‌السلام على أكثر من عدم الوجوب ، ودلالته على ذلك هو مقتضى عصمته ، فإنّ العصمة لا تقتضي عدم ترك المستحبّ في حالات نادرة ، نعم بناء على أنّ العصمة تعني

١٢٧

عدم صدور مطلق المرجوح وعدم ترك مطلق الراجح ولو في موارد محدودة ، فإنّ ذلك يقتضي دلالة ترك الفعل على عدم راجحيّته.

القسم الثالث : صدور الفعل منه عليه‌السلام بنحو المداومة والالتزام ، وهذا يتصوّر على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال العباديّة ، وهذا النحو من الأفعال لا إشكال في دلالتها على الرجحان إذ أنّ صدورها عن المعصوم عليه‌السلام يدلّ على عدم حرمتها ، وعدم الحرمة في الأفعال العباديّة يساوق الرجحان ـ كما قلنا ـ ، وهذا النحو من الأفعال يدلّ على الرجحان مطلقا حتى لو كان صدور الفعل منه عليه‌السلام في موارد محدودة.

النحو الثاني : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي لا يقتضي الطبع العقلائي ممارسته بنحو المداومة والالتزام ، كالتحنّك في السفر ، أو الابتداء بالقدم اليسرى عند دخول بيت الخلاء ، فإنّ المداومة على فعل من هذا القبيل يكشف عن راجحيّته بناء على منافاة العصمة للمداومة على الفعل غير الراجح ، أما بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ارتكاب المحرّم فإنّ المداومة على الفعل كعدم المداومة عليه من حيث دلالته على خصوص نفي الحرمة عن الفعل الصادر.

النحو الثالث : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي يقتضي الطبع العقلائي مزاولتها بنحو المداومة ، مثل البيع أو الذهاب إلى السوق ، فهذا النحو من الأفعال يدلّ على نفي الحرمة ، وهو يدلّ على نفي المرجوحيّة أيضا بناء على اقتضاء العصمة عدم ارتكاب المعصوم عليه‌السلام مخالفة الأولى ، ويدلّ على الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم المداومة على الفعل غير الراجح.

القسم الرابع : المداومة على ترك فعل من الأفعال ، فإنّ ذلك يدلّ على عدم وجوبه بلا إشكال ، وهو يدلّ على عدم راجحيّة الفعل بناء على

١٢٨

اقتضاء العصمة لعدم المداومة على ترك الراجح ، وكذلك يدلّ على عدم الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم ترك الراجح ولو في موارد محدودة ، أمّا بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ترك الواجب فإنّ المداومة على ترك الفعل كتركه في موارد محدودة من حيث أنّهما يشتركان في الدلالة على خصوص نفي الوجوب.

وما ذكرناه من دليليّة الفعل والترك على الحكم الشرعي إنّما هو في حالة عدم قيام الدليل الخاصّ على اختصاص المعصوم عليه‌السلام بذلك الفعل أو الترك ، كصلاة الليل ، وصوم الوصال ، والزواج بأكثر من أربع ، فإنّ الدليل الخاصّ دلّ على أنّها من مختصّات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

٣٤٨ ـ الدليل الاجتهادي والدليل الفقاهتي

والمقصود من الدليل الاجتهادي هو الدليل الذي يستكشف بواسطته الحكم الواقعي ، كالاستدلال بخبر الثقة أو بالإجماع أو الشهرة الفتوائية على حرمة شيء واقعا أو وجوب شيء واقعا.

وأمّا المقصود من الدليل الفقاهتي فهو الدليل العملي المعبّر عنه بالأصل العملي والذي يكون دوره الدلالة على الحكم الظاهري في ظرف الشك في الحكم الواقعي.

وبتعبير آخر : انّ كلّ دليل يكون له دور تحديد الوظيفة العمليّة للمكلّف في ظرف الشك في الحكم الواقعي يعبّر عنه بالدليل الفقاهتي ، وذلك مثل أصالة البراءة والاستصحاب والاحتياط.

ومنشأ التعبير عن الدليل الأوّل بالدليل الاجتهادي هو ما ذكروه في تعريف الاجتهاد وانّه « استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي » ، ولا ريب انّ مقصودهم من الحكم الشرعي هو خصوص الحكم الواقعي ، إذ هو الذي يحصل

١٢٩

بواسطة الأدلّة الظنّ بثبوته وإلاّ فإنّ الحكم الظاهري ممّا يحصل العلم به للمجتهد بواسطة أدلّته ، فحينما يكون المورد مجرى لأصالة البراءة فإنّ المجتهد يقطع بأن الحكم الظاهري لهذا المورد هو البراءة ، وهذا ما يعبّر عن انّ المراد من الحكم الشرعي في تعريف الاجتهاد هو الحكم الواقعي ، إذ هو الذي يحصل الظن بثبوته بواسطة أدلّته.

ومن الواضح انّ طبيعة الأدلّة التي يستدل بها على الحكم الواقعي تختلف عن طبيعة الأدلّة التي يستدلّ بها على الحكم الظاهري ، فالأدلّة التي يستدل بها على الحكم الواقعي هي الأمارات المعتبرة وهي لا تعطي سوى الظنّ بثبوت الحكم الواقعي ، ومن هنا عبّر عنها بالدليل الاجتهادي باعتبارها دليلا على الحكم الواقعي والذي هو المقصود من الحكم الشرعي في تعريف الاجتهاد ، فنسبة الدليل على الحكم الواقعي الى الاجتهاد باعتبار انّه المقصود من تحصيل الظنّ في تعريف الاجتهاد ، فكأنّما التعبير عن الدليل بالاجتهادي لغرض الإشارة الى انّ المقصود من الدليل هو الدليل المذكور في تعريف الاجتهاد.

وأمّا منشأ التعبير عن الدليل الثاني بالدليل الفقاهتي فهو ما ذكروه في تعريف الفقه وانّه « العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة » والمراد من الحكم الشرعي في هذا التعريف هو الأعم من الحكم الواقعي والظاهري.

ومن الواضح انّ الأدلّة التفصيليّة التي توجب العلم بالحكم الشرعي الفرعي هو خصوص الأدلّة العمليّة ، إذ انّها توجب القطع بالحكم الشرعي الظاهري ، وأمّا مثل الأمارات والتي تدلّ على الحكم الواقعي فهي لا توجب القطع بالحكم الواقعي فلا تكون متناسبة مع الأدلّة التفصيليّة المذكورة في تعريف الفقه ، إذ انّ الأدلّة التفصيليّة المذكورة في تعريف الفقه هي خصوص الأدلّة الموجبة للعلم بالحكم الشرعي الفرعي.

١٣٠

ومن هنا ناسب ان يقال للأدلّة العمليّة انّها أدلّة فقاهتيّة ، إذ انّها المتناسبة مع الأدلّة المذكورة في تعريف الفقه ، فالتعبير عن الأدلّة العمليّة بالفقاهتيّة انّما هو لغرض الإشارة الى الأدلّة المذكورة في تعريف الفقه.

هذا هو حاصل ما نسب الى الوحيد البهبهاني رحمه‌الله ، وقد تلقّاه الأعلام بالقبول باعتباره مجرّد اصطلاح.

* * *

٣٤٩ ـ الدليل الإنّي والدليل اللمّي

راجع البرهان الإنّي والبرهان اللمّي.

* * *

٣٥٠ ـ الدليل الشرعي

المراد من الدليل الشرعي هو كلّ طريق موصل للحكم الشرعي استفيد بواسطة الشارع المقدّس ، وذلك مثل النصّ القرآني وظواهر الكتاب والسنّة الشريفة سواء ما وصل منها عبر التواتر أو عن طريق أخبار الثقات أو السير العقلائيّة والمتشرّعيّة. ومنشأ انتساب الشرعي للدليل فيما ذكرناه من أمثلة هو أنّ هذه الطرق جاءت من عند الشارع المقدّس.

فالسيرة العقلائيّة وكذلك المتشرّعيّة من الأدلّة الشرعيّة باعتبار أنّ إيصالها للحكم الشرعي نشأ عن كاشفيّتها عن الإمضاء الصادر عن الشارع أو عن تقرير الشارع لها أو وجود نصّ وصل مضمونه بواسطتها.

والدليل الشرعي يقابل الدليل العقلي والذي يكشف هو أيضا عن الحكم الشرعي ولكنّه ليس دليلا شرعيّا باعتبار أنّ كاشفيّته عن الحكم الشرعي نشأت عن المدركات العقليّة.

ثمّ إنّ الدليل الشرعي ينقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل : يعبّر عنه بالدليل الشرعي اللفظي ، وهو ما يكون من قبيل الخطابات الصادرة عن الشارع المقدّس كالقرآن الكريم والأحاديث

١٣١

الواصلة إلينا عن المعصومين عليهم‌السلام.

القسم الثاني : يعبّر عنه بالدليل الشرعي غير اللفظي ، وهو ما يكون من قبيل السير العقلائيّة الممضاة من الشارع ومن قبيل الروايات الحاكية عن فعل المعصوم وتقريره. ولمزيد من التوضيح لاحظ ما ذكرناه تحت عنوان دلالة فعل المعصوم ، ودلالة السكوت والتقرير ، والسيرة العقلائيّة والسيرة المتشرّعيّة.

* * *

٣٥١ ـ الدليل العقلي

وقع النزاع بين الاصوليين والإخباريين رحمهم‌الله في شأن الدليل العقلي ، فذهب الاصوليون الى حجيّة الدليل العقلي القطعي وصلاحيّته للدليليّة على الحكم الشرعي ، وأمّا الأخباريون فقد اختلف في مركز نزاعهم مع الاصوليين ، وهل انّ اختلافهم مع الاصوليين كبروي أو صغروي.

ذهب الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله الى انّ النزاع مع الإخباريين صغروي ، بمعنى انّهم لا ينكرون حجيّة الدليل العقلي لو كانت نتيجته قطعيّة إلاّ انّهم يدعون عدم امكانية حصول القطع بالنتائج العقليّة ، فالعقل قاصر دائما عن إدراك الحكم الشرعي.

وأمّا السيّد الخوئي رحمه‌الله وجمع كبير من الأعلام فقد ذهبوا الى انّ مركز النزاع بين الاصوليين والإخباريين كبروي ، بمعنى انّ الدليل العقلي ساقط عن الحجيّة انتج القطع أو لم ينتجه ، ولهذا قالوا بعدم حجيّة القطع الناشئ عن مقدمات عقليّة.

وكيف كان فلا بدّ من بيان المراد من الدليل العقلي الذي يرى الاصوليون صلاحيته لإثبات أو نفي الحكم الشرعي فنقول : انّ كلّ قضيّة يكون الواسطة في إثبات محمولها لموضوعها هو المدرك العقلي بحيث تتأهل تلك القضيّة بعد ذلك لأن تكون لها صلاحية الكشف عن حكم شرعي أو نفي حكم شرعي فهذه القضيّة يعبّر عنها بالدليل العقلي في اصطلاح الاصوليين.

١٣٢

مثلا : « الظلم قبيح » قضيّة ثبت فيها حكم لموضوع وذلك بواسطة إدراك العقل ، فهي إذن قضيّة عقليّة ، والتعبير عنها بالدليل باعتبارها صالحة للكشف عن حكم شرعي أو المساهمة في الكشف عنه ، فدليليّة هذه القضيّة باعتبار توسطها في اثبات حكم شرعي أو نفي حكم شرعي.

ثم انّ هنا أمورا أربعة يتحدد بها المراد من الدليل العقلي :

الأمر الأوّل : انّ المراد من المدركات العقليّة التي يرى الاصوليون انّ لها الدليليّة على الحكم الشرعي هي خصوص المدركات العقليّة القطعيّة ، وأمّا الظنيّة فهي خارجة عن مقصود الاصوليين أعني الاماميّة منهم.

وبهذا يتّضح انّ النزاع الواقع بين الاصوليين والاخباريين انّما هو في المدركات العقليّة القطعيّة ، وهو غير النزاع الواقع بين الإماميّة وبين أهل السنّة حيث ذهب كثير من أهل السنّة الى حجيّة الظنون العقليّة ، وهو ما يمنعه جميع الاماميّة دون استثناء ، وما وقع من بعض الإخباريين من نسبة القول بحجيّة الظنون العقليّة الى الاصوليين فهو ناشئ عن الغفلة عما هو مبنى الاصوليين في الدليل العقلي أو ناشئ عمّا وقع في بعض كلمات الاصوليين في مقام معالجة بعض المسائل الشرعيّة الفرعيّة ، إذ انّ بعض كلماتهم قد توهّم تبنّي الظنون العقليّة إلاّ انّ ذلك ناشئ عن الاشتباه في تطبيق كبرى حجيّة الدليل العقلي القطعي على صغرياته ، وليس ذلك بعزيز فقد يقع الاشتباه في تطبيق كبرى حجيّة الظهور مثلا إلاّ انّ ذلك لا يعني تبنّي القول بحجيّة المجمل.

وقد يكون منشأ هذه النسبة من بعض الإخباريين هو ما يراه بعضهم من تعذّر القطع بنتائج المدركات العقليّة وانّ أقصى ما ينتجه الدليل العقلي هو الظن بالحكم الشرعي إلاّ انّ ذلك بحث صغروي قد يتبنّاه بعض الاصوليّين أيضا.

الأمر الثاني : انّ المدركات العقليّة

١٣٣

التي لها الدليليّة على الحكم الشرعي هي الأعم من المدركات العقليّة العمليّة والمدركات العقليّة النظريّة ، فكلّ مدرك عقلي صالح لأن يستنبط منه حكم شرعي فهو مشمول للدليل العقلي الذي يقول الاصوليين بحجيّته.

مثلا : الاستلزامات العقليّة تدرك بواسطة العقل النظري فهي داخلة بلا ريب في المقصود من الدليل العقلي ، وهكذا الكلام في المستقلات العقليّة المدركة بواسطة العقل العملي.

وقد شرحنا المراد من الاستلزامات والمستقلاّت وكذلك العقل العملي والنظري كلّ واحد تحت عنوانه.

الأمر الثالث : انّ المدركات العقليّة التي هي محلّ البحث في علم الاصول هي التي يمكن ان يستفاد منها استكشاف حكم شرعي أو نفي حكم شرعي ، فهي إذن خصوص المدركات الواقعة في رتبة الكتاب والسنة الشريفين والتي لها نفس الدور الثابت لهما ، أي دور الدليليّة والكاشفيّة عن الأحكام الشرعيّة. وبذلك يتّضح خروج نحوين من المدركات العقليّة عن البحث الاصولي.

النحو الاول : وهي المدركات العقليّة التي تثبت بها حجيّة الكتاب والسنّة الشريفين ، فهي إذن ليست في رتبة الكتاب والسنّة بل هي الموجبة لحجيّتهما ، وذلك لأنّ ثبوت الحجيّة لهما لا يمكن أن يتمّ بواسطة نفس الكتاب والسنّة وإلاّ لزم الدور المستحيل ، كما انّ الاعتقاد بصدق الكتاب والسنّة من الاصول الاعتقاديّة والتي لا يكتفى فيها بالظن فلا سبيل لثبوت الحجيّة لهما إلاّ الأدلّة العقليّة القطعيّة ، وهذه الأدلّة ليست محلا للبحث الاصولي كما انّها لم تقع محلا للنزاع.

النحو الثاني : وهي المدركات العقليّة الواقعة في رتبة معلولات الأحكام الشرعيّة ، أي انّها متأخّرة عن الحكم الشرعي ويكون الحكم الشرعي بمثابة العلّة لوجودها ، فلو لا تقرّر الحكم الشرعي في رتبة سابقة لما

١٣٤

كان لذلك الإدراك وجود.

ومثال هذا النحو من المدركات العقليّة هو ما يدركه العقل من حسن الطاعة وقبح المعصية ، فإنّ هذا الإدراك مترتّب على وجود أوامر للمولى ، فالعقل لا يحكم بحسن الطاعة وقبح المعصية لو لم تكن أوامر للمولى جلّ وعلا ، فلو قطع المكلّف بعدم وجود تكليف إلزامي تجاه فعل معيّن فإنّ العقل لا يدرك حينئذ حسن الطاعة وقبح المعصية تجاه هذا الفعل ، ولمزيد من التوضيح راجع « الأمر الإرشادي ».

وبذلك يتّضح انّ المدركات العقليّة الواقعة محلا للبحث الاصولي هي خصوص المدركات الواقعة في رتبة الكتاب والسنّة والتي يمكن ان يستنبط منها حكم شرعي أي انّها واقعة في رتبة علل الاحكام الشرعيّة.

الأمر الرابع : انّ المقصود من الدليل العقلي هو الأعم من الصغرى والكبرى الواقعتين في القياس المنتج لدليليّة الدليل العقلي.

فدليليّة الصغرى باعتبار وقوعها صغرى في قياس نتيجته دليلية الدليل العقلي ، وهكذا الكلام في الكبرى ، فكلّ منهما يساهم في نتيجة القياس والتي هي دليليّة الدليل العقلي أي حجيّة المدرك العقلي المعيّن.

وبتعبير آخر : انّ البحث الاصولي عن الدليل العقلي يقع في مقامين :

الاول : صغروي وهو البحث عن اثبات القضايا العقليّة أو قل المدركات العقليّة مثل حسن العدل وقبح الظلم وانّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه وهكذا ، فهل انّ العقل يدرك هذه القضايا حقا وهل انّ ادراكه لها ـ لو كان ـ قطعي؟

الثاني : كبروي وهو البحث عن حجيّة المدركات العقليّة ، بمعنى انّ القضايا التي ثبت في البحث الصغروي انّها مدركات عقليّة هل لها الدليليّة على الحكم الشرعي وهل هي صالحة للتنجيز والتعذير أولا؟ إذ من الواضح انّ إدراك العقل لقضيّة من القضايا لا ينهى البحث ولا يثبت الدليليّة لما

١٣٥

أدركه العقل إلاّ أن يقوم الدليل على حجيّة هذه المدركات ، وهذا ما يتصدى له البحث الكبروي ، فلو تمّ في البحث الاصولي حجيّة كلّ ما يدركه العقل فحينئذ تثبت دليلية الدليل العقلي ، أي تثبت الحجيّة للقضيّة المدركة بواسطة العقل في البحث الصغروي.

* * *

٣٥٢ ـ الدليل اللبّي

وهو الدليل الذي لا لسان له تعرف بواسطته سعة دائرة مدلوله أو ضيقها ، ولهذا يطلق الدليل اللبّي في مقابل الدليل اللفظي والذي يمكن التعرّف بواسطة ألفاظه على حدود مدلوله من حيث السعة والضيق.

فالدليل اللبّي هو ما يكون من قبيل الإجماعات والسير العقلائيّة والمتشرعيّة ، فهي جميعا تشترك من جهة عدم امكان التعرّف على سعة مدلولها بأكثر ممّا هو القدر المتيقّن من مدلولها ، فحينما يقع الشك في اتّساع السيرة لمورد من الموارد فإنّه لا مجال لاستظهار شمولها له. فدليليّة الدليل اللبّي متمحّض في المقدار المتيقّن من مدلوله.

مثلا : قاعدة الصحّة في عمل الغير من القواعد المستندة حجيّتها الى السيرة العقلائيّة الممضاة ، والقدر المتيقّن من هذه السيرة هي موارد امكان صدور العمل الصحيح من الغير بنحو الإمكان العرفي ، وحينئذ لو وقع الشك في صحّة قراءة الأعجمي فإنّه لا يمكن التمسّك بأصالة الصّحة للبناء على صحّة قراءته ، وذلك لأنّ المقدار المتيقّن من مورد القاعدة هو إمكان صدور العمل الصحيح من الغير ، ومن الواضح انّ صدور القراءة الصحيحة من الأعجمي غير ممكن عرفا ، وعندئذ يقع الشك في شمول القاعدة لهذا المورد ، وباعتبار انّ مستند القاعدة هو السيرة والتي هي دليل لبّي تكون النتيجة هي عدم امكان التمسك بالقاعدة للبناء على صحّة قراءة الأعجمي رغم اننا نحتمل شمول

١٣٦

القاعدة لهذا المورد إلاّ انّه لا سبيل للتعرّف على انّ هذا الاحتمال مطابق للواقع بواسطة القاعدة.

وهذا بخلاف ما لو كان دليل القاعدة لفظي فإنّ من الممكن احراز حدود القاعدة بواسطته ، فإمّا ان ينفي الدليل اللفظي شمول مورد الشك للقاعدة أو يقتضي مشموليته لها كما لو كان ظاهرا في الإطلاق أو العموم.

وبما بينّاه يتّضح انّ الدليل العقلي القطعي ليس من الأدلّة اللبيّة ، وذلك لأن المدركات العقليّة القطعيّة دائما تكون موضوعاتها منقّحة ومحددة ، فلا موقع للشك في حدود موضوعاتها ، فإمّا أن يكون مورد البحث موضوعا للمدرك العقلي جزما أو انّه ليس موضوعا له جزما.

* * *

٣٥٣ ـ الدليل المحرز

المراد من الدليل المحرز هو كلّ طريق له صلاحيّة الكشف عن المجهول ، أو قل له صلاحيّة الكشف عن الحكم الشرعي ليناسب ذلك اهتمام الأصوليّين.

وبذلك يكون الدليل المحرز صادقا على مطلق الأدلّة القطعيّة الأعمّ من الشرعيّة والعقليّة وصادقا على الأدلّة الظنّيّة الأعمّ منهما.

ومنشأ التعبير عنه بالمحرز هو أنّه بواسطته يتمّ إحراز الواقع والتثبّت منه أو قل بواسطته يتمّ التعرّف على الحكم الشرعي وهو تعبير آخر عن الإحراز.

وبما ذكرناه يتبيّن أنّ الدليل المحرز ينقسم باعتبار مرتبة كشفه إلى قسمين :

القسم الأوّل : الدليل القطعي : وهو الذي يكشف عن الواقع كشفا تامّا بحيث لا يتطرّق الشكّ في واقعيّة منكشفة ، ولذلك فهو حجّة بلا إشكال ، ولا نحتاج لإثبات حجّيّته إلى دليل ، وذلك لأنّها ذاتيّة للقطع كما أوضحنا ذلك في محلّه.

القسم الثاني : الدليل الظنّي : ويعبّر عنه بالأمارات وهو لا يكشف عن

١٣٧

الواقع إلاّ كشفا ظنّيّا ، لذلك كانت حجّيّته مفتقرة إلى دليل قطعي ، فما لم تثبت حجّيّته بذلك فهو ساقط عن الدليليّة.

* * *

٣٥٤ ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين

ويقع البحث هنا عمّا هو الأصل الجاري في حالات دوران المركّب الواجب مثلا بين الأقل والأكثر ، فهل الأصل الجاري في المقام هو البراءة عن الأكثر أو انّ الأصل الجاري هو الاشتغال ولزوم الإتيان بالأكثر بالإضافة للأقلّ.

ومنشأ التعبير عن الأقل والأكثر بالارتباطيين هو انّ الأكثر على فرض وجوبه مرتبط بالأقل في الطاعة والمعصية ، فلو كان الأكثر واجبا فإنّ الأقل لا يكون امتثاله إلاّ بامتثال الأكثر ، ويكون عدم امتثال الأكثر معصية لوجوب الأقلّ.

ومثاله ما لو علم المكلّف بوجوب الصلاة إلاّ انّ الشك وقع من جهة انّ الواجب « الصلاة » هل هو تسعة أجزاء أو عشرة ، فالوجوب الثابت للصلاة وجوب واحد ليس له سوى طاعة ومعصية واحدة ولا ينحل الى وجوبات استقلاليّة.

ثمّ انّ لدوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين قسمين :

القسم الأوّل : دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الإجزاء ، كما لو دار عدد أجزاء الواجب المعلوم بين تسعة أجزاء أو عشرة ، ويعبّر عن هذا القسم بدوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الخارجيّة ، وقد شرحنا المراد من الجزء الخارجي في محلّه.

القسم الثاني : دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشرائط ، كما لو وقع الشك في شرطيّة شيء في الواجب ، فإنّ الشك حينئذ يكون بين الأقل والأكثر ، فالأقل هو أصل الواجب والأكثر هو تقيّده بالشرط.

ومثاله : ما لو وقع الشك في شرطيّة الاطمئنان في الصلاة ، وكذلك فيما لو

١٣٨

وقع الشك في شرطيّة الإيمان في الرقبة الواجبة العتق ، ويعبّر عن هذا القسم بدوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الذهنيّة التحليليّة ، وقد شرحنا المراد من الجزء التحليلي الذهني تحت عنوانه.

ثمّ انّ لهذا القسم ثلاثة أقسام باعتبار نوع الشرط المحتمل دخله في الواجب :

الأوّل : أن يكون الشرط من سنخ الشروط التي لو كانت معتبرة في الواجب لكان وجودها مستقلا عن وجود الواجب ، بمعنى انّها لا تكون مقوما للواجب ولا عرضا من أعراضه ، إذ لو كانت كذلك لكانت متّحدة وجودا مع الواجب وقد فرضنا استقلاليّتها في الوجود عنه ، نعم اعتبارها في الواجب يكون موجبا لتقيّد الواجب بها.

ومثال ذلك شرطيّة الطهارة أو الاطمئنان في الصلاة ، فإنّ وجود الطهارة مستقلّ عن وجود ذات الصلاة وغاية ما يقتضيه اشتراط الصلاة بالطهارة هو تقيّد الصلاة بالطهارة ، وهذا لا يقتضي اتّحادهما في الوجود ، إذ انّ التقيّد من شئون الشرطيّة لا من شئون نفس الشرط والتقسيم انّما هو باعتبار طبع الشرط ، وطبع هذا النحو من الشرط هو الاستقلاليّة في الوجود عن وجود ذات الواجب. ولا يختلف الحال في ذلك بين أن يكون هذا الشرط من قبيل الشروط المتأخّرة أو المتقدّمة أو ان يكون من قبيل الشروط المقارنة.

الثاني : أن يكون الشرط من سنخ الشروط التي لو كانت معتبرة في الواجب لكانت متّحدة وجودا مع الواجب ولكن بنحو اتّحاد العرض ومعروضه والوصف وموصوفه بحسب النظر العرفي.

ومثاله : اعتبار الإيمان في الرقبة التي يجب عتقها ، فإنّ ذلك لو كانت معتبرا لما كان له وجود مستقلّ عن وجود الرقبة.

الثالث : أن يكون الشرط من سنخ الشروط التي لو كانت معتبرة في

١٣٩

الواجب لكانت مقوّما له ، بأن تكون نسبتها الى الواجب نسبة الفصل للجنس ، كما لو كان المعتبر في وجوب اطعام الحيوان أن يكون ناطقا ، فإنّ الناطقيّة على فرض اعتبارها تكون مقوما للمشروط ومتحدة معه في الوجود.

وتصوير دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في هذه الأقسام الثلاثة بهذه الكيفيّة.

أمّا القسم الأوّل فكما لو احتملنا اعتبار الاطمئنان في الصلاة ، فيدور الأمر بين أن يكون الواجب هو أصل الصلاة أو هي بشرط التقيّد بالاطمئنان. فالأقل هو الصلاة والأكثر هو التقيّد بالاطمئنان.

وأمّا القسم الثاني فكما لو احتملنا اعتبار الإيمان في الرقبة الواجبة العتق ، فيدور الأمر بين أن يكون الواجب هو إعتاق طبيعي الرقبة أو هي بشرط التقيّد بالإيمان.

وأمّا القسم الثالث فكما لو احتملنا اعتبار الناطقيّة في وجوب اطعام الحيوان ، فيدور الأمر بين أن يكون الواجب هو اطعام مطلق الحيوان أو هو بشرط التقيّد بالناطقيّة.

وباتّضاح المراد من دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطين نقول : انّ منشأ الاختلاف فيما هو الأصل الجاري في مورده هو الاختلاف في تشخيص هذه الحالة ، وهل هي من حالات الشك في التكليف فيكون الأكثر مجرى لأصالة البراءة أو هو من حالات الشك في المكلّف به فيكون مجرى لأصالة الاشتغال ، وبيان ذلك لا يتّصل بغرضنا.

* * *

٣٥٥ ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليّين

ويقع البحث تحت هذا العنوان عما هو الأصل الجاري في حالات دوران ما علم وجوبه مثلا بين الأقل والأكثر ، فلو علم المكلّف بأنّ ذمّته مشغولة بصلوات ثنائية إلاّ انّه شك في مقدار هذه الصلوات ، وهل انّ الواجب

١٤٠