المعجم الأصولي - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

المفسدة على المصلحة المحتملة.

هذه هي الاحتمالات الثبوتيّة المحتمل إرادتها من القاعدة ، ثمّ انّ الكلام يقع عمّا هو المراد من المصلحة والمفسدة ، وما هو المراد من الاولويّة في القاعدة.

أمّا ما هو المراد من المصلحة والمفسدة فنحتمل له ستّة احتمالات :

الاحتمال الاوّل : انّ المراد من المفسدة التي يلزم تقديمها على المصلحة هي المفسدة الشخصيّة بقطع النظر عن انّ المصلحة المقابلة لها مصلحة شخصيّة أو نوعيّة.

الاحتمال الثاني : انّ المراد من المفسدة هي المفسدة الشخصيّة إذا كان المقابل لها مصلحة شخصيّة. أمّا لو كان المقابل لها مصلحة نوعيّة فإنّ القاعدة غير متصدّية لهذا الفرض.

الاحتمال الثالث : انّ المراد من المفسدة هي المفسدة النوعيّة وكذلك هو المراد من المصلحة المقابلة لها ، فلا صلة لهذه القاعدة بالمصالح والمفاسد الشخصيّة.

الاحتمال الرابع : انّ المراد من المفسدة والمصلحة هو المفسدة الخطيرة المقابلة للمصلحة الخطيرة.

الاحتمال الخامس : انّ المراد من المفسدة والمصلحة هما الشخصيتان ولكن بشرط عدم منافاة التقديم لمصلحة نوعيّة.

الاحتمال السادس : انّ المراد من المفسدة والمصلحة هما ما يتمّ التعرّف عليهما بواسطة الشارع ، بأن يدعى انّ هذا المقدار هو المحرز امضاؤه من السيرة العقلائيّة ، وحينئذ اذا دار الأمر بين مفسدة مستكشفة عن الشارع ومصلحة مستكشفة عن الشارع أيضا فإنّ المقدم هو دفع المفسدة على جلب المصلحة.

هذه هي الاحتمالات المعقولة للمراد من المصلحة والمفسدة في القاعدة.

وأمّا المراد من الأولويّة في القاعدة فنحتمل له أربعة احتمالات :

الاحتمال الاول : انّ المراد من الاولويّة هو اللزوم العقلائي ، بمعنى انّ

١٠١

العقلاء يذمون كلّ من أهمل دفع المفسدة في سبيل جلب المصلحة ويعتبرونه سفيها.

الاحتمال الثاني : انّ المراد من الاولوية هو اللزوم العقلي ، بمعنى انّ العقل يرى قبح اهمال دفع المفسدة في سبيل جلب المصلحة ، لأنّه من ترجيح المرجوح.

الاحتمال الثالث : انّ المراد من الأولويّة هي الراجحيّة ، بمعنى انّ الإنسان مخير بينهما ، غايته انّ الأفضل والأجدر هو ترجيح جانب المفسدة.

الاحتمال الرابع : انّ الاولوية في حالات دوران الأمر بين المصلحة والمفسدة النوعيتين الخطيرتين تعنى اللزوم العقلي أو العقلائي أو هما معا ، وأمّا في حالات دوران الأمر بين المصلحة والمفسدة الشخصيّتين فالأولويّة بمعنى الراجحيّة وانّه لا سبيل لذمّه ولا لتقبيح فعله لو اختار العكس في اموره الشخصيّة.

وبهذا تتّضح معالم القاعدة ، ولم يبق سوى أمر لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو انّه قد يكون اهمال المصلحة المتنافية مع المفسدة يوجب الوقوع في مفسدة ، بمعنى انّ الدوران لا يكون دائما بين دفع المفسدة وجلب المصلحة الزائدة ، إذ قد يتّفق انّ عدم جلب المصلحة يوجب الوقوع في المفسدة ، وحينئذ يكون جلب المصلحة مساوقا لدفع المفسدة ، فيكون الدوران واقعا بين دفع مفسدة ودفع مفسدة أخرى.

والظاهر بل المطمئن به انّ هذا الفرض خارج عن موضوع القاعدة ، وانّ القاعدة متمحّضة لحالات دوران الأمر بين دفع المفسدة وجلب مصلحة لا يترتّب على تفويتها الوقوع في مفسدة.

وبهذا يتّضح انّ المراد من المفسدة على تمام الاحتمالات هي النقص والضرر والحرج أو ما يساوق ذلك ، وانّ المراد من المصلحة هي المنفعة والزيادة والتي لا يترتّب على عدم تحصيلها نقص أو حرج.

وبعد بيان المراد من القاعدة نستعرض بعض الموارد التي استفاد

١٠٢

بعض الأعلام تحديد الحكم الشرعي لها بواسطة القاعدة :

المورد الاول : حالات التزاحم بين الوجوب والحرمة ، بتقريب انّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، فالحرمة تعبّر عن مفسدة في متعلّقها كما انّ الوجوب يعبّر عن مصلحة في متعلّقه ، وحينئذ لو دار الأمر بين امتثال الوجوب وامتثال الحرمة فإنّ القاعدة تقتضي امتثال الحرمة ، لانّه بامتثالها تندفع المفسدة الكامنة في متعلّق الحرمة.

فلو دار الأمر بين انقاذ غريق وبين عبور الأرض المغصوبة فإنّ المقدّم هو ترك العبور باعتباره محرّم وذو مفسدة فيقدّم على جلب المصلحة وهي انقاذ الغريق الواجب.

إلاّ انّ هذا مبني على انّ المراد من المفسدة هي المفسدة المستكشفة بواسطة الشارع وإلاّ فلا مفسدة شخصيّة من عبور الأرض المغصوبة كما انّه لا مفسدة نوعيّة في بعض حالات عبور الأرض المغصوبة ، ومبني أيضا على انّ المراد من المفسدة المقدّمة هي الأعم من الخطيرة والحقيرة ، كما انّه مبني على اطلاق تقديم المفسدة وان كان مقابلها مصلحة نوعيّة كإنقاذ الغريق خصوصا لو كان من ذوي النفع العام.

ثمّ انّ الظاهر خروج هذا المثال عن موضوع القاعدة ، إذ انّ جلب المصلحة في هذا المثال يساوق دفع المفسدة ، وقد قلنا بخروج هذا الفرض عن موضوع القاعدة إلاّ أن يقال انّ الذي هو خارج عن موضوع القاعدة هو حالات مساوقة جلب المصلحة لدفع المفسدة الشخصيّة والمقام ليس من هذا القبيل ، إلاّ انّ هذا يستلزم ملاحظة الشارع للمصالح والمفاسد المتّصلة بكلّ مكلّف بقطع النظر عن سائر المكلّفين وهذا ينافي ما افترضناه من انّ المفسدة المترتّبة على عبور الأرض المغصوبة والمستكشفة عن الشارع انّما هي لملاحظة مالك الأرض وليس شخص المكلّف ، ولو كانت كذلك لكان المثال خارجا عن

١٠٣

موضوع القاعدة أيضا ، إذ لا مصلحة ولا مفسدة متّصلة بشخص المكلّف ، فلا معنى لإجراء القاعدة.

إلاّ أن يقال انّ المصلحة والمفسدة متّصلة بشخص المكلّف من جهة ان حرمة العبور ووجوب الإنقاذ تكليفان متوجهان لشخص المكلّف ، فعليه لا بدّ من دفع مفسدة عقوبة ارتكاب الحرام وان كان سيترتّب على ذلك عدم تحصيل الثواب ـ بامتثال الواجب ـ والذي هو جلب مصلحة. وهو كما ترى ، إذ انّ ترك الواجب ممّا يترتّب عليه العقوبة أيضا.

المورد الثاني : التمسّك بالقاعدة لإثبات انّ الاصل في الأشياء الحظر ، وذلك بتقريب انّ كلّ فعل لا تعلم حرمته أو إباحته فإنّ ارتكابه موجب لاحتمال العقوبة من المولى ، وهذا معناه انّ ارتكابه يكون موجبا لاحتمال الوقوع في المفسدة ، فيكون دفعها أولى من جلب المصلحة الشخصيّة أو النوعيّة المترتّبة على ارتكاب الفعل.

ومن الواضح انّ دخول هذا المورد في موضوع القاعدة مترتّب على تبني الاحتمال الخامس لمعنى القاعدة ، وهو انّ دفع المفسدة حتى وان كانت محتملة أولى من جلب المصلحة ، على انّه يمكن افتراض خروج المورد حتى من هذا الاحتمال ، وذلك لشمول المورد لحالات احراز المصلحة ، فيكون الأمر دائرا بين دفع المفسدة المحتملة وجلب المصلحة المحرزة. والظاهر بل المطمئن به عدم شمول القاعدة لهذا الفرض.

إلاّ أن يقال انّ المفسدة المحتملة لو اتّفقت لكانت أكثر أهميّة ، وهذا ما أوجب ترجيحها على جلب المصلحة المحرزة ، إلاّ انّ هذا يقتضي انّ المتعيّن من الاحتمالات لمعنى القاعدة هو الاحتمال الرابع وهو اختصاص تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة بالحالات التي تكون فيها المفسدة أكثر أهميّة من المصلحة.

وهذا المقدار لو كان هو المراد من القاعدة لكان مآلها الى قاعدة قبح ترجيح المرجوح ، وذلك لأنّ فرض

١٠٤

الكلام هو دوران الأمر بين دفع المفسدة الأهمّ وجلب المصلحة المهمّة ، وليس ثمّة خيار ثالث ، فإمّا أن يختار دفع المفسدة أو جلب المصلحة ، وحينئذ يكون اختياره لجلب المصلحة ترجيح لما هو مرجوح ، على انّ المورد المذكور لا يطابق الاحتمال الخامس كما لا يطابق قاعدة قبح ترجيح المرجوح إذ انّ موردهما هو المفسدة المحرزة أو المحتملة لو كانت المصلحة محتملة أيضا.

نعم يمكن أن يكون مدرك أصالة الحظر هو ما عليه البناء العقلائي من ملاحظة قوة المحتمل وترجيحه على المصلحة المحرزة لو كانت أقلّ أهميّة من المفسدة المحتملة لو اتّفقت ، أو يكون مدركها هو ما يدركه العقل من لزوم دفع الضرر المحتمل إذا لم يكن له مؤمّن. والمتحصّل انّ الظاهر هو عدم شمول القاعدة على جميع احتمالاتها لهذا المورد.

المورد الثالث : تأييد دعوى جريان الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريميّة بالقاعدة ، بتقريب انّ احتمال الحرمة معناه احتمال المفسدة ، فدفعها يكون لازما ، وان كان ذلك يقتضي تفويت المصلحة.

ويرد على هذا التقريب ما أوردناه على المورد الثاني.

المورد الرابع : التمسّك بالقاعدة لتقديم جانب الحرمة في حالات دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع افتراض اتّحاد الواقعة ، أي مع افتراض كون متعلّق الدوران فعلا واحدا ، كما لو دار الأمر بين وجوب دفن الميّت أو حرمة دفنه ، فإنّ القاعدة تقتضي تقديم جانب الحرمة لان فيها دفعا للمفسدة المحتملة ، ومن هنا تقدم على جلب المصلحة المحتملة الكامنة في متعلّق الوجوب المحتمل.

وتماميّة هذه الدعوى مبني على اتّساع موضوع القاعدة لما هو مفترض في الاحتمال الخامس وان دفع المفسدة المحتملة مقدّم على جلب المصلحة المحتملة في حالات الدوران.

١٠٥

إلاّ انّه لا بدّ من احراز انّ تفويت المصلحة بترك جانب الوجوب لا يؤول الى الوقوع في المفسدة ، واحراز ذلك دونه خرط القتاد.

ثمّ انّه هناك موارد يمكن دعوى التمسّك بالقاعدة لتحديد الموقف الشرعي منها أوكلناها لمتابعة القارئ الكريم.

ثمّ انّ البحث عن تماميّة القاعدة أو عدم تماميتها يقع في مقامين :

المقام الأوّل : والبحث فيه صغروي ، أي البحث عن وجود بناء عقلائي قاض بهذه القاعدة ومع افتراض وجوده واقعا فما هي حدود هذا البناء العقلائي؟

المقام الثاني : والبحث فيه كبروي ، بمعنى انّ الشارع هل أمضى هذا البناء العقلائي ، وما هي حدود هذا الإمضاء؟

أمّا المقام الأوّل : فإجمال الحديث عنه هو انّ الذي عليه البناء العقلائي ينافي الاحتمال الاول لمعنى القاعدة ، فإنّ ما نراه بالوجدان انّ الترجيح في حالات الدوران ـ عند العقلاء ـ لا يعتمد هذه القاعدة بمجرّد اشتمال أحد الطرفين على المفسدة وان ذلك يؤهّله للتقديم ـ بنظرهم ـ حتى مع تضاؤل مستوى المفسدة المشتمل عليها خصوصا لو كان المراد من المصلحة والمفسدة في القاعدة هو الاحتمال الاول والذي يفترض انّ المفسدة المقصودة هي المفسدة الشخصيّة ، فإنّ من الواضح انّ المتبنّيات العقلائيّة لا تراعي المفاسد والمصالح الشخصيّة إذا كانت منافية للمصلحة النوعية.

ولغرض التنبيه على ذلك نذكر هذه الأمثلة :

المثال الأوّل : لو دار الأمر بين الدخول في معركة عادلة مضمونة النجاح ويترتّب عليها فوائد كثيرة وبين عدم الدخول في هذه المعركة لأنّها تستلزم الوقوع في بعض المفاسد المحدودة كجرح بعض الجنود أو قتلهم ، فهل انّ العقلاء يبنون في مثل هذا الفرض على التحفّظ عن الوقوع في المفسدة رغم اشتمال ما يقابلها على

١٠٦

مصلحة أقوى.

المثال الثاني : لو دار الأمر بين اطعام مجموعة من الجوعى المشرفين على الهلاك وبين التحفّظ على المال الشخصي من النقص بسبب الإطعام فأيّهما المقدّم بنظر العقلاء.

نعم النقض بما ذكرناه لا يكون ناقصا إلاّ بناء على الاحتمال الاول ومعه يتّضح سقوط الإطلاق في الاحتمال الخامس أيضا.

وأمّا الاحتمال الثاني فهو وان كان يضيّق من موضوع القاعدة إلاّ انّ اطلاق تقديم دفع المفسدة الخطيرة ـ حتى وان كان ما يقابلها من مصلحة أكثر خطورة وأهميّة ـ غير مسلّم لعين ما ذكرناه سابقا. فها نحن نشاهد العقلاء يبذلون الأموال الخطيرة بل يبذلون ما هو أعظم من الأموال في سبيل تحصيل مصالح أقوى وأشدّ وان كان يترتّب على تحصيلها الوقوع في مفاسد.

وبهذا يتعيّن ان يكون المراد من القاعدة أحد احتمالين أمّا الثالث أو الرابع ، والرابع والذي يفترض كون المفسدة أكثر أهميّة من المصلحة ـ هو القدر المتيقّن من القاعدة إلاّ انّه لو كان هو المتعيّن من القاعدة لكان من المحتمل قويا رجوع هذه القاعدة الى قاعدة قبح ترجيح المرجوح ، وحينئذ لا يكون لدفع المفسدة خصوصيّة تقتضي تقديمها في موارد الدوران بل انّ منشأ التقديم هو اتّفاق أهميّة المفسدة ، وبهذا لا يكون للقاعدة مورد مستقل عن قاعدة قبح ترجيح المرجوح إلاّ أن يدعى انّ المراد من المفسدة في القاعدة هي المفسدة الشخصيّة وان كان ما يقابلها مصلحة نوعيّة ، وعندها يكون لقاعدة دفع المفسدة مورد مستقلّ عن قاعدة ترجيح المرجوح. إلاّ انّ احتمال إرادة هذا المعنى من المفسدة في القاعدة بعيد جدا ، إذ انّ المتبنّيات العقلائيّة لا تراعي ـ كما قلنا ـ المصالح والمفاسد الشخصيّة إذا كانت منافية للمصالح والمفاسد النوعيّة.

وبهذا لا يبقى من الاحتمالات إلاّ

١٠٧

الاحتمال الثالث والذي يفترض تساوي المفسدة مع المصلحة في الأهميّة ، وهنا أيضا قد يقال انّ منشأ تقديم دفع المفسدة هو قاعدة الترجيح إلاّ انّه مع ذلك يكون لقاعدة دفع المفسدة دور تنقيح صغرى قاعدة الترجيح ، إذ انّ قاعدة الترجيح لا تقتضي أكثر من الحكم على ترجيح المرجوح بالقبح إلاّ انّها غير متصدّية لتشخيص ما هو المرجوح من الراجح ولذلك يتمّ التعرّف على ذلك بوسائل اخرى ، ومنها هذه القاعدة حيث تقتضي في ظرف التساوي راجحيّة دفع المفسدة على جلب المصلحة وعندها يتنقّح موضوع قاعدة قبح ترجيح المرجوح.

إلاّ انّه مع ذلك لا يمكن القطع بوجود بناء عقلائي على تقديم جانب المفسدة فى فرض التساوي في الأهميّة خصوصا لو افترضنا انّ المراد من الأولويّة هو اللزوم.

وأمّا المقام الثاني : وهو البحث عن كبرى هذه القاعدة وحجيّتها.

فنقول : انّه لا بدّ وان يتمّ البحث عن امضاء هذه القاعدة في حدود الاحتمال الثالث ، إذ لم يتّضح ـ لما تقدّم ـ وجود بناء عقلائي يتّسع للاحتمالات الاخرى.

وأمّا الاحتمال الثالث وهو ترجيح جانب المفسدة في ظرف التساوي في الأهميّة مع جلب المصلحة فإنّ دعوى الإمضاء لهذا المقدار انّما تمّ بواسطة عدم الردع ، وانّ عدم الردع يهدد بامتداد هذا البناء للشئون الشرعية ، فلو لم يكن مرضيا من الشارع ومع ذلك لم يردع عنه لكان ذلك منافيا للحكمة والتحفّظ على الأغراض.

إلاّ انّ هذا التقريب لا يمكن قبوله ، وذلك لعدم امكان امتداد هذا البناء ـ لو كان ـ للشئون الشرعيّة ، إذ انّ امتداده منوط باحراز العقلاء لحجم المصلحة المعتمدة للشارع وكذلك المفسدة وانّهما متساويان في الأهميّة ، وعندئذ يمكن القول بأنّ عدم الردع يساوق الإمضاء وإلاّ لكان نقضا للغرض.

١٠٨

وأمّا مع عدم إحراز ذلك فلا موضوع للقاعدة حتّى يبني العقلاء على تقديم جانب المفسدة ، وواضح انّ احراز العقلاء لحجم المصلحة والمفسدة الشرعيّتين ممّا لا سبيل له ، فحتّى لو صرّح الشارع بحرمة هذا الشيء وبوجوب الآخر فإنّ من غير الممكن التعرّف على انّ المفسدة الكامنة في متعلّق الحرمة أشد من المصلحة الموجودة في متعلّق الوجوب أو انّها أضعف أو انّ المصلحة والمفسدة متساويتان في الأهميّة ، وعليه لا يكون دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مصحّحا لبناء العقلاء على تقديم جانب الحرمة ، لاحتمال انّ متعلق الوجوب أكثر أهميّة من متعلّق الحرمة ، فلا يكون هذا الفرض موردا للقاعدة ، ومن هنا لا يمكن استكشاف الإمضاء من عدم الردع ، إذ انّ عدم الردع لا يهدّد أغراض الشريعة.

نعم لو صرّح الشارع بحجم المصلحة المفسدة واتّضح من ذلك تساويهما في الأهميّة لكان من الممكن امتداد البناء العقلائي على القاعدة لهذا المورد إلاّ انّه مع ندرته لا يكون عدم الردع كاشفا عن الامضاء ، وذلك لأنّه لو كان البناء الشرعي قائما على التخيير في هذه الحالة لكان بناء العقلاء على ترجيح جانب المفسدة غير مضرّ بأغراض الشريعة ، إذ لا فرق في نظر الشارع ـ بناء على التخيير ـ بين تقديم جانب المصلحة أو تقديم جانب المفسدة.

نعم لو كان البناء الشرعي هو تقديم جانب المصلحة بنحو اللزوم لكان عدم الردع مضرا بالغرض الشرعي إلاّ انّ ندرة فرض التصريح بمستوى المصلحة والمفسدة واتّفاق تساويهما في الأهميّة تمنع من استكشاف الإمضاء من عدم الردع ، لأنّ ذلك لا يستوجب تهديدا بينا لأغراض الشارع ، فمن الصعب الجزم بالإمضاء ، نعم هو محتمل إلاّ انّ ذلك لا ينفع ، لأنّ الشك في الحجيّة مساوق للقطع بعدمها ، هذا أولا.

١٠٩

وثانيا : يمكن دعوى ردع الشارع عن هذا البناء العقلائي لو سلّمنا بوجوده ، وذلك يتّضح بملاحظة ما قرّره الشارع من أصول عملية في ظرف الجهل بالحكم الواقعي.

* * *

٣٣١ ـ الدلالة

الدلالة هي انتقال الذهن من معنى الى معنى آخر ويكون منشأ الانتقال الى المعنى الآخر هو المعنى الأوّل ، وقد عرفها المناطقة بقولهم « هو كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر » ، وهذا ما يعبّر عن انّ الدلالة نحو علاقة ذهنيّة ببين الدال والمدلول ، بمعنى انّ ثبوت العلاقة بين الشيئين في نفس الأمر والواقع لا تنتج الدلالة بل لا بدّ من العلم بالعلاقة ، وحينئذ يكون العلم بأحدهما منتجا للعلم بالآخر.

ثمّ انّ الدلالة تارة تكون وضعيّة وتارة لا تكون كذلك ، والدلالة الوضعيّة هي التي تنشأ عن الوضع والتباني على جعل شيء دالا على شيء آخر ، ومن هنا قالوا انّ منشأ الدلالة الوضعيّة هو الاعتبار ، وهي تختلف باختلاف المعتبر ، فتارة يكون المعتبر هم العقلاء وتارة يكون المعتبر نظام من الأنظمة الاجتماعيّة كاعتبار الضوء الأحمر دالا على المنع ، وقد يكون الاعتبار خاصّ بفن من الفنون بأن يتبانى أهل ذلك الفن على دلالة شيء على شيء آخر.

ثمّ انّ الدلالة الوضعيّة تارة تكون لفظيّة وتارة تكون غير لفظيّة ، والاولى تنشأ عن اعتبار الواضع لفظا دالا على معنى ومنها الدلالات الثلاث « المطابقيّة والتضمنيّة والالتزاميّة » ، وأمّا الدلالة الوضعيّة غير اللفظيّة فمن قبيل النصب الموضوعة على الطرق للتعبير عن انّ الطريق سالك أو غير سالك.

وأمّا الدلالة التي لا تكون وضعيّة فهي الدلالة الطبعيّة والدلالة العقليّة ، والدلالة الطبعيّة تنشأ عمّا هو مقتضى الطبع ، وأمّا الدلالة العقليّة فتنشأ عن

١١٠

علاقة ذاتيّة بين الدال والمدلول على أن تكون تلك العلاقة معلومة ، إذ لا يكفي ثبوت العلاقة بينهما في نفس الأمر والواقع ، وتفصيل ذلك في كتب المنطق ، فراجع.

* * *

٣٣٢ ـ الدلالة الاستعماليّة

وهي الدلالة التفهيميّة والتي تعني ظهور حال المتكلّم في إرادة تفهيم المعنى من لفظه ، وعبّر عنها بالدلالة الاستعماليّة باعتبار انّها تدلّ على انّ المتكلّم استعمل اللفظ لغرض اخطار معناه وتفهيمه. وقد شرحنا المراد من الدلالة الاستعماليّة تحت عنوان « الدلالة التفهيميّة ».

* * *

٣٣٣ ـ دلالة الإشارة

وهو الانتقال من مدلول اللفظ الى لازمه على أن لا يكون هذا اللازم من الوضوح بحيث يمكن استظهار إرادة المتكلّم له ، وبهذا تمتاز دلالة الإشارة عن دلالة الإيماء ، حيث قلنا انّ دلالة الإيماء لا تكون إلاّ في حالة تكون معها الملازمة عرفيّة بحيث يستظهر معها إرادة المتكلّم للمعنى اللازم. وأمّا دلالة الإشارة فمدلول اللفظ وان كان له لازم إلاّ انّ الملازمة بينه وبين مدلول اللفظ ليست من الوضوح بحيث يمكن استظهار إرادة المتكلّم للازم.

ومن هنا قالوا بسقوط هذه الدلالة عن الحجيّة باعتبار عدم افادتها الظهور في انّ المتكلّم مريد للازم ، وأقصى ما تقتضيه دلالة الإشارة هو الإشعار بذلك ، وهو غير نافع لإثبات الحجيّة لمدلول دلالة الإشارة.

ومثال ذلك : استفادة ايجاب المقدّمة من ايجاب ذيها ، إذ من الواضح انّ ايجاب ذي المقدّمة لا يوجب استظهار إرادة المولى لايجاب المقدّمة بنحو الوجوب الشرعي ، إذ من الممكن جدّا عدم جعل المولى للوجوب الشرعي للمقدّمة واستغناؤه عن ذلك بالوجوب العقلي.

* * *

١١١

٣٣٤ ـ دلالة الاقتضاء

والمقصود منها ظهور الكلام في معنى بواسطة ما تقتضيه المناسبات العقليّة أو العقلائيّة أو الشرعيّة أو العرفيّة أو اللغويّة ، بمعنى انّ الكلام بنفسه وبقطع النظر عن هذه المناسبات لا يقتضي الظهور في ذلك المعنى.

وبهذا يكون كلّ معنى استظهر من الكلام بواسطة احدى هذه المناسبات يكون مدلولا لدلالة الاقتضاء.

وبقولنا « ظهور الكلام » يتّضح انّه لا بدّ وان تكون هذه المناسبات بمستوى توجب انعقاد الظهور للكلام فيما يناسبها بحيث يكون المتفاهم العرفي من الكلام هو ما تقتضيه هذه المناسبات وانّ ما يقتضيه حاقّ اللفظ بقطع النظر عن هذه المناسبات غير مقصود للمتكلّم بنظر العرف.

ومثال ذلك قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (١) فإنّ العرف يفهم انّ المقصود من الآية الشريفة هو سؤال أهل القرية ، وذلك لمناسبة عقليّة وعقلائيّة.

أمّا المناسبة العقليّة فهي انّ الدور والأفنية والحيطان ـ والتي هي مدلول لفظ القرية ـ لا يمكن أن تسأل فتجيب وانّما الذي يمكن ان يسأل فيجيب هم القاطنون في تلك القرية من العقلاء ، وأمّا القرينة العقلائيّة فهي انّ المفترض كون المتكلّم من العقلاء ، وإذا كان كذلك فمن العبث ان تتعلّق إرادته الفعليّة بما يتعذّر وقوعه ولو عادة.

وهذه المناسبة العقليّة والعقلائيّة هي التي اقتضت ظهور الآية الشريفة في انّ المراد من سؤال القرية هو سؤال أهل القرية وإلاّ فألفاظ الآية الشريفة لا تساعد على هذا الظهور.

واتّضح ممّا ذكرناه انّ هذه المناسبة في الوقت الذي تقتضي المعنى المذكور تمنع من ظهور الآية في المعنى الآخر والذي هو مفاد المدلول اللفظي. وهذا هو معنى انّ دلالة الاقتضاء لا بدّ وان تكون بمستوى الظهور العرفي.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالا آخر وهو قوله تعالى : ( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) (٢) فإنّ

١١٢

العرف يفهم انّ مقصود الآية الشريفة هو طلاق الزوجات ، وذلك لمناسبة شرعيّة ، وهو انّ الطلاق لا يكون إلاّ للزوجة.

فهذه المناسبة الشرعيّة المعلومة بالضرورة هي التي اقتضت ظهور الآية الشريفة في إرادة الزوجات من لفظ النساء وإلاّ فمقتضى الجمود على المدلول اللفظي للآية الشريفة لا يعطي هذا المعنى.

* * *

٣٣٥ ـ الدلالة الالتزاميّة

وهي دلالة اللفظ على معنى خارج عن المعنى الموضوع له اللفظ إلاّ انّه لازم له ، على أن يكون هذا التلازم بين المعنى الموضوع له اللفظ وبين المعنى الخارج عن المعنى الموضوع له اللفظ بنحو اللزوم الذهني ، بمعنى أن يكون موطن التلازم بين المعنيين هو الذهن.

فلو كان التلازم في الخارج دون الذهن فإنّ الدلالة الالتزاميّة لا تحصل من ذكر أحد المتلازمين خارجا ، فلو افترضنا انّ شخصا لا يعلم انّ للنار خاصيّة هي الإحراق فإنّ الإحراق حينئذ لا يكون مدلولا التزاميّا للفظ النار.

كما انّه لا يلزم أن يكون بين المعنيين تلازم واقعي خارجا بل لو كان بينهما خارجا تمام التباين إلاّ انّ تصوّر أحدهما يلازم في عالم الذهن تصوّر الآخر فإنّ هذا يكفي في حصول الدلالة الالتزاميّة عند اطلاق اللفظ الموضوع للمعنى الملزوم.

فالعمى والبصر وان لم يكن بينها تلازم خارجا بل بينهما تمام المعاندة إلاّ انهما متلازمان ذهنا ، ولهذا يلزم من ذكر أحدهما تصوّر المعنى الآخر.

ولمزيد من التوضيح راجع تبعية الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة.

* * *

٣٣٦ ـ دلالة الإيماء والتنبيه

تطلق دلالة الإيماء والتنبيه على دلالة كلّ لفظ سيق لغرض التعبير به عن معنى ملازم عرفا للمعنى المدلول

١١٣

عليه باللفظ ، فالمعنى الملازم عرفا لمعنى اللفظ هو مدلول دلالة الإيماء والتنبيه واللفظ المسوق لهذا الغرض هو الدال ، وأمّا دلالة الإيماء فهي الانتقال باللفظ الى المعنى الملازم عرفا لمدلول اللفظ.

وبهذا اتّضح انّ منشأ ظهور اللفظ في المعنى الملازم لمدلول اللفظ هو الملازمة العرفيّة بين مدلول اللفظ وبين المعنى الآخر بمستوى توجب هذه الملازمة استظهار العرف إرادة المتكلّم للمعنى الملازم من اللفظ.

ومثال ذلك ما لو قال المولى : « كلّ من صلّى في أرض مغصوبة فعليه إعادة الصلاة » فإنّ هذا التعبير وان كان مدلوله اللفظي هو لزوم اعادة الصلاة إلاّ انّ لهذا المدلول لازم عرفي وهو مانعيّة الغضب لصحّة الصلاة وإلاّ فلا معنى لاعادة الصلاة لو كانت الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة ، ومن هنا يستظهر العرف إرادة المولى بهذا التعبير الكشف عن المانعيّة ، وذلك لإحرازهم إدراك المولى للملازمة.

وهكذا لو قال المولى لمن أفطر في نهار شهر رمضان « كفّر » فإنّ العرف يستظهر من ذلك إرادة المولى للكشف عن سببيّة الإفطار للتكفير.

* * *

٣٣٧ ـ الدلالة التصديقيّة

ويعبّر عنها بالدلالة الجدّية وبالدلالة التصديقيّة الثانية ، والمقصود منها ظهور حال المتكلّم بأن ما أراد تفهيمه بكلامه مريد له جدا وواقعا.

وبتعبير آخر : انّ الدلالة التصديقيّة الثانية تعني الظهور في التطابق بين الإرادة التفهيميّة الاستعماليّة وبين الإرادة الجدّيّة وانّ المتكلّم قاصد الحكاية عن الواقع.

وبهذا تمتاز الدلالة التصديقيّة الثانية عن الدلالتين التصوريّة والتفهيميّة بأنّها لا تتعقل إلاّ في الجمل التركيبيّة التامة ، إذ انّ قصد الحكاية عن الواقع ـ والذي هو مدلول الدلالة التصديقيّة الجديّة ـ لا يكون إلاّ بجملة مشتملة على موضوع وحكم ، ويكون

١١٤

الحكم فيها منتسبا للموضوع.

وأمّا الدلالة التصوريّة وكذلك التفهيميّة الاستعماليّة فإنّه يمكن تعقلهما في الجمل التركيبيّة التامّة كما يمكن تعقلهما في المفردات اللفظيّة الغير الواقعة في اطار جمل تركيبيّة تامة ، فلفظ الماء إذا صدر عن غير ملتفت فدلالته تكون تصوريّة وإذا صدر عن ملتفت فدلالته تفهيميّة استعماليّة ، وكذلك جملة « زيد قائم » فإنّها اذا صدرت من متكلّم نائم أو غافل فدلالتها تصوريّة وان صدرت من ملتفت قاصد لاخطار معنى الجملة إلاّ انّه غير جاد وغير قاصد الحكاية والإخبار عن الواقع فهذه دلالة تفهيميّة.

وبهذا يتّضح انّ الدلالة التصديقيّة الثانية دلالة حاليّة سياقيّة أي مستفادة من ملاحظة حال المتكلّم ، فهي وان كانت تشترك مع الدلالة التفهيميّة من هذه الجهة إلاّ انّ مدلول الدلالة التفهيميّة هو انّ المتكلّم مريد لتفهيم المعنى من اللفظ ، وأمّا مدلول الدلالة التصديقيّة الجديّة فهو انّ المتكلّم قاصد من كلامه الحكاية عن الواقع.

على انّ الدلالة التصديقيّة الثانية منوطة بتنقيح الدلالة التفهيميّة ، فما لم ينعقد ظهور في انّ المتكلّم مريد لاخطار المعنى وتفهيمه من كلامه فإنّه لا تصل النوبة للدلالة التصديقيّة الثانية. ومن هنا قلنا انّ الدلالة التصديقيّة هي الظهور في التطابق بين الإرادة التفهيميّة والإرادة الجديّة التصديقيّة.

ثمّ انّ ظهور حال المتكلّم في انّه قاصد الحكاية عن الواقع منوط بعدم نصبه لقرينة منفصلة على عدم إرادته الجديّة للواقع وإلاّ فمع نصب القرينة المنفصلة ينهدم الظهور الجدّي في قصد الحكاية عن الواقع ، وذلك لأنّ استظهار التطابق بين المدلولين الاستعمالي والجدّي انّما هو لبناء العقلاء على انّ كلّ متكلّم أراد تفهيم المعنى من كلامه فإنّه مريد واقعا لما أراد تفهيمه أي مريد لقصد الحكاية

١١٥

عن الواقع بواسطة ما أخطره من معنى بكلامه ، وهذا البناء العقلائي مختصّ بحالة عدم نصب المتكلّم لقرينة منفصلة تعبّر عن عدم الإرادة الجدّية للحكاية عن الواقع.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ الدلالة التصديقيّة منوطة بأربعة امور :

الاوّل : علم السامع بالوضع ، وهي الجهة المشتركة بين الدلالات الثلاث.

الثاني : احراز انّ المتكلّم عاقل وملتفت ، وهذه هي الجهة المشتركة بين الدلالة التصديقيّة الثانية والدلالة التفهيميّة.

الثالث : أن يكون الكلام من سنخ المركّبات التامّة.

الرابع : ان لا ينصب المتكلّم قرينة منفصلة على عدم الإرادة الجدّيّة للحكاية عن الواقع.

ومع توفر هذه الامور الأربعة ينعقد للكلام ظهور في الارادة الجديّة للحكاية عن الواقع.

* * *

٣٣٨ ـ الدلالة التصديقيّة الاولى

وهي الدلالة التفهيميّة ، وعبّر عنها بالتصديقيّة لأنّها توجب إذعان السامع بإرادة المتكلّم المعنى من لفظه ، وعبّر عنها بالاولى لتتميز عن الدلالة التصديقيّة الثانية.

وقد شرحنا مفصلا المراد من الدلالة التصديقيّة الاولى تحت عنوان « الدلالة التفهيميّة ».

* * *

٣٣٩ ـ الدلالة التصوريّة

وهي انخطار معنى اللفظ في الذهن بمجرّد اطلاق اللفظ ، وعبّر عنها بالدلالة التصوريّة باعتبار انّ اللفظ في موردها لا يوجب أكثر من تصور معناه في الذهن عند اطلاقه.

وهذا النحو من الدلالة منوط بالعلم بالوضع ، فغير العالم بالوضع لا ينقدح في ذهنه معنى اللفظ عند اطلاقه ، وأمّا العالم بالوضع فانقداح المعنى في ذهنه عند اطلاق اللفظ

١١٦

قهري. ومن هنا كانت الدلالة التصوريّة غير منوطة بكون المتلفّظ ملتفتا ، فحتى لو صدر اللفظ من ذاهل أو نائم فإنّ صورة المعنى تنخطر في الذهن بمجرّد سماع اللفظ ، بل لو علم السامع انّ المتكلّم لم يكن مريدا للمعنى الحقيقي من اللفظ فإنّه مع ذلك تنتقل صورة المعنى الحقيقي لذهنه رغم علمه بعدم إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقي.

وهكذا تحصل الدلالة التصوريّة عند ما لا يكون المتلفظ عاقلا كأن كان صدور اللفظ قد تمّ بواسطة ببغاء أو اصطكاك حجرين.

* * *

٣٤٠ ـ الدلالة التضمنيّة

والمراد منها دلالة اللفظ على معنى واقع في ضمن المعنى الموضوع له اللفظ كدلالة بيع الدار على بيع البيوتات والفناء المشتملة عليها الدار ، وذلك لأنّ البيوتات والفناء واقعة في ضمن المعنى الموضوع له لفظ الدار.

وبهذا اتّضح انّ الدلالة التضمنيّة تابعة للدلالة المطابقيّة ثبوتا وانتفاء ، فعند ما تقوم البيّنة على ملكيّة زيد للدار فإنّ هذه البيّنة كما تدلّ على ملكيّة زيد للدار كذلك تدلّ على ملكيّته لبيوتاتها وفنائها ، وهذا هو معنى تبعيّة الدلالة التضمنيّة للمطابقيّة ثبوتا ، وعند ما تسقط البيّنة للعلم بكذبها فإنّ الدلالة المطابقيّة تسقط وحينئذ تسقط بتبعها الدلالة التضمنيّة ، وهذا هو معنى التبعيّة انتفاء.

وما يقال من عدم تبعيّة الدلالة التضمنيّة للدلالة المطابقيّة في مرحلة السقوط يقصد منه حالات سقوط بعض الدلالات التضمنيّة عن المدلول المطابقي ، فإنّه لا يقتضي سقوط دلالة المدلول المطابقي عن بقيّة المدلولات التضمنيّة ، ولذلك يمكن التمسّك بالدلالة المطابقيّة لإثبات إرادة المدلولات التضمنيّة التي لم يقتض الدليل الخارجي سقوطها. ومنشأ ذلك هو عدم التلازم بين المدلولات

١١٧

التضمنيّة فيما بينها ، فليس أحدها علّة للآخر كما انّه ليس معلولا له.

ومثال ذلك : العمومات المخصّصة ، فإنّ الأفراد الخارجة بالتخصيص مدلولات تضمنيّة إلاّ انّ سقوطها عن المدلول المطابقي « العام » بالتخصيص لا يوجب سقوط الدلالة المطابقيّة عن الدلالة على بقيّة المدلولات التضمنيّة.

* * *

٣٤١ ـ الدلالة التفهيميّة

والمقصود منها دلالة اللفظ على إرادة المتكلّم تفهيم معناه من اطلاقه ، فهي إذن تضيف معنى زائدا الى الدلالة التصوريّة وهو الدلالة على إرادة المتكلّم للمعنى من اللفظ في حين انّ الدلالة التصوريّة لا تدلّ على إرادة المتكلّم لتفهيم المعنى ، ولهذا قلنا انّ الدلالة التصوريّة تحصل حتى مع العلم بعدم إرادة المتكلّم لتفهيم المعنى الحقيقي وانها تحصل حتى في حالة تعذّر الإرادة من المتكلّم كما لو كان نائما أو كان من العقلاء.

وبهذا يتّضح الفرق بين الدلالتين وانّ الدلالة التفهيميّة منوطة ـ بالإضافة الى العلم بالوضع ـ بكون المتكلّم عاقلا ملتفتا لما يقول ، إذ لا يتعقّل إرادته للتفهيم لو لم يكن يدري ما يقول.

ثمّ انّ استظهار إرادة المتكلّم لتفهيم المعنى الحقيقي من اللفظ منوط أيضا بعدم نصبه لقرينة متصلة على عدم الإرادة وإلاّ فمع نصب القرينة المتّصلة على عدم الإرادة لا ينعقد لكلامه ظهور في إرادة تفهيم المعنى الحقيقي ، وهكذا لو احتف الكلام بما يصلح للقرينيّة فإنّه لا ينعقد حينئذ لكلامه ظهور في إرادة تفهيم المعنى الحقيقي ، نعم ، لو كانت القرينة منفصلة فإنّها لا تمنع من انعقاد الظهور في إرادة تفهيم المعنى الحقيقي بل ولا تهدم الظهور الاستعمالي بعد الاطّلاع عليها.

وبهذا اتّضح انّ الدلالة التفهيميّة دلالة حاليّة سياقيّة مستفادة من ملاحظة حال المتكلّم وانّه عاقل وملتفت.

١١٨

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ الدلالة التفهيميّة منوطة بثلاثة أمور :

الاول : علم السامع بالوضع ، وهذه هي الجهة المشتركة بينها وبين الدلالة التصوريّة.

الثاني : أن يكون المتكلّم عاقلا وملتفتا لما يقول.

الثالث : أن لا يكون المتكلّم قد نصب قرينة متّصلة على عدم إرادة المعنى الحقيقي وأن لا يكون الكلام محتفا بما يصلح للقرينيّة على عدم إرادة التفهيم للمعنى الحقيقي.

وتسمى هذه الدلالة بالدلالة التصديقيّة الاولى ، لانّها توجب إذعان السامع بإرادة المتكلّم لتفهيم المعنى الحقيقي ، كما تسمى بالدلالة الاستعماليّة لانّها تعبّر عن انّ المتكلم قد استعمل اللفظ لغرض تفهيم المعنى.

* * *

٣٤٢ ـ الدلالة الجدّيّة

هي الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهي لا تتعقّل إلاّ في الجمل التركيبيّة التامّة ، وأمّا الجمل التركيبيّة الناقصة فلا تكون الدلالة معها دلالة جديّة بل تتمحّض دلالتها بالدلالة التصوريّة والاستعماليّة ، فحتى لو كان المتكلّم جادا في اخطار المعنى وتفهيمه للسامع فإنّه لا يقال عن ذلك دلالة جديّة ، فإنّ كلّ مريد للتفهيم جاد في ذلك ، فالدلالة الاستعماليّة التفهيميّة دائما تكون بنحو الجد إلاّ انّه لا يعبّر عنها بالدلالة الجديّة وانّ هذا الاصطلاح مختصّ بالدلالة التصديقيّة الثانية ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « الدلالة التصديقيّة ».

* * *

٣٤٣ ـ دلالة السكوت والتقرير

البحث في المقام عمّا هو مدلول سكوت المعصوم عليه‌السلام أو تقريره ، وبيان ذلك :

إنّ المعصوم عليه‌السلام قد يشاهد أمامه موقفا عمليّا خاصّا أو عامّا فيصرّح برأي الشريعة في ذلك الموقف ، فهنا تكون الدلالة على الحكم الشرعي من

١١٩

قبيل دلالة الدليل الشرعي اللفظي.

وقد يشاهد أمامه ذلك الموقف فلا يبدي تجاهه بأيّ تصريح لا سلبا ولا إيجابا بل يسكت عنه ، وهذا هو محلّ الكلام إذ يقع البحث عن دلالة سكوت الإمام عليه‌السلام عن ذلك الموقف على الإمضاء ، وأنّ ذلك الفعل يتناسب مع الغرض الشرعي أو لا ينافيه.

وقد استدلّ على ذلك بدليلين ، الأوّل منهما عقلي ، والآخر استظهاري :

أمّا الدليل العقلي :

فقد ذكر له تقريبان :

التقريب الأول : إنّ المعصوم عليه‌السلام لمّا كان واحدا من سائر المكلّفين ، فهذا يقتضي مسئوليّته عن النهي عن المنكر لو كان الفعل الذي شاهده منافيا للشريعة ، إذ أنّ النهي عن المنكر واجب على كلّ مكلّف ، والمعصوم عليه‌السلام لا يترك واجبا بمقتضى عصمته ، فعدم ردعه عن ذلك الفعل يستلزم عدم منافاة ذلك الفعل لما عليه الشريعة ، وهذا هو معنى دلالة السكوت عقلا على الإمضاء ، وكذلك يجب على المكلّفين تعليم الجاهل ، فلو لم يكن ما شاهده عليه‌السلام موافقا لما عليه الشارع المقدّس لنبّه على ذلك كما هو مقتضى عصمته ، إذ أنّ المعصوم عليه‌السلام لا يترك واجبا ، فعدم تنبيه الإمام عليه‌السلام على منافاة الفعل الذي شاهده لما عليه الشريعة يكشف عقلا عن عدم المنافاة.

وهذا التقريب ـ لو تمّ ـ فإنّه منوط بإحراز توفّر شرائط النهي عن المنكر حين مشاهدة المعصوم عليه‌السلام لذلك الموقف ، ويمكن التمثيل للصورتين بمثالين :

المثال الأوّل :

إنّ المعصوم عليه‌السلام لو شاهد رجلا يشرب العصير التمري ومع ذلك سكت ولم يردعه ، فإنّ ذلك يكشف عن عدم حرمته ، وإلاّ كان على الإمام عليه‌السلام بمقتضى وجوب النهي عن المنكر أن يردعه ، إذ أنّ عصمة الإمام عليه‌السلام تمنع من تركه للواجب.

المثال الثاني :

لو شاهد الإمام عليه‌السلام مكلّفا يمسح

١٢٠