الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

حيدر المحلاتي

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

المؤلف:

حيدر المحلاتي


الموضوع : التراجم
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-185-0
الصفحات: ٣٤٤

(فسلاح الإيمان أمضى سلاح)

أنت فيـه علـى سلامة نفس

حلمــك العبقري يمتار فـينا

عاطفات ما بين عـود وكأس

شاعر أنـت أي بستان حـب

ليس فيه لديك أجمل غـرس

بضّعت قـلبك التجاربُ حتـى

أنهلت منـه كل رطب ويبس

لا تقل ـ والضحى وليد أمانيـ

ـك ودنياك في مطالع اُنس :

( ان ليلي البهيم مـن غير نجم

ونهاري المغيم مـن غير شمس )

لك يا فـارس الحمى وثبـاتٌ

وثبـاتٌ ما بين عـرب وفرس

أنت الف الضمير عن كـل الف

وطليق الشعور من غيـر حبس

وكتـاب الحيـاة أنت معـانيه

النشـاوى وأنـت أبلغ درس

أنت بالفكر ـ لا بعينيك ـ فذٌ

تسبـر الحادثات طرداً لعكس

كم على الدرب عبقري طموحٌ

يتحـدى الدُنـا بقوة حدس

وعلى أيكـة الهوى كم تغنّـى

عنـدليب بألسن لك خـرس

ان تعـريت من يراع وطـرس

لا عدمت الشعاع من امّ رأس

مكتب النفس ما يضـمّ فـؤادٌ

من علوم ـ لا ما يُضم بطرس

قيم الورد بالعطورـ ومعنى اللفظ

لا اللفظ ـ من بحوثي ودرسي

أنـا أنكـر الحقيقـة فيمـا

تدعيه ان كنت أعرفُ نفسـي

انّ للعيـن فـي الحيـاة مجـالاً

غيـر ما للسماع في كل جنس

فهماـ ان صدقتُ ـ نبعا شعور

وجناحاه في مجـالات حـس

غيـر انّ القضـاءَ وهو حـكيمٌ

عـادلٌ ، منصفٌ ، بكل مجسِّ

لستَ فـي محنةِ الظـلامِ وحيداً

يا مديرَ الكؤوس من غير كأس

ألف نـفس لـم تدرِ أينَ هداها

وعلى الأُفق ألفُ شمس وشمس

* * *

٣٠١

ضارب العـود أنت في كل دورٍ

مرهفُ الحس حيثُ تغدو وتمسي

القوافـي اللطافُ منبت طهـر

لا اُصيبَ الرجـاءُ منهـا بيأس

لحظـةٌ تـوقظ المشـاعر فيهـا

هـي دنيـاك عنـد شيخ وقس

واعتـدادٌ فـي النفس أبلغ زادٍ

فـي طريـق الحياة للمتـأسي

انّ أضـلاع كوخك المتـداعي

دونه القصر مـن حديد وكلس

خـل عنك العتاب فهو شجون

كل فـرد منـا مصـاب بمس

وقلـيلٌ مـا هم أخلاء صـدق

جُبل الناس مـن صخور وجبس

وضحـايا الوفاء تُـرمى بعشـرٍ

حين ترمى ان كنت تُرمى بخمس

زرعوا صبرهم وخـاطوا ثيـاباً

من حنانٍ وعـاشرونـا بأنـس

ياعريشاً قد اعتصرنـا زمـانـا

من عنـاقيده حُميّـا التـأسي

تحت أغصـانـه تفيـأ قـلبٌ

حائرٌ ينشـدُ الـرجاء بـهمس

لغـة الروح كم تحـدّر عنهـا

(كلُ معنىً من العواطف سلس)

في سماء الخيـال لـحظةُ فـكرٍ

يبحث السر بيـن سعد ونحس

وكما قلتَ ـ فالسعادة وهمٌ ـ

طالعته العيون مـن غيـر لمس

كيـف تُرجى سعـادة لأُنـاس

بين نـابٍ مـن الشقاء وضرس

وإذا كنت فـي خصوبة ذهـن

( وجَنان صلد القوى غير نكس )

وإذا قـلت في لسـان القـوافي

( ان يومي بالأجر يفضل أمسي )

فــعلامَ البكـاء والليـل زاهٍ

وعـلامَ الـرثاء من غيـر تعس

انّ قلبـاً يـعيش غرّ المعـانـي

كيـف تطوي علاهُ ظلمةُ رمس

عش مع الفجر في جناح الأماني

ومع الشهب بـابتسامـة عرس

وإذا اظـلم الفضـاءُ بعيــن

لك فالقلبُ مُستهـلٌ بشمس (١)

__________________

١ ـ مجلة الموسم : العددان ٢ ـ ٣ ( ١٩٨٩ م ) ، ص ٧٠٨ ـ ٧١٠.

٣٠٢

البصر والبصيرة

د. حازم سليمان الحلي (١)

صائغَ اللفظ انّ حبسك حبسي

أنتَ مـا بيننا ولست بمنسي

أنت فينا فكرٌ يُنيـر الديـاجي

ويراعٌ يجـري على كل طرس

أنت فينا شعـر يفيض حمـاساً

هو خلوٌ مـن كـل عيب ولبس

كنت في أحلك الظروف جريئاً

لم تكن خائفاً ولـست بنكـس

يا سجيناً في المحبسين وقاك الله

من كـلِّ مـا يجـرُ ليــأس

مـا عهدناك في الخطوب جزوعاً

أنتَ في الحادثات صاحب بأس

فتفاءل ولا تقـولن : (عنـدي

ألف بابٍ قد دقّ بالشؤم جرسي)

وغـريبٌ منـكَ التشـاؤم حتى

لـو تنقلت بين حـزنٍ وبـؤس

و لست الـذي تسلحت بالإيمان

والصبـر قلت درعـي وترسي

أين هـذا مـن ذاك يا من تغنّى

بالقوافي تـزهو على كلِّ غرس

فاجتماع الضديـن ذاك محـالٌ

أثبتته الأحداث مـن غير درس

أفتنسى بـأن دنيـاك كانـت

وستبقى مـا بين سعدٍ ونـحس

كن شكوراً إذا أصـابك سعـدٌ

وصبـوراً إذا ابـتليت بـتعس

إنْ ليـل الأحزان يفضي لصبحٍ

وسفيـن الهموم لابُـدّ تـرسي

__________________

١ ـ حازم سليمان الحلي ، أديب وشاعر واستاذ جامعي. من آثاره : « ديوان شعر » ، و« القراءات القرآنية بين المستشرقين والنحاة ».

٣٠٣

إنّ هذا الذي تـراهُ غـريباً

وجديداً مـن صابر متـأسي

سلبتـك الأيـام أثمن شـيءٍ

ثم أبقت لـديك أرهـف حسِّ

كم بصير تراه أعمى ، وأعمى

هو هادي سواه يضحي ويُمسي

ربما عـاش مـبصرٌ بشقاءٍ

ويبيت الأعمـى بـراحة نفس

أو ما تسمع المنـادي يناديك

بصوتٍ شقّ الدجى لا بهمس

(أنـت بالفكـر لا بعينيك فذٌ

تسبر الحادثات طرداً لعكس )

إنّما هذه الحيـاة استقامـت

لأنـاس لا يشتـرون بـفلس

أنت من معـدنٍ ثمين كـريم

وسـواك الـذي يبـاع ببخس

فعقيـق هـذا وذاك رخـامٌ

ولجينٌ هـذا وذا مـحض كلس

كثر الزيف ( والـوفاء قليـل

في زمانٍ خالٍ من النبل جبس )

وحديث الوفـاء فيه شـؤون

ان تخضها فقد تصـاب بمسّ

ان تحدث عنـه يجبك حـكيم

( أنا جربت مـا تقول بنفسي )

منذ عشر هذا مـصاب بهجر

ويعـاني منـه وذا منـذ خمس

* * *

صائغ اللفظ أنت تسكن بيتـاً

قد تسامى فخراً على كل رجس

( فوق مهدٍ من الخشونة بـالٍ

وتـراه أريكة مـن دمقس )

هذه منتهى السعـادة عنـدي

لا تقـل انني أعـيش ببـؤس

راهب الدار أنـت فوق حصير

هو عندي أجلّ من ألف كرسي

وأعـد قولك الجميل علينـا

فله في نفـوسنا خيـر جـرس

إن ذهني خصبٌ وذوقي سليمٌ

وجناني صلد القوى غير نكس (١)

__________________

١ ـ مجلة الموسم : العددان ٢ ـ ٣ ( ١٩٨٩ م ) ، ص ٧٠٦ ، ٧٠٧.

٣٠٤

الفرطوسي شاعر الفضي

الشيخ جعفر الهلالي

نعت الفضيلة للـورى انسانَها

وغدت تقرِّح بالأَسى أجفـانها

وتجاوبت دنيا الصلاح بصولةٍ

مذ غادرت كفُّ الردى عنوانَها

ومرابع التقوى تكـدّر صفوها

لمـا تغيّبَ من يـزين مكـانها

ومعاهد العلم اكتست حلل الأسى

وعـرى المصاب بهوله سكانها

خطبٌ تصـدَّعت القلوب لوقعه

ألمـاً فأبـدت عنده أشجـانها

فـي كلِّ آونـةٍ نـؤبنُ مـاجداً

حُـرّاً أشاد مـن العلى أركانها

وكـذاك شـأن الحـادثات فإنها

حـربٌ تُصوِّب للكمـي طعانها

* * *

( أأبا الحسين ) لنا بذكرك لوعة

تبقى توجِّج في الحشى نيرانها

مـا زلت حيّاً فـي علاك مخلّداً

ستعيد فيك لنا الحيـاة جُمانها

والمـرءُ تحييه الخصالُ حميدةً

وتشيـد في العقبى له بنيانهـا

قد كنت فيما بيننا حسنَ اللقا

سهـل الخليقة قد كسبت رهانها

عشت الطهارة والعفاف سجية

مـا غيّرت مـدد لهـا ألـوانها

متواضع وهي الحصيلة للأُولى

علمـوا ولـم يتطلبوا عنـوانها

ومهذب فـي القول تألف صدقه

والنفس يظهـر صِدقُهـا إيمانها

__________________

١ ـ هذه القصيدة وما يليها هي في رثاء الشيخ الفرطوسي.

٣٠٥

فختمت عمرك والصـلاح قرينه

وهناك في الاُخرى تحـلّ جنانها

* * *

يا شاعراً مـحضَ الولاء لأحمدٍ

ولآلـه يرجو به رضـوانَـها

كم قد نظمت فريدة يحدو بهـا

حـبٌّ لآل المصطفى قـد زانها

غرر تقطّعُ مـن فؤادك صغتها

درراً تعيـد علـى الورى ألحانها

وخلاصة الأعمال (ملحمة) أتت

في عدِّهـا نشأت بـه أقرانـها

ضمنتهـا سيراً لهـم ومنـاقباً

ومآثراً فيهـا جلـوت بيـانهـا

ولتلك منك ( الباقيات ) ذخيرةً

أعددتهـا توفـي بهـا ميـزانها

لله دَرُّك بـاسمها أحــرزتـه

فخراً يطاول في العلى كيـوانها

* * *

والشعر يسمو عنـدما يسمو به

قصد يحقّـق للنفـوس ضمـانها

وأراه ان فقـد الـولاء فـإنّـه

زبـد البحار رمت به شطـآنها

ما الشعر إلاّ في الألى سبقوا الورى

بفضائـل ألفت لها اذعـانهـا

(آل الرسول ) وخير من وطأ الثرى

من صاغها ربُّ العباد وصانهـا

تمضـي السنون وذكرها متشعشع

كالنيرات استوعبت أزمـانهـا

هتفت بفضلهم السماء وكبّـرت

عِظماً وفيهم أنـزلـت قـرآنهـا

سعد (الكميت) و (دعبل) في مدحهم

فحبتهما الاُخرى بهـا رضـوانهـا

يا ربِّ زدنـا فـي الولاء محبّـة

فيها ترينـا عِـزَّهـا وأمـانهـا

* * *

والساسة العملاء كنت عليهم

سـوطاً تـزيد عذابها وهوانها

ألمستهم من حرِّ قولك جمـره

مـثل الصواعق أرسلت نيرانها

٣٠٦

أنكرت مـا قـد أحدثوا من منكرٍ

بفعالهم فـي كلِّ ما قـد شانها

وبذاك قـد جاهدت شـرّ عصابة

ورميت بـالسهم المصيب جنانها

ما أقعدتك لضعفهـا شيخوخـة

عن وقفة فرضَ الاله مكانها (١)

__________________

١ ـ ديوان الهلالي ، مخطوط.

٣٠٧

الغربة

السيد مدين الموسوي (١)

على رؤاك خيالٌ صـادقٌ عذبُ

وفي خطاك لهاثٌ نـازفٌ تعِبُ

وبين جنبيك صوتٌ رحت تحبسه

ما استوعبته السطور الحمر والكتبُ

وفي ضلوعـك أشياءً تضيق بها

أرضٌ وأنت عليها الحملُ والطلبُ

فبيـن دنياً تراها وهـي كاشفةٌ

أمام عينيك مـا يخفـى ويحتجب

وبين مـا كنت تصبو نحو وافره

من الحيـاة بمـا تعطي وما تهبُ

لألف دُنيـاً تراهـا وهي عامرةٌ

لفيض روحك ، تدعوها فتنجذبُ

حتى تلّمستَ وجه الحق ترسم من

خُطـاهُ وَثْبَتَهُ الكبرى وتحتـرب

ياشاغل الناس والدنيا تضيق بـه

بحـراً من الأدب الفوّار يضطرب

أنّـى تلفّتُّ ألقـى منك بارقـة

تخافُهـا الظُلمُ الخـرقاءُ والحجبُ

وما تجلجل في سمعي صدى أدبٍ

حـرٍّ تـردده الأجيال والحِقَـبُ

إلاّ وكنت علـى أوتاره نغمـاً

عذباً ومنـك على أكوابـه حَبَبُ

* * *

ياملتقى الرافدين الخصب منبتُهُ

له علـى جـدب مطلعٌ خصبُ

نظمت عقد عيون الشعر فانطفأت

عيناك إذ رفّ من إيحائها الهُدُبُ

__________________

١ ـ مدين الموسوي : شاعر عراقي ولد سنة ١٩٥٧ م. من دواوينه الشعرية : « أوراق الزمن الغائب » ، و« الجرح يالغة القرآن » ، و« لهم الشعر » ، و« كان لي وطن ».

٣٠٨

وعدت أبصرَ ممّا كنت يقدحُ في

عيونك الشرر الأخّاذُ والشهُـبُ

حتى أذبْتَ من الأوزان معـدنها

وصغتهـا حليةً ما مسّها عطبُ

وخضعتَ قعرَ بحار الشعر لا حذرٌ

أودى بما كنت تـأتيه ولا تَعَبُ

لتصطفي من عيونِ الدُّرِّ أروعها

حتى تُصاغ عليها الحليـةُ العَجبُ

لئـن فقدتَ بريق الدرِّ في بصرٍ

وأُسـدلتْ دونَ ما تختارُهُ حُجُبُ

ففي يراعك قـد أوقدتها شُعـلاً

من كلّ حرف يفيض النور واللهبُ

أغاضك الدهرُ فاستشرى بك الغضب

أم ضاقَ ذرعاً بما تُعطي له الأدبُ

أم الـزمان الذي ما كـنت تأمُنهُ

سمّاً تقطّر منـه الـرأس والذَنَـبُ

إني عهدتُك لا تلوي على مضَضٍ

جيداً وإن نَفَحَتْ أوداجُهـا النَوبُ

ولا تلوذُ بظلّ العمـر تحـرص أنْ

ترى سنينـك لا يغتالُها النصـبُ

وبعد ما ضاقَ وجه الأرض واختنقت

صدور قومٍ غزا أحشاءهـا النهبُ

ولم تعد أنت من قيسٍ وقد بـرئتْ

منه الذمام وحُـلّ العقـد والنسب

أبيت يغرف من شطيك ما قصرت

عنـه الجـداول سقياً حين تُحتَلبُ

* * *

ما للغريب أراه ضاع فـي زمن

فجّ يصول به مَنْ لونُـه الوشب

غامت بعينيه آفاق ففـاض بهـا

روحاً يلاحقا الاعصار والسُحُبُ

نأى عن الوطن المأسـور تمسكه

يـدُ الحنيـن فتدنيـه ويقترب

وان ترحّل عن أرضٍ يرفّ بهـا

جُنحاه مُذ بان في أطرافه الزَغَبُ

أو غاب عن أرضه في غربة بدناً

فروحـه كجذور النخل تنجذب

إلى العراق إلى الأرض التي ولدت

من بعد عسر مخاضٍ كلَّ من وهبوا

* * *

ما كنت أعجبُ من كفٍّ تجود بها

ودونهـا البحر إذ يُدعى ويُنتَدب

٣٠٩

ومـا أثار شجـوني أنّ غـائمـةً

مرّت بعينيك قد حلّت بها الكرَبُ

لكنّ أغـرب مـا دوّنت من ألـمٍ

على القلوب وما غصّت به النُدُبُ

بأنّ ما صغت مـن وحيٍ ومن أدبٍ

جـمٍّ تضجّ بـه مـن حُرقةٍ كتب

ما عـاد يكفيك من أوصالـه كفناً

إذ لامستك صفاحُ القبر والتـرُبُ

ولا نعتك حروف الشعر أو صرخت

لك القوافي ولا غنّـى لك القصبُ

فمتَّ وحدك لا الأرض التي وسعت

خطاك ضمك منها صدرها الرحبُ

ولا الذين وهبـت النـور أعينهم

سعـوا إليك ولا أندى لهم هدب

يالوعـة الأدب المفجوع فـي زمن

أرقُّ مـا فـي رؤاه أنهـا خشبُ

إنـي تيقّنت لمـا عـدتَ مغتـرباً

أن كلُّ فـادٍ بهذا العصر مغتـربُ

يـا واهباً لعصـارات الندى ألقـاً

يفيض من دمه القانـي وينسكبُ

ويا منيـراً دروبـاً شُـحَّ سالكهـا

وقد تردّم فيهـا الحـاذق الأربُ

ويـا خدين غبـار الحـرب تحسبه

ليل الهوى حينما تزهو بـه شهب

أرِح ركابك أنّى شئت مـن تعب

أما يـريحيك إلاّ الحـزن والتعب

ولا تـروّيك إلاّ الكـاس مترعـةً

من الأسى واللظى المهراق والنوبُ

وما وجدت إلـى جمر الهوى سبباً

إلاّ وجـرحك في اطفائـه سببُ

لمن بسطت يداً تكتال عـن جـدةٍ

وما يـزيد ففيه الكيـل ينقلـبُ

الشُحُّ أكـرم إذ يُعطى لمـن جحدوا

والترب أولى لمن لم يغنـه الذهب

والنخـل إن عميتْ عيـنْ لمنبتـه

فكيف يقطف منه العذق والرطبُ

* * *

ما قيمة الأدب الهدّار يـرفل في

ثوبٍ حريرٍ زهت ألوانه القُشُبُ

تُثيره مـن قيانِ الدلِّ راقصـةٌ

وفوق شدقيه كأس للهوى عذبُ

٣١٠

أو قيمة الأدب الأخّـاذ تُلقمــه

يـد السـلاطين لا يدنو لـه سغبُ

يُلقي عصا السحر كي تعشى بصائرها

قوم فتصنع مـن أشكالهـا لعـبُ

بـل قيمـة الأدب المعطاء تلفظـه

أسنـةٌ في الوغـى كالجمر تلتهبُ

وقيمــة الأدب الهـدار يحبسـه

ثقل القيـود تثنّت تحتهـا الـرُكَبُ

وقيمـة الأدب الـفادي يـلاحقـه

سوط الحكومات وهو الجمر والغضبُ

عيونـه كعيـون الليث سـاهـرةٌ

حتى وإن نـام لا يغفو لـه هـدب

وقيمـة الأدب الأخّــاذ ملبسـه

دمـاؤه كخضاب السيـف تختضب

وحيـثُ تنهـالُ أصـواتٌ مزورةٌ

يشرّع الزيـف من أصدائها صخبُ

نضـا كرفةِ سيف بـارق رعـدتْ

بـه قوائمه فـانجابـت الـحجبُ

يأتي كمـا الوحـي يُعطي من نبوئته

نـوراً فتنثـر أضـواء وتـنسكبُ

وإن تردد وحـيٌ فــي مهمتـه

فمـا هنالك لا وحـيٌ ولا أدب (١)

__________________

١ ـ مدين الموسوي : كان لي وطن ، ص ٩٩ ـ ١٠٦.

٣١١

رثاء اُمّة

الاستاذ فرات الاسدي (١)

( ضياء الدين فرج الله )

كُتبتْ هذه القصيدة التي اُثبِتَ بعضُها ـ هنا ـ رثاءً لاُمّةٍ من الشعر كان الفرطوسي يختصرها ، وقد حاول شاعرها ابّان ذلك عام ١٤٠٤ هـ ان يرسلها الى النجف الأشرف عزاءً لأحد أصفياء الفرطوسي المعدودين ممّن يعتبرونه ( ذخراً مذخوراً للنجف والتشيّع ) على حدّ ما سمعتُه منه كراراً عديدة ، ذلك هو خالهُ الفقيد العلاّمة الأديب الشيخ عبد الرحيم فرج الله ( غير عالمٍ حينها انّه سبقه إلى لقاء ربّه ) .. فإلى ذكراهما العطرة مجتمِعَين هذا الهديل الموجوع :

حلبـةَ الشعرِ والمـدى مستثيرُ

كيف يكبـو بكِ الجـوادُ المُغيرُ

كيف يُدمي خطاه شوطٌ ويهوي

فـإذا المجـدُ والحفـاظُ عفيـرُ

وهو ما زال ـ صاعداً ـ كرؤى

النجم ـ مُغذّاً ـ كما يغذُّ النورُ

قـابساً من يـد الضحى عنفواناً

شدَّ جنحيهِ مشـرقٌ مسحـورُ

ولقـد أعجَـبَ الميـادينَ منـهُ

مطمـحٌ ثائرُ العنـان جسـورُ

فاتَ كلَّ الجيادِ فـي السبق حتى

ملأ الأمـسَ رَهْجُـهُ المستطيرُ

ومضـى ينهـبُ السنينَ أصيلاً

والقـوافي جنـاحُـهُ المنشـورُ

ثـمّ غالتْهُ ـ ويلَها ـ غـربـةُ

العمـرِ وألوى به المطافُ الأخيرُ

__________________

١ ـ فرات الأسدي : شاعر عراقي وُلِدَ سنة ١٩٦٠ م. من دواوينه الشعرية : « ذاكرة الصمت والعطش » ، و« صدقت الغربة يا ابراهيم » ، و« النهر وجهك » ، وأعمال شعرية وأدبية اُخرى.

٣١٢

والمروءاتُ بعضُ مـا حملتْها

غـايـةٌ حـرّةٌ وروحٌ كبيـرُ

واصطبـارٌ على الهموم وقد أطبقَ

يأسٌ وارتاعَ ـ ثَمَّ ـ مصيرُ

غمـرةٌ تنجلـي واُخرى يكـادُ

النوءُ يُلقي ـ ما حُمّلتْ ـ ويثورُ

وحكـايـا هي النهـارُ وإن

أطفـأَ ـ خزياً ـ لألاءها شرّيرُ

خطرتْ في فم المغيبِ وسالتْ

فتنـدّى ضـوءٌ وشـعَّ عبيرُ

* * *

يا أبا الفكرةِ الجـريئة ، والصبوة

، والحب ، والشجا إذ يمورُ..

طافَ في كلّ خاطرٍ منك لحنٌ

عبقريٌّ واختالَ حرفٌ نضيرُ

وهمـى مـن مواسـمِ الشعـر

شلاّلُ قـوافٍ فَيْنـانةٍ .. وغديرُ

وتهـادى السمّارُ يستـرقـونَ

الكـأسَ إذ كلُّ رشفـةٍ إكسيرُ

و( عليٌّ ) يمدُّ صوتك بالنُعمـى

ليلقـاه وجهُـك المحبـورُ

ويفيءَ النبوغُ تـحت ظـلالِ

الخلد ِ ، والخلدُ حُلْمُـهُ مـأسورُ

أطلقتْهُ عينـاكَ إذ آنَس الطـورَ

جَنـانٌ ، وتـاهَ طرفٌ بصيرُ!

* * *

نازحَ الدارِ .. هل تلَمَّستَ حزناً

وجهَها .. إنَّ وجهَـها مذعـورُ

والحمـى المستباحُ أودعتَ فيه

جمـرةَ الشوق أم لظاهـا نثيرُ

أمطرتْـهُ على الفـراتين كفٌّ

لـكَ شاءتْ ان تستقيها البحورُ

وعلـى كـل نخلـةٍ بَوْحُ لُقيا

وطيوفٌ وسنـى وهمسٌ كثيرُ

والصدى خلف غابةِ الدمع ينأى

وهو في القلب منك نبضٌ جهيرُ

كـم وعتْه الأسماع ذكرى حداءٍ

بدويٍّ .. وكـم رعتْه الصدورُ

وفدتْهُ لـو انَّ بالعمـرِ يُفـدى

اُمّـةٌ مـن نـشيـدهِ تستنيـرُ

ثم منّتْ به المحـافلُ أهـليهـا

وقالت : عـلَّ الـزمانَ يـدور

٣١٣

واستفاق الغريُّ يوماً وطـرفُ

الشعر عن (راحلِ الخليج) حسيرُ

* * *

فـإذا إلفُـهُ يعـود إليــهِ

ذاتَ يومٍ .. وتصطفيه القبـورُ

نَـمْ هنيئاً كالنبعِ يـا خِدْنَـه

الأوفى فقـد طابَ مبدأٌ ومصيرُ

وترشَّفْ .. فكـوثرُ الحبّ أدنى

لك أقداحَهُ الـولاءُ الطهـورُ

أيَّ مأوى جـوار ( حيـدر )

يشتـاقُ ثراه المبـرَّح المهجورُ

الغريبُ .. الذي أرابَتْـهُ أرضٌ

أنكرتْ نبتَهـا .. وطال النكيرُ!

فبها كـل مرتعٍ عـادَ جدباً

بعد ان غاله اللظـى والهجيرُ

وعزاءً يا (خالُ) في نجف الحزنِ

فقد ماتَ (ذخرُكَ المذخورُ )! (١)

__________________

١ ـ اُلقيت هذه القصيدة في حفل تأبيني ونُشرت حينها كاملةً في إحدى الصحف ، وزودني بصورتها الحالية الشاعر نفسه.

٣١٤

اذهب إلى عزّ الجنان

هاشم الموسوي (١)

أشجـى القلوب بحرقةٍ وتـألّم

وأسال دمع العين ( عبدالمنعـمِ )

جبل هوى فأثار عـاصفة الشجا

لله مـن قلب ثـوى في أعظُـمِ

لله من نبع تـدفّـق سـاقيـاً

جيلَ النهوض بسلسل بْردِ الظمي

لله إيمـان يعــانقـه العـلا

قد شيّعــوه بحسرة وتضـرّمِ

حمل المصائب وهـي جدُّ عظيمة

في خير خـافقة وصبر أعظـمِ

إيمـانـه الوضاء كـان دليلـه

نحو الصراط المنقـذِ المتقــدمِ

قد سار في درب الهدى متبصّراً

لم يلتفـت يوماً لنهـزَة مغنـمِ

ومقدِّماً بين اليدين ذخــائـراً

للـحشر يوم الامتحان المعلـمِ

ولقد أبـى إلاّ الوقوف مع الإبا

والحقِّ وقفـةَ مستنيـر مُقـدمِ

وأنـار إيمــان التقـاة بهمّـةٍ

متجاوزاً درب القتـاد المـؤلـمِ

وشـدا لآلِ المصطفـى متقلّـداً

آتي الـولاء مُطـوِّفـاً كمتيـمِ

ان قال شعراً فالقلوب خـواشعٌ

نشوى لهـذا المنشد المتـرنّـم

أو قال نثراً فـالنفوس بـواسم

تهفو لهـذا المـؤمـن المتكلّـمِ

وأطار فيهم نيّـراتِ نجـومـه

سحراً وما كلّ النجوم بـأنجـمِ

آياتـه فيهم بملحمـة الهـدى

مفتـاح جنّـات النعيم المُلهـمِ

هي من عيون الشعر ، صيغَ نسيجُها

مـن مـاء قلب بالمحبّة مُفعَـمِ

__________________

١ ـ هاشم الموسوي شاعر وأديب من الامارات العربية المتحدة.

٣١٥

كم قد حوت علماً وجاء دواؤها

كرداء تقـواه ، بعـزم مصمِّـمِ

وجنت بلا شكٍّ رضـاءَ محمّـدٍ

والآلِ إذ هي للأطايـب تنتمـي

ياعيـنُ جودي بالبكاء لفقـده

جـوداً ينهنـه عن عظيم تألمي

فلقد أُصبنا في الصميـم بيـومه

والحزن واصل مأتـماً فـي مأتـم

لم لا نصبّ الدمع حزنـاً بعده

لم لا يفيض القلب من طفح الـدمِ

و (أبو الحسين) حبيب أطياب الورى

فـي صمتـه ومقـاله المتفهّــمِ

لم يبتعد عنـه التواضع لحظـةً

كلاّ ولم يعـرف خصـال تبـرّمِ

خُلُـق الكريم سلوكـه ومبـادئ

للعلم والأدب النـديِّ الأقَــومِ

قد جاءني نعـي علـى بعد المدى

مـا خلته إلاّ التبـاس تـوهّـمِ

قد حزّ في نفسي رحيلك واغتـدى

كالطـود ظل في الخواطر يرتمـي

وتبادرت صور حفـرت جذورها

في القلب ، تعثر بالخيـال المؤلـمِ

ولأنـت أكبـر من رثـائي إنّمـا

حمل الرثـاءُ تصدّعـي وتضـرّمي

ماضيك أحلـى ان ألـم بـوصفه

في طهره وجـلالـه المتسنّــمِ

ولئـن تنقّص جاهل من قـدركـم

فالشمس ليست في يـدي متهجّمِ

أو إن تجاهلكم طغـاة زمـانكـم

فـالحقد يودي بالحقـود المجـرمِ

أنتم على رغم البغـاة مكـانكـم

شرف القلـوب وقَبْسَـةُ المتعلّـمِ

من عطركـم فـاضت محـافل عزّة

هي في الضمائر كالضحى المتبسّمِ

تلـك العهود مـع الزمان مسيـرها

ضوءٌ بأحنـاءِ الطـريـق المُعتـمِ

تـرنيمـة بفــم التقـاة لأنهـا

مـن صُنـع قومٍ قـائمين وصُوَّمِ

لا الدهـر يسلينـا مواجـع فقدكم

كـلاّ ولا آسٍ بــرقية بَلْسَـمِ

فاذهب إلى عـزّ الجنـان وسحرها

حيـث الخلود ويـالعظم المغنـمِ

يلقـاك بــالبشـر النبيّ وآلُـه

فيهـا ، جزاء ولائــك المتقـدّمِ

٣١٦

وتقرّ عينـاك اللتـان تقـرّحا

فيهم ، بـكل تلـذّذ وتنعّـمِ

وترود فيهـا مجلسـاً لمحمّـدٍ

والمرتضى والآل نعـم الأنجمِ

وتكون فيها فـي جـوار أحبّةٍ

كانوا أمـاناً للمحـبّ المُغـرمِ

هـذا جزاء الصالحين ففز بـه

ما فزت إلاّ بالنعيم الأعظـمِ (١)

__________________

١ ـ مجلة الموسم : العددان ٢ ـ ٣ ( ١٩٨٩ م ) ، ص ٧١٧ ، ٧١٨.

٣١٧
٣١٨

الملحق رقم (٤)

مستدرك أشعار الفرطوسي

٣١٩
٣٢٠