الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

حيدر المحلاتي

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

المؤلف:

حيدر المحلاتي


الموضوع : التراجم
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-185-0
الصفحات: ٣٤٤

٥ ـ شعر التأريخ (١)

إن شعر التاريخ من الصناعات الأدبية التي أولع بها المتأخرون. وشاع استعمالها كثيراً عند شعراء النجف لارتباطها الوثيق بالمناسبات المختلفة التي يراد لتاريخها أن يذكر ويخلد.

ولا يخفى مالهذا الفن الشعري من تكلف شديد وصنعة ظاهرة ، فهو « يتطلب مهارتين ، مهارة اعداد الجمل التي يكون حاصل جمعها موافقاً للتاريخ المطلوب ، وهي مهارة حسابية لا شأن لفن الشعر فيها ، ومهارة انتقاء تلك الجمل بحيث تحمل

__________________

١ ـ ويسمى أيضاً التاريخ الشعري ، والتاريخ الحرفي. والغرض منه ضبط تاريخ واقعة بأحرف تتألف منها كلمة أو جملة يكون مجموع حروفها بحساب الجمل يساوي التاريخ الذي جرت فيه تلك الواقعة ، يأتي بها الشاعر بعد لفظ « تأريخ » أو ما يشتق منه. ولا يعرف بالتعيين أول من استعمله في الشعر. وقد قال جرجي زيدان في كتابه ( تاريخ آداب اللغة العربية ، ج ٣ ، ص ١٢٤ ) : « انّ هذا النوع من التاريخ شائع اليوم لكنه من محدثات العصور الأخيرة. لم نقف على شيء منه أقدم من أوائل القرن العاشر للهجرة على اثر فتح العثمانيين مصر. ويظهر أنه أقدم من ذلك عند العثمانيين.

ومن أقدم ما وقفنا عليه من ذلك تاريخ فتح القسطنطينية سنة ٨٥٨ هـ. فقد أرخه العثمانيون بقولهم : « بلدة طيبة » ، وأرخ رجل آخر بناء سبيل سنة ٩٦٦ هـ بقوله : « رحم الله من دنا وشرب ». واستخدموا ذلك نظماً قبل هذا التاريخ كقول بعضهم يؤرخ وفاة « ابن المؤيد » سنة ٩٢٢ هـ بقوله :

قـل للذي يبتغي تاريـخ رحلته

( نجل المؤيد مرحومٌ ومبروك )

وأرخ شاعر آخر وفاة « محمد باشا » المقتول والي مصر سنة ٩٧٥ هـ بقوله :

قتلــه بــالنــار نــورٌ

وهو في التاريخ ( ظلمه ) ».

وللشيخ جعفر النقدي رسالة خاصة بحث فيها هذا الفن وأسماه « ضبط التاريخ بالأحرف » ، وفيها « عالج الموضوع علاجاً متيناً واستقصى تأريخه حسب إمكان بحثه واستظهر أن يكون ظهوره أقدم مما ذكره جرجي زيدان ، واستشهد بتأريخ عمله بعض الادباء للأمير تيمورلنك المغولي وقد اثابه عليه الف دينار ذهباً وذلك عام ٨٠٥ هـ وفيه تورية لطيفة ، والتأريخ هو ( الم ، غلبت الروم ، في أدنى الأرض ) « فأدنى » الأرض « ض » والغرض اسمها ضاد وهو ( ٨٠٥ ). واستشهد بتأريخ آخر أقدم منه وهو بالفارسية عند انقراض الدولة العباسية من العراق وقتل المستعصم العباسي ومادته ( خون ) ومعناه ( دم ) واعتقد ان هذا التاريخ من وضع الخواجة نصير الدين الطوسي ». ( شعراء الغري ، ج ٦ ، ص ٣٧٣ ، ٣٧٤ ).

٢٢١

خاصية العلوق في الذاكرة ، كأن تكون اقتباساً مناسباً من القرآن الكريم ، أو اسم الشخص أو الشيء المؤرخ له ، أو تكون في اختصارها وإصابتها المعنى كالتوقيعات المعروفة للملوك والأمراء المسلمين. وهي مهارة تعتمد على ذكاء الشاعر وسرعة بديهته وسعة اطلاعه » (١).

والفرطوسي واحد من الشعراء الذين طرقوا هذا الفن الشعري إلاّ انه لم يتوسع في تناوله لشدة تكلفه وابتعاده عن الطبع.

ومن مؤرخاته الشعرية تأريخه لعمارة الروضة الحيدرية عام ١٣٧٠ هـ التي قال فيها :

روضـة قـد أشرقـت للمقل

فسقتها من شعاع الأمـلِ

جليت أعتابُهـا مـن غـرر

رصّعتها بـدراري القُبَـلِ

أرخـوها ( وهي عند الازلِ

جنة المأوى أعدت لعلي) (٢)

« ١٣٧٠ هـ »

وله أيضاً قصيدة في تجديد ضريح أبي الفضل العباس عليه‌السلام عام ١٣٨٣ هـ ، جاء فيها :

ضريحـك دون عـلاه الضراح

وأنت بـه القمـر الأعظـم

تصـاغ شبـابيكه بـاللجيـن

وبـالتبـر جبهتـه تُـرقـم

ومـن عسجد خـالص فوقهـا

قنـاديل أركانـه تنظـم...

( ضريحاً أبا الفضل ) أرخ ( به

تشـع على القمر الأنجم ) (٣)

« ١٩٦٤ م » « ١٣٨٣ هـ »

__________________

١ ـ عبدالصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص ٢٦٦.

٢ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١١٣.

٣ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٥٩.

٢٢٢

الفَصْلُ الرّابِعُ

ملحمة أَهل البيت عليهم‌السلام

٢٢٣
٢٢٤

أ ـ الملحمة لغةً ومصطلحاً :

الملحمة في اللغة بمعنى الحرب وانّما سُمّيت بذلك لأمرين : أحدهما تلاحم الناس أي تداخلهم بعضهم في بعض ، والآخر أنّ القتلى كاللحم الملقى (١).

وذكر ابن منظور أنّ : « الملحمة : الوقعة العظيمة القتل ، وقيل موضع القتال. وألحَمْتُ القومَ إذا قتلتهم حتى صاروا لحماً. وألحِمَ الرجلُ إلحاماً واستُلِحمَ اسْتِلحاماً إذا نشِب في الحرب فلم يَجدْ مَخْلَصاً ... والجمع الملاحمُ مأخوذ من اشتباك الناس واختلاطِهم فيها كاشْتِباك لُحْمةِ الثوب بالسَّدى ، وقيل هو من اللحم لكثرة لحوم القتلى فيها ... والملحمة : الحربُ ذات القتل الشديد ... والوقعة العظيمة في الفتنة ... » (٢).

وقد وردت « الملحمة » ومشتقاتها في الشعر كثيراً ، من ذلك قول الأخطل (٣) :

حتّى يكونَ لهم بالطّفِ ملحمةٌ

وبالثَّويّةِ لم يُنَبضْ بهـا وتَرُ (٤)

__________________

١ ـ ابن فارس : معجم مقاييس اللغة ، ج ٥ ، ص ٢٣٨.

٢ ـ لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٢٥٤.

٣ ـ غياث بن غوث ( ١٩ ـ ٩٠ هـ ). شاعر مصقول الألفاظ ، حسن الديباجة ، اشتهر في عهد بني اُمية بالشام ، وأكثر من مدح ملوكهم. له ديوان شعر مطبوع. ( الأعلام ، ج ٥ ، ص ٣١٨ ).

٤ ـ ديوان الأخطل ، ص ١٠٥.

٢٢٥

وقول عُجير السَّلُولي (١) :

ومُسْتَلْحَمٍ قـد صكَّه القومُ صَكَّة

بعيد المَوالي ، نيلَ ماكان يَجْمَعُ(٢)

وقول القُطامي (٣) :

ولـم يستخبـر العلمـاءَ عَنّا

ومَن شَهد الملاحمَ والوقاعا (٤)

وكذلك ما ذكره أبو تمام عن لسان امرأة من بني الحارث (٥) :

فارسٌ مـا غـادَرُوهُ مُلْحَمـاً

غيّرَ زُمَّيْلٍ ولا نِكْسٍ وَكَلْ (٦)

أمّا الملحمة في المصطلح الأدبي فهي : « نوع خاص من الشعر القصصي البطولي ، الذي لم تعرف العربية شبيهاً له ، من حيث البناء القصصي المكتمل ، ومن حيث الحجم العددي للأبيات الشعرية التي تبلغ الآلاف ، ومن حيث الشخصيات التي تسمو فوق المستوى العادي للناس الأسوياء ، وتتصف بما هو من سمات الأبطال الاسطوريين ، ومن سمات الآلهة ، أو أنصاف الآلهة ، في المعتقدات الوثنية البدائية ، ومن حيث الأحداث والوقائع الخارقة التي تتخللها ، ومن حيث أنّ الوقائع الحربية التي يخوض الأبطال الملحميون غمارها ، والمآثر الخارقة التي يحققونها ، تدخل في صميم الصراع الوطني والقومي ، دفاعاً عن حقٍّ مغتصب ، وفي سبيل أن تحيا الأمة التي يمثّلونها بحرية وكرامة وهناء » (٧).

__________________

١ ـ العجير بن عبدالله ( توفي نحو سنة ٩٠ هـ ). من شعراء الدولة الأموية ، عدة ابن سلام في شعراء الطبقة الخامسة من الاسلاميين. ( الأعلام ، ج ٥ ، ص ٥ ).

٢ ـ ابن منظورة : لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٢٥٤.

٣ ـ عُمير بن شييم ( توفي نحو سنة ١٣٠ هـ ). شاعر غزل فحل ، كان من نصارى تغلب في العراق ، وأسلم. جعله ابن سلام في الطبقة الثانية من الاسلاميين. ( الأعلام ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ).

٤ ـ ديوان القطامي ، ص ٣٥.

٥ ـ ديوان الحماسة ، ص ٣١٩.

٦ ـ الزُّمَّيْلُ : الضعيف الجَبان الرَّذْل. ( لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٨٣ ). النِكْس : الرجل الضعيف. ( لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ٢٨٤ ). الوكل : العاجز الذي يكل أمره الى غيره. ( لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٣٨٧ ).

٧ ـ اميل بديع يعقوب وميشال عاصي : المعجم المفصل في اللغة والأدب ، ج ٢ ، ص ١١٩١.

٢٢٦

ب ـ الملحمة قديماً وحديثاً :

قسّم الغربيّون الشعر منذ أقدم عصوره أربعة أقسام : شعر قصصي وتعليمي وغنائي وتمثيلي. وتدخل الملحمة بقصائدها القصصية الطويلة في الضرب الأول كما تبيّن من تعريفها. « والشاعر في هذا الضرب القصصي لا يتحدث عن عواطفه وأهوائه ، فهو شاعر موضوعي ينكر نفسه ، ويتحدث في قصته عن بطل معتمداً على خياله ، ومستمدّاً في أثناء ذلك من تاريخ قومه ، وكل ماله أنّه يخلق القصة ويرتب لها الأشخاص والأشياء ، ويجمع لها المعلومات ، ويكوّن من ذلك قصيدته ، وعادة ينظمها من وزن واحد لا يخرج عنه (١) ».

ويمكن حصر الشعر الملحمي تأريخياً في ثلاث مراحل : « مرحلة التعبير عن أزمة وجودية بالنسبة الى ما وراء الوجود ، حيث المزيج من روحانية ومادية ، من عقائد وخرافات ، ومن حقائق وأساطير. ومرحلة تعبير عن أزمة اجتماعية في تنازع وجودي ، ثم مرحلة تعبير عن أزمة قومية (٢) ».

ومن هنا تميّز نوعان من الملاحم : الملاحم الطبيعية والملاحم الأصطناعية. فالأولى وهي التي تظهر في المراحل البدائية من حياة الأمم وتاريخ الشعوب ، وتصاغ بصورة تلقائية وعضوية ، ويكون ناظموها ورواتها والذين يتداولونها ، مؤمنين بما تتضمنه من ذكر الخوارق ، وتدخّل الآلهة في حياة البشر ، ايماناً مطلقاً لا تشوبه شائبة من الريبة والشك. والثانية وهي التي يصنعها الشعراء في الأزمنة المتأخرة ، وينظمونها على نهج الملاحم الطبيعية ، ومحاكاة لمضامينها واسلوبها من غير أن يكونوا بالضرورة مؤمنين بما يصفون من حوادث ، وينسجون من خوارق ،

__________________

١ ـ شوقي ضعيف : العصر الجاهلي ، ص ١٨٩.

٢ ـ جورج غريب : الشعر الملحمي ، ص ٧.

٢٢٧

ويصورون من بطولات (١).

ومن النقّاد من قسّم الملحمة قسمين : ملحمة أدبية وملحمة شعبية. ففي الأولى يعلن الشاعر في مستهلّ قصيدته عن موضوعها ، ثم يبتهل لربة الشعر ويذكر القصة وأحداثها ، وتدخّل الآلهة في شؤون البشر ، مستخدماً التشبيهات الطويلة والمعقدة ، وأسماء الأبطال والأشياء الهامة لحياة الأبطال كالأسلحة والسفن وما الى ذلك ... أمّا الثانية فيتضح فيها النقل مشافهة والتكرار وتجرؤ السرد ، الأمر الذي يدل على أنّها لم تكن نتاج زمن واحد أو قريحة واحدة (٢).

ومن أبرز الملاحم الشعرية التي عرفها التأريخ ملحمة « الألياذة » للشاعر الأغريقي هوميروس (٣) ، وقد نقلها الى العربية في مستهل هذا القرن سليمان البستاني. والألياذة قصة شعرية طويلة تدور أحداثها حول معارك طاحنة وحروب عظيمة وأساطير وأمور خارقة ، تنشب بين شعبين متصارعين دفاعاً عن مُثل ومبادىء انسانية. ويبرز من كل جانب جماعة من القادة والأَبطال الأسطوريين ، وتدخل الالهة في حوادثها ووقائعها الخارقة ، وقد ابدع هوميروس في صياغة ملحمته صياغة فنية رائعة من حيث التسلسل القصصي المتناسق ، والتوالي المنتظم للأحداث ، والتعبير المؤثر عن أغراضه ومراميه. وقد أشار أرسطو الى الميزة الرئيسية في الملحمة حيث قال (٤) : « ومن بين المناقب التي تجعل هوميروس خليقاً بالثناء أنّه كان الوحيد من بين الشعراء ، الذي لا يجهل

__________________

١ ـ أميل بديع يعقوب وميشال عاصي : المعجم المفصل في اللغة والأدب ، ج ٢ ، ص ١١٩٢.

٢ ـ مجدي وهبة وكامل المهندس : معجم المصطلحات العربية في اللغة والادب ، ص ٣٨٣.

٣ ـ هوميروس ، Homer ( النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد ). شاعر يوناني ، تنسب اليه ملحمتا « الألياذة » Iliad و « الاوذيسة » Odyssey ، وهما أعظم ملاحم الاغريق. ( موسوعة المورد ، ج ٥ ، ص ١١٧ ).

٤ ـ أرسطو طاليس : فن الشعر ، ص ٦٧.

٢٢٨

متى يتدخل بنفسه في القصيدة. فالحق أنّ الشاعر يجب أنْ لا يتكلم بنفسه ما استطاع الى ذلك سبيلاً ، لانه لو فعل غير هذا لما كان محاكياً (١) ».

ولما كان الشعر الملحمي من الفنون الأدبية العريقة ذات الجذور التاريخية الطويلة ، فقد تداولته أمم وشعوب مختلفة غير اليونان ، أمثال الرومان في ملحمة « الأنياذة » لفرجيليوس ، والهنود في ملاحم « الأوبا نيشاد » و « الفيدا » و « الرمايانا » و « المهابهارتا » ، والفرس في ملحمة « الشاهنامه » للشاعر الكبير الفردوسي ، والترك في « شاهنامه » الشاعر الفردوسي الطويل ، واضافة الى الأمم القديمة فانّ الشعوب الحديثة قد تغنّت بهذا الفن الأدبي وانتجت شعراً ملحمياً على غرار الملاحم القديمة ، منها أُنشودة رولان الفرنسي ، وأشعار ملتون الأنجليزي ، ومنظومات هيلدبراند الألماني ، والكوميديا الالهية لدانتي الايطالي ، وغيرها من الملاحم الحديثة (٢).

وبالرغم من انتشار أدب الملحمة بين مختلف الشعوب والأمم فإننا لانجد لهذا الفن أثراً في الشعر العربي سوى قصائد معدودة ومقطوعات قصيرة ذات نفس ملحمي لا يمكن ضمها الى الملاحم العالمية المعروفة. وقد شغل الباحثون في تعليل هذا الأمر وأوردوا أسباباً عدة. منها : قول من زعم « أنّ العرب نظموا فيه كثيراً وضاع مانظموه ، فلم يبق لعهد التدوين والرواية إلاّ القليل مما ذكرت فيه أخبار الحروب (٣) ؟ » وهو قول ترده الشواهد والدلائل التاريخية. ومنها : « أنّ خيال الجاهليين لم يتسع للملاحم والقصص الطويلة لانحصاره في بادية متشابهة الصور ، محدودة المناظر ، ثم لماديتهم وكثافة روحانيتهم ، ثم لفرديتهم وضعف

__________________

١ ـ يرى أرسطو أن الشعر محاكاة لأحياء وأشياء غير الشاعر نفسه ، فلذا ينبغي على الشاعر أن ينسى نفسه و يدمجها في أشخاصه.

٢ ـ سليمان البستاني : الياذة هوميروس ، ج ١ ، ص ١٦٦.

٣ـ مصطفى صادق الرافعي : تاريخ آداب العرب ، ج ٣ ، ص ١٤٤ ، ١٤٥.

٢٢٩

الروح القومية والاجتماعية فيهم ، ثم لقلة خطر الدين في قلوبهم وقصر نظرهم عما بعد الطبيعة ، فلم يلتفتوا الى أبعد من ذاتهم ، ولا الى عالم غير العالم المنظور ، ولا تولدت عندهم الأساطير الخصيبة ، ولم يكن لأصنامهم من الفن والجمال ما يبعث الوحي في النفوس شأن أصنام اليونان والرومان ، فقلّ من ذكر منهم أوثانه واستوحاها في شعره. ولم يساعدهم مجتمعهم على التأمل الطويل وربط الأفكار وفسح آفاق الخيال ، لأضطراب حياتهم برحيل مستمر ، فجاء نفَسهم قصيراً كإقامتهم ، وخيالهم متقطعاً كحياتهم ، صافياً واضحاً كسمائهم ، داني التصور محدود الألوان كطبيعتهم. وكانت ثقافتهم الأدبية فطرية خالصة يتغذى بعضهم من بعض ، ولا يقبلون لقاح الآداب الأجنبية الراقية لجهالتهم واعتزال باديتهم وتمردها ، وكذلك كانت علومهم ساذجة لا تفتح نوافذ النور للنظر فيالنفس وما بعد عالم الهيولى (١) ».

وثمة تعليلات اخرى فسّرت انعدام الفن الملحمي في الشعر العربي ، منها : « أنّ القصة في الشعر الجاهلي ضعيفة الفن لأقتصارها على الخبر البسيط والسرد السريع ... ولا جرم ان الايجاز الذي درج عليه الجاهلي كان يحول بينه وبين الاسهاب في أخباره ... فلم يتوفر له عمل الملاحم والقصص الطويلة (٢). ومنها « أنّ الوثنية العربية في الجاهلية لم تكن تلك الوثنية المكتملة ، المعقدة والمركبة بل كانت وثنية في أبسط أشكالها وكانت تتعايش مع مذاهب توحيدية ، كاليهودية والنصرانية (٣) …؟ ». ومنها « أنّ التقليد الشعري الأصولي السائد ، والمتمثل بسلطة القصيدة الغنائية ذات القافية الواحدة والوزن الواحد لم يكن يسمح بنظم

__________________

١ ـ بطرس البستاني : أًدباء العرب ، ج ١ ، ص ٤١ ، ٤٢.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٤٧ ، ٤٨.

٣ ـ اميل بديع وميشال عاصي : المعجم المفصل في الغة والأدب ، ج ٢ ، ص ١١٩٢.

٢٣٠

المطولات القصصية الملحمية (١) ».

ومهما تكن العلل والأسباب فانّ الشعر العربي قد افتقر الى الشعر الملحمي بشكله المتكامل في الملاحم المطولة. ولكن هذا لا يعني أنّ الشاعر العربي لم يطرق المعاني التي تطرق اليها أصحاب الملاحم ، وخاصة ما يتعلق بذكر البطولة والشجاعة ، والفخر والحماسة. فالمعروف عن الشعر العربيغزارته بالمعاني المذكورة ، وشغف الشعراء بتداولها والاكثار من استعمالها. ومن أبرز القصائد الملحمية العربية التي جسدت معاني البطولة والاقدام أروع تجسيد المعلقات السبع ، وخاصة معلقة عمرو بن كلثوم (٢) الذي يقول في مطلعها :

ألا هُبّي بصَحْنِكِ فَاصْبَحينا

ولا تُبْقي خُمورَ الأندرينا (٣)

ومعلقة الحارث بن حلّزة (٤) الذي يستفتحها بقوله :

آذَنَتْنــا بِبَيْنِهَا أسمَــاءُ

رُبَّ ثاوٍ يُمَلّ منه الثَّواء (٥)

ومعلقة عنترة بن شداد (٦) الذي يستهلها قائلاً :

هَـلْ غادَرَ الشعراءُ من مُتَردَّمِ

أم هل عرفْتَ الدارَ بعدَ تَوَهّمِ (٧)

وإذا ما انتقلنا إلى الشعراء في العصر الاسلامي فإننا نلمس بوضوح النفس الملحمي الصاعد من شعر تلك الفترة وخاصة ابّان الغزوات والفتوح الاسلامية.

__________________

١ ـ المصدر السابق.

٢ ـ عمرو بن كلثوم ( توفي نحو سنة ٤٠ قبل الهجرة ). من بني تغلب. شاعر جاهلي من الطبقة الاُولى. ساد قومه وهو فتى وعمر طويلاً. وعمر طويلاً. ( الأعلام ، ج ٥ ، ص ٢٥٦ ).

٣ ـ الزوزني : شرح المعلقات السبع ، ص ١١٨.

٤ ـ الحارث بن حلزة ( توفي نحو سنة ٥٠ قبل الهجرة ). شاعر جاهلي من أهل بادية العراق ، له ديوان شعر مطبوع. ( الأعلام ، ج ٢ ، ص ١٥٥ ).

٥ ـ الزوزني : المصدر السابق ، ص ١٥٥.

٦ ـ عنترة بن شداد ( توفي نحو سنة ٢٢ قبل الهجرة ). أشهر فرسان العرب في الجاهلية من أهل بادية العراق ، له ديوان شعر مطبوع. ( الأعلام ، ج ٥ ، ص ٢٦٩ ).

٧ ـ الزوزني : المصدر السابق ، ص ١٣٧.

٢٣١

وقد اشتهرت في هذه الفترة سبع قصائد طويلة عرفت بالملحمات (١) وهي من صنع : الفرزدق (٢) ، وجرير (٣) والأخطل ، وعُبيد الراعي (٤) وذي الرّمة (٥) والكُمَيت (٦) ، والطِّرمَّاح (٧).

وبعد هذه الفترة شهد الشعر العربي وعبر أعصره المختلفة ألواناً من الشعر الحماسي والملحمي الّفت فيه دواوين خاصة عرفت بدواوين الحماسة. ومن أشهرها : حماسة أبي تمام ، وحماسة البحتري ، وحماسة ابن الشجري ، والحماسة المغربية والحماسة البصرية (٨).

واستمرت محاولات الشعراء في طرق الشعر الملحمي حتى مستهل القرن العشرين حيث ظهرت الملحمة ظهوراً ملفتاً للنظر وبثوب جديد وبمواضيع قومية وعقائدية وتاريخية قلّما تطرّق إليها الشعراء في العصور السابقة. وقد ردّ بعض الاُدباء هذه الظاهرة إلى يقظة العرب القومية منذ بدء هذا القرن والتفاتهم إلى أمجادهم السالفة (٩).

__________________

١ ـ أبو زيد القرشي : جمهرة أشعار العرب ، ص ٦٩٤.

٢ ـ همام بن غالب ( توفي سنة ١١٠ هـ ). من أهل البصرة. شاعر عظيم الأثر في اللغة ، وهو من شعراء الطبقة الاُولى في الاسلاميين. ( الأعلام ، ج ٩ ، ص ٩٦ ).

٣ ـ جَرير بن عطيّة ( ٢٨ ـ ١١٠ هـ ). أشعر أهل عصره ، ولد ومات في اليمامة. وكان هجّاءً مرّاً فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل. ( الأعلام ، ج ٢ ، ص ١١١ ).

٤ ـ عُبيد بن حصين ( توفي سنة ٩٠ هـ ). شاعر من فحول المحدثين ، لقّب بالراعي لكثرة وصفه الابل ، عاصر جريراً والفرزدق. ( الأعلام ، ج ٤ ، ص ٣٤٠ ).

٥ ـ غيلان بن عقبة ( ٧٧ ـ ١١٧ هـ ). شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره. أكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال. ( الأعلام ، ج ٥ ، ص ٣١٩ ).

٦ ـ الكُميت بن زيد الأسدي ( ٦٠ ـ ١٢٦ هـ ). شاعر الهاشميين ، من أهل الكوفة ، كان عالماً بآداب العرب ولغاتها وأخبارها ، أشهر شعره « الهاشميات ». ( الأعلام ، ج ٦ ، ص ٩٢ ).

٧ ـ الطِّرِمَّاح بن حكيم ( توفي نحو سنة ١٢٥ هـ ). شاعر إسلامي فحل ، ولد ونشأ في الشام ، كان معاصراً للكميت صديقاً له. ( الأعلام ، ج ٣ ، ص ٣٢٥ ).

٨ ـ كارل بروكلمان : تاريخ الأدب العربي ، ج ١ ، ص ٧٧ ـ ٨٢.

٩ ـ أنيس المقدسي : الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث ، ص ٣٩٥.

٢٣٢

ولعلّ أوّل محاولة ملحمية ظهرت فـي هـذا العصر هي ملحمة الشاعر الشيخ كاظم الأُزري (١) المعـروفة بـ « الأُزرية ».

والازرية ملحمة فـي مـدح الـرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكـر مولده ومعجزاته ، ومدح الإمـام علي عليه‌السلام وذكر مناقبه والحـروب التي شـارك فيها والأحـداث التي عاصرها عليه‌السلام.

وتبلغ الملحمة ألـف بيت أكـلت الأرضـة جملة مـن أبياتها وبقي منها ٥٨٠ بيتاً ، ومطلعها :

لمَـن الشمسُ فـي قِبابِ قِباهـا

شَفَّ جسمُ الدُّجى بروحِ ضياها (٢)

وقد تبارى غير واحد من الشعراء في محاكاة هذه القصيدة والسير على نهجها ، منهم الشاعر محمد جواد الكربلائي ، المتوفى سنة ١٢٨١ هـ ، وقد بلغت أبيات قصيدته ١٢٦٥ بيتاً. يقول في مطلع قصيدته :

أهـي الشمسُ فـي سماءِ عُلاهـا

أخَذَتْ كُـلَّ وجْهَـةٍ بِسَنـاها (٣)

وكـذلك الشاعـر عبد الحسين الحـويـزي ( ١٢٨٧ ـ ١٣٧٤ هـ ) فـي ملحـمته المعـروفـة بـ « فريدة البيان » والتي تـربـو على الألـف بيت ، ومطلعها :

لِمَنِ العيسُ فـي البطاح بَراها

مِثلَ بَرْي القِداحِ جذبُ بُراها (٤)

ومن الملاحم العربية المهمة التي ظهرت في مستهل القرن العشرين القصيدة

__________________

١ ـ كاظم بن محمد الأُزري ( ١١٤٣ ـ ١٢١١ هـ ). شاعر فحل من أهل بغداد ، له ديوان شعر مطبوع. ( الأعلام ، ج ٦ ، ص ٦٧ ).

٢ ـ أحمد معتوق : شرح الأزرية ، ص ٣٣.

٣ ـ جعفر عباس الحائري من مقال له بعنوان « ملاحم على غرار ملحمة » نشر في مجلة تراثنا : العدد ٣ ( ١٤٠٨ هـ ) ، ص ٢٣.

٤ ـ المصدر السابق ، ص ٢٦.

٢٣٣

العلوية المباركة لعبد المسيح الأنطاكي (١) وقد قال عنها : « عنيت على نوع خاص أن أجعل القصيدة المباركة العلوية تاريخاً شعرياً لصدر الإسلام ، لا يتخلله نثر أبداً. ويعرف الشعراء ما في ذلك من الوصب ولكنّه وصب محبوب لقلب شغف بثاني الكاملين وأخي الرسول الأمين أحد سيدي الثقلين سيدنا علي بن أبي طالب أبي الحسنين عليهم وعلى المصطفى الصلاة والسلام ... ولقد دعوت هذه القصيدة المباركة باسم « ملحمة » اتباعاً للمغاربة الذين أطلقوا هذه الكلمة على ما وضعوه نثراً أو نظماً من وقائعهم الحربية وقصصهم التاريخية ونوادرهم الأدبية » (٢)

وقد بلغ عدد أبيات العلوية المباركة ٥٥٩٥ بيتاً انتهى الشاعر من نظمها سنة ١٣٣٨ هـ. ومطلع القصيدة :

أزِيـنُ ملحمتي الغرّا وأحلِيها

بحمد ربّي فليحَمْدهُ قاريها (٣)

والملاحم في هذا الخصوص كثيرة جداً (٤) إلاّ أنّ الباحثين والمحققين اهتموا بملحمتين كبيرتين هما ملحمة الشاعر بولس سلامة (٥) المعروفة بـ « عيد الغدير » وهي منظومة في ٣٠٨٥ بيتاً ، أوّلها :

يامـليكَ الحياة أنـزل عليَّـا

عزمة منك تبعث الصخر حيّا (٦)

وملحمة أهل البيت عليهم‌السلام للشاعر عبدالمنعم الفرطوسي حيث مدار البحث عليها يدور.

__________________

١ ـ عبد المسيح الانطاكي ( ١٢٩١ ـ ١٣٤١ هـ ). صحافي ، له نظم كان يمدح به بعض أُمراء العرب وغيرهم ، وهو يوناني الأصل. من آثاره : ديوان « عرف الخزام » ، و « نيل الأماني في الدستور العثماني ». ( الأعلام ، ج ٤ ، ص ٢٩٧ ).

٢ ـ عبدالمسيح أنطاكي : القصيدة العلوية المباركة ، ص ٣.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ ينظر : الذريعة ، ج ١٧ ، ص ١٠٨ ـ ١٣٦ وج ٢٢ ، ص ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

٥ ـ بولس سلامة ( ١٩٠٣ ـ ١٩٧٩ م ). أديب وشاعر مبدع ، اتسم فكره بالعمق وتعبيره بالسلاسة واُسلوبه بالسهولة. من آثاره : « علي والحسين » ، و « الصراع في الوجود » و « مذكرات جريح » و « حكاية عمر ». ( مصادر الدراسة الأدبية ، ج ٤ ، ص ٣٤٨ ).

٦ ـ بولس سلامة : عيد الغدير ، ص ١٣.

٢٣٤

ج ـ ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام :

١ ـ البدايات :

غُرست النواة الاُولى للملحمة في السبعينات يوم عقد الفرطوسي النية على نظم ألفية في مناقب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام. وحينها كان الفرطوسي قد فقد بصره بالكامل ولم يعد قادراً على المطالعة إلاّ عن طريق السماع وما يقرأ له من هنا وهناك. فكان يملي ملحمته على تلميذيه الدكتور محمد حسين الصغير (١) والشيخ محمد رضا آل صادق (٢) حتى أواخر السبعينات يوم عزم الخروج من العراق فأكملها في « جنيف » بين عامي ١٩٨٠ و ١٩٨٢ على يد ولده ومرافقه الشيخ حسين (٣).

وعن قصة الملحمة والدوافع والأسباب التي دفعت الشيخ الفرطوسي إلى نظم ملحمته الخالدة يقول الشاعر الشيخ محمد رضا آل صادق : « كُنّا ذات ليلة صيفية جلوساً في الصحن « الحيدري » المطهّر ، أنا والفرطوسي ومحمّد حسين الشيخ علي الصغير ، فجرى ذكر الشعراء وغيرهم ، وعلّق الأخ الشاعر محمد حسين الصغير قائلاً إننا مدينون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام وتعاليمهم وولايتهم ، فهلاّ كتبنا ألفية في شأنهم ليكون لنا ذكر في الدنيا وفخر في الآخرة ؟

__________________

١ ـ محمد حسين علي الصغير ، ولد في مدينة النجف سنة ١٩٤٠ م في بيت علمي وفيه تلقى دراساته العلمية. درس في بغداد والقاهرة وانجلترا. من آثاره : « الصورة الفنية في المثل القرآني » و « تاريخ القرآن ». ( موسوعة أعلام العراق ، ج ١ ، ص ١٨٨ ).

٢ ـ محمد رضا آل صادق ( ١٩٤٥ ـ ١٩٩٤ م ). شاعر وأديب ، من دواوينه : « أنفاس الشباب » ، و « الصوت والأصداء » ، و « الزورق والرياح » ، و « مدائن الظلال ».

٣ ـ محمد حسين الفرطوسي من مقال له نشر في مجلة الموسم : العددان ٢٣ ـ ٢٤ ( ١٩٩٥ م ) ، ص ٣٥٢.

٢٣٥

فهذا ابن مالك كتب ألفية في النحو ، وهذا فلان كتب منظومة في الكلام ، وهذا فلان ، وهذا فلان .. فما بالنا لا نكتب في أهل البيت ونحن نروي : « انّ من قال فينا بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة ». فتعاهدنا على أن نبدأ من ليلتها ، وكانت في منتصف السبعينات ، وكأن الله سبحانه قد انتدب لذلك عبده الشيخ الفرطوسي ، فلم نوفّق لا أنا ولا الشيخ الصغير إلى كتابة الألفية ، أمّا الفرطوسي فقد جاءني في اليوم التالي وأملى عليّ أكثر من مئة وثمانين بيتاً موحدة الرويّ ، وهي من بحر الخفيف وقافيتها مكسورة الهمزة. ثم صار كل يوم يأتيني بمثل ما جاء به في اليوم السابق وزيادة. وكان المفروض أن تقع الملحمة في ألف بيت إلاّ أنّه تجاوز الألف وهو ما يزال في سيرة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعاجزه ، فصمّم على أن يكتب في أهل البيت ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، حتى وُفق إلى ما لم أحصه من الشعر. وقد طبعت سبعة أجزاء من الملحمة في حياته ، وبقي جزء يحتوي على أكثر من خمسة آلاف بيت ، وكان لا يزال غير مطبوع في العراق ... فنقله أحد أقاربه ... من النجف إلى المغرب ، ومن المغرب إلى أبو ظبي حيث كان الفرطوسي ينتظر أن يصله هذا الشعر ليعيد النظر فيه ويكمل به الملحمة. إلاّ انه أطبق عينيه وهو شبه الآيس من وصوله ، فتولى ولده الشيخ حسين الفرطوسي نشره على ما هو عليه ، وتمت به الملحمة ثمانية أجزاء » (١).

__________________

١ ـ مجلة التوحيد : العدد ٣٢ ( ١٤٠٨ هـ ) ، ص ١٠٥.

٢٣٦

٢ ـ الموضوعات :

تعد الملحمة بحد ذاتها موسوعة ضخمة ودائرة معارف كبرى تضمّ بين دفتيها ألواناً من المعارف الإسلامية الغنيّة بالمضامين العقائدية والتاريخية والفلسفية والتربوية. وقد تجلّت عبقرية الشيخ الفرطوسي في قدرته الفائقة على جمع وتنسيق عشرات المواضيع المختلفة وصبّها في قالب شعري جميل واُسلوب أدبي رائع يمكّن القارئ من استيعابها بسهولة ويسر دون كبير جهد وعناء.

وقد لخّص الشاعر مواضيع ملحمته في أبيات الإِهداء التي قدمها إلى النبي المختار وأهل بيته الأطهار مفتتحاً بالقول :

هـاك قلبي مضـرجاً بدمـائي

قطعاً فـي سلاسل مـن ولائي

هـي مـن منبع العقيدة وحـيٌ

لم يكـدّر منه معيـن الصفـاء

وهـي أغلى من كلّ عقد نفيس

ذهبـيٍ مهما ارتقى فـي الغلاء

جوهر مـن معادن القدس باقٍ

أين منـه أعـراض دار الفناء

نفحـات من الهـداية تـذكو

عبَقـاً مـن شمائل الأزكيـاء

بدئت بالتوحيد وهـو أسـاسٌ

واستطالت بـالعدل خيـر بناء

وتجلّـت فيهـا نبـوة حــقٍّ

شُفعت فـي إمامة الأوصيـاء

وتلاهـا المعاد فهـي اُصـولٌ

خمسة فـي شريعـة الحنفـاء

ودليل الإعجـاز فـي ذكر طه

يقتفيهـا وعصمــة الأنبيـاء

وبإثر التفـويض والجبـر أمر

بين بينٍ يـأتي ومعنـى البداء

وسواهـا مـن التوابـع ممّـا

تقتفـي نهجهـا بخيـر اقتفاء

وجميع الأركان وهي فروع الـ

ـدين فيها بـانت بغيـر خفاء

وتـراءت كبائر الإثـم فيهـا

وسواهـا صغائـر الأخطـاء

٢٣٧

وعليهـا باليمن رفـرف أمناً

مـن حيـاة النبـي خير لواء

وحيـاة السبطين بعد علـيّ

والبتـول الصديقة الـزهراء

وعلـيّ وباقـر العلـم والصا

دق قـولاً وكـاظم الصلحـاء

والرضـا والجـواد ثـم عليّ

وابنـه ثـم قـائـم الأُمنـاء

قـد تبدّت منها النجوم اهتداءً

وأمـانـاً لنـا بخيـر سمـاء

أهـل بيت الهدى أئمة حـق

ألسن الصدق خيرة الأوليـاء

والأدلاّء لا يحيــدون زيغـاً

بالبرايـا عـن منهج الإهتداء

ومصابيح حكمة قـد أضاءت

بسنـاهـا مـدارك الحكماء

كـل نجم للخلق منهم إمـامٌ

يقتدى فيـه أحسن الإقتـداء

أذهب الله عنهم الرجس طهراً

واصطفاهم بـأكرم الإصطفاء

أنـا مولىً لهـم محبٌ وهذي

آيـة الحبّ مـن كتاب ولائي

وهـي تُهـدى لفاطم وعليّ

وبنيها وخـاتم الأصفيـاء (١)

ولكثرة المباحث وغزارة المطالب التي تطرق إليها الشيخ الفرطوسي في ملحمته ، يبدو للوهلة الاُولى تصنيف مواضيع الملحمة وتبويبها أمراً صعباً يستلزم الدقة والعناية الخاصة ، لأنّ الناظم قد طرق كثيراً من الموضوعات الفلسفية والبحوث الكلامية والجدلية ، والعلوم والمعارف الدينية من خلال حديثه عن سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الأطهار عليهم‌السلام ، واذا ما أخذنا بعين الاعتبار التسلسل التاريخي لحياة الأئمة عليهم‌السلام ، والأحداث والوقائع التي عاصروها ، بالإضافة إلى الترتيب الموضوعي الذي نهجه الشاعر في نظم ملحمته ، أصبح من غير الممكن عزل تلك المواضيع وفصلها عن مواضعها الأولية وتحديد أبواب جديدة خاصة

__________________

١ ـ ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ج ١ ، ص ١١ ، ١٢.

٢٣٨

بها. وعلى كل حال فانّ مواضيع الملحمة وبالرغم من تعددها وتنوعها يمكن توزيعها على المواضيع الرئيسية التالية :

أ ـ العقائد

بدأ الشيخ الفرطوسي ملحمته بموضوع العقائد. وقد تطرّق في بادئ الأمر إلى خالق الكون ـ جلّ جلاله ـ وذكر صفاته وأسماءه الحسنى والآثار التي تدل عليه :

باسم ربّ العباد فضل ابتدائي

وإلى الله فـي المعاد انتهائي

فاطر الأرض والسموات فرد

واجب فـي وجوده والبقاء

كلّ آثـاره تـدلّ عليــه

فهو بادٍ بها بغير اختفاء (١)

وقد تناول الشاعر في موضوع العقائد مسائل شتى يمكن حصرها في موضوعين أساسيين هما اُصول الدين وفروعه :

أولاً : اُصول الدين (٢) :

١ ـ التوحيد : تحدث الشاعر في بداية هذا الفصل عن أوّل أصل من أصول الدين وهو التوحيد. فبدأ بتعريفه وتبيين اُصوله ، ثم انتقل إلى أدلته العقلية والنقلية وذكر منها : حفظ النظام ، ووحدة الرسل ، واجتماع الأنبياء على التوحيد ، ودلائل اُخرى.

٢ ـ العدل : انتقل الشاعر بعد موضوع التوحيد إلى الأصل الثاني من اُصول الدين وهو العدل ، فذكر فيه أدلته العقلية بشكل مختصر ومفيد.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٣.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧ ـ ٨٥.

٢٣٩

٣ ـ النبوة : وفي هذا الموضوع ذكر الناظم ضرورة النبوة وإرسال الرسل من جانب الله ـ جلّ جلاله ـ لهداية الناس وإرشادهم الطريق الصحيح. وقد أثبت ذلك بأدلة عقلية من قبيل : وجوب اللطف الإلهي بالناس ، وضرورة الواسطة ، واحتياج الخلق للنبي ، وضرورة الشريعة كنظام للبشر. ثم انتقل الشاعر إلى ذكر الشرائط اللازمة في النبي كاحتياجه إلى المعجزة ، وتمتعه بالعصمة ، وامتناع النسيان والسهو منه.

٤ ـ الإمامة : أورد الشاعر أدلّة الإمامة موزّعة على ثلاثة أقسام :

القسم الأول : الإمامة والعقل ، وفيه ذكر أدلة الإمامة العقلية وهي : احتياج الخلق للإمام ، وقاعدة اللطف الإلهي ، وانّ الإمام حفظ للنظام ، والإمامة سنة الله في خلقه ، وانّ الإهمال بعد إرسال الرسل محال على الله ـ جلّت قدرته.

وينتقل الشاعر بعد ذلك إلى موضوعين آخرين هما كيفية اختيار الإمام ، والشروط التي يجب أن تتوفر فيه.

القسم الثاني : الإمامة والقرآن. وفي هذا القسم ذكر الشاعر الآيات القرآنية الواردة في موضوع الإمامة ، وكذلك الآيات النازلة في فضل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام وقد بلغ عدد الآيات في هذا الشأن إحدى وخمسين آية شريفة (١).

القسم الثالث : الإمامة والحديث ، تناول الشاعر في هذا القسم طائفة

__________________

١ ـ والآيات هي : البقرة : ٤٣ ، ١٣٤ ، ٢٠٧ ، ٢٧٣. آل عمران : ٦١. النساء : ١١٥. المائدة : ٣ ، ٥٥ ، ٦٧. الأنعام : ٨٢ ، ١٥٣. الأنفال : ٢٤ ، ٦٢. التوبة : ٣. يونس : ٥٨. هود : ١٢ ، ١٧. الرعد : ٧ ، ٤٣. مريم : ٩٦. الشعراء : ٢١٤. القصص : ٦٨. لقمان : ٢٢. الأحزاب : ٢٥ ، ٣٣ ، ٧٢. فاطر : ٣٢. الصافات : ٢٤. الزمر : ٣٣ ، ٥٦. الشورى : ٢٣. الزخرف : ٥٧ ، النجم : ٢ ، ٣ ، ٤. الواقعة : ١٠ ، ١١ ، ١٢. الحديد : ١٩. التغابن : ٨. التحريم : ٤. المعارج : ١ ، ٢ ، ٣. الدهر : ٧. النبأ : ١ ، ٢ ، ٣. البينة : ٧ ، ٨.

٢٤٠