الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

حيدر المحلاتي

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

المؤلف:

حيدر المحلاتي


الموضوع : التراجم
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-185-0
الصفحات: ٣٤٤

والطباق بين فعلي « تجود » و « يضنّ » في هذا البيت :

وتجود من كرم بما أوتيتـه

ويضنُّ غيرك أن تعيش قنوعا (١)

والطباق بين « قريباً » و « بعيداً » في البيت التالي :

ولا تنسوا أحبـائي قـريباً

بعيداً عن حنوّ الأقرباء (٢)

ج ـ التورية : وهي « أن يذكر المتكلم لفظاً مفرداً له معنيان ؛ أحدهما قريب غير مقصود ودلالة اللفظ عليه ظاهرة ، والآخر بعيد مقصود ودلالة اللفظ عليه خفيّة » (٣). كالتورية في هذا البيت :

إذا ما علا بالسيف قرم رأيته

هو الشفع مقسوماً وضربته وتر (٤)

فالظاهر من الشفع والوتر هو المعنى القرآني الذي جاء في الآية الشريفة « والشفع والوتر » (٥). إلاّ انّ الشاعر أراد معناه اللغوي وهو الشفع بمعنى الزوج ، والوتر بمعنى الفرد.

د ـ رد العجز على الصدر : وهو أن يجعل أحد اللفظين المكررين والمتجانسين في المصراع الأول ، والآخر في المصراع الثاني (٦). كما جاء في البيت التالي :

ويصرعها العقل مـن بطشه

كما هو من بطشها يصرع (٧)

هـ ـ التضمين : « وهو أن يضمّن الشاعر كلامه شيئاً من مشهور شعر الغير » (٨). كقوله :

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥٣.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٩.

٣ ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص ٣١٠ ، ٣١١.

٤ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٨٦.

٥ ـ الفجر : ٣.

٦ ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص ٣٥٤.

٧ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٢٤.

٨ ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص ٣٦٢.

١٤١

سلي الحوادث عن تأريخ نهضتنا

«واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا» (١)

وفيه تضمين لشعر صفي الدين الحلي (٢) من بيت يقول فيه :

سلي الرمـاحَ العوالي عن معالينا

واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا (٣)

وكذلك التضمين في هذا البيت :

«لا خيل عندي اهديها» فاعقرها

على ثراك سوى شعري وتأبيني (٤)

وفيه اشارة إلى بيت مشهور من قول أبي الطيّب المتنبي (٥) :

لا خيل عنـدك تهديها ولا مال

فليُسعد النطق إن لم تُسعد الحال (٦)

ويمكن اعتبار البيت التالي نوعاً من التضمين :

فالسيلُ قـد بلغ الزُّبى تياره

متدافعاً وتجاوز الطغيان (٧)

فقد أشار الشاعر إلى المثل المشهور « بلغ السيلُ الزُّبى » ، وهو مثل يضرب لما جاوز الحد (٨).

هذه إضمامة لبعض المحسنات البديعية الواردة في شعر الفرطوسي. وهي قليلة لا يهتم الشاعر بها بقدر ما يهتم بسلامة المعاني ، ونصاعة الأفكار ، وشفافية المضامين ، ووضوح المفاهيم.

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢١٩.

٢ ـ عبدالعزيز بن سرايا ( ٦٧٧ ـ ٧٥٠ هـ ). شاعر عصره ، ولد ونشأ في الحلة واشتغل في التجارة. رحل إلى القاهرة سنة ٧٢٦ هـ فمدح السلطان الملك الناصر. له ديوان شعر ورسالة بعنوان « العاطل الحالي ». ( الأعلام ، ج ٤ ، ص ١٤١ ).

٣ ـ ديوان صفي الدين الحلي ، ص ٢٠.

٤ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ٦٦.

٥ ـ أحمد بن الحسين الكندي ( ٣٠٣ ـ ٣٥٤ هـ ). الشاعر الحكيم وأحد مفاخر الأدب العربي. له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. شرح ديوانه شروحاً وافية وكثيرة. ( الأعلام ، ج ١ ، ص ١١٠ ).

٦ ـ ديوان المتنبي ، ص ٣٩٦.

٧ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٨٦.

٨ ـ أحمد بن محمّد الميداني : مجمع الأمثال ، ج ١ ، ص ١٣٢.

١٤٢

رابعاً : الأدوار

مرّ الشيخ الفرطوسي من خلال تجربته الشعرية الطويلة بأدوار ومراحل مختلفة تفاوتت من حيث العطاء الأدبي بتفاوت الظروف التي عاشها الشاعر في ظل أنظمة الحكم في العراق. ولا شك أنّ الشاعر وباعتباره لسان جيله المعبّر عن آماله وآلامه وأفراحه وأتراحه أوّل من يواجه الضغوط والاضطهاد من قبل الأنظمة الاستبدادية التي دأبت في فرض منطق العنف ، وخنق الحريات الفردية والاجتماعية.

وعلى ضوء هذا الواقع المرّ ، ومن خلال المتابعة التاريخية لنتاج الشاعر يمكن حصر الأدوار الزمنية لشعر الفرطوسي في المراحل التالية :

١ ـ مرحلة السمو والأزدهار ( ١٩٣٥ ـ ١٩٥٨ م )

تشكل هذه المرحلة من حياة الشاعر أعظم فترات الأخصاب الشعري التي شهدها الشيخ الفرطوسي طوال عمله الأدبي. فقد شملت أكثر من ثلثي قصائد ديوانه ، وبالتحديد ٤ و٦٧% من مجموع أشعار الديوان. وهذه الفترة التي تمتد في العهد الملكي وتنتهي بثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ م تعد ـ وعلى الرغم من ممارسات المحتل التعسفية ـ من أفضل فترات النشاط الأدبي للشاعر لظروفها الباعثة على النظم والابداع.

وفي ظل تلك الظروف المساعدة والأجواء الباعثة على النشاط والتفاعل استطاع الشاعر أن ينظم معظم قصائده السياسية والاجتماعية ، وأن يطرق مختلف الأغراض الشعرية كالوصف والغزل والمديح والرثاء وغيرها.

١٤٣

٢ ـ مرحلة الفتور الأولى ( ١٩٥٨ ـ ١٩٦٣ م )

بعد أن أطيح بالحكم الملكي في العراق بالثورة التي قادها عبدالكريم قاسم عام ١٩٥٨ م ، تطلّع الشعب إلى هذه الثورة والأمل يراودهم في استقلال بلادهم من هيمنة المحتل الأنجليزي وانتهاء عهد مظلم تشبع بالظلم والاضطهاد. وقد راود هذا الأمل قلب الشاعر الذي استقبل الثورة بكل حفاوة وترحيب :

بغـدادُ يــادارَ السلام تـحيةً

للفـاتحيـن تُـحفُّ بـالإكبار

صوغـي أهـازيجَ الكرامة نغمة

كالنـار تَلهبُ من فـمِ القيثار

وتطلعـي لـلاُفق ان نـجومـه

رَجمت شيـاطينَ العمى بشـرار

لشعور هذا الشعب كيف تدافعت

أفـراحُه كتـدافـعِ التيــار

لطلائـع الآمـال وهـي كتائبٌ

زَحفت مـع الثوار فـي مضمار

طولي على هـامِ المجـرّة رفعةً

وبطـولةً فـي جيشكِ الجرار (١)

وبالرغم من التفاؤل الذي تطلع اليه الشعب في اصلاح الوضع وتحسين المعيشة من خلال الثورة ، إلاّ انّ الوضع أخذ يتأزم شيئاً فشيئاً ، وأخذت الفوضى تعمّ البلاد ، وأخذت الحركات الهدامة ذات المبادئ المنحرفة تدسّ أفكارها المسمومة في الأوساط الثقافية والفكرية ، ممّا دعا الشاعر إلى مطالبة السلطة بإيفاء وعودها من تضمين الحريات ، واحترام القانون ، واستتباب الأمن والاستقرار في البلاد :

يا باعثَ الوعي حياً حين أرهقه

ظلمٌ فلـم يَبقَ مـن أنفاسه رمق

نريدُ حـريةً للشعب حيثُ بهـا

مـن كل رقيّـة سوداءَ يـنعتق

محـدودةً بنظـام لا يصيِّـرُها

فَوضى بها حرمةُ القانون تخترق

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ٨٢.

١٤٤

نريد للحكـم أفـذاذاً عبـاقـرةً

من تربة الخير والاصلاح قد خلقوا

يطبقـون بهـذا الشعب أنظمـة

للـحكم حيثُ نظامُ العدل ينطبق

فالحكم ميزانُ عـدل لا تميل بـه

عينٌ على اختها يطغى بها النزق

والحكم كالرأس ان الرأس ليس به

عيـنٌ تنامُ وعينٌ ملؤها أرق (١)

وما لبثت أن تبدلت الآمال إلى آلام ، وراحت الحريات التي طالما حلم بها الشعب وتطلع إليها بعين الأمل تأخذ مسيرها إلى الكبت والخنق. وعادت ثانية ممارسات الظلم والتعسّف تنال المثقفين والمفكرين وتزري بالأدباء والشعراء.

وفي مثل هذه الظروف ، وإثر الاضطهادات والضغوط التي مارسها النظام آنذاك أخذ نتاج الشاعر يتضاءل ليصل إلى أدنى مستوى من عمله الأدبي حيث بلغ ٧ و٤% من مجموع القصائد التي أنشدها في هذه الفترة.

٣ ـ مرحلة النهوض ( ١٩٦٣ ـ ١٩٦٨ م )

بعد أن أخفقت ثورة الرابع عشر من تموز عام ١٩٥٨ م في تحقيق الأمن والاستقرار في العراق ، قام عدد من الضباط بقيادة عبدالسلام عارف بانقلاب عسكري في الثامن من شباط عام ١٩٦٣ م أطاح بحكومة عبدالكريم قاسم التي دامت خمس سنوات.

وفي هذه الفترة أي من عام ١٩٦٣ م وحتى عام ١٩٦٨ م نلحظ بعض مظاهر النهضة في نتاج الشاعر حيث وصل نظمه في هذه الفترة قرابة الثلث من قصائد الديوان وتحديداً ٩ و٢٧% من مجموع القصائد.

ومنشأ هذه النهضة لم يكن الوضع السياسي الجديد. فالاضطهادات لم تزل

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٨٩.

١٤٥

قائمة ، ولم يزل الأديب مغلول اليدين ، فاقد الحرية تمارس بحقه أنواع الضغوط والعنف من قبل السلطة :

مـاذا يراد مـن الأديب وقلبُه

للناس ملكٌ وهو حر ( منعمُ )

ليس الأديب بضاعةً في سوقها

تشرى ويرفع مستواها الدرهم

انّ الأديب لسان جيل مـا لـه

في الخطب إلاّ وعيه المتضرمُ

ورسـالـة للعبقـريـة فـذة

توحـي فيرسمها الخيال الملهم

تهوى البساطـةَ نفسه وحياته

السوداءُ مـن تعقيدها تتجهم

انّ الأديب بجسمـه قيثـارة

وبـروحـه اغـرودة تترنّـم

هـو بلبل البشرى بأندية الهنا

وهـو الغراب إذا يـقام المأتمُ

الوضع يُرغمه بـأن يغدو لـه

عبداً وحر ضميره لا يرغم (١)

ولكن النهضة الشعرية التي طرأت على نتاج الشاعر تعود إلى خروج الشاعر من العراق وذهابه إلى « سويسرا » و« لبنان » من أجل العلاج. وفي هذه الفترة القليلة التي ابتعد الشاعر عن جوّ العراق الخانق وذاق طعم الحرية في بلاد الغربة نظم الفرطوسي قصائد كثيرة من بينها جلّ أشعار الغزل التي حواها ديوانه.

ومن هنا تعتبر رحلة الشيخ إلى « سويسرا » و « لبنان » منعطفاً هاماً في مسيرة الشاعر حيث تعاطى فيها نظم الغزل والنسيب الذي لم يطرقه من ذي قبل بسبب القيود التي فرضت عليه من محيطه المقيد وبيئته المحافظة.

٤ ـ مرحلة الفتور الثانية ( ١٩٦٨ ـ ١٩٨٣ م )

شهدت هذه الفترة فتوراً ملحوظاً في نتاج الشاعر وخاصّةً في الشعر

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٩١.

١٤٦

السياسي والاجتماعي. ومن المؤكّد انّ الظروف القاسية التي مرّ بها الشاعر آنذاك والضغوط التي كانت تُمارَس بحقه بين الحين والآخر هي التي دعت الشاعر إلى إقلاعه عن نظم الشعر السياسي والاجتماعي.

وفي هذه الفترة بالذات وتحديداً في منتصف السبعينات خطرت ببال الشاعر فكرة نظم الملحمة فكانت عاملاً آخر في اقلاعه عن نظم الشعر في المناسبات وتكريس جلّ اهتمامه في تأليف موسوعته المذكورة. وقد استمر الشاعر في عمله هذا بعد مغادرته العراق عام ١٩٨٠ م وحتى وفاته بالأمارات العربية المتحدة عام ١٩٨٣ م.

١٤٧

١٤٨

الفَصْلُ الثُّانيْ

اتجاهات الفرطوسي الشعرية

١٤٩

١٥٠

١ ـ الشعر السياسي :

اتجه الشيخ الفرطوسي إلى الشعر السياسي اتجاهاً واضحاً اثر المستجدات من الأحداث التي عاشها ولامس واقعها المرير وأحسّ بأثرها الأليم على شعبه وأبناء وطنه. ويعود اهتمام الشيخ بالشعر السياسي إلى بواعث كثيرة ، منها تواجده الفاعل والمستمر في ميادين العمل السياسي والوطني ، بالاضافة إلى النزعة الوجدانية والحبّ الفطري الذي تشبّع به قلب الشاعر تجاه وطنه وتجاه حرية شعبه واستقلاله وازدهاره.

ولم يقتصر اهتمام الشاعر على الأحداث السياسية في العراق فقط ، بل إهتمّ أيضاً بسائر الوقائع السياسية التي كانت تحدث في البلدان العربية الاُخرى ، ممّا يدلّ على توجه الشاعر إلى الشعر القومي وإهتمامه بشؤون وشجون أُمّته في شتّى الأقطار والبلاد العربية :

هذي بلاد العرب وهي مـراجلٌ

للعـزم تغـلي بـالـدم الفــوار

وطلائع الوعي المجلجل أنـذرت

جيش الغزاة بـجـيشها الجــرار

عصفت بها (مصر) وثارت (جلق )

وتدافعت ( بـغداد ) كـالإعصـار

ومشت بها ( عدن ) إلى أخـواتها

مشـي العفرنى للعفرنـى الضـاري

وطغت (عمان) مثل ( لبنان ) بـها

علقـاً يفـور على جحـيم النـار

وتفجـرت حمماً ( فلسطينٌ ) لها

من كـلّ بـركـان بهــا مـوار

١٥١

ومن ( الجزائر ) والجزائرُ مرجل

يغلي على لهب السعير الـواري

ضجت قرابينُ الجهاد ونـددت

بـفضائع الـمستعمر الجـزار

شعب يسير إلـى الحياة وأُمـة

تهــوى الممـات بعزّة وفخار

وبشعب ( عمان ) ستلهب جمرة

منها العزائم تصطلي بشـرار

ومتـى يصان حمـاية ثغرٌ بـلا

شعـبٍ وسلطانٌ بـلا أنصار (١)

ويمكن تحديد الموضوعات السياسية التي تناولها الشاعر في ديوانه بالموارد التالية :

أ ـ القضية الفلسطينية (٢) :

اهتم الشيخ الفرطوسي بقضية فلسطين وشعبها المضطهد باعتبارها أهم قضية شغلت العالم العربي والإسلامي ، وهيمنت على باقي القضايا والأحداث.

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ٨٥.

٢ ـ أثر انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأُولى ، تسنّى لبريطانيا بسط نفوذها على أجزاء من البلاد العربية كانت فلسطين من ضمنها. وقد أصبحت فلسطين تحت الانتداب البريطاني أثر دخول بريطانيا إليها في تشرين الأوّل عام ١٩١٧ م لتتركها في آيار عام ١٩٤٨ م بعد أن مهّدت لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين. وقد أثار فعل الانجليز هذا حفيظة الفلسطنيين ، وردود فعل عنيفة ظهرت على شكل مؤتمرات وطنية ، وأحزاب استقلالية ، ومواجهات حادة مع المحتل الصهيوني. ومن هذه المواجهات اندلاع ثورة ١٩٣٦ م التي شكل الفلسطينيون حينها جهازاً شعبياً ليقود الحركة الوطنية ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية. وفي المقابل دأب الصهاينة في سياستهم التوسعية عن طريق الحروب التي شنّوها على العرب المسلمين ، منها حرب ١٩٤٨ م التي تمكّن الاسرائيليون من خلالها السيطرة على أربعة أخماس فلسطين ، وحرب ١٩٥٦ م التي انتزعت أراضي واسعة اُخرى من فلسطين ، وحرب ١٩٦٧ م التي احتلت اسرائيل فيها الضفة الغربية ، وشرقي الاُردن ، وغزة وسيناء ، وثلاثة أرباع الجولان. ومن خلال هذه الحروب انشأت اسرائيل مستوطنات عديدة لايواء اليهود الوافدين إليها من شتى أنحاء العالم. ولا يزال الاستيطان قائماً حتى اليوم ، ولا تزال القضية الفلسطينية عالقة من دون حل. ( موسوعة السياسة ، ج ٤ ، ص ٥٧٢ ـ ٥٨١ ).

١٥٢

وقد نظم الشاعر في هذا الشأن قصائد كثيرة اتّجه في بعضها اتجاهاً عربياً محضاً ، وفي البعض الآخر اتجه اتجاهاً إسلامياً محضاً ، بينما نجد الروح العربية والإسلامية منصهرة معاً في قصائده الاُخرى التي ظهر فيها الشاعر واضح المعالم باتجاهه العربي الإسلامي الموحّد (١).

ونلحظ الإتجاه العربي للشاعر في قصيدته « فلسطين » التي نظمها عام ١٩٣٨ م ، والتي يقول في أبياتها الاُولى :

بالسيف اقسم لا بالطرس والقلـم

أنّ الأمانـي بحـد الصـارم الخذم

والحقّ يشهد أنّ السيف صاحبـه

وصاحب السيف قدماً صاحب الهمم

ولـيس تنهض بـالأمر الخطير يدٌ

وما لديهـا سوى القـرطاس والقلم

ولا تسود على أقـرانهـا أمـمٌ

بـدون رعد الظبـا أو خفقة العلـم


ومن ثم يتوجه إلى العرب ليثير نخوتهم ، ويستنهض عزائمهم من أجل تخليص فلسطين من وطأة المستعمر المحتل الذي أذاق الشعب الفلسطيني شتى ألوان الذل والهوان :

يـانخوة العـرب ثوري ياحميَّتها

توقدي بسعيـر منك مضطرم

ماذا القعود وقـد ساد الهوان بنا

وشيمة الحر تأبى الجبن ان تضم

وكيف قد طأطأت للضيم أرؤسها

وهـي الاُباةُ عـرانينٌ ذوو شمم

وكيف لذّلها الـورد الهنيَ وقـد

أديـف ذلك مـن أبنائهـا بدم

هبـي فتلك فلسطين بها سفكت

دماء يعرب حتـى سلن كالديم

جارت عليها يـد جبّارة حكمت

علـى فلسطين بالارهاق والعدم

خانت ضمائرها فيها فما حفظت

ولا رعت لذمام العدل من حرم

__________________

١ ـ محمد حسين الصغير : فلسطين في الشعر النجفي المعاصر ، ص ٢٤٤.

١٥٣

ما ضرّها خصمها لما به احتدمت

لكـن جـلَّ أذاهـا من يد الحكم

صبراً فلسطين فـالأحرار شيمتها

ثباتُهـا واحتفـاظاً ربّـة الشيـم

فعـن قريبٍ يبيـن الحقُّ متضحاً

وتنجلي عنه أستارٌ مـن الظلم (١)

ومن قصائد الشاعر التي انصهرت فيها الروح العربية والاسلامية قصيدته « تحية الجيوش العربية » التي نظمها اثر سقوط القدس القديمة بيد الجيوش العربية في حرب عام ١٩٤٨ م :

طلائـعُ الفتـح ونـشوةُ الغَلبْ

تهتف بـالنصر لأمـة العــربْ

بـشائر تُـوصَل فـي بـشائر

كـأنهـا سلاسل مـن الذهـبْ

قـد رقصـت لهـا البلاد كـلها

وأصبحت تهتـز بشراً وطــربْ

واحتفـل الشرقُ بها مـحتضنـاً

لمهـدهـا من الحنو والحــدبْ

أما ترى (الأردن) و( القدس ) معاً

تعجّ بـالبشر ( كمصر) و(حلبْ)

و(دجلة) (كالنيل) حيث ( بردى )

بموعد الفتـح المبيـن المـرتـقبْ

نحن بنـي العـرب الكرام بيننا

ساد الـوئام وانجلت عنا الـريبْ

عناصر الوحدة فـي أوطـاننا

تـألّفـت وهـي شعور ونـسبْ

فنظمت أوضاعنا وهـي سـدىً

ووحدت شعـوبنا وهي شعـبْ

حتى غدا الجدب إلى الخصب أخـاً

وأصبـح السهل يعـانـق الحدبْ

ولـيس ذا بــدعاً فإنّـا أُمّـةٌ

تربطنـا الوحـدة في خيـر سببْ

وانّنـا مــن عنصر متّحــدٍ

ولا فــروق بيننـا سوى اللقبْ

لنا مـن الإسلام خيرُ جـامـع

وحسبُنـا أنّـا بنــو أمّ وأبْ


ويواصل الشاعر تأكيده على الوحدة من خلال الاعتماد على النفس ونبذ

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٠٩ ، ٢١٠.

١٥٤

المواعيد السياسية الكاذبة والقرارات الدولية الجائرة التي تسلب الشعب حقّه وتنتهك سيادته وكرامته :

تحـرقي يـاعزماتِ يعـرب

وصيّـري الـواتر للنار حطب

وأنـزلي الطاغوت مـن سمائه

إلى الحضيض جاثياً على الركب

دعي قـرار الأمن فـي ناحية

وفنّـدي كل اقتـراح وطلـب

فقـد ملكت الأمر أنت سطوة

فـي بَدئهِ بعـد جهـود وتعب

فقـرري أنت المصيـرَ كلـه

وليكـن الحكم لـدولة القضب

لا تغلبي اليوم على الأمر يـداً

( فإنّما الأمر غداً لـمن غلب )

ومن ثم يعرج الشاعر في قصيدته على المحتل الغاصب ليكيل له الويل والثبور وليتوعده بسوء المنقلب والمصير :

أبناء صهيـون وتـلك نسبة

يقـرن بالخزي لها من انتسب

قـد ضُرب الذلُّ عليكم مثلما

بؤتم مـن الله بسخط وغضب

منّيتُم النفس عمـىً في أمل

مُنيتم بـالويل منـه والحرب

فـخيبت آمـالكم وآذنـت

أوضاعـكم لكم بسوء المنقلب

ويـاعبيد العجـل لا أفلحتُم

وكيف يفلح امرؤ أغضب رب

من علّم العبد بأن يسمو على

سيـده وهو بـأرفع الـرتب

أيصبـح الرأس مسوداً بيننا

ويصبح السيُد عندنـا الذنب

مهازلٌ بهـا الحياة احتشدت

فاحتشدت من المآسي والكرب

وقد غدا مـزمراً من سخف

لطبله الأجوف كل من ضرب

روايـةٌ وهميـةٌ قـد مثّلت

في مسرح من الخيال مقتضب

أمـة اسـرائيل فيها حملت

مـن بعد عقمها قروناً وحقب

١٥٥

لكنّها من شؤمها قد وضعت

جنينها ما بين أحضان العطب

ويجدد الشاعر أمله بتحقيق النصر ، وتخليص فلسطين من أغلال الاحتلال والهيمنة الصهيونية بالصبر ، والمثابرة على مقاتلة المحتل واجباره على التراجع من الأراضي الفلسطينية :

صبـراً فلسطيـن وان طال العنا

وجلجلت بك الخطوب والنوب (١)

قـد آن تحـريـرك مـن رقيّة

قـد جلبت لك الشقـاء والنصب

بفوهة المـدفع حيـن قصّـرت

أقلامنا فمـا وفت بمـا وجـب

بمنطـق القـوة حيـن ألـجمت

أفـواه مـن قـال بنا ومن كتب

فهلهلـي للبشـريـات والمنـى

واستقبلـي الشرق بها فالشرق هب

وهذه الصحراء منـه احتشدت

فيـالقـاً طبقت الدنيـا لجب (٢)

فـالأرض وهي لجة مـن الدما

والأفق وهو مـرجل من اللهب (٣)

هـبّ لانقـاذك وهـو واهـب

بالنفس والفوز حليف من وهب (٤)

ويختم الشاعر قصيدته بتحية المقاتلين والمجاهدين من أبناء مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق ممن شاركوا في الحرب التحررية ، ويشيد بمواقفهم البطولية التي حققت جزءاً من أماني وآمال الشعب الفلسطيني المسلم.

__________________

١ ـ جلجل من الجلجلة وهي شدّة الصوت وحدّته. ( لسان العرب ، ج ٢ ، ص ٣٣٨ ).

٢ ـ اللّجَب : الصوت والصياح والجَلَبة. ( لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٢٣٧ ).

٣ ـ المرجل : القِدْر من الحجارة والنحاس. ( لسان العرب ، ج ٥ ، ص ١٦٠ ).

٤ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٤٢ ـ ٢٤٥.

١٥٦

ب ـ الثورة الجزائرية (١) :

حين قامت الثورة الجزائرية ، وارتفعت أعلامها ، كان الشعراء في كافة البلاد العربية يقفون إلى جانبها بقصائدهم المؤيدة وأشعارهم الحماسية. وفي العراق كان الشعر النجفي في طليعة الشعر العراقي المؤيد للثورة الجزائرية وشعبها الصامد. ولم يشأ الفرطوسي أن يتخلف عن ركب الشعراء الثائرين بل واكب الثورة وبكل حماس منذ انطلاقتها الاُولى. فقد أنشد قصيدة « الجزائر » (٢) عام ١٩٥٦ م وقبل أن يتحقق استقلالها :

يـاأمـة الشـرف المـجيد

ذودي عـن الأوطان ذودي

هبّـي إلـى استقـلالك الـ

ـغالي مـرفرفـة البنـود

وخـذيه مخضـوب القـو

ادم من دم الشعب النجيد (٣)

__________________

١ ـ وتعرف أيضاً بـ « ثورة المليون شهيد » وهي حرب تحريرية وطنية ثورية ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. انطلقت الرصاصة الأُولى للثورة في الثلاثين من تشرين الثاني عام ١٩٥٤ م معلنة قيام الثورة بعد قرن ونيّف من الاستعمار الفرنسي للجزائر. وقد بدأت هذه الثورة بقيام مجموعات صغيرة من الثوار المزودين بأسلحة قديمة ، وبنادق صيد ، وبعض الألغام بعمليات عسكرية استهدفت مراكز الجيش الفرنسي ومواقعه في أنحاء مختلفة من البلاد في وقت واحد. وكانت الثورة تهدف إلى استقلال الجزائر التام ، وسحب القوات الفرنسية ، وإقامة حكومة وطنية ، وإجراء اصلاحات واسعة بالنسبة لملكيات الأرض وتأميم المشروعات الصناعية. وقد تكللت الثورة بالنجاح بعد أن وافقت فرنسا على الاستفتاء العام الذي جرى في الأوّل من تموز عام ١٩٦٢ م ، وفيه اقترع الجزائريون لصالح الاستقلال وإنسحاب فرنسا من الجزائر بعد استعمار دام أكثر من مئة وثلاثين عاماً. ( موسوعة السياسة ، ج ٢ ، ص ١٨٨ ـ ١٩٢ ).

٢ ـ قدّم الشاعر قصيدته بمقدمة نثرية قال فيها : « مجازر عسف وانتقام تذبح الانسانية على صعيدها الوحشي وتقبر الفضيلة والنبل في لحدها المظلم وتنسخ الرحمة والعدالة بيدها الأثيمة. كل ذلك لاشباع نهمة استعمار فرنسي مجرم يفرضه بالنار والحديد على شعب عربي مجاهد يتطلّع لحريته واستقلاله وهو مؤمن بحقّه متفان بإيمانه. فأين ذهبت من العالم صرخة الإنسانية المجلجلة بهذا الوحش العقور ».

٣ـ النجيد : الشجاع. ( لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ٤٩ ).

١٥٧

تعلــوه أصــوات الـيـ

ـتامى فـي أهازيـج النشيـد

وتـرف تحــت ظـلالـه

مقـلُ الأيـامـى كـالـورود

مخضلـــةً بمــدامــع

صُهرت على ذهب الخدود (١)

فـي تربـة ورث الجهــاد

بهـا البنـون مـن الجــدود

تـأريـخ مجـدك نـاصـعٌ

عبـقٌ من الـذكـر الحميـد

وجهــادك الجبّـار عـنـ

ـوانٌ لاسفــار الخلـــود

تهـوي جبـاهُ الظــالميـن

له وتعنــو بــالسجــود

وتطـول فيـه بطـولـة الـ

ـشهداء فـي درج الصعـود

ضــحيت فيـه بمـا غـلا

مـن طارف لـك أو تــليد

والمجـد غـرس التضحيـات

وصنـوها جيـداً لــجيد (٢)

والموت فـي سـوح الجهـاد

ألـذُّ مـن عــيش العبيــد

ويحمل الشاعر على المستعمر الفرنسي ليذكره بمجازره التي ارتكبها بحقّ الإنسانية ، وبحقّ التأريخ وبحقّ الخُلق والفضيلة :

يـاساسة الارهاق فـي الد

نيــا ويــابُقيـا ثمـود

شـوهتـم التـاريخ فـي

صحف من الارهاب سود

وأبدتـم الانصـاف فـي

نقـم مـن الظلـم المبيـد

وقتلتـم نبـلُ الضمـائـر

بـالضغـائـن والـحقود

وقبـرتـم الإنسـان فـي

أخـلاقـه بيـن اللحـود

ومحـوتمُ رسـم الـفضيلة

مـن سجـلات الوجـود

__________________

١ ـ المخضل : الندي. ( لسان العرب ، ج ٤ ، ص ١٣٠ ).

٢ ـ الصنو : الأخ. ( لسان العرب ، ج ٧ ، ص ٤٢٥ ).

١٥٨

وذبحتمُ الرحمات فوق

مجازر العسف الشديد

ونسختـمُ نُظمَ الحيـاة

وكـلَّ قانـون سديـد

مـا أنتـم بفعـالكـم

بشرٌ فـردّوا للقـرود

وهنا يتساءل الشاعر عن الجريمة التي ارتكبها الشعب الجزائري لينال بسببها كل هذا الظلم والتنكيل! فالجزائريون لم يثوروا إلاّ لتحرير أرضهم وتطهيرها من دنس المستعمر الغاشم :

مـاذا جنــى بجهــاده

شعب يسيـر إلـى الخلـود

شعــب لحــريّـاتــه

يسعـى بتحطـيـم القيـود

شعـب جـريءٌ بـاسـل

يضرى على الخصم اللدود

صلـب العقيـدة مـؤمـن

بـالحـق إيمـانَ الشهيـد

ثبـت الجنــان مـن الـ

ـركـانة لا يروّعُ بالوعيد

متمــاسـك الحلقــات

يهـزأ بالبـوارق والرعود

لا النـار تخمد عزمه الـ

ـطاغـي ولا زجل الحديد

يسطو بصـاعقـة القضاء

وفتـك ضـارية الاُسـود

وإذا اصطلت نارُ الـوغى

نـادى بهـا هل من مزيد

وبعد أن عرض الشاعر تأريخ الجزائر المشرق وإيمان شعبه الصلب راح يشيد ببطولات الجزائريين ومقاومتهم الفذّة ويبشرهم بالنصر والغلبة ، وبدعم البلدان العربية التي هبّت لنجدة الجزائر وشعبها الصامد الأبيّ :

شعب الجزائر ياأبا الـ

ـسطوات والفتك العنيد

رصعت إكليل المفاخر

من جهادك فـي عقود

وكسوت أمجاد الكـرا

مة من دمائك في برود

١٥٩

وفتحـت للأجيال مـدرسة

البطــولـة مـن جـديـد

ونشـرت درسـاً خـالـداً

للتضحيــات وللجهـــود

ورفعــت رايـة يعـربٍ

خفـاقـة فـوق البنـــود

حُييـت يـاشعـبَ الجهـاد

وطـاب مهـدك مـن صعيد

هــذي طـلائـع يعـربٍ

وافـتـك تـزخـر بالـجنود

بفيـالــق ومعـا مــعٍ

هي كـالصواعـق والـرعود

ومـراجـلٍ تغلــي دمـاً

بعزائـم هـي كـالـوقـود

فبكــل أُفــقٍ رايــة

منشـورةُ الظـلِ المـديــد

وبكــل ميــدان عـقيـ

ـدٌ يقتفـي إثــر العقيـد

وبكـلُ قُطــر نهضــةٌ

كبرى مـن الـوعـي الجديد

سطعـت بمصـر وسـوف

تسطـع مثلَ نيـران الـوعيد

بصعيد « سوريا » و« عمـ

ـانٍ » وفـي « بلد الرشيد »

وبـكل مهــد للعـروبـة

من شقيقات « الصعيد » (١)

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٠٥ ـ ٢٠٨.

١٦٠