التفسير المبين

محمّد جواد مغنية

التفسير المبين

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٣
ISBN: 964-465-000-X
الصفحات: ٨٣٠

٧ ـ (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ...) تقدم بنصه الحرفي في الآية ٤٣ من النحل.

٨ ـ (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) ليس الأنبياء أرواحا بلا أجسام ، ولا خالدين لا يموتون ... إنهم تماما كغيرهم من الناس لا يمتازون عنهم في شيء إلا في التبليغ عن الله سبحانه.

٩ ـ (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) وهو أن الله يهلك أعداء الأنبياء (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) أنجى المرسلين من الهلاك ومن تبعهم من المؤمنين (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) في الضلال والفساد.

١٠ ـ (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أيها العرب ، وكنتم من قبله من الضالين المتخلفين. قال المفكر الفرنسي «برزدويه» : إن محمدا أزكى ثمرة لأطيب شجرة نبتت في جزيرة العرب ، بيده كتاب لا يزال غضا نضرا ، لم يطرأ عليه الذبول ، ولم تغيره الأيام رغم مرور أربعة عشر قرنا.

١١ ـ (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) كان في القرون الخالية أمم غرتهم الحياة الدنيا ، فأهلكهم سبحانه بذنوبهم ، وأتى بغيرهم من عباده ، وفيه تهديد للذين كذبوا محمدا (ص) وتقدم في الآية ٦ من الأنعام.

١٢ ـ (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) حين أيقنوا بوقوع العذاب حاولوا الهروب والنجاة ، ولكن أين المفر والإله الطالب؟

١٣ ـ (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ) حين ينزل العذاب بالطغاة يفرون هاربين لا يلوون على مال وبنين ، فيقال لهم تهكما وتوبيخا : إلى أين؟ ارجعوا إلى ترف الحياة وبهجتها التي ركنتم. إليها واغتررتم بها (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) كيف تركتم ما كنتم به تباهون وتفخرون.

١٤ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) ولكن الحسرات لا ترجع ما قد فات.

١٥ ـ (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) يكررون الدعاء بالويل على أنفسهم ، ونكرر تعذيبهم حتى تجمد حركاتهم ، وتخمد أصواتهم.

١٦ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) بل لحكم بالغة ، منها الدلالة على ذاته تعالى وصفاته كما في الآية ٤٤ من العنكبوت ، ومنها أن تجزى كل نفس بما كسبت كما في الآية ٢٢ من الجاثية.

١٧ ـ (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) اللهو والعبث محال في حق من يقول للشيء كن فيكون ، ولو أراد اللهو لخلقه بقدرته ، ولكنه لا يريده ولا يفعله.

___________________________________

الإعراب : (جَسَداً) مفرد في موضع الجمع أي ذوي أجساد ، ولذا أعاد عليه ضمير الجمع في يأكلون : فيه ذكركم مبتدأ وخبر ، والجملة صفة

٤٢١

١٨ ـ (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) إن الله سبحانه لا يلهو ولا يهزأ أو يعبث ، بل ينزل القرآن ، وفيه الدليل القاطع الذي يحق به الحق ، ويبطل الباطل (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) وتفترون من نسبة الصاحبة إليه تعالى والولد والبنات واللهو وما إلى ذلك من صفات المصنوعين.

١٩ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لما ذا اللهو والولد؟ وفي قبضته كل شيء ، وإليه مصير العباد (وَمَنْ عِنْدَهُ) أي ومن له وجاهة ومكانة عند الله (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) لا يعيون ولا يملّون.

٢٠ ـ (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) لا يسأمون بل هم دائبون على الطاعة في القول والعمل.

٢١ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) من أخص خصائص الإله وصفاته أن يوجد الأحياء وينشر الموتى ، وآلهة المشركين أضعف وأحقر.

٢٢ ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ضمير فيهما للسموات والأرض وإلا بمعنى غير صفة للآلهة ، ووجه الاستدلال في هذه الآية على التوحيد ما أشار إليه سبحانه في الآية ٩١ من «المؤمنون» : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) ـ أي لتميز ملك كل إله عن ملك الآخر وهو خلاف الواقع ـ (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي لحدث بين الآلهة تحارب وتغالب تماما كما هو الشأن في الملوك والرؤساء ، وبيّنّا فيما سبق أن كل واحد من الإلهين لا يخلو بن أحد فرضين : إما قادر على الاستقلال في الخلق فوجود الثاني لزوم ما لا يلزم ، وإما عاجز عنه فالعجز نقص ، وتعالى الله عن هذا وذاك.

٢٣ ـ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فعله وقوله سبحانه هما الحق والعدل والصدق ، والحق دليل لا مدلول والعدل حاكم لا محكوم ، والصدق سائل لا مسؤول وإلا فلا صدق ولا عدل ولا حق أول ولا مبدأ على الإطلاق.

٢٤ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) تقولون : لله شريك (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) وأنا أول العابدين إن كنتم صادقين (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) أي هذا القرآن الذي معي (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) والكتب التي قبلي ليس فيها للشرك عين ولا أثر (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) ويقولون بالجهل والعمى.

٢٥ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ ...) كل الأنبياء جاءوا بالتوحيد ولو كان لله شريك لبعث للناس رسله

___________________________________

الإعراب : (أَمِ اتَّخَذُوا) ام هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. و (إِلَّا اللهُ) إلا بمعنى غير صفة للآلهة ، ولا يجوز أن تكون الا للاستثناء ، حيث يصير المعنى انه لو كان الله مع الآلهة لا يقع الفساد ، وانما يقع إذا كانوا وحدهم فقط. هاتوا اسم فعل بمعنى ائتوا. هذا ذكر من معي مبتدأ وخبر ، ومعي صلة لمن. و (عِبادٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هم عباد.

٤٢٢

٢٦ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ...) تقدم مرارا منها في الآية ١١٦ من البقرة.

٢٧ ـ (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يتقدمون بين يديه تعالى بشيء (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ولا يخالفونه في شيء.

٢٨ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما هم فيه الآن (وَما خَلْفَهُمْ) وما كانوا عليه بالأمس (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أعماله ومقاصده ، ولكن بدر منه بعض الفلتات.

٢٩ ـ (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ) فجزاؤه جهنم.

٣٠ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) كان الكون بمجموعه كتلة واحدة ، ثم تفتت إلى ذرات تسبح في الفضاء الرحب ، وكل من الأرض والشمس والقمر والزهرة والمريخ وغير ذلك من الكواكب ذرة من هذه الذرات. وهذه الحقيقة التي أعلنها القرآن الكريم منذ ١٤ قرنا ، اهتدى إليها العلم الحديث منذ أمد قريب. والحقيقة الثانية التي أثبتها العلم هي لا حياة بلا ماء ، وإليها أشار سبحانه بقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بالله وعظمته ومعجزات كتابه وقرآنه تزداد قوة ووضوحا مع الزمن وتقدم العلم إلى الأمام.

٣١ ـ (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا أرسى بها الأرض وثقلها (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) لئلا تضطرب بأهلها (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً) فجوة وثغرة هنا وهناك ليسلك الناس فيها من بلد إلى بلد لأن الجبل حائل يصعب التسلق إلى قمته ، ثم الهبوط إلى أسفله (سُبُلاً) طرقا (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) في أسفارهم إلى ما يقصدون.

٣٢ ـ (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) أي مثل السقف في رؤية البصر (مَحْفُوظاً) فكل كوكب يدور في فلكه ، ولا يتعداه بفعل الجاذبية.

٣٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) تقدم في الآية ١٢ من النحل (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كل كوكب يدور في فلكه الخاص به وحده. وفي تفسير ابن كثير أن ابن عباس تلميذ الإمام عليّ (ع) قال : يدور الكوكب كما يدور المغزل في الفلكة ، وفلكة المغزل : قطعة صغيرة مستديرة في أعلاه.

٣٤ ـ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) تمنى خصوم

___________________________________

الإعراب : (فَلِذلِكَ) مبتدأ ، وجملة نجزيه خبر. وكذلك الكاف بمعنى مثل ، وهي في محل نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي جزاء مثل ذلك. المصدر من (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مفعول ير. و (رَتْقاً) على حذف مضاف أي ذواتي رتق. وحي صفة لشيء. والمصدر من أن تميد مفعول من أجله لجعلنا ، وجعلنا هنا بمعنى خلقنا. وسبلا مفعول ، و (فِجاجاً) حال من سبل ولو تأخر فجاج لكان وصفا.

٤٢٣

محمد (ص) أن يموت ، فقال سبحانه : (أَفَإِنْ مِتَ) يا محمد (فَهُمُ الْخالِدُونَ) الموت سبيل كل حي.

٣٥ ـ (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) كل إنسان يبتلى ويمتحن بالشدة والرخاء والصحة والأدواء ، وأيضا بالحلال والحرام والطاعة والمعصية ، وهنا يعرف الأصيل من الدخيل والتقي من الدعيّ (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) لتجزى كل نفس بما كسبت.

٣٦ ـ (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) ولما ذا الهزء والسخرية بمحمد؟ لأنه يقول : الناس سواسية كأسنان المشط ، وأيضا يقول : الدين المعاملة! وفوق ذلك أنكر عبادة الأحجار والأصنام! ولهذا المنطق الآن وفي كل زمان أتباع وأنصار! والإختلاف في المظهر لا في الجوهر ، أو ما سمعت أولئك الذين يسمون من يناصر العدالة والمساواة مخربا وهداما ، والمؤمن المخلص جامدا ورجعيا (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) بأنها أحجار لا تضر ولا تنفع! لقد تجاوز كل حد! وكل مصلح ومجدد له خصوم من هذا النوع.

٣٧ ـ (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) لما استهزأ المشركون برسول الله (ص) ظن بعض المؤمنين أن الله سبحانه سيعاجلهم بالانتقام ، فقال ، عظمت كلمته : إن الله يمهل ولا يهمل. وفهم بعض المفسرين من الآية الدلالة على أن الإنسان عجول بالطبع والفطرة! وهذا ينافي النهي عن العجلة ، لأن ما بالذات لا يكون موضوعا لأمر أو نهي وعليه فنعت الإنسان بالعجول أو الكفور أو اليئوس وما أشبه ـ وهو تفسير لسلوكه بالنظر إلى بعض مواقفه ، وليس تحديدا لطبيعته وهويته.

٣٨ ـ (يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) واضح ، وتقدم مرات ، منها في الآية ٧٠ من الأعراف.

٣٩ ـ (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) يستعجلون عذاب النار ، وهم أضعف من أن يستطيعوا عليها صبرا ، ولها ردا أو يجدوا منها مهربا ، وكم من مستعجل أمرا لو أتاه لضاق به ، وتمنى أنّه لم يأت.

٤٠ ـ (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) تأتيهم الساعة فجأة بلا سابق إنذار (فَتَبْهَتُهُمْ) فتذعرهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أبدا لا حيلة ولا وسيلة ، ولا إمهال وقيل وقال :

٤١ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ...) واضح ، وتقدم في الآية ١٠ من الأنعام.

٤٢ ـ (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) يحرسكم ويحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) مهما احتاط الإنسان ، وبالغ في التحفظ من المخبآت والمفاجئات فلا ينجو منها إلا بعناية من الله وتوفيقه فكيف يحترس ويسلم من قضائه وقدره.

___________________________________

الإعراب : وقال صاحب مجمع البيان فجاجا مفعول ، و (سُبُلاً) بدل منه ، والمعنى صحيح على الإعرابين. وكلّ مبتدأ وجملة يسبحون خبر وفي فلك متعلق بيسبحون. و (فِتْنَةً) مفعول مطلق لنبلوكم مثل قمت وقوفا ، و (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) إن نافية ، وهزوا مفعول ثان. وهم الأولى مبتدأ ، وكافرون خبر ، وبذكر الرّحمن متعلق بكافرين. وهم الثانية تأكيد لفظي لهم الأولى. حين مفعول به ليعلم أي يعلم الوقت. وجواب لو محذوف أي لو يعلم الكافرون ... لانتهوا. وبغتة مصدر في موضع الحال من مفعول تأتيهم أي تأتيهم مبغوتين

٤٢٤

٤٣ ـ (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) هؤلاء الذين تستجيرون بهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، وتقدم في الآية ٧٦ من المائدة وغيرها (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) يجارون فكيف يجيرون.

٤٤ ـ (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أمهلهم سبحانه ، وأمدّ في حياتهم ، ونعموا في العديد من متاع الحياة ، فظنوا أنهم على شيء (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بموت من بنى وشيّد ، وغرس وجاهد ، وتقدم في الآية ٤١ من الرعد (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) بل مغلوبون وخاسئون.

٤٥ ـ (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين الساخرين : أتهزأون بي وبالقرآن؟ وما أتيتكم بشيء من عندي. إنه لقول الفصل وما هو بالهزل من العليّ القدير ، أنذركم به وكفى ، وهو أعلم بي وبكم (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) وكيف تسمعون التحذير والإنذار ، وفي آذانكم وقر وصمم.

٤٦ ـ (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) لذعة خفيفة من نار جهنم (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا ...) تقدم في الآية ١٤ من هذه السورة.

٤٧ ـ (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) وليس المراد بالموازين هنا ما لكل واحد منها كفتان وعمود ولسان ، بل المراد أحكام الله وشريعته (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) بل إن تك حسنة يضاعفها ، وإن تك سيئة فواحدة بواحدة ويعفو عن كثير (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) حتى عدد أنفاس الخلائق بلا عقل الكتروني ، وفي نهج البلاغة : أن عليكم حفاظ صدق يحفظون أعمالكم ، وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ، ولا يكنكم منهم باب ذو رتاج.

٤٨ ـ ٤٩ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) التوراة السماوية التي تفرّق بين الحق والباطل لا الأرضية التي تصف الله سبحانه بصفات يهتز لها العرش.

٥٠ ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) القرآن الكريم الذي أنقذ الإنسانية من دياجير الجهل والضياع ، وهداها الطريق السوي السليم (أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)؟ فأتوا بسورة من مثله إن كنتم صادقين.

___________________________________

الإعراب : (أَمْ لَهُمْ) ام منقطعة بمعنى بل ، وجملة تمنعهم صفة للآلهة ، وجملة لا (يَسْتَطِيعُونَ) مستأنفة لا محل لها من الإعراب. والمصدر من أنّا نأتي مفعول يرون أي أفلا يرون إتياننا الأرض. (إِذا ما) ما زائدة إعرابا. و (الْقِسْطَ) صفة للموازين على حذف مضاف أي ذوات القسط. و (شَيْئاً) مفعول مطلق لتظلم لأنه بمعنى ظلما. والباء في بنا زائدة وضمير نا فاعل ، وحاسبين تمييز لأنه بمعنى من حاسبين ، ويجوز أن يكون حالا. و (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ) بدل من المتقين.

٤٢٥

٥١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) الهداية صغيرا ، والنبوة كبيرا (مِنْ قَبْلُ) الذين جاؤوا بعده كموسى وعيسى (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) إنه أهل للنبوة (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ـ ١٢٤ الأنعام».

٥٢ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ ....) هذا هو الرشد الذي آتاه الله لإبراهيم : الثورة على الجهل والخرافة.

٥٣ ـ ٥٤ ـ (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) ولا تبديل وتغيير لما كانوا يفعلون.

٥٥ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِ)؟ استبعدوا أن يكون جادا لأنهم لم يسمعوا مثل هذا من قبل.

٥٦ ـ (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وليست هذه التماثيل إلا أسماء من غير مسميات.

٥٧ ـ (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) لأتركنها محطمة مهشمة من حيث لا تشعرون.

٥٨ ـ (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) حطم إبراهيم الأصنام ، وجعلها قطعا متلاشية ، وترك أكبرها عن قصد كي يسألوه عن الجاني ، ولا يجيب كما تأتي الإشارة.

٥٩ ـ (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وكان الأجدر أن يتساءلوا : لما ذا لم تدافع الآلهة عن نفسها ، وتفعل بالجاني قبل أن يفعل بها ، أو يسخروا منها ـ على الأقل ـ كما سخر الأعرابي من صنمه حيث قال :

«أربّ يبول الثعلبان بوجهه

لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

٦٠ ـ (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) يذم الأصنام ومن يعبدها ، ويقول : لأكيدنّها وأحطّمنّها.

٦١ ـ (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أرادوا أن يستجوبوه ويحاكموه محاكمة علنية ، ويعاقبوه على جريمته ليتعظ به من يحاول النيل من مقام الآلهة.

٦٢ ـ (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا)؟ أتوا بإبراهيم على ملأ من الناس ، وكانت هذه أمنيته ليقيم عليهم الحجة بأنهم في ضلال مبين ، وحين وجّهوا إليه هذا السؤال.

___________________________________

الإعراب : (التَّماثِيلُ) عطف بيان او بدل من هذه ، والتي بدل من التماثيل. والذي فطرهن بدل من (رَبُّ السَّماواتِ). و (مُدْبِرِينَ) حال مؤكدة. و (كَبِيراً) مستثنى متصل. وله خبر مقدم وابراهيم مبتدأ مؤخر. (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) متعلق بمحذوف حالا من ضمير به أي مرئيا على أعين الناس.

٤٢٦

٦٣ ـ (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ومن الواضح أن إبراهيم ما أراد الخبر والحكاية عن الواقع كي يقال : كذب في ذات الله كما روى أبو هريرة عن النبي ، وإنما أراد توبيخهم وإقامة الحجة عليهم بدليل قوله : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ما هذا التناقض؟ آلهة ولا تشعر! ولا غرابة فإن العقل الخرافي يقبل التناقضات والأساطير ، وينأى عن التعليل والتحليل حتى ولو رجع إلى الصواب في لحظة طارئة ، فإنه يرتد عنه إلى الخرافة والجهالة كما قال سبحانه :

٦٤ ـ (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) تساءلوا : كيف نعبد أحجارا لا تدفع السوء عن نفسها (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) وليس إبراهيم ، ولكن سرعان ما عادوا إلى الخرافة التي غمرت عقولهم ونفوسهم.

٦٥ ـ (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) والنكسة : الوقف على الرأس ، والمراد بها هنا الرجوع عن الاعتراف بالحق إلى الباطل وإصرارهم عليه في قولهم : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) انتزع إبراهيم (ع) الاعتراف بأن أربابهم لا تحس ولا تشعر ليقول :

٦٦ ـ ٦٨ ـ (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) وهذه حجة مفحمة ، وبيّنة لازمة ولكن ثم ما ذا؟ ما داموا لا يدركون ويتدبرون كما خاطبهم إبراهيم (ع) : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بأن هذه أحجار صماء؟ (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) وهنا العكس والنكس حيث ينتصر المربوب لربه والمخلوق لخالقه! ولكن العقل الخرافي يجوز عليه أكثر من ذلك كما سبقت الإشارة ٦٩ ـ (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) وإن قال قائل : كيف بردت النار وهي محرقة بالطبع؟ قلنا في جوابه : إن القوانين العقلية الرياضية هي التي يجب اطرادها ويستحيل نقضها وخرقها مثل المدور غير المربع والمثلث له ثلاثة أضلاع ، أما القوانين الطبيعية فنقضها وتخلفها ممكن عقلا ممتنع عادة مثل الحديد يتمدد بالحرارة ، فإن العقل لا يرى أي تناقض في أن توجد الحرارة ولا يتمدد الحديد ، وأن لا تؤدي النار إلى الإحراق ، وشرب السم إلى القتل ، ولا شيء أدل على ذلك من أن العلم بالقضايا الطبيعية مصدره الحس والتجربة أما القضايا الرياضية فمصدر العلم بها الفطرة وبديهة العقل ٧٠ ـ (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أوقدوا النار ليحرقوه بها ، فكانت من معجزاته والدليل القاطع على صدقه ونبوته وعلى كذبهم وضلالهم ٧١ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ) ارتحل إبراهيم (ع) هو وابن أخيه لوط من العراق إلى فلسطين (الَّتِي بارَكْنا فِيها) لكثرة أنبيائها.

٧٢ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ) لإبراهيم (إِسْحاقَ) ووهب سبحانه لإسحق (يَعْقُوبَ نافِلَةً) عطية من غير سؤال ٧٣ ـ ٧٤ ـ (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) الإمام الحق هو الذي يبدأ بنفسه ، ويكون القدوة الحسنة والمثل الأعلى في العمل بما يدعو إليه ، وتنحصر مهمته بالهداية إلى طاعة الله سبحانه التي تشير إليها كلمة «بأمرنا» وحدد ، جل وعز ، هذه الطاعة بقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) والمراد بالخيرات كل ما ينتفع به الناس من قول أو رأي أو عمل ، وبالصلاة والزكاة الفروض المالية والجسدية المذكورة في كتب الفقه.

٤٢٧

٧٥ ـ (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً) فاصلا في النزاع والخلاف بين الناس (وَعِلْماً) بدين الله وشريعته (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ ...) تقدم مفصلا في الآية ٨٠ وما بعدها من الأعراف والآية ٧٧ وما بعدها من هود.

٧٦ ـ ٧٧ ـ (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ ...) يشير سبحانه إلى قول نوح : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ـ ٢٦ نوح ... (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) ـ ١٠ القمر» (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) تقدم في الآية ٢٦ ـ ٤٩ من هود.

٧٨ ـ (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) في الزرع (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ) رعت الزرع ليلا (غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) لحكم داود وسليمان على أن يكون أقل الجمع اثنان.

٧٩ ـ (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) قال المفسرون ما يتلخص بأن رجلين تخاصما إلى داود : أحد هما صاحب زرع ، والآخر صاحب غنم ، فقال الأول : إن غنم هذا أفسدت زرعي ، واعترف الثاني ، فقضى داود أن يأخذ صاحب الزرع الغنم عوضا عن زرعه ، لأن قيمة الزرع كانت تعادل قيمة الغنم ، ولما علم بذلك سليمان قال لأبيه : الأرفق بالرجلين أن يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها ، ويأخذ صاحب الغنم الأرض يصلحها حتى يعود الزرع كما كان ، وعندئذ يترادان ، فاستحسن داود حكم ولده. وقد تكون الحكمة في ذلك التنبيه إلى مكانة سليمان ، أو أن الحكم كان على ما قال داود ثم نسخ بما قال سليمان ، ويؤيد قوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) حيث شهد سبحانه لكل منهما أنه محق ومصيب. ولا وجه لذلك إلا النسخ كما نظن ونفهم.

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) ما من شيء إلا ويسبح بحمد الله تعالى بلسان ناطق أو بالدلالة على وجود الخالق أو بهما معا كما في الآية ٤٤ من الإسراء : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

٨٠ ـ (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) المراد بصنعة اللبوس الدروع وفيه إيماء إلى أن أول من صنع الدروع هو داود وفي مجمع البيان أن لقمان الحكيم رآه يصنعها ولم يعرف الهدف منها ، ومع ذلك تريث ولم يسرع إلى سؤاله حتى فرغ داود ، فلبسها فقال : نعم لبوس الحرب ، ففهم لقمان وقال : الصمت حكمة وقليل فاعله.

___________________________________

الإعراب : وأقام أصلها إقامة. ولوطا مفعول لفعل محذوف أي آتينا لوطا آتيناه. وفاسقين صفة لقوم سوء. ونوحا معطوف على لوط.

٤٢٨

٨١ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي وسخر له الريح (عاصِفَةً) شديدة الهبوب تارة وخفيفة تارة تبعا لإرادته كما قال سبحانه : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) وطوع إرادته (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي فلسطين.

٨٢ ـ (وَمِنَ الشَّياطِينِ) الجن (مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في البحار ، يستخرجون اللؤلؤ والمرجان وغيرهما (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) كبناء المحاريب والتماثيل والجفان والقدور الراسيات كما في الآية ١٣ من سبأ.

٨٢ ـ ٨٣ ـ (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) في قاموس الكتاب المقدس : «أيوب اسم عبري ، ولا يعرف معناه على وجه التحقيق ، ويقول بعضهم : انه قريب من اللفظ العربي آئب ، فربما يعني الراجع إلى الله والتائب إليه» (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) قالوا : كان لأيوب مال وأولاد ، فهلكوا بالكامل ، ثم تسلطت على جسمه الأسقام والآلام ، فصبر صبر الأحرار ، ولما تناهت الشدة ، وطالت المدة قال : ربّ مسّني الضر. ولم يقل تفاقم وتراكم كيلا تشعر شكواه بالضجر.

٨٤ ـ (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) استجاب سبحانه دعوته ، ورد عليه عافيته ، لأنه صبر على بلاء الله صبر الأحرار ، وثبت على الإيمان ثبوت النبي المختار (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) حيث ولدت امرأته عدد أولاده الموتى (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) وزاده الله من فضله أمثالهم عددا ، وأخلف عليه أكثر مما ذهب من ماله (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) لأنه المثل الأعلى للصبر والإيمان (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) المخلصين إذا أصابتهم مصيبة تأسوا بأيوب.

٨٥ ـ ٨٦ ـ (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) انقاد إسماعيل واستسلم للذبح طاعة لله ولأبيه ، وإدريس مر ذكره في الآية ٥٦ من مريم ، أما ذو الكفل فلا نعرف عنه شيئا إلا انه من الصابرين الصالحين.

٨٧ ـ ٨٨ ـ (وَذَا النُّونِ) يونس (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) قومه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) لن نضيق عليه (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) في بطن الحوت (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أخرجناه من بطن الحوت ، وتقدم الكلام عنه في سورة يونس.

___________________________________

الإعراب : و (كُلًّا) مفعول أول لآتينا وحكما مفعول ثان. ومع منصوبة بيسبحن. و (الطَّيْرَ) عطف على الجبال. و (لِسُلَيْمانَ) متعلق بفعل محذوف أي وسخرنا لسليمان. وعاصفة حال من الريح ومن الشياطين متعلق بفعل محذوف. و (مَنْ يَغُوصُونَ) من مفعول لفعل محذوف أي وسخرنا من الشياطين ، ويجوز أن تكون من مبتدأ ومن الشيطان خبر والجملة مستأنفة. و (دُونَ) ذلك متعلق بمحذوف صفة لعمل.

٤٢٩

٨٩ ـ ٩٠ ـ (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى ...) تقدم في الآية ٣٨ من آل عمران وما بعدها والآية ٦ وما بعدها من مريم (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) هذي هي هوية الأنبياء : ليسوا سحرة أو منجمين ولا ملائكة أو سلاطين ، إنهم أناس يطيعون الله في كل شيء رغبة في ثوابه ، وخوفا من عقابه ، ومن أجل هذا جعلهم الله خزنة علمه ، وحفظة دينه ، وخلفاء في أرضه ، وحجة على عباده ، ولا يسوغ لأحد أن يتكلم باسم نبي أو وصي نبي ولا أن يوصف بالحجة والقدوة في دين الله إلا أن يكون عالما به ، مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه.

٩١ ـ (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) هي مريم بنت عمران تنزهت عن كل ما يشين (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أجرينا فيها روح عيسى ، وتقدم في الآية ٤٥ من آل عمران و ١٦ من مريم.

٩٢ ـ (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أمتكم : ملتكم ودينكم ، والخطاب : للناس كافة دون استثناء ، والمعنى أيها الناس هذي هي ملتكم وهذا هو دينكم الذي شرعه الله لكم وبلّغه بلسان الأنبياء جميعا ، وهو التوحيد عقيدة ، والصلاة الخالصة المخلصة لوجه الله عبادة ، وفعل الخير والحسنات وترك الشر والسيئات شريعة ، ولا شيء إطلاقا خرج عن هذا الإطار أو دخل فيه عند ما شرع الله دينه الحق لعباده ، وفي الحديث الشريف : «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» وأولاد العلات أخوة ، أبوهم واحد ، وأمهاتهم شتى. وإذن لا سبب لتعدد الأديان والطوائف إلا الجهل أو المنفعة الشخصية (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ولا تعبدوا الأهواء والأدعياء ٩٣ ـ (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) ولكن الناس تمزقوا قطعا ، وتفرقوا شيعا ، لكل أمة قائد وإمام (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) هذا تهديد ووعيد على الشتات والتفريق ٩٤ ـ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لا إيمان بلا عمل صالح نافع ، والعمل بلا إيمان كالبنيان بلا أساس ، ومن جمع بينهما (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) بل يشكر ويذكر بالخير والأجر (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) فلا يضيع شيء منه عليه ٩٥ ـ (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) كأنّ قائلا يقول : هل يبعث الله ثانية الذين أهلكهم في الدنيا بكفرهم؟ الجواب : أجل ، لا استثناء من البعث ، وممتنع على الذين هلكوا إن لا يرجعوا إلى الله ، بل يرجعوا إليه لا محالة ، ويحاسبهم على ذنوبهم وكفرهم ، أجل لا يعاقبهم على تكذيب الأنبياء من حيث هو ، لأن الإهلاك في الدنيا هو العقاب على هذا التكذيب ، وما عداه يشمله الحساب والعذاب ، هذا ما ندركه بعقلنا من حيث الاستحقاق في ظاهر الأمر ، والواقع لله وحده.

٩٦ ـ (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) لا نعرف شيئا عنهما إلا ما نقلناه عن المفسرين عند تفسير الآية ٩٤ من الكهف ، وربما يكون يأجوج ومأجوج مشتقين من الأجيج بمعنى نار الفتنة والفساد في الأرض ، وعليه يكون يأجوج ومأجوج إشارة إلى دولة تسيطر بسلاحها المدمر على أهل الأرض بكاملها ، فتهلك الحرث والنسل ، وعندئذ تقوم القيامة كما أشار سبحانه بقوله :

٤٣٠

٩٧ ـ (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) وهو قيام الساعة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من هول المطلع وشدة الجزع ، وتقدم في الآية ٤٢ من إبراهيم (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أي يقولون : يا ويلنا ... وتقدم في هذه السورة مرتين في الآية ١٤ والآية ٤٦ وهذي هي الثالثة ، وأيضا تقدم في الآية ٥ من الأعراف وأيضا يأتي ، والقصد من هذا التوكيد والتكرار أن نتقي الله ونحذر هذه النهاية الخاسئة المحزية.

٩٨ ـ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وإن قال قائل : وأية جدوى من حرق الأصنام ، وهي لا تحس وتشعر؟ ـ قلنا في جوابه : إنها وقود لعبدتها كما في الآية ٢٤ من البقرة.

٩٩ ـ (لَوْ كانَ هؤُلاءِ) الأصنام (آلِهَةً ما وَرَدُوها) إله يحرق في النار.! ١٠٠ ـ (لَهُمْ) لعبدة الأصنام والأهواء (فِيها زَفِيرٌ) التنفس بشدة (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) لأنهم في شغل شاغل بآلامهم وأوجاعهم.

١٠١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) لما ذكر سبحانه أهل النار عطف عليهم أهل الجنة ، وأنهم عن النار (مُبْعَدُونَ).

١٠٢ ـ (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) مجرد توكيد لبعدهم عنها ونجاتهم منها (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) حياة دائمة وسعادة قائمة.

١٠٣ ـ (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) لا عند الموت ولا في القبر ولا عند البعث والنشر (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) تستقبلهم ملائكة التشريفات بالحفاوة والتكريم ، أما نشيدهم فهو (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بالرضوان والجنان. وتقدم العديد من الآيات المنذرة والمبشرة.

١٠٤ ـ (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) السجل : الصحيفة ، والمراد بالكتب هنا الكلمات المسجلة فيها. والمعنى أن الله سبحانه يطوي جميع الكواكب يوم القيامة كما تطوي الصحيفة الحروف والكلمات ؛ ومثله تماما الآية ٦٧ من الزمر : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) يحيي سبحانه ، ويميت ثم يعيد الخلق إلى الحياة وهو على كل شيء قدير.

١٠٥ ـ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) كتاب داود (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) من بعد صحائف إبراهيم وتوراة موسى (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها) في آخر الزمان (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) جاء في الكتب الصحاح ، منها سنن أبي داود : «قال رسول الله (ص) : «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا».

___________________________________

الإعراب : والحق صفة للوعد. فإذا للمفاجأة ، و (هِيَ) ضمير القصة مبتدأ ، وابصار الذين كفروا مبتدأ ثان ، وشاخصة خبر المبتدأ الثاني.

٤٣١

١٠٦ ـ (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) هذا إشارة إلى أن الأرض يرثها العباد الصالحون ولو بعد حين ، والعابدون هم الذين يتّعظون بالعبر ، وينتفعون بالنذر.

١٠٧ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ) يا محمد (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) بأخلاقك وسيرتك وشريعتك وتعاليمها وأهدافها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما أنا رحمة مهداة. وقيل له : ادع على المشركين. فقال : إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة وأيضا قال : إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا.

١٠٨ ـ (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وموقنون بدين التوحيد؟.

١٠٩ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أعلمتكم بأن الدين عند الله هو التوحيد (عَلى سَواءٍ) في التبليغ والإعلام ، لم يختص به واحد دون آخر أو فئة دون فئة (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) إن هنا نافية ، والمعنى أنا على يقين من عذابكم أيها الجاحدون والمشركون ، ولكن لا أدري متى يكون.

١١٠ ـ (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) واضح ، وتقدم في الآية ٧ من طه.

١١١ ـ (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) إن نافية ، والفتنة : الامتحان والاختبار والمتاع : ما ينتفع به قليلا ، والضمير في لعله للإمهال والتأخير والمعنى لا أدري : هل أمهلكم سبحانه ليظهر كلّا منكم على حقيقته فيتوب الطيب ، ويتمرد الخبيث ، أو أراد ، عظمت حكمته ، أن تستمتعوا أياما بقيت من أعماركم؟ وهذا الإبهام من أساليب الدعوة بالحكمة ، لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب.

١١٢ ـ (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) انصر الحق أهله واخذل الباطل وأعوانه (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) من الافتراء على الله وكتبه ورسله.

سورة الحج

مدنيّة وهي ثمان وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الساعة : يوم القيامة ، وزلزلتها : خراب الكون بأرضه وسمائه.

___________________________________

الإعراب : (إِنَّما) بالكسر للحصر ، و (إِنَّما) بالفتح كلمتان أن المشددة وما الكافة عن العمل ، وإلهكم مبتدأ وإله واحد خبر ، ومعنى الجملة نائب فاعل ليوحى أي يوحى إليّ الوحدانية. و (عَلى سَواءٍ) متعلق بمحذوف حالا من المفعول في آذنتكم أي مستوين في الإيذان

٤٣٢

٢ ـ (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) هذا كناية عن هول الساعة وشدتها حيث لا مرضع ولا حامل يومذاك ، وعليه يكون المعنى لو كان ثمة مرضع لذهلت أو حامل لوضعت.

٣ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) إن النقاش والجدال بمعنى الكلمة لا يكون ولن يكون إلا بين عالمين ، لأن العالم يضل عقله عند محاورة الأحمق (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) كل من أخفى حقيقته بالشعوذة والرياء ليضلل الناس عن الطريق السوي فهو شيطان ، أما المريد فهو الذي بلغ الغاية من الفساد والعناد.

٤ ـ (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) من قلد الضال المضل قاده في الدنيا إلى كل سوء وفي الآخرة إلى عذاب الحريق بحكم مبدأ العلية.

٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) من شك في البعث فلينظر إلى ابتداء خلقه من أي شيء نشأ ووجد (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) بلا واسطة كخلق أبينا آدم ، أو بوسائط كخلقنا نحن ، فكل ما به حياتنا وبقاؤنا ينتهي إلى الماء والتراب وغيرهما من العناصر ، ولكن التراب هو الأول والأساس (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) المني (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) تتحول النطفة إلى دم جامد (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) تستحيل العلقة قطعة لحم كأنها ممضوغة (مُخَلَّقَةٍ) أي بعضها تام الخلقة (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) وبعضها الآخر ناقص الخلقة (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) قدرة الله على البعث وغيره (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو الذي تلد فيه المرأة (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) ضعيفا نفسا وجسما (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) تتكامل القوى ، وتتزايد شيئا فشيئا حتى الشباب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) قبل ذلك (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) هرم وخرف وضعف في الجسم والعقل ، ولا علاج يجدي ، ودواء يغني ، وتقدم في الآية ٧٠ من النحل (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) لا حياة فيها (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ) نبضت بالحياة ، وارتفعت

___________________________________

الإعراب : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) على حذف مضاف أي عذاب ربكم. و (يَوْمَ) متعلق بتذهل. (وَتَرَى) هنا بصيرية ، لا قلبية ، وتتعدى الى مفعول واحد وهو الناس ، وسكارى حال منهم. الضمائر الثلاثة في عليه وانه من تولاه تعود الى الشيطان ، وضمير فانه يضله للشأن ، والمصدر من انه من تولاه نائب فاعل لكتب. و (مَنْ تَوَلَّاهُ) من مبتدأ ، والمصدر من فانه يضله خبر لمبتدأ محذوف أي فالشأن إضلال الشيطان له ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره خبر من تولاه ، وجملة من تولاه وخبره خبر انه الأولى. ونقر كلام مستأنف ، وجملة نقر خبر لمبتدأ محذوف أي ونحن نقر ، ومفعول نقر محذوف أي نقر الولد. و (ما نَشاءُ) ما مصدرية ظرفية أي مدة مشيئتنا والظرف متعلق بنقرّ. و (طِفْلاً) حال ، ولفظه مفرد ومعناه الجمع. وشيئا مفعول مطلق. و (هامِدَةً) حال لأن ترى هنا بصرية تتعدى الى مفعول واحد.

٤٣٣

بالنبات (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف (بَهِيجٍ) يسر الناظرين ، وهذا دليل آخر على إحياء الموتى.

٦ ـ ٧ ـ (ذلِكَ) الذي ذكرناه من أمر الأرض والإنسان دليل قاطع (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) القائم بذاته ، ولا يقوم سواه إلا بقدرة الله وإرادته.

٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) قال الماديون : لا طريق إلى العلم والمعرفة إلا الحس والتجربة ، وقال المثاليون : الطريق إلى المعرفة هو العقل وكفى ، أما القرآن فقد قرر بوضوح أن مصادر المعرفة ثلاثة : (١) التجربة (٢) العقل ، لأن الإنسان عينا ترى وعقلا يدرك (٣) الوحي ، لأن الله بكل شيء عليم ، وهذه الآية جمعت المصادر الثلاثة ، فالعلم إشارة إلى التجربة ، والهدى إلى العقل ، والكتاب المنير هو الوحي.

٩ ـ ١٠ ـ (ثانِيَ عِطْفِهِ) العطف : الجانب أو الرقبة ، ثنى عطفه لوى جانبه أو رقبته ، والمراد بثاني عطفه هنا المتكبر المعرض عن الحق. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي إن جداله بغير علم يؤدي إلى الضلال عن الطريق السوي.

١١ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) لأمر كان يأمله (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) السرّاء (اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) الضراء (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) ارتد عن دينه ، وفي التفاسير : أن هذه الآية نزلت في بعض الإعراب الذين أسلموا ، فإذا اتفق لأحدهم ما يعجبه من مال وولد قال : هذا دين حسن وإلا تشاءم وارتد عن الإسلام (خَسِرَ الدُّنْيا) لأنه لم يحصل منها على شيء كما هو الفرض (وَالْآخِرَةَ) حيث أقدم على ربه كافرا به.

١٢ ـ (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أصناما لا تضر ولا تنفع وتقدم مرات.

١٣ ـ (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) عبد المشرك الأصنام لينتفع بشفاعتها يوم القيامة ، فعومل بخلاف قصده حيث كانت السبب الموجب لعذابه (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) المولى : الناصر ، والعشير : الصاحب ، ومن اتخذ الصنم ناصرا أو صاحبا فالمصير الهاوية.

___________________________________

الإعراب : (ثانِيَ عِطْفِهِ) حال من ضمير (يُجادِلُ). والمصدر المجرور باللام في ليضل متعلق بيجادل. (لَهُ فِي الدُّنْيا) خبر مقدم ، وخزي مبتدأ مؤخر. ويدعو لمن ضره أقرب من نفعه. اختلفوا في اللام الداخلة على من : أي لام هي؟ وذكروا لها وجوها ، وأرجحها ان مفعول يدعو محذوف أي يدعو الأصنام ، ومن مبتدأ واللام لام الابتداء ، وضره مبتدأ ثان وأقرب خبر المبتدأ الثاني. والجملة من الثاني وخبره صلة لمن.

٤٣٤

١٤ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) لما ذكر سبحانه أهل الضلالة وعذابهم عطف عليهم أهل الهداية وثوابهم كما هو شأنه ، عظم سلطانه (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) وإرادته تعالى عليمة وحكيمة ، تضع الأمور في مواضعها.

١٥ ـ (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) المراد بالسبب هنا الحبل ، وبالسماء ما يعلق به الحبل سقفا كان أو غيره ، وبالقطع الخنق والشنق ، والمعنى من نزلت به نازلة ، وضاق عليه مخرجها ، ويئس من عون الله في الدنيا وثوابه في الآخرة مع الصبر ـ فلينتحر شنقا وخنقا ، ثم يرى هل تذهب آلامه ، ويتحقق مرامه؟

١٦ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) حججا واضحة على التوحيد والبعث وغير ذلك (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي) إلى هذه الآيات البينات (مَنْ يُرِيدُ) وهو سبحانه لا يريد تشهيا وعبثا ، وإنما يعطي الهدى لمن يعلم منه صدق النية في طلب الهدى كما قال سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) ـ ٣٠ النجم».

١٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) اليهود (وَالصَّابِئِينَ) طائفة كانت على دين نوح ، وتحولت منه إلى عبادة الملائكة أو الكواكب كما قيل (وَالْمَجُوسَ) يعبدون النار ويقولون : الخير من النور والشر من الظلمة (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيجازي كل طائفة بما كسبت ، وتقدم في الآية ٦٢ من البقرة.

١٨ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ...) المراد بالسجود هنا الانقياد لأمره تعالى وما يجريه على الخلائق من تقدير وتدبير (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) يؤمنون بالله ويسجدون له (وَكَثِيرٌ) من الناس امتنع وابى (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) يوم القيامة (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أبدا لا رافع

___________________________________

الإعراب : ولبئس المولى اللام واقعة في جواب القسم المحذوف ، والجملة من القسم وجوابه خبر المبتدأ الأول ، وهو لمن. (مَنْ كانَ) من اسم شرط ، وفليمدد جوابه ، واللام في يمدد ويقطع وينظر للأمر تجزم فعلا واحدا. و (ما يَغِيظُ) ما مصدرية ، والمصدر المنسبك مفعول يذهبن أي هل يذهبن كيده غيظة. والمصدر من ان الله يهدي من يريد مفعول لفعل محذوف أي وأنزلنا ان الله يهدي من يريد وجملة إن الله يفصل خبر إن الذين آمنوا.

٤٣٥

لمن وضع ، ولا واضع لمن رفع (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من إكرام الصالح وإهانة الطالح.

١٩ ـ (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) وعاد الجمع على المثنى حملا على المعنى كما يتضح من التفسير الآتي (فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) جاء في العديد من التفاسير ، منها تفسير الرازي والطبري وابن كثير : أن هذه الآية نزلت في فريقين : فريق من المؤمنين وهم حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وفريق من المشركين وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ، وأن الخصومة بينهم كانت في القتال والمبارزة يوم بدر ، وأن الله نصر المؤمنين على المشركين.

(يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ) الضمير للمشركين (الْحَمِيمُ) يشبه الماء المغلي.

٢٠ ـ ٢١ ـ (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) أي يذيب اللحم والشحم والأمعاء (وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ) جمع مقمعة أي مقرعة (مِنْ حَدِيدٍ).

٢٢ ـ (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) من النار (مِنْ غَمٍ) يأخذ بأنفاسهم (أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أين المفر من حكم الله ومشيئته؟

٢٣ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لما ذكر سبحانه حال أهل النار عطف عليهم حال أهل الجنة وان لهم جنات وكل ما يشتهون من طعام وشراب ولباس وزينة.

٢٤ ـ (وَهُدُوا) أي هداهم الله (إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) مثل الحمد لله على ما تفضل وأنعم (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) وهو الإسلام الذي انتهى بهم إلى روح وريحان وهما الراحة مع الرزق الطيب.

٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يمنعون الناس من الدخول في الإسلام (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وأيضا يمنعونهم من الحج إلى بيت الله (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ) المقيم في مكة (وَالْبادِ) العابر والقاصد (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) والإلحاد الانحراف عن الحق والعدل ، والمراد بالظلم هنا القصد والعمد والمعنى من يرتكب شيئا من الكبائر والمعاصي في المسجد الحرام عن قصد وعمد ـ فحسبه جهنم وبئس القرار.

___________________________________

الإعراب : (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) ما نافية ، وله خبر مقدم ، ومن زائدة ، ومكرم مبتدأ مؤخر. الخصم مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والذكر والأنثى ، يقال : هو أو هي أو هما هما أو هم أو هن خصمي ، وجاءت التثنية في «هذان» بالنظر الى اللفظ ، وجاءت واو الجماعة في (اخْتَصَمُوا) بالنظر الى المعنى مثل (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا). و (كُلَّما) منصوبة على الظرفية لأنها مضافة الى ما المصدرية الظرفية ، والعامل فيها أعيدوا. ومن غم بدل اشتمال من ضمير منها باعادة حرف الجر. ومن ذهب بمحذوف صفة لأساور. ولؤلؤا عطف على محل أساور لأن كل مجرور لفظا هو منصوب محلا ، وقيل : مفعول لفعل محذوف أي ويعطون لؤلؤا. وان الذين كفروا ، خبر ان محذوف أي ان الذين كفروا نذيقهم العذاب. وسواء مفعول ثان لجعلناه ، وهو اسم فاعل بمعنى «مستويا» والعاكف فاعل له. وبإلحاد الباد زائدة اعرابا ، وإلحاد مفعول يرد.

٤٣٦

٢٦ ـ (وَإِذْ بَوَّأْنا) هيأنا (لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) وجدنا المسجد الحرام لعبادة الله الواحد الأحد (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الشرك بشتى صوره (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) والطواف حول البيت معروف ، ولا يجب في أي بقعة من الأرض سواه ، المراد بالقائمين المقيمون في مكة وضواحيها وليس المصلين كما قيل ، لأن الله سبحانه قد عطف عليهم الركع السجود أي المصلين ، والعطف يستدعي المغايرة ـ في الغالب ـ.

٢٧ ـ (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) ناد أيها الناس حجوا إلى بيت الله الحرام (يَأْتُوكَ رِجالاً) جمع راجل أي مشاة (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) من فرس وناقة وغير ذلك مما يركب ، وإنما وصف بالضمور لأنه لا يصل إلى البيت إلا بعد ضموره (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) من طريق بعيد.

٢٨ ـ (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية حيث يكون هناك الاتصال والتلاقي بين العديد من الشعوب (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) عند ذبح البهائم ونحرها (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) وأيام الذبح والنحر عند الشيعة أربعة من اليوم العاشر إلى الثالث عشر من ذي الحجة ، وعند غيرهم ثلاثة تنتهي بالثاني عشر منه (فَكُلُوا مِنْها) من ذبيحة الحج ، والأمر هنا للرخصة والإباحة ، وكان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم المراد بها النسك ، فرخّص سبحانه بالأكل ، ولم يوجبه (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) وهذا هو الهدف من الذبح في رأينا ، وليس إراقة الدم من حيث هو.

٢٩ ـ (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) التفث : الوسخ ، والمعنى بعد ان يحل الحاج من إحرامه ، يحلق ، ويقلم أظافره ، ويغتسل ، ويتطيب (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) إن كانوا قد نذروا شيئا من أعمال البر (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) القديم ، ويستحب الإكثار من الطواف حول البيت لأنه تماما كالصلاة.

٣٠ ـ (ذلِكَ) خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) وهي ما حرم سبحانه من ترك ما حرم وفعل ما أوجب (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) لأن تعظيم أحكام الله بالطاعة ، يرفع من شأن المطيع عند الله درجات. (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله والمختنقة وغير ذلك مما جاء في الآية ٣ من المائدة (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ابتعدوا عنها وعن عبادتها (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يعم ويشمل الكذب والغيبة والنميمة والشتم والفحش وكل كلمة تغضب الله سبحانه.

٣١ ـ (حُنَفاءَ لِلَّهِ) وهم المخلصون له الدين القائمون بالحق المائلون عن الباطل (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) غير مطيعين لأعدائه ، ولا لأنفسهم الأمارة بالسوء التي تحملهم على معصية الله ومخالفته (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ

___________________________________

الإعراب : (بَوَّأْنا) متضمنة معنى هيأنا ولذلك دخلت اللام على ابراهيم ، ومكان منصوب ببوأنا. (أَنْ لا تُشْرِكْ) ان مفسرة لفعل محذوف أي أوحينا اليه ان لا تشرك. و (رِجالاً) حال أي مشاة على أرجلهم. وعلى كل ضامر أيضا حال أي مشاة وركبانا.

٤٣٧

الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) هذا مثل لمن تجرأ على معصية الله في الشرك أو غيره من الكبائر التي هي بحكم الشرك كالأذى والإساءة إلى الناس ، وأنه في ضلاله وهلاكه تماما كمن يسقط من السماء ، فتقطعه الطيور الكاسرة إربا إربا أو تدفع به الريح العاتية إلى مكان عميق وسحيق.

٣٢ ـ (ذلِكَ) أي الأمر ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) وشعائره تعالى وحدوده وحرماته وأحكامه وفرائضه كلها مترادفات أو متقاربات (فَإِنَّها) على حذف مضاف أي فإن تعظيم الشعائر (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) في نهج البلاغة : لو أن السموات والأرضين كانتا على عبد رتقا ـ ضد الفتق ـ ثم اتقى الله لجعل له منهما مخرجا.

٣٣ ـ (لَكُمْ فِيها) في الأنعام المهيأة للذبح في الحج (مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) للحاج أن ينتفع بلبن أضحيته وظهرها إلى حين الذبح (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي أن مكان ذبح الأنعام هو الحرم ومنه منى ومكة.

٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية (جَعَلْنا مَنْسَكاً) بذبح الأنعام لوجه الله لا للأصنام ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وذكر الجلالة على الذبيحة للدلالة على أنها خالصة لله وحده ، وسئل النبي (ص) : ما هذه الأضاحي؟ قال : هي سنة أبيكم إبراهيم. قالوا : ما لنا منها؟ قال : بكل شعرة حسنة (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وأصول العقيدة واحدة ، وإن تعددت الأنبياء ، وتنوعت الشرائع السابقة في أحكامها الفرعية. (فَلَهُ أَسْلِمُوا) انقادوا لأمره تعالى قولا وعملا (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) المتواضعين الواثقين بربهم ودينهم.

٣٥ ـ (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) لا مكان للشيطان في القلب التقيّ النقي ، لأنّه في شغل شاغل بالخوف من عذاب الله والرجاء لثوابه والشكر لنعمائه والصبر على بلائه والإيمان الصادق الواثق بجوده وعطائه ، أمّا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فهما أثر من آثار هذا الإيمان وثماره قال الإمام عليّ (ع) : لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده ٣٦ ـ (وَالْبُدْنَ) جمع بدنة وهي الناقة السمينة ويلحق بها البقرة في الحكم (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي جعل نحرها أو ذبحها من أحكام الشريعة التي شرّعها الله (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) دنيا بمنافعها وآخرة بثواب الله على ذبحها لوجهه الكريم (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) قائمات قد صففن أيديهنّ وأرجلهن (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) فإذا سقطت أرضا على جنبها عند الموت (فَكُلُوا مِنْها) على الرخصة والإباحة لا على الوجوب (وَأَطْعِمُوا) على الوجوب (الْقانِعَ) الراضي بما تعطيه المتعفّف عن المسألة والتسوّل (وَالْمُعْتَرَّ) الذي يتعرض لك بطريق أو آخر لتعطيه (كَذلِكَ) كما أمرناكم بهذا (سَخَّرْناها لَكُمْ) في كل ما تريدونه منها حتى الذبح (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فوجب الشكر على هذه النعمة الجلى ٣٧ ـ (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) لأنه الغني عن كل شيء ، وإليه يفتقر كل شيء (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي يناله تعالى الرضا عنكم ، لأنه يريد من عبده أن يكون مرضيا لديه تماما كما يريد الوالد من ولده أن يكون ناجحا في دروسه وسلوكه. وفي الحديث : «تقع الصدقة في يد الرّحمن قبل أن تقع في يد السائل». والله سبحانه هو المالك

٤٣٨

والرازق ولكن يريد من عبده أن يكون كريما (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) ولا هدف من هذا التكرار والتوكيد إلا التذكير بأنعمه وإلّا (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) لتعرفوا عظمة الله في قدرته ، وفضله في هدايته لكم من الضلال والظلام إلى النور والفلاح (وَبَشِّرِ) يا محمد (الْمُحْسِنِينَ) لا بالأضاحي وكفى ، بل بشتّى مظاهر الإحسان ، وبالأخصّ من ترك شيئا جديدا ومفيدا لأخيه الإنسان.

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) هذه الآية خاصة بالمؤمنين في صدر الإسلام حيث كان الإسلام غريبا وضعيفا ، وكانت كلمة الإيمان تؤدي بقائلها إلى القتل والهلاك أو التعذيب والتنكيل ، ومن هنا كان التصديق بمحمد (ص) من حيث هو موجبا لدخول الجنّة ، فقد جاء في المجلّد الثاني من أصول الكافي عن المعصوم (ع) : أن ما من أحد مات في السنين العشر من البعثة ، هو يشهد أن لا إله إلا الله ومحمد رسول الله إلا أدخله الله الجنّة بإقراره ، وهو إيمان التصديق ، ولم يعذب الله أحدا ممن هو متبع لمحمد (ص) (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) خوان : يخون دينه وضميره. ووطنه وأمّته ، وصديقه وإنسانيّته ، كفور : يجحد المعروف والإحسان ، ويسيء لمن نصح له بلا مقابل.

٣٩ ـ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) هذه أوّل آية نزلت في الإذن بالقتال دفاعا عن النفس ، ومعناها إذن بالقتال الذين يستطيعون حمل السلاح والجهاد ، بسبب ما حلّ بهم من الظلم والعدوان ، فقد تحمّل النبي والصحابة ألوانا من الأذى والتنكيل دون أن يقاوموا. لأن المقاومة كانت آنذاك أشبه بعملية انتحارية لضعف المسلمين وقوّة المشركين وبعد الهجرة إلى المدينة من عصبة الشرك والطغيان ، أصبح المسلمون أهل قوّة رادعة ، ولذا أذن سبحانه لنبيّه وللمسلمين أن يقاتلوا ، ووعدهم بالنصر بعد التنكيل بهم والتشريد الذي أشار إليه سبحانه بقوله ٤٠ ـ (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) شرد المشركون بالمسلمين إلى الحبشة والمدينة لا لشيء (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) وهذه الكلمة أشدّ وقعا من الصاعقة على قلوب الجبابرة الطغاة لأنها تضع الجميع على مستوى واحد في الحقوق والواجبات ، ولا تبقي فضلا لأحد إلّا بما يقدّمه من عمل صالح ينتفع به الفرد والمجتمع ولو وقف الأمر على مجرد النطق بكلمة التوحيد لهان عليهم سماعها ، بل واستسلموا ونطقوا بها ، ولكن وراءها العدالة والمساواة وهم أعدى أعدائها. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) في مجمع البيان للشيخ الطبرسي : الصوامع أيام شريعة عيسى ، والبيع أيام شريعة موسى ، والمساجد أيام شريعة محمد. والمعنى لو لا القوّة الرادعة لفسدت الأرض. وأهلك القوي الضعيف ، قال الإمام عليّ (ع) : السلطان وزعة الله في أرضه ، أي يأوي إليه كل مظلوم. وأيضا قال : لا بد للناس من أمير بر أو فاجر ، تأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) هذا ترغيب في الجهاد لنصرة الحق وأهله ، وأيضا يسوغ تفسيره أن المبطل إذا غلب المحقّ في الدنيا فإن الله سبحانه ينصر هذا غدا. ويخذل ذاك ، هذا فيما يعود إلى الفرد العادي ، أما الدولة ورجالها فقد أشار إليهم سبحانه بقوله :

٤١ ـ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) بالحكم والسلطان (أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) أقسم سبحانه أن ينصر الحاكمين شريطة أن يؤدوا حق العبادة لله صوما وصلاة وحجّا وزكاة ، وأن يحقوا الحق ، ويبطلوا

٤٣٩

الباطل ، وهذا هو المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قيل لملك زال ملكه : ما الذي أزال ملكك؟ قال : أضعت حق الله والناس فضاع ملكي.

٤٢ ـ ٤٤ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا محمد (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ...) لست النبيّ الوحيد الذي جاء بالبيّنات والمعجزات فكذبه قومه ، فمثلك وقبلك كثير وكثير (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري عليهم بالهلاك والعذاب.

٤٥ ـ (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي كم قرية أهلكناها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) مكذبة لرسلها ، وتقدم في الآية ٤ من سورة الأعراف (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) تهدمت حيطانها ، وخرت سقوفها ، وتقدم في الآية ٢٥٩ من سورة البقرة (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عامرة بالماء ، ولكن لا يردها وارد (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) ولكنه خافت صامت لا نفس فيه إلا للبوم والرياح.

٤٦ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) تقدم في الآية ١٣٧ من آل عمران و ٣٦ من النحل.

٤٧ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) يا محمد ساخرين (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) فالتعجيل أو التأجيل ليس بالشيء المهم ما دام العذاب نازلا بهم لا محالة (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) علام تستعجلون عذاب الآخرة؟ ويوم واحد منه أشد عليكم من عذاب ألف سنة من سنيّ الدنيا.

٤٨ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ...) تقدم قبل قليل في الآية ٤٥ من هذه السورة ، وأعاد سبحانه لتوكيد الإنذار.

٤٩ ـ (قُلْ) يا محمد : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) هذه هي مهمتي ، أما تعجيل العذاب أو تأجيله فهو بيد الله وحده ، وتكرر هذا المعنى بالعديد من الأساليب.

٥٠ ـ (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ...) واضح ، وتقدم مرات.

٥١ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي سعوا فيها بالطعن عليها ، كقوله سبحانه : ويسعون في الأرض فسادا (مُعاجِزِينَ)

___________________________________

الإعراب : (فَكَيْفَ) خبر كان مقدم ، و (نَكِيرِ) اسمها ، والأصل نكيري وحذفت الياء تخفيفا. و (فَكَأَيِّنْ) أصلها أي فدخلت عليها الكاف كما دخلت على ذا ، وصارت كلمة واحدة ، وهي بمعنى كم الخبرية ، وكتبت بالنون في المصحف ـ كما في تفسير البحر المحيط ـ ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة (أَهْلَكْناها) خبر خلافا للزمخشري. و (هِيَ ظالِمَةٌ) مبتدأ وخبر ، والجملة حال من هاء أهلكناها. فهي خاوية مبتدأ وخبر ، والجملة عطف على جملة أهلكناها. وبئر وقصر عطف على القرية. فتكون منصوب بأن مضمرة لوقوع الفعل في جواب الاستفهام. والتي في الصدور صفة للقلوب. و (مُعاجِزِينَ) حال من واو سعوا.

٤٤٠