وجماعة منهم ، انزعجت اليهود ، وبخاصة أحبارهم ، من هذا الحادث ، وصاروا بصدد اتهامهم بالخيانة ، وعيبهم بالشر فقال أحبارهم : «ما آمن بمحمد إلا شرارنا» وهم بذلك يهدفون إلى إسقاطهم من أعين اليهود حتى لا يقتدي بهم الآخرون (١).
س ٩٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١٦) [آل عمران : ١١٦]؟!
الجواب / أقول : هناك في مقابل العناصر التي تبحث عن الحق ، وتأمن به من الذين وصفتهم الآية السابقة ، عناصر كافرة ظالمة وصفهم الله سبحانه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لأنه لا ينفع في الآخرة سوى العمل الصالح والإيمان الخالص لا الامتيازات المادية ، في هذه الحياة : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
يبقى أن نعرف لماذا أشير في هذه الآية إلى الثروة والأولاد من بين بقية الإمكانات؟ وجه ذلك أن أهم الإمكانات المادية تنحصر في أمرين :
الأول : الطاقة البشرية وقد ذكرت الأولاد كأفضل نموذج لها.
الثاني : الثروة الاقتصادية.
وأما بقية الإمكانات المادية الأخرى فتنبع من هاتين.
إن القرآن ينادي بصراحة بأن الامتيازات المالية والقدرة البشرية الجماعية لا يمكن بوحدها أن تعد امتيازا في ميزان الله ، وأن الاعتماد عليها وحدها هو
__________________
(١) الأمثل : ج ٢ ، ص ٤٩٩.
الخطأ الجسيم إلا إذا قرنت بالإيمان والعمل الصالح ، واستخدمت في سبيلهما ، وإلا فستؤول بأصحابها إلى الجحيم ، وعذابها الخالد (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
س ١٠٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٧) [آل عمران : ١١٧]؟!
الجواب / قال الشيخ الطوسي : قيل إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان ، وأصحابه يوم بدر ، لما تظاهروا على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الأنفاق. وقيل : بل نزلت في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حروب المشركين على وجه النفاق للمؤمنين.
المعنى : والمثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما مشبه به ، فلما كان إنفاق المنافق والكافر ضائعا ، ويستحق عليه العقاب والذم أشبه الحرث المهلك ، فلذلك ضرب به المثل. وفي الآية حذق ، وتقديرها مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك «ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم» فحذف الأهلاك لدلالة آخر الكلام عليه وفيه تقدير آخر ، مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح ، فيكون تشبيه ذلك الإنفاق بالمهلك من الحرث بالرياح (١).
__________________
(١) التبيان : ج ٢ ، ص ٥٦٨.
س ١٠١ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (١١٨) [آل عمران : ١١٨]؟!
الجواب / قال الباقر عليهالسلام ـ في حديث طويل ـ في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) : «وأعلمهم بما في قلوبهم وهم أصحاب الصحيفة» (١).
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «هم الخوارج» (٢).
وقال علي بن إبراهيم : نزلت في اليهود ، وقوله (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي عداوة (٣).
س ١٠٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١١٩) [آل عمران : ١١٩]؟!
الجواب / قال الشيخ الطوسي : هذا خطاب للمؤمنين أعلمهم الله تعالى أن منافقي أهل الكتاب لا يجلونهم وأنهم هم يصحبون هؤلاء المنافقين بالبر والنصيحة ، كما يفعله المحب ، وإن المنافقين على ضد ذلك ، فأعلمهم الله ما يسره المنافقون في باطنهم ، وذلك من آيات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ... (٤).
__________________
(١) مناقب آل أبي طالب : ج ٣ ، ابن شهر آشوب ، ص ١٤.
(٢) العمدة : ابن بطريق ، ص ٤٦٢.
(٣) تفسير القمي : ج ١ ، ص ١١٠.
(٤) التبيان : ج ٢ ، ص ٥٧٢.
وقال : وقوله (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) معناه إذا رأوكم قالوا صدقنا «وإذا خلو» مع أنفسهم «عضوا عليكم الأنامل من الغيظ» فالعض بالأسنان. ومنه العض علف الأمصار ، لأن له مضغة في العض يسمن عليها المال. ومنه رجل عض : لزاز الخصم ، لأنه يعض بالخصومة. وكذلك رجل عض فحاش ، لأنه يعض بالفحش ، والأنامل أطراف الأصابع ، وأصلها النمل المعروف ، فهو مشبه به في الرقة ، والتصرف بالحركة. ومنه رجل نمل أي نمام ، لأنه ينقل الأحاديث الكرهة كنقل النملة في الخفاء والكثرة. وواحد الأنامل أنملة. قال الزجاج ولم يأت على هذا المثال ما يعني به الواحد إلا شذ ، فأما الجمع ، فكثير نحو أفلس وأكعب ، وقوله : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) معناه الأمر بالدعاء عليهم. وإن كان لفظه لفظ الأمر ، كأنه قال قل : أماتكم الله بغيظكم وفيه معنى الذم لهم ، لأنه لا يجوز أن يدعا عليهم هذا الدعاء إلا وقد استحقوه بقبيح ما أتوه (١).
س ١٠٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (١٢٠) [آل عمران : ١٢٠]؟!
الجواب / قال الطبرسي : ثم أخبر سبحانه عن حال من تقدم ذكرهم ، فقال : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ) أي : تصبكم أيها المؤمنون نعمة من الله تعالى عليكم بها من ألفه ، أو اجتماع كلمة ، أو ظفر بالأعداء (تَسُؤْهُمْ) أي : تحزنهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) أي : محنة بإصابة العدو منكم لاختلاف الكلمة ، وما يؤدي إليه من الفرقة ، (يَفْرَحُوا بِها).
__________________
(١) التبيان : ج ٢ ، ص ٥٧٤.
(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم ، وعلى طاعة الله تعالى ، وطاعة رسوله ، والجهاد في سبيله (وَتَتَّقُوا) الله بالامتناع عن معاصيه ، وفعل طاعته (لا يَضُرُّكُمْ) أيها الموحدون (كَيْدُهُمْ) أي : مكر المنافقين ، وما يحتالون به عليكم (شَيْئاً) أي ، لا قليلا ، ولا كثيرا ، لأنه تعالى ينصركم ، ويدفع شرهم عنكم (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي : عالم بذلك من جميع جهاته ، مقتدر عليه ، لأن أصل المحيط بالشيء : هو المطيف به من حواليه ، وذلك من صفات الأجسام ، فلا يليق به سبحانه (١).
س ١٠٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٢١) [آل عمران : ١٢١]؟!
الجواب / ١ ـ قال أبو عبد الله عليهالسلام : «سبب نزول هذه الآية أنّ قريشا خرجت من مكّة تريد حرب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فخرج يبتغي موضعا للقتال» (٢).
٢ ـ قال الإمام الباقر عليهالسلام : «في شوال غزاة أحد ـ وهو يوم المهراس (٣)» (٤).
٣ ـ قال الإمام الصادق عليهالسلام : «لما قصد أبو سفيان في ثلاثة آلاف من قريش إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ ويقال : في ألفين ـ منهم مائتا فارس ، والباقون ركب ، لهم سبعمائة درع» (٥).
__________________
(١) مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٣٧٥.
(٢) تفسير القمي : ج ١ ، ص ١١٠.
(٣) المهراس : اسم ماء بأحد ، ويوم المهراس : يوم أحد.
(٤) المناقب : ج ١ ، ص ١٩١.
(٥) مناقب ابن شهر آشوب : ج ١ ، ص ١٩١.
س ١٠٥ : بمن نزل قوله تعالى :
(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢) [آل عمران : ١٢٢]؟!
الجواب / قال علي بن إبراهيم : نزلت في عبد الله بن أبيّ وقوم من أصحابه اتّبعوا رأيه في ترك الخروج ، والقعود عن نصرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم» (١).
وقال (صاحب الأمثل) : والطائفتان هما «بنو سلمة» من الأوس و «بنو حارثة» من الخزرج.
فقد صممت هاتان الطائفتان على التساهل في أمر هذه المعركة والرجوع إلى المدينة ، وهمتا بذلك.
وقد كان سبب هذا الموقف المتخاذل هو أنهما كانتا ممن يؤيد فكرة البقاء في المدينة ومقاتلة الأعداء داخلها بدل الخروج منها والقتال «خارجها» وقد خالف النبي هذا الرأي ، مضافا إلى أن «عبد الله بن سلول» الذي التحق بالمسلمين على رأس ثلاثمائة من اليهود عاد هو وجماعته إلى المدينة ، لأن النبي عارض بقاءهم في عسكر المسلمين ، وقد تسبب هذا في أن تتراجع الطائفتان المذكورتان عن الخروج مع النبي وتعزما على العودة إلى المدينة من منتصف الطريق.
ولكن يستفاد من ذيل الآية أن هاتين الطائفتين عدلتا عن هذا القرار ، واستمرتا في التعاون مع بقية المسلمين ولهذا قال سبحانه (وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يعني أن الله ناصرهما فليس لهما أن تفشلا إذا كانتا تتوكلان على الله بالإضافة إلى تأييده للمؤمنين ...
وأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يسمح ببقاء اليهود ـ الذين تظاهروا بمساعدة المسلمين
__________________
(١) تفسير القمي : ج ١ ، ص ١١٠.
ـ في المعسكر الإسلامي ، لأنهم كانوا أجانب على كل حال ، ولا يمكن السماح لهم بأن يبقوا بين صفوف المسلمين فيطلعوا على أسرارهم في تلك اللحظات الخطيرة ، وأن يكونوا موضع اعتماد المسلمين في تلك المرحلة الحساسة (١).
س ١٠٦ : ما هو معنى «أذلّة» في قوله تعالى :
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢٣) [آل عمران : ١٢٣]؟!
الجواب / ١ ـ قال أبو عبد الله عليهالسلام : «ما كانوا أذلة وفيهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنّما نزل : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء» (٢).
٢ ـ قال أبو بصير : قرأت عند أبي عبد الله عليهالسلام : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ). فقال عليهالسلام : «مه ، ليس هكذا أنزلها الله إنّما أنزلت : وأنتم قليل» (٣).
س ١٠٧ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) (١٢٧) [آل عمران : ١٢٤ ـ ١٢٧]؟!
الجواب / أقول : تتعرض الآية لذكر بعض التفاصيل حول ما جرى في
__________________
(١) الأمثل : ج ٢ ، ص ٥١٢ ـ ٥١٣.
(٢) مجمع البيان : ج ٢ ، ص ٨٢٨.
(٣) تفسير العيّاشي : ج ١ ، ص ١٩٦ ، ح ١٣٣.
«بدر» إذ قالت : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) أي اذكروا واذكر أيّها النبي يوم كنت تقول للمسلمين الضعفاء آنذاك اخرجوا وسيمدكم الله بالملائكة ألا يكفيكم ذلك لتحقيق النصر الساحق على جحافل المشركين المدججين بالسلاح؟
نعم أيها المسلمون لقد تحقق لكم ذلك في «بدر» نتيجة صبركم واستقامتكم ، واليوم يتحقق لكم ذلك أيضا إذا اجتنبتم عن مخالفة أوامر النبي ، وتجاهل تعليماته وصبرتم : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)(١).
على أن نزول الملائكة هذا لن يكون هو العامل الأساسي لتحقيق هذا الانتصار لكم بل النصر من عند الله ، وليس نزول الملائكة إلا لتطمئن قلوبكم وما جعله الله إلّا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم «فهو العالم بسبل النصر ومفاتيح الظفر ، وهو القادر على تحقيقه».
ثم أنّه سبحانه عقب هذه الآيات بقوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ).
وهذه الآية وإن ذهب المفسرون في تفسيرها مذاهب مختلفة إلا أنها ـ في ضوء ما ذكرناه في تفسير الآيات السابقة بمعونة الآيات نفسها وبمعونة الشواهد التاريخية ـ واضحة المراد بينة المقصود كذلك. فهي تقصد أن تأييد الله للمسلمين بإنزال الملائكة عليهم إنما لأجل القضاء على جانب من قوة العدو العسكرية. وإلحاق الذلة بهم. يبقى أن نعرف أن «طرف» الشيء يعني جانبه وقطعة منه. وأما «يكبتهم» فيعني الرد بعنف وإذلال.
__________________
(١) الفور السرعة التي تقلب المعادلات كما يفور القدر وتتقلب محتوياتها بسرعة.
وقال أبو الحسن عليهالسلام في قول الله عزوجل : (مُسَوِّمِينَ) : «العمائم ، اعتمّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسدلها من بين يديه ومن خلفه ، واعتمّ جبرائيل عليهالسلام فسدلها من بين يديه ومن خلفه» (١).
وقال الإمام الباقر عليهالسلام : «إنّ الملائكة الذين نصروا محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر في الأرض ما صعدوا بعد ولا يصعدون حتى ينصروا صاحب هذا الأمر ، وهم خمسة آلاف» (٢).
س ١٠٨ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (١٢٨) [آل عمران : ١٢٨]؟!
الجواب / قال جابر الجعفيّ : قرأت عند أبي جعفر عليهالسلام قول الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).
قال : «بلى والله ، إنّ له من الأمر شيئا وشيئا وشيئا ، وليس حيث ذهبت ، ولكنّي أخبرك أنّ الله تبارك وتعالى لمّا أمر نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يظهر ولاية عليّ عليهالسلام فكّر في عداوة قومه له ، ومعرفته بهم. وذلك الذي فضّله الله به عليهم في جميع خصاله : كان أوّل من آمن برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبمن أرسله ، وكان أنصر الناس لله تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأقتلهم لعدوّهما ، وأشدّهم بغضا لمن خالفهما ، وفضل علمه الذي لم يساوه أحد ، ومناقبه التي لا تحصى شرفا.
فلمّا فكّر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في عداوة قومه له في هذه الخصال ، وحسدهم له عليها ضاق عن ذلك ، فأخبر الله تعالى أنّه ليس له من هذا الأمر شيء ، إنّما الأمر فيه إلى الله أن يصير عليّا عليهالسلام وصيّه ووليّ الأمر بعده ، فهذا عنى الله ،
__________________
(١) الكافي : ج ٦ ، ص ٤٦٠ ، ح ٢.
(٢) تفسير العيّاشي : ج ١ ، ص ١٩٧ ، ح ١٣٨.
وكيف لا يكون له من الأمر شيء ، وقد فوّض الله إليه أن جعل ما أحلّ فهو حلال ، وما حرّم فهو حرام ، قوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(١)(٢).
س ١٠٩ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢٩) [آل عمران : ١٢٩]؟!
الجواب / أقول : هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تأكيد لمفاد الآية السابقة فيكون المعنى هو : أن العفو أو المجازاة ليس بيد النبي بل هو الله الذي بيده كل ما في السماوات وكل ما في الأرض فهو الحاكم المطلق لأنه هو الخالق فله الملك وله التدبير ، وعلى هذا الأساس فإن له أن يغفر لمن يشاء من المذنبين ، أو يعذب ، حسب ما تقتضيه الحكمة لأن مشيئته تطابق الحكمة : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).
ثم أنه سبحانه يختم الآية بقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تنبيها إلى أنه وإن كان شديد العذاب ، إلا أن رحمته سبقت غضبه فهو غفور رحيم قبل أن يكون شديد العقاب والعذاب.
وهنا يحسن بنا أن نشير إلى ملخص ما ذكره أحد كبار العلماء المفسرين الإسلاميين وهو العلامة الطبرسي من سؤال وجواب حول هذه الآية ، لكونه على اختصاره في غاية الأهمية من الناحية الاعتقادية ، فقد ذكر في ذيل هذه الآية أنه : سئل بعض العلماء كيف يعذب الله عباده بالإجرام مع سعة رحمته؟
__________________
(١) الحشر : ٧.
(٢) تفسير العيّاشي : ج ١ ، ص ١٩٧ ، ح ١٣٩ ، الاختصاص : ٣٣٢ نفس المعنى.
فقال : «رحمته لا تغلب حكمته إذ لا تكون رحمته برقة القلب كما تكون الرحمة منا». بمعنى أن الرحمة الإلهية لا تكون على أساس عاطفي كما هو الحال فينا بل هي على أساس الحكمة ومزيجه بها.
س ١١٠ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٣٠) [آل عمران : ١٣٠]؟!
الجواب / جاء في (مجمع البيان) قال : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) ووجه تحريم الربا هو المصلحة التي علمها الله وذكر فيه وجوه : منها أن يدعو إلى مكارم الأخلاق بالإقراض ، وأنظار المعسر من غير زيادة وهو المروي عن أبي عبد الله عليهالسلام» (١).
س ١١١ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢) [آل عمران : ١٣١ ـ ١٣٢]؟!
الجواب / قال الشيخ الطوسي : فإن قيل كيف قال : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) وعندكم يجوز أن يدخلها الفساق أيضا. وعند المعتزلة كلهم يدخلها الفساق قطعا. وهلا قال ؛ أعدت للجميع؟ قلنا : أما على ما نذهب إليه ، ففائدة ذلك أعلامنا أنها أعدت للكافرين قطعا. وذلك غير حاصل في الفساق ، لأنا نجوز العفو عنهم. ومن قال أعدت للفساق قال أضيفت إلى الكافرين ، لأنهم أحق بها. وإن كان الجميع يستحقونها ، لأن الكفر أعظم المعاصي فأعدت النار للكافرين. ويكون غيرهم من الفساق تبعا لهم في دخولها.
__________________
(١) نقلا من ، تفسير نور الثقلين : ج ١ ، الشيخ الحويزي ، ص ٣٨٩.
فإن قيل : فعلى هذا هل يجوز أن يقال : إن النار أعدت لغير الكافرين من الفاسقين؟
قلنا عن ذلك أجوبة :
١ ـ قال الحسن : يجوز ذلك ، لأنه من الخاص الذي معه دلالة على العام ، كما قال : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(١) وليس كل من دخل النار كفر بعد إيمانه. ومثله قوله ؛ (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)(٢) وليس كل الكفار يقول ذلك. ومنه قوله : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٣) وليس كل الكفار سووا لشياطين برب العالمين.
٢ ـ أنه لا يقال أعدت لغيرهم من الفاسقين ، لأن إعدادها للكافرين من حيث كان عقابهم هو المعتمد وعقاب الآخرين له تبع ، كما قال : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(٤) ولا خلاف أنه يدخلها الأطفال والمجانين إلا أنهم تبع للمتقين ، لأنه لولاهم لم يدخلوها. ولا يقال : إن الجنة أعدت لغير المتقين.
٣ ـ أن تكون هذه النار نارا مخصوصة فيها الكفار خاصة دون الفساق وإن كان هناك نار أخرى يدخلها الفساق ، كما قال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(٥) وكما قال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)(٦).
واستدل بهذه الآية على أن الربا كبيرة ، لأن تقديره (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
__________________
(١) آل عمران : ١٠٦.
(٢) الملك : ٨.
(٣) الشعراء : ج ٩٤ ـ ٩٨.
(٤) آل عمران : ١٣٣.
(٥) الليل : ١٥ ـ ١٦.
(٦) النساء : ١٤٥.
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أن يأكلوا الربا ، فيستحقونها ، والإجماع حاصل على أن الربا كبيرة ، فلا يحتاج إلى هذا التأويل ، لأن الآية يمكن أن يقول قائل : إنها بمعنى الزجر والتحذير عن الكفر ، فقط.
وقوله (أُعِدَّتْ) فالإعداد هو تقديم عمل الشيء لغيره مما هو متأخر عنه وقد قدم فعل النار ليصلاها الكفار. والإعداد والإيجاد والتهيئة والتقدمة متقاربة المعنى.
وقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) : أمر بالطاعة لله ورسوله. والوجه في الأمر بالطاعة لله ورسوله مع أن العقل دال عليه يحتمل أمرين :
١ ـ أن يكون ذلك تأكيدا لما في العقل ، كما وردت نظائره ، كقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(١) (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)(٢) وغير ذلك.
٢ ـ لاتصاله بأمر الربا الذي لا تجب الطاعة فيه إلا بالسمع ، لأنه ليس مما يجب تحريمه عقلا كما يجب تحريم الظلم بالعقل.
فإن قيل : إذا كانت طاعة الرسول طاعة الله فما وجه التكرار؟ قلنا عنه جوابان :
١ ـ المقصود بها طاعة الرسول فيما دعا إليه مع القصد لطاعة الله تعالى.
٢ ـ ليعلم أن من أطاعه فيما دعا إليه كمن أطاع الله ، فيسارع إلى ذلك بأمر الله. والطاعة موافقة الإرادة الداعية إلى الفعل بطريق الرغبة ، والرهبة. ولذلك صح أن يجيب الله تعالى عبده ، وإن لم يصح منه أن يطيعه ، لأن الإجابة إنما هي موافقة الإرادة مع القصد إلى موافقتها على حد ما وقعت من المريد.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يحتمل أمرين :
__________________
(١) الشورى : ١١.
(٢) الأنعام : ١٠٣.
١ ـ لترحموا ، وقد بينا لذلك نظائر.
٢ ـ أن معناه ينبغي للعباد أن يعملوا بطاعة الله على الرجاء للرحمة بدخول الجنة ، لئلا يزلوا فيستحقوا الإحباط والعقوبة أو يوقعوها على وجه لا يستحق به الثواب ، بل يستحق به العقاب ، وفيها معنى الشك ، لكنه للعباد دون الله تعالى.
النظم : وقيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها قولان :
١ ـ لاتصال الأمر بالطاعة بالنهي عن أكل «الربا أضعافا مضاعفة» كأنه قال وأطيعوا الله فيما نهاكم عنه من أكل الربا ، وغيره لتكونوا على سبيل الهدى.
٢ ـ قال ابن إسحاق : أنه معاتبة للذين عصوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بما أمرهم به يوم أحد : من لزوم مراكزهم ، فخالفوا واشتغلوا بالغنيمة إلا طائفة منهم قتلوا. وكان ذلك سبب هزيمة أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (١).
س ١١٢ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣) [آل عمران : ١٣٣]؟!
الجواب / قال الإمام الصادق عليهالسلام : «إذا وضعوها كذا» وبسط يديه إحداهما مع الأخرى» (٢).
٢ ـ (ابن شهر آشوب في (المناقب) : قال في تفسير يوسف القطّان ، عن وكيع ، عن الثوريّ ، عن السّدّيّ ، قال : كنت عند عمر بن الخطّاب إذ أقبل عليه كعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف وحييّ بن أخطب ، فقالوا : إنّ في
__________________
(١) البيان : ج ٢ ، ص ٥٨٨ ـ ٥٩٠.
(٢) تفسير العياشي : ١ / ١٩٧ / ١٤٢.
كتابكم جنّة عرضها السماوات والأرض ، إذا كانت سعة جنّة واحدة كسبع سماوات وسبع أرضين ، فالجنان كلّها يوم القيامة أين تكون؟ فقال عمر : لا أعلم.
فبينما هم في ذلك إذ دخل علي عليهالسلام فقال : «في أيّ شيء أنتم»؟ فألقى اليهودي المسألة عليه. فقال عليهالسلام لهم : «خبّروني أن النهار إذا أقبل الليل أين يكون [الليل إذا أقبل النهار أين يكون]؟» قالوا له : في علم الله تعالى يكون.
فقال عليّ عليهالسلام : «كذلك الجنان تكون في علم الله تعالى» فجاء عليّ عليهالسلام إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخبره بذلك ، فنزل (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١)(٢).
س ١١٣ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣٤) [آل عمران : ١٣٤]؟!
الجواب / قال محمد بن جعفر وغيره : وقف على علي بن الحسين عليهماالسلام رجل من أهل بيته ، فأسمعه وشتمه ، فلم يكلّمه ، فلمّا انصرف قال لجلسائه : «قد سمعتم ما قال هذا الرجل ، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردّي عليه». فقالوا له : نفعل ، ولقد كنا نحبّ أن تقول له ونقول.
قال : فأخذ نعليه ومشى وهو يقول : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فعلمنا أنه لا يقول شيئا.
__________________
(١) النحل : ٤٣.
(٢) المناقب : ٢ / ٣٥٢.
قال : فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به ، فقال : «قولوا له : هذا عليّ بن الحسين» ، قال : فخرج إلينا متوثّبا للشرّ ، وهو لا يشكّ أنّه إنّما جاء مكافئا له على بعض ما كان منه ، فقال له عليّ بن الحسين عليهالسلام : «يا أخي ، إنّك كنت وقعت عليّ آنفا وقلت ، فإن كنت قد قلت ما فيّ فإنّي أستغفر الله منه ، وإن كنت قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك» قال : فقبّل الرجل بين عينيه ، وقال : بل قلت فيك ما ليس فيك ، وأنا أحقّ به.
قال الراوي للحديث : والرجل هو الحسن بن الحسن (١).
س ١١٤ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦) [آل عمران : ١٣٥ ـ ١٣٦]؟!
الجواب / ١ ـ قال الإمام الباقر عليهالسلام : «الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ، ولا يحدّث نفسه بتوبة فذلك الإصرار» (٢).
٢ ـ دخل معاذ بن جبل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم باكيا ، فسلّم فردّ عليهالسلام ، ثمّ قال : «ما يبكيك ، يا معاذ»؟
فقال : يا رسول الله ، إنّ بالباب شابّا طريّ الجسد ، نقيّ اللّون ، حسن الصورة ، يبكي على شبابه بكاء الثّكلى على ولدها ، يريد الدخول عليك.
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أدخل عليّ الشابّ ، يا معاذ» فأدخله عليه ، فسلّم ، فردّ عليهالسلام ، فقال :
__________________
(١) الإرشاد : الشيخ المفيد ، ص ٢٥٧.
(٢) الكافي : ج ٢ ، ص ٢١٩ ، ح ٢.
«ما يبكيك ، يا شابّ»؟ فقال : وكيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا إن أخذني الله عزوجل ببعضها أدخلني نار جهنّم ، ولا أراني إلّا سيأخذني بها ، ولا يغفرها لي أبدا.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «هل أشركت بالله شيئا»؟ قال : أعوذ بالله أن أشرك بربّي شيئا.
قال : «أقتلت النفس التي حرّم الله»؟ ، قال : لا.
فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الجبال الرّواسي» ، قال الشابّ : فإنّها أعظم من الجبال الرّواسي.
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الأرضين السّبع ، وبحارها ، ورمالها ، وأشجارها ، وما فيها من الخلق».
قال : فإنّها أعظم من الأرضين وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.
فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل السماوات ، ونجومها ، ومثل العرش والكرسي».
قال : فإنّها أعظم من ذلك.
فنظر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كهيئة الغضبان ، ثمّ قال : «ويحك يا شابّ ، ذنوبك أعظم من ربّك»؟ فخرّ الشاب على وجهه ، وهو يقول : سبحان الله ربّي ، ما من شيء أعظم من ربّي ، ربّي أعظم يا نبي الله ، الله أعظم من كلّ عظيم».
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فهل يغفر الذنب العظيم إلّا الربّ العظيم»؟ فقال الشابّ : لا والله ، يا رسول الله.
ثمّ سكت الشابّ. فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ويحك ـ يا شابّ ـ ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك»؟
قال : بلى ، أخبرك ، أنّي كنت أنبش القبور سبع سنين ، أخرج الأموات وأنزع الأكفان ، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار ، فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت ، وانصرف عنها أهلها ، وجنّ عليهم الليل ، أتيت قبرها فنبشتها ، ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها ، وتركتها مجرّدة على شفير قبرها ومضيت منصرفا ، فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي ، ويقول : أما ترى بطنها وبياضها ، أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتّى رجعت إليها ، ولم أملك نفسي حتّى جامعتها وتركتها مكانها ، فإذا أنا بصوت من ورائي ، يقول : يا شاب ، ويل لك من ديّان يوم الدين ، يوم يقفني وإيّاك كما تركتني عريانة في عسكر الموتى ، ونزعتني من حفرتي وسلبتني أكفاني ، وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي ، فويل لشبابك من النار ، فما أظنّ أنّي أشمّ رائحة الجنّة أبدا ، فما ترى لي ، يا رسول الله؟
فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «تنحّ عني يا فاسق ، إني أخاف أن أحترق بنارك ، فما أقربك من النار!».
ثمّ لم يزل صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول ويشير إليه حتّى أمعن من بين يديه فذهب ، فأتى المدينة فتزوّد منها ، ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها ، ولبس مسحا ، وغلّ يديه جميعا إلى عنقه ، ونادى : يا ربّ ، هذا عبدك بهلول ، بين يديك مغلول ، يا ربّ أنت الذي تعرفني ، وزلّ منّي ما تعلم يا سيّدي ، يا ربّ ، إنّي أصبحت من النادمين ، وأتيت نبيّك تائبا فطردني وزادني خوفا ، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيّب رجائي ، سيّدي ولا تبطل دعائي ولا تقنطني من رحمتك ، فلم يزل يقول ذلك أربعين يوما وليلة ، تبكي له السّباع والوحوش ، فلمّا تمّ له أربعون يوما وليلة رفع يديه إلى السماء ، وقال : اللهم ما فعلت في حاجتي؟ إن كنت استجبت دعائي ، وغفرت خطيئتي ، فأوح إلى نبيّك ، وإن لم تستجب دعائي ، ولم تغفر لي خطيئتي ، وأردت عقوبتي ،
فعجّل بنار تحرقني أو عقوبة في الدنيا تهلكني ، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) يعني الزنا (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزّنا ، ونبش القبور ، وأخذ الأكفان (ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) يقول : خافوا الله فعجّلوا التوبة (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) يقول الله عزوجل : أتاك عبدي ـ يا محمد ـ تائبا فطردته ، فأين يذهب ، وإلى من يقصد ، ومن يسأل أن يغفر له ذنبا غيري؟!
ثمّ قال عزوجل : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يقول : لم يقيموا على الزنا ، ونبش القبور ، وأخذ الأكفان (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ).
فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خرج وهو يتلوها ويبتسم. فقال لأصحابه : «من يدلّني على ذلك الشاب»؟ فقال معاذ : يا رسول الله ، بلغنا أنّه في موضع كذا وكذا ، فمضى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بأصحابه حتّى انتهوا إلى ذلك الجبل ، فصعدوا إليه يطلبون الشابّ ، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين ، مغلولة يداه إلى عنقه ، قد اسودّ وجهه ، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء ، وهو يقول : سيّدي ، قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي ، فليت شعري ما ذا تريد بي ، أفي النار تحرقني أم في جوارك تسكنني؟
اللهم إنّك قد أكثرت الإحسان إليّ وأنعمت عليّ ، فليت شعري ما ذا يكون آخر أمري ، إلى الجنّة تزفّني ، أم إلى النار تسوقني؟ اللهمّ إنّ خطيئتي أعظم من السماوات والأرضين ، ومن كرسيّك الواسع ، وعرشك العظيم ، فليت شعري تغفر خطيئتي ، أم تفضحني بها يوم القيامة؟
فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه ، وقد أحاطت به السّباع ، وصفّت فوقه الطير وهم يبكون لبكائه ، فدنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فأطلق يديه من عنقه ، ونفض التراب عن رأسه ، وقال : «يا بهلول ، أبشر فإنّك عتيق الله من النار» ثمّ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لأصحابه : «هكذا تداركوا الذنوب ، كما تداركها بهلول» ثمّ تلا عليه ما أنزل الله عزوجل فيه ، وبشّره بالجنّة (١).
س ١١٥ : ما هو تفسير قوله تعالى :
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١٣٧) [آل عمران : ١٣٧]؟!
الجواب / قال الطبرسي : لما بين سبحانه ما يفعله بالمؤمن والكافر في الدنيا والآخرة ، بين أن ذلك عادته في خلقه ، فقال : (قَدْ خَلَتْ) أي : قد مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ) يا أصحاب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. وقيل : هو خطاب لمن انهزم يوم أحد (سُنَنٌ) من الله في الأمم السالفة ، إذا كذبوا رسله ، وجحدوا نبوتهم بالاستئصال ، وتبقية آثارهم في الديار للاعتبار والاتعاظ ، وقيل : سنن أي أمثال.
وقيل : سنن أمم ، والسنة : الأمة. وقال الشاعر :
ما عاين الناس من فضل كفضلكم |
|
ولا رأوا مثلكم في سالف السنن |
وقيل : معناه : أهل سنن. وقيل : معناه قد مضت لكل أمة سنة ومنهاج ، إذا اتبعوها ، رضي الله عنهم.
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي : تعرفوا أخبار المكذبين ، وما أنزل بهم ، لتتعظوا بذلك ، وتنتهوا عن مثل ما فعلوه ،
__________________
(١) الأمالي : ص ٤٥ ، ح ٣.