فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

العارضة للمنيّ إلى أن صار إنسانا ، لعدّهم المنيّ موضوعا والإنسان موضوعا آخر. ويزعمون نجاسة الكفّار مغايرة لنجاسة اصولهم ، ويحملون الخطاب الوارد في نجاستهم على إنشاء جديد ، لا على إمضاء ما دلّ على نجاسة المنيّ.

ثمّ إنّ مسامحة العرف في دعوى اتّحاد الموضوعين بعد زوال بعض قيود الموضوع الأوّل أو أجزائه على وجهين :

أحدهما : أن يكون ذلك بتصرّف منهم في موضوع الحكم ، بأن كان الموضوع عندهم عامّا للواجد للقيد والفاقد له ، وإن كان الحكم في الأدلّة محمولا على المقيّد ، كما يظهر ممّا تقدّم من الأمثلة وأشرنا إليه آنفا.

فإن قلت : مع فرض عموم الموضوع ـ ولو في نظر أهل العرف ـ كان الدليل بعمومه شاملا للزمان الثاني ، فلا يبقى مورد للاستصحاب ، لعدم جريانه مع وجود الدليل الاجتهادي في مورده ، وافقه أو خالفه.

قلت : لا بدّ أن يكون الشكّ في بقاء الحكم حينئذ ناشئا من سبب آخر سوى الشكّ في بقاء الموضوع ، مثل الشكّ في كون التغيّر مع كونه علّة محدثة للنجاسة علّة مبقية لها أيضا أو لا ، وإن كان الموضوع في الأدلّة هو مطلق الماء كما أشرنا إليه.

وثانيهما : أن يكون بدعوى دخول الفاقد للقيد تحت الواجد له على سبيل الادّعاء ، نظير ما ذكر السكّاكي في باب الاستعارة.

وأمّا المقام الثاني فالدليل عليه من وجوه :

أحدها : أنّه لا ريب أنّ العرف كما أنّه محكم في تعيين الأوضاع ، بمعنى كون تبادر معنى من لفظ من دون قرينة عندهم دليلا على كونه موضوعا له ، كذلك في تعيين المرادات ، كما يقال : إنّ قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» ونحوه ظاهر عرفا في نفي الصحّة دون الذات. فنقول حينئذ : إنّ قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشكّ» ظاهر عرفا في وجوب بقاء ما كان متيقّنا في السابق ، ولا ريب في عدم صدق

٥٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

البقاء من دون بقاء الموضوع ، وحينئذ إذا فرض صدق البقاء عرفا مع زوال بعض قيود الموضوع يجب البناء على الحالة السابقة لا محالة ، وإن لم يصدق بالمداقّة العقليّة. نعم ، يعتبر في حكم العرف أمران :

أحدهما : أن يكون حكمهم بالبقاء مع زوال بعض قيود الموضوع من جهة فهمهم للموضوع أعمّ من واجد القيد وفاقده ، لا من جهة حكم عقولهم القاصرة بذلك ، إذ قد يشتبه جهة البحث عن فهم العرف بحكم العقل وبالعكس. ولذا ترى احتجاجهم في مسألة اجتماع الأمر والنهي لعدم جواز اجتماعهما ، بأنّ المولى إذا أمر عبده بالخياطة ، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ، وخاطه في هذا المكان عدّ مطيعا وعاصيا لجهتي الأمر والنهي. وأجيب عنه بمنع كونه مطيعا والحال أنّه عاص ، ذهولا عن أنّ محلّ النّزاع في تلك المسألة إنّما هو بحسب العقل دون العرف ، كما قرّر في محلّه. واستدلّ المحقّق القمّي أيضا على وجود الكلّي الطبيعي بفهم العرف له من الإطلاقات وإن لم يكن له وجود في الواقع ، غفلة عن كون الكلام فيه بحسب العقل دون العرف.

وكيف كان ، فالوجه فيما ذكرناه واضح ، إذ الكلام هنا في تعيين المصاديق العرفيّة لقوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشكّ» وهو لا يتمّ إلّا بتعيين ما يفهمه العرف موضوعا للحكم في الخطابات حتّى يتفرّع عليه صدق البقاء والارتفاع ، ولا يناط ذلك على ما هو مناط الحكم وموضوعه عند العقل فيما كان له إليه سبيل ، لأنّ موضوع الحكم قد يكون عند العرف أعمّ منه عند العقل ، إذ الموضوع في استصحاب البراءة عند العقل هو عدم الشعور والعقل ، وعند العرف على ما هو المستفاد من الخطابات الشرعيّة هو الصبوة ، فإذا حصل العقل والشعور بعد البلوغ وشكّ في توجّه الحكم الشرعيّ إليه يصحّ استصحاب البراءة عرفا لا عقلا ، لأنّ موضوع الحكم عرفا وإن كان هو الصبا ، إلّا أنّ حصول البلوغ عندهم من قبيل

٥٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

تبدّل حالات الموضوع دون تغيّره ، ولذا شاع استصحاب البراءة من دون خلاف يعرف ، مع دعوى الإجماع على اشتراط بقاء الموضوع في جريانه.

وثانيهما : أن لا يكون حكمهم بالبقاء مع زوال بعض قيود الموضوع لأجل المسامحة منهم في إطلاق الواجد للقيد للفاقد له ، لعدم الدليل على المسامحة في موضوعات الأحكام الشرعيّة. ومسامحتهم في المكيل والموزون بقليل من الزيادة والنقيصة ، كمثقال من الحنطة أو الشعير أو غيرهما من الحبوب في جنب منّ منها ، ومدّ في جنب أمنان وهكذا ، مع كون الأكيال والموازين موضوعتين بمقدار معيّن في الواقع ، إنّما هي لأجل فهم غرض الشارع وعدم إضرار هذا المقدار اليسير من الزيادة والنقيصة عنده في المحقّرات ، وإلّا فلا ريب أنّهم يحتاطون ويداقّون في الامور الخطيرة العظيمة كالفضّة والذهب والجواهر ، فيحاسبون فيها بوزن ربع حبّة من حنطة. وكذا ترى الفقهاء يحتاطون في تعيين مقدار المسافة الموجبة للقصر ، وفي دخول الليل والنهار للصوم ، وفي مقدار الفطرة والكرّ ومقدار أيّام الحيض ، إلى غير ذلك ممّا لم يثبت جواز المسامحة فيه.

وبالجملة ، إنّ المعتبر في المقام فهم العرف عموم الموضوع للواجد لبعض القيود والفاقد له ، من دون أن يكون حكمهم بالبقاء لأجل مسامحتهم في إطلاق الواجد على الفاقد على ما عرفت.

فإن قلت : إنّ هذا كلّه مسلّم ، إلّا أنّ استصحاب الحكم السابق في موارد حكم العرف ببقاء الموضوع مع تغيّر بعض قيوده معارض باستصحاب العدم ، لكون الفاقد له مسبوقا بعدم هذا الحكم ، مثل أنّ استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر معارض باستصحاب عدم تنجّس غير المتغيّر.

قلت : إنّ هذا إنّما يتّجه إن كان الواجد للقيد والفاقد له موضوعين مختلفين ، وقد فرضنا كونهما موضوعا واحدا في نظر العرف ، فلا وجه لاستصحاب العدم حينئذ بعد انقلابه إلى الوجود. مع أنّ الشكّ في بقاء العدم مسبّب عن الشكّ في

٥٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بقاء النجاسة ، فباستصحابها يزول الشكّ عنه ، لكون استصحاب الوجود موضوعيّا ، والعدم بمنزلة الحكمي ، فيقدّم عليه من باب الحكومة إجماعا على ما ادّعاه بعضهم.

وثانيها : أنّه لو لم يعتبر العرف في الحكم بالبقاء مع تغيّر بعض قيود الموضوع أو أجزائه لزم تخطئة أكثر العلماء بل جميعهم ، لإطباقهم ظاهرا ـ كما ادّعاه في الرياض ـ على جواز استصحاب الكرّية بعد الأخذ منه بمقدار يشكّ معه في بقائه على الكرّية ، لأنّ الموجود في السابق قبل أخذ شيء منه موضوع وبعده موضوع آخر ، وليس تصحيح وجه جريانه إلّا ما ذكرناه ، من كون الماء قبل الأخذ منه وبعده موضوعا واحدا في نظر العرف ، لوضوح عدم وصول نصّ في ذلك إليهم اختفي علينا ، فإذا جاز استصحاب الحكم مع تغيّر بعض أجزاء موضوعه ، فمع تغيّر بعض أوصافه بطريق أولى. وقد عملوا أيضا بالاستصحاب فيما صار الأرض جصّا أو نورة بالإحراق مع زوال وصف الأرضيّة ، وكذا في الماء المتغيّر وفي المضاف إذا أضيف إليه المطلق أو بالعكس ، بحيث يشكّ معه في بقائه على الإضافة أو الإطلاق ، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي عملوا فيها بالاستصحاب مع زوال بعض أوصاف الموضوع ، يجدها المتتبّع في الفقه.

وثالثها : أنّ مشترط بقاء الموضوع مع جميع قيوده وعدم اعتداده بالعرف في ذلك ، إن أراد به اشتراط بقائه بجميع قيوده الواقعيّة فلا سبيل لنا إليه. وإن أراد اشتراط بقائه بجميع قيوده الثابتة في ظاهر الأدلّة من الكتاب والسنّة ، فلا ريب أنّ أهل العرف لا يفرّق بين قول الشارع : الماء المتغيّر نجس ، وقوله : الماء ينجس إذا تغيّر ، في فهم كون الموضوع على التقديرين هو الماء مطلقا ، وكون التغيّر سببا لحدوث الحكم. فإذا شكّ في كون العلّة المحدثة مبقية وعدمه ، يصحّ استصحاب النجاسة على التقديرين ، وإن كان الموضوع في ظاهر الدليل الأوّل هو المقيّد المنتفي بانتفاء قيده بالمداقّة. وبالجملة إنّه بعد جعل المدار في تعيين الموضوع على ظواهر الأدلّة ، لا بدّ من جعل المناط ما فهمه العرف في تعيينه عموما أو خصوصا.

٥٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا والإنصاف أنّ الأدلّة المذكورة لا تخلو من مناقشة.

أمّا الأوّل ، فإنّ العرف وإن كان محكّما في تعيين الأوضاع والمرادات ، إلّا أنّ الشبهة في المقام في مصداق المراد لا فيه نفسه ، ولا اعتداد به في تعيين المصاديق الخارجة ، وذلك لأنّ المراد بقوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشكّ» وإن كان مبيّنا ، وهو وجوب إبقاء المتيقّن السابق ، إلّا أنّ الشبهة إنّما هي في صدق البقاء مع زوال بعض قيود الموضوع ، واعتقاد العرف لصدق البقاء فيه لا اعتداد به ، نظير ما لو فرض اعتقاد العرف لصدق الكلب على الغنم ، فلا يحكم بذلك بنجاسته وحرمة أكل لحمه.

وأمّا الثاني ، فإنّ مخالفة العلماء لم يقم دليل على المنع منها ما لم يبلغ اتّفاقهم إلى حدّ الإجماع. وما تقدّم من الموارد التي عمل فيها العلماء بالاستصحاب لم يثبت تحقّق الإجماع فيها. وأمّا استصحاب الكرّية الذي ادّعى صاحب الرياض الإجماع عليه ، فلعلّ عمل العلماء فيه ليس بالاستصحاب الوجودي ، أعني : استصحاب الكرّية ، إذ يحتمل أن يكون حكمهم بالكرّية وترتيب آثارها عليه لأجل استصحابات عدميّة ، مثل أصالة عدم عروض ما يخرجه من الكرّية ، وعدم عروض ما يوجب تنجّس الماء بالملاقاة ونحوهما. ولعلّ بناء العقلاء ثابت على اعتبار الاصول العدميّة كالاصول اللفظيّة. والكلام في اعتبار الاستصحاب مع تغيّر بعض قيود موضوعه إنّما هو على تقدير القول باعتباره من باب الأخبار ، وكفاية صدق البقاء عرفا في تحقّق مفهومها على ما تقدم ولا يرد عليهم أنّ إثبات الكرّية بأصالة عدم عروض ما يخرجه من الكرّية من قبيل الاصول المثبتة ، لأنّ عدم الاعتداد بها إنّما هو على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار دون بناء العقلاء ، على ما تقدّم في محلّه.

وأمّا الثالث ، فإنّ عدم تفرقة العرف بين قوله : الماء المتغيّر نجس ، وقوله : الماء ينجس إذا تغيّر ، في فهم كون الموضوع أعمّ من واجد الوصف والفاقد له على

٥٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

التقديرين. وكون التغيّر سبب حدوث الحكم لا داخلا في الموضوع على الأوّل دون الثاني ، لعلّه مبنيّ على المسامحة في إطلاق الواجد على الفاقد ، لا من جهة فهم عموم الموضوع حقيقة ، وقد تقدّم عدم الاعتداد بهذه المسامحة العرفيّة. ولعلّك لو نبّهتهم على جهة الفرق بين الكلامين ، وكون التغيّر قيدا للموضوع في أحدهما وللمحمول في الآخر ، اعترفوا بخطائهم في دعوى عموم الموضوع. ومع ذلك كلّه هذه الطريقة هي المعروفة بينهم ، لما عرفت من عملهم بالاستصحاب في موارد كثيرة لا يتمّ العمل به فيها إلّا بالقول باعتبار العرف.

وقد اضطربت كلماتهم في العمل بالاستصحاب فيما يعرض تغيّر في الموضوع في الجملة ، فقد نقل المصنّف رحمه‌الله عن الفاضلين في المعتبر والمنتهى الحكم بنجاسة الأعيان النجسة بعد الاستحالة ، كالعذرة والميتة بعد استحالتهما ترابا.

وقال الشهيد في الذكرى : «لو استحالت العين النجسة كالعذرة والميتة ترابا يحكم بطهارته ، لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «التراب طهور». ولو صار ملحا أمكن ذلك ، لزوال الاسم والصورة».

وقال العلّامة في القواعد : «وفي تطهير الكلب والخنزير إذا وقعا في المملحة فصارا ملحا ، والعذرة امتزجت بالتراب وتقادم عهدها حتّى استحالت ترابا ، نظر».

وقال ولده فخر الدّين في الإيضاح : «ومنشأ النظر أنّ العين ـ وهي الجسميّة الخاصّة موجودة ، وإنّما تغيّرت الصفات فتبقى النجاسة ، لأنّ النجاسة ذاتيّة ، وأنّ النجاسة حكم معلّق بذات الكلب ، إمّا باعتبار صفاته النوعيّة ، وإمّا باعتبار الأعراض الخاصّة اللاحقة للجواهر المتساوية ، مع القول بعدم استغناء الباقي على كلا التقديرين ، فقد زالت علّة النجاسة ، فيزول المعلول» انتهى.

وتردّد فيه الأردبيلي أيضا في شرح الإرشاد. وفصّل جماعة كما نقله المصنّف رحمه‌الله بين النجس والمتنجّس ، وأوّل من نبّه عليه الفاضل الهندي فيما أعلم.

٥٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال المحقّق القمّي رحمه‌الله بعد أن حكم بكون المعيار في اختلاف الأحكام على تبدّل الحقائق عرفا لا محض تغيّر الأسماء : «والحاصل أنّ الحقائق المتخالفة عرفا ـ كالعذرة والتراب والرماد ـ لها أحكام مستقلّة برأسها ، سواء كانت متوافقة في الحكم أو متخالفة. وأمّا مسحوق ماهيّة كالطحين للحنطة ، أو منضوجها كاللحم المطبوخ والخبز ونحو ذلك ، فلا يتبدّل بذلك حقيقتهما عرفا ، كما لا يتبدّل حقيقة أيضا ، فما ثبت تبدّل حقيقته عرفا فينتفي فيه حكم الاستصحاب ، لثبوت التعارض حينئذ بين ما دلّ على حكم حقيقته المستحال إليه وما يستصحب من حكم المستحيل ، فعموم ما دلّ على طهارة التراب أو الدود أو الملح وحلّيتهما تعارض استصحاب النجاسة ، وسنبيّن أنّ الاستصحاب من حيث هو لا يعارض الدليل من حيث هو».

ثمّ ذكر نظير هذا الكلام في الانتقال ، مثل انتقال دم الإنسان إلى بطن القمّل والبرغوث والبقّ ، وقال : «وهاهنا وإن كان تبدّل الحقيقة في غاية الخفاء ، سيّما في أوّل مصّ هذه الحيوانات للدم خصوصا في العلق ، ولكن إطلاق دم الحيوان الغير ذي النفس على هذا الدم ، مع عدم تصوّر دم لأغلب هذه الحيوانات إلّا ما في بطنها من جهة المصّ ، يوجب الحكم بالطهارة. ففي الحقيقة يرجع الكلام في أمثال ذلك إلى وجود المعارض ، لا عدم إمكان جريان الاستصحاب ، ولذلك توقّف بعض المتأخّرين في إفادة تغيّر الموضوع في ترك العمل بالاستصحاب ، وتأمّل في كون تغيّر الموضوع قاطعا للاستصحاب». انتهى.

وادّعى صاحب الفصول أنّه لو لا النصّ الدالّ على طهارة الخمر إذا انقلب خلّا لحكمنا بنجاسته للاستصحاب. وهذه الكلمات كما ترى مختلفة في هذا المضمار ، حيث حكم بعضهم بالطهارة بالاستحالة ، وآخر بالنجاسة ، وثالث تردّد فيه. وبعضهم جعل الموضوع هو الأجسام معرّاة عن الأوصاف المقارنة لها ، وآخر هي مع الأوصاف ، وثالث جعل المدار في الحكم بالطهارة على تبدّل الحقيقة عرفا ،

٥٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

واختلف الحاكمون بها في منشأ حكمهم. ومنشأ جميع ذلك هو عدم معرفة أنّ موضوع الحكم قبل الاستحالة أيّ شيء هو. وممّا قدّمناه يظهر أنّ كون الاستحالة من المطهّرات غير مسلّم فيما بينهم.

فإن قلت : إنّهم قد تسالموا على كون النار مطهّرة لما أحالته ، وليس ذلك إلّا للاستحالة ، فكيف يجتمع هذا التسالم مع ذلك الخلاف؟

قلت : إنّ تطهير النار لما أحالته لعلّه لأجل خصوصيّة فيها ، لا لأجل مجرّد الاستحالة من حيث هي.

ثمّ إنّه يظهر من المحقّق القمّي رحمه‌الله جريان الاستصحاب مع حصول الاستحالة ، حيث حكم بالتعارض بينه وبين دليل المستحيل إليه. ولعلّه أيضا ظاهر الشّهيد ، حيث حكم بطهارة المستحال إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «التراب طهور» لا بقاعدة الطهارة ، فظاهره أنّه لو لا الإطلاق لكان المتّجه استصحاب النجاسة.

ويرد عليهما : منع إجداء مثل هذا الإطلاق على تقدير تسليم جريان الاستصحاب في المقام ، لأنّ هذه الإطلاقات إنّما وردت لبيان تشريع أحكام هذه الموضوعات ، فلا تشمل لبيان أحكامها بعد الاستحالة ، فيبقى الاستصحاب بعدها بلا معارض.

ويرد على المحقّق القمّي رحمه‌الله عدم اطّراد حكم التعارض في كلّ مورد ، إذ قد لا يكون لدليل المستحال إليه إطلاق كما عرفت. ولذا ترى الشهيد في الذكرى قد تمسّك في طهارة العذرة المستحالة ترابا بإطلاق قوله عليه‌السلام : «التراب طهور». واحتمل الطهارة في صورة الاستحالة ملحا ، بزوال الاسم والصورة لا بالإطلاق. وهو ظاهر في الاستناد فيها إلى قاعدة الطهارة.

والتحقيق في المقام أخذ طريقة وسطى ، لا جعل المدار على إحراز الموضوع الواقعي مطلقا ، ولا ملاحظة الأدلّة كذلك ، ولا العرف كذلك ، وهي أن يقال : إنّ موضوع الحكم مع قيوده إن كان ثابتا بالكتاب والسنّة ، فلا بدّ من إحرازه مع

٥٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

جميع قيوده الثابتة فيهما ، سواء حكم العرف ببقاء الموضوع مع انتفاء بعض قيوده أم لا ، لما عرفت من الإشكال في الأخذ بطريقة العرف. وإن كان ثابتا باللبّ من إجماع ونحوه أو بدليل لفظيّ مجمل ، فلا بدّ من إحرازه بجميع قيوده الواقعيّة ، فلا يجري الاستصحاب مع الشكّ في إحراز بعضها ، فضلا عن العلم بانتفاء بعضها لعدم صدق البقاء والارتفاع من دون إحراز جميعها على ما تقدّم.

ومن هنا يظهر الكلام في الاستحالة والانقلاب والانتقال أيضا ، لأنّه إذا حصلت هذه التغيّرات وزال بها عنوان المستحال الثابت بالكتاب أو السنّة ، لا يصحّ استصحاب حكم المستحال إلى المستحال إليه. وكذلك إذا ثبت بدليل لبّي من إجماع ونحوه أو لفظيّ مجمل ، لاحتمال مدخليّة عنوان المستحال في قوام حكمه ، وقد زال بالاستحالة بالفرض ، فيشكّ معه في بقاء الموضوع ، فلا يصحّ استصحاب حكمه.

فإن قلت : إنّ مقتضى ما ذكرت دوران الأحكام مدار أسماء موضوعاتها الثابتة بالكتاب والسنّة. وهذا على إطلاقه غير صحيح ، لأنّه لو تبدّل اسم موضوع في عرف الشارع أو المتشرّعة أو في العرف ، بأن سمّي الغنم كلبا وهجر اسمه الأوّل ، فلا شكّ في بقاء حكمه حينئذ.

قلت : إنّ تغيّر اسم الموضوع تارة يكون بمجرّد تغيّر الاسم ، من دون تغيّر في نفس الموضوع كما عرفت ، واخرى بتغيّر في نفس الموضوع. وهذا التغيّر أيضا قد يحصل بتغيّر ما هو عنوان في ترتّب الحكم عليه ومن جملة مقتضياته ، كما إذا صار الكلب ملحا بوقوعه في المملحة والعذرة ترابا ، لوضوح كون المناط في الحكم بالنجاسة هو كونه كلبا وعذرة ، واخرى بتغيّر ما لا مدخل له في قوام الحكم ، كتسمية الطحين عجينا والعجين خبزا بعد الانتقال إلى الحالة الثانية ، لوضوح كون عنوان الحكم فيهما ليس كونهما طحينا وعجينا ، بل كونهما جسمين ملاقيين للنجس ، وهذا العنوان لم يزل بعد التسمية ، فزوال الحكم إنّما هو في القسم الثاني

٥٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

دون الأوّل والثالث. ومرادنا من كون الأحكام دائرة مدار أسماء موضوعاتها إنّما هو فيما كان تبدّل الاسم ناشئا من تغيّر ما هو مناط الحكم ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وكذا الكلام فيما ذكره جماعة من الفرق بين النجس والمتنجّس على نحو ما أوضحه.

وبقي في المقام شيء ، وهو أنّه كما يشترط في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع ، كذلك يشترط بقاء المحمول أيضا. وبعبارة اخرى : يشترط في جريانه بقاء القضيّة المتيقّنة السابقة بحسب موضوعها ومحمولها إلى زمان الشكّ ، بأن كان المحمول على تقدير ثبوته في زمان الشكّ هو عين المحمول في زمان اليقين ، وذلك بأن يقال : إنّ هذا كان على تلك الحالة فهو باق عليها. فلو اختلف المحمول في القضيّتين لم يكن موردا للاستصحاب إلّا من باب المسامحة ، إن كان المورد محلّا لها ، كاستصحاب وجوب الأجزاء المتيسّرة بعد تعذّر بعض أجزاء المركّب ، لأنّ المستصحب فيه الوجوب الغيري للأجزاء الباقية ، والثابت بالاستصحاب في زمان الشكّ هو الوجوب النفسي.

وتحقيق المقام أنّ المحمول ـ وهو المستصحب ـ على أقسام :

أحدها : أن يكون المحمول في زمان الشكّ على تقدير ثبوته هو عين المحمول في القضيّة المتيقّنة ، كاستصحاب الطهارة أو النجاسة عند عروض ما يشكّ في بقائهما.

وثانيها : أن يحصل التفاوت بينهما باختلاف وصف ، مثل ما عرفت من الوجوب الغيري والنفسي ، أو بالشدّة والضعف كما في الطعوم والروائح والألوان ، بأن كان الثابت في الزمان السابق مرتبة أقوى منها ، وفي اللاحق على تقدير ثبوته فيه مرتبة ضعيفة منها ، كما إذا شكّ في بقاء لون في جسم ، ولكنّه على تقدير بقائه أضعف من الأوّل.

وثالثها : أن يعلم بانتفاء المحمول السابق ، وشكّ في ثبوت محمول آخر للموضوع السابق ، بأن علم بزوال اللون الأحمر من جسم ، وشكّ في عروض لون

٥٧٠

فكلّ مورد يصدق عرفا أنّ هذا كان كذا سابقا جرى فيه الاستصحاب وإن كان المشار إليه لا يعلم بالتدقيق أو بملاحظة الأدلّة كونه موضوعا ، بل علم عدمه. مثلا : قد ثبت بالأدلّة أنّ الإنسان طاهر والكلب نجس ، فإذا ماتا واطّلع أهل العرف على حكم الشارع عليهما بعد الموت ، فيحكمون بارتفاع طهارة الأوّل وبقاء نجاسة الثاني ، مع عدم صدق الارتفاع والبقاء فيهما بحسب التدقيق ؛ لأنّ الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين (*) ، وقد ارتفعت الحيوانية بعد صيرورته جمادا. ونحوه حكم العرف (٢٥٨٤) باستصحاب بقاء الزوجيّة بعد موت

______________________________________________________

آخر له. ولا إشكال في عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم ، كما لا إشكال في جريانه في القسم الأوّل. وإنّما الإشكال في القسم الثاني ، وجريان الاستصحاب فيه مبنيّ على اعتبار المسامحة العرفيّة في موارد ثبوتها ، وقد عرفت تحقيق الحال فيها.

وممّا ذكرناه يظهر أنّه كما يعتبر في جريانه بقاء الموضوع والمحمول في القضيّة المتيقّنة السابقة ، كذلك يعتبر فيه اتّحاد النسبة في القضيّتين ، لأنّه لازم لبقاء الموضوع والمحمول السابقين.

وهل يكفي بقاء النسبة الثابتة في ظاهر الأدلّة ، أو لا بدّ من بقاء النسبة الواقعيّة؟ فإذا ورد في كلام الشارع : كلّ جسم لاقى نجسا رطبا ينجس ، وعلمنا بأنّ السبب ليس الملاقاة مطلقا ، بل هي مع تأثّر الملاقي ، فإذا ثبتت الملاقاة للنجس مع الشكّ في بقاء رطوبة النجس حين الملاقاة ، فالقضيّة السابقة هي كون النجس رطبا ، فإن اكتفينا ببقاء هذه النسبة يحكم بنجاسة الملاقي باستصحاب بقاء الرطوبة ، وإن اعتبرنا بقاء النسبة الواقعيّة فلا ، لعدم إثبات أصالة بقاء الرطوبة تأثّر الملاقي إلّا على القول بالاصول المثبتة. والأقوى اعتبار بقاء النسبة الواقعيّة ، لأنّ الفرض أنّها السبب في الحقيقة لا النسبة الظاهريّة.

٢٥٨٤. يعني : بعد اطّلاعهم بالأدلّة الشرعيّة على نجاسة الميتة من الإنسان و

__________________

(*) في بعض النسخ زيادة : فلا معني لصدق ارتفاع الأوّل وبقاء الثاني.

٥٧١

أحد الزوجين ، وقد تقدّم حكم العرف ببقاء كريّة ما كان كرّا سابقا ووجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل تعذّر بعضها ، واستصحاب السواد فيما علم زوال مرتبة معيّنة منه ويشكّ في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف إلى غير ذلك.

وبهذا الوجه يصحّ للفاضلين قدس‌سرهما (٢٥٨٥) في المعتبر والمنتهى الاستدلال على بقاء نجاسة الأعيان النجسة بعد الاستحالة بأنّ النجاسة قائمة بالأعيان النجسة ، لا بأوصاف الأجزاء ، فلا تزول بتغيّر أوصاف محلّها ، وتلك الأجزاء باقية ، فتكون النجاسة باقية ؛ لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها (٢) ، انتهى كلام المعتبر. واحتجّ فخر الدين للنجاسة : بأصالة بقائها ، وبأنّ الاسم أمارة ومعرّف ، فلا يزول الحكم بزواله (٣) ، انتهى.

وهذه الكلمات وإن كانت محلّ الإيراد ؛ لعدم ثبوت قيام حكم الشارع بالنجاسة بجسم الكلب المشترك بين الحيوان والجماد ، بل ظهور عدمه ؛ لأنّ ظاهر

______________________________________________________

الكلب ، فإنّ حكمهم بارتفاع طهارة الأوّل وبقاء نجاسة الثاني دليل على كون موضوع الطهارة والنجاسة عندهم أعمّ ممّا كان حيوانا وجمادا ، وإلّا لم يصدق الارتفاع والبقاء.

٢٥٨٥. لأنّ دعوى الفاضلين لقيام النجاسة بذات الأعيان النجسة لا بها مع أوصافها العارضة لها ، مبنيّة على دعوى فهم العرف موضوع النجاسة أعمّ من واجد الوصف والفاقد له ، وإن كان الموضوع في ظاهر الأدلّة هو الموصوف مع وصفه.

ثمّ المستفاد من كلامه أنّ دليل القول بالنجاسة وجوه :

أحدها : ما عرفت من عموم الموضوع. وثانيها : الأصل. والفرق بينهما : أنّ الأوّل مبنيّ على عدم مدخليّة الأوصاف في عروض النجاسة أصلا ، فلا يكون موردا للأصل. والثاني مبنيّ على كون الموضوع أعمّ من الواجد للوصف والفاقد له ، وكون الوصف علّة لحدوث النجاسة ، فمع الشكّ في كون العلّة المحدثة مبقية صحّ استصحاب النجاسة.

٥٧٢

الأدلّة تبعيّة الأحكام للأسماء ، كما اعترف به في المنتهى في استحالة الأعيان النجسة ، إلّا أنّها شاهدة على إمكان اعتبار موضوعيّة الذات المشتركة بين واجد الوصف العنوانيّ وفاقده ، كما ذكرنا في نجاسة الكلب بالموت ، حيث إنّ أهل العرف لا يفهمون نجاسة اخرى حاصلة بالموت ، ويفهمون ارتفاع طهارة الإنسان إلى غير ذلك ممّا يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنوانيّ والفاقد.

ثمّ إنّ بعض المتأخّرين (٤) فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ، فحكم بطهارة الأوّل لزوال الموضوع دون الثاني ؛ لأنّ موضوع النجاسة فيه ليس عنوان المستحيل أعني الخشب مثلا ، وإنّما هو الجسم ولم يزل بالاستحالة. وهو حسن في بادئ النظر ، إلّا أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ؛ إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم ، وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات : أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس ، إلّا أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم لبيان (*) عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة للتنجّس ، لا لبيان إناطة الحكم بالجسميّة. وبتقرير آخر : الحكم ثابت لأشخاص الجسم ، فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوّم به عند الملاقاة.

فقولهم : " كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس" لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرّض للمحلّ الذي يتقوّم به ، كما إذا قال القائل : " إنّ كلّ جسم له خاصيّة وتأثير" مع كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع.

وإن أبيت إلّا عن ظهور معقد الإجماع في تقوّم النجاسة بالجسم ، فنقول : لا شكّ (**) في أنّ مستند هذا العموم هي الأدلّة الخاصّة الواردة في الأشخاص الخاصّة مثل الثوب والبدن والماء وغير ذلك ، فاستنباط القضيّة الكليّة المذكورة منها ليس إلّا من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما يتقوّم به ، وإلّا فاللازم إناطة النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «لبيان» ، لأداء.

(**) في بعض النسخ : بدل «لا شكّ» ، لا إشكال.

٥٧٣

ودعوى : أنّ ثبوت الحكم لكلّ عنوان خاصّ من حيث كونه جسما ، ليست بأولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضيّة العامّة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوّم النجاسة بالجسم. نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس : أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر الدليل ، وفي المتنجّس محتمل البقاء. لكنّ هذا المقدار لا يوجب الفرق بعد ما تبيّن أنّ العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب (٢٥٨٦).

أرأيت أنّه لو حكم (٢٥٨٧) على الحنطة أو العنب بالحليّة أو الحرمة أو النجاسة أو الطهارة ، هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الأحكام على الدقيق والزبيب؟! كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخانا والماء المتنجّس بولا لمأكول اللحم ، خصوصا إذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة.

______________________________________________________

وثالثها : أنّ الاسم أمارة ومعرّف للموضوع ، وليس بعلّة للثبوت ، فالموضوع أعمّ ممّا صدق عليه الاسم. وهذا الوجه راجع إلى الأوّل ، لأنّه إنّما يتمّ على تقدير فهم العرف للموضوع أعمّ من الواجد للوصف والفاقد له ، وإلّا فهو مصادرة محضة وتحكّم بحت. ثمّ إنّ ضعف هذه الوجوه ـ كما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ ظاهر ، والحقّ ما أسلفناه في الحاشية السابقة.

٢٥٨٦. سواء كان المستصحب نجاسة نجس العين أم المتنجّس ، فيصحّ الاستصحاب مع صدق بقاء الموضوع مطلقا ، وإن انتفى عنوان موضوع الأوّل المأخوذ في ظاهر الأدلّة ، ولا يصحّ مع عدمه.

٢٥٨٧. غرضه أنّه لو ثبت فرق بين الحكم الأصلي والعرضي عند العرف لوجب أن يكون الأمر بالعكس في المثالين ، لتغيّر ما هو موضوع في ظاهر الأدلّة في الأوّل دون الثاني ، فإنّ الموضوع فيه على زعم مدّعي الفرق هي الصورة الجنسيّة ، وهي باقية بعد الاستحالة أيضا.

٥٧٤

كما أنّ العلماء أيضا لم يفرّقوا (٢٥٨٨) في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، كما لا يخفى على المتتبّع (٥) ، بل جعل بعضهم (٦) (٢٥٨٩) الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة الجليّة (*) حتّى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجّية مطلق الظنّ.

وممّا ذكرنا يظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة (٧) تبعا للفاضل الهندي قدس‌سره : من أنّ الحكم في المتنجّسات ليس دائرا مدار الاسم حتّى يطهر بالاستحالة ، بل لأنّه جسم لاقى نجسا ، وهذا المعنى لم يزل.

فالتحقيق : أنّ مراتب تغيّر الصورة في الأجسام مختلفة ، بل الأحكام أيضا مختلفة (٢٥٩٠) ، ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة إلى الاستصحاب ، وفي بعض آخر لا يحكمون بذلك ويثبتون الحكم بالاستصحاب ، وفي ثالث لا يجرون الاستصحاب ايضا ، من غير فرق في حكم النجاسة بين النجس والمتنجّس. فمن الأوّل : ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّيّة أو الطهارة أو النجاسة ، فإنّ الظاهر جريان عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر والزبيب ، فكأنّهم يفهمون من الرطب والعنب الأعمّ ممّا جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا ، مع أنّ الظاهر تغاير الاسمين ؛ ولهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنث بأكل الآخر. والظاهر أنّهم لا يحتاجون في إجراء الأحكام المذكورة إلى الاستصحاب.

______________________________________________________

٢٥٨٨. إلى زمان الفاضل الهندي ، بل هو مقتضى إطلاق صريح الإجماع المحكيّ عن جامع المقاصد وظاهر التذكرة.

٢٥٨٩. هذا محكيّ عن صاحب المعالم ، وهو من أهل الظنون الخاصّة ، ولا ينبغي لمثله أن يستند إلى مثل هذه الأولويّة الاعتباريّة.

٢٥٩٠. مثل أنّ حكم الرطب أو العنب من الطهارة والحليّة مثلا يسري إلى التمر والزبيب بحكم العرف ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، بخلاف ما لو حلف أن لا يأكل أحد الأوّلين ، فلا يحنث بأكل أحد الأخيرين ، فتدبّر.

__________________

(*) في بعض النسخ بدل : «الجليّة» ، القطعيّة.

٥٧٥

ومن الثاني : إجراء حكم بول غير المأكول إذا صار بولا لمأكول وبالعكس ، وكذا صيرورة الخمر خلّا وصيرورة الكلب أو الإنسان جمادا بالموت ، إلّا أنّ الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم السابق ، إمّا للنصّ كما في الخمر المستحيل خلّا ، وإمّا لعموم ما دلّ على حكم المنتقل إليه ، فإنّ الظاهر أنّ استفادة طهارة المستحال إليه إذا كان بولا لمأكول (*) ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب ، بل هو من الدليل ، نظير استفادة نجاسة بول المأكول إذا صار بولا لغير مأكول. ومن الثالث : استحالة العذرة (**) أو الدّهن المتنجّس دخانا والمنيّ حيوانا. ولو نوقش في بعض الأمثلة المذكورة ، فالمثال غير عزيز على المتتبّع المتأمّل.

وممّا ذكرنا يظهر (٢٥٩١)

______________________________________________________

٢٥٩١. توضيحه : أنّك حيث قد عرفت أنّ موضوع الحكم مع تقيّده في ظاهر الأدلّة بوصف عنواني ، قد يفهم منه العرف كون الموضوع هو الجامع المشترك بين الواجد للوصف والفاقد له ، بحيث لا يحتاج في إسراء الحكم إلى الفاقد إلى الاستصحاب ، وقد يحتاج فيه إليه ، وقد يفهم كون الموضوع هو المقيّد بالخصوص ، بحيث لا يمكن إسراء الحكم إلى الفاقد ولو بالاستصحاب ، ظهر لك أنّ قولهم : إنّ الأحكام تدور مدار الأسماء ، لا بدّ أن يراد به أسماء موضوعاتها التي هي مناط تعلّق الأحكام بها ، لا الأسماء التي وردت في ظاهر الأدلّة لما عرفت من عدم دورانها مدارها مطلقا.

وتحقيقه : أنّ الحكم قد يتعلّق باسم ولكن لا يكون الموضوع الواقعي له مسمّى هذا الاسم بالخصوص ، بل أعمّ منه ومن الفاقد لوصفه العنواني ، على حسب ما دلّت عليه القرينة أو فهم عرفا ، فيكون المذكور فردا من الموضوع

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «العذرة» ، بول المأكول.

(**) في بعض النسخ زيادة : دودا.

٥٧٦

أنّ معنى قولهم" الأحكام تدور مدار الأسماء" ، أنّها تدور مدار أسماء موضوعاتها التي هي المعيار في وجودها وعدمها ، فإذا قال الشارع : العنب حلال ، فإن ثبت كون الموضوع هو مسمّى هذا الاسم ، دار الحكم مداره ، فينتفي عند صيرورته زبيبا ، أمّا إذا علم من العرف أو غيره أنّ الموضوع هو الكلّي الموجود في العنب المشترك بينه وبين الزبيب أو بينهما وبين العصير ، دار الحكم مداره أيضا.

______________________________________________________

الواقعي ، ويكون تخصيصه بالذكر إمّا لعلم السائل بحكم غيره ، أو لعدم ابتلائه به ، أو لكونه أشيع الأفراد وأغلبها ، أو نحو ذلك. نظير ما ورد في الأخبار من أحكام المتنجّسات ، لورودها في موارد خاصّة ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله آنفا. وكذا لو قال الشارع : اليهود نجس ، لا يتأمّل في بقاء النجاسة لو دخل يهوديّ في دين النصارى أو في دين آخر من أديان الكفّار ، وإن لم يكن له اسم في الكتاب والسنّة. وكذلك ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في مثال الرطب والعنب. وعلى هذا فلا يكون للوصف مدخل في ثبوت الحكم حدوثا وبقاء.

وقد يفهم كون الموضوع أعمّ من الواجد والفاقد ، ويفهم أيضا مدخليّة الوصف في حدوث الحكم ، ويشكّ في مدخليّته في بقائه ، كما لو علمنا بنجاسة الماء المتغيّر ، وعلمنا أيضا بكون السبب في حدوثها هو التغيّر ، وشككنا في مدخليّته في بقائها. وكذا ما ذكر المصنّف رحمه‌الله من مثال بول غير المأكول.

وقد يعلم كون الموضوع هو مسمّى الاسم مع وصفه العنواني ، مثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ). وما ذكره من مثال العذرة والدّهن المتنجّس.

وإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ الحكم بزوال الاسم في القسمين الأوّلين لا بدّ أن يكون بزوال الاسم الجامع للواجد والفاقد ، لعدم العلم بزواله بدونه بالفرض ، وفي الأخير بزوال الاسم المأخوذ في ظاهر الأدلّة. والكلمة الجامعة بين هذه الأقسام ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «أسماء موضوعاتها التي هي المعيار في وجودها وعدمها».

٥٧٧

نعم ، يبقى دعوى (٢٥٩٢) : أنّ ظاهر اللفظ في مثل القضيّة المذكورة كون الموضوع هو العنوان وتقوّم الحكم به المستلزم لانتفائه بانتفائه. لكنّك عرفت : أنّ

______________________________________________________

٢٥٩٢. حاصل هذه الدعوى : أنّ مقتضى ظاهر اللفظ في القضيّة المذكورة كون الموضوع هو الوصف العنواني ، لا ما زعمه أهل العرف من التعميم ، ولا يعدل عن الظواهر إلّا بدليل.

والجواب : أنّ تعميم الموضوع إنّما هو بحسب فهم أهل العرف من ظواهر الأدلّة لا بحسب تخيّلاتهم واعتقاداتهم ، ولا ريب أنّ المدار في أمثال المقام على الظواهر العرفيّة لا على مقتضيات الأوضاع اللغويّة.

وحاصل الدعوى الثانية : أنّ المدار إنّما هو على مقتضيات الأوضاع اللغويّة أو العرفيّة ، أو على المجازات المكتنفة للقرائن الخارجة ، وشيء منهما غير متحقّق في المقام ، إذ الفرض أنّ مقتضى الوضع لغة أو عرفا كون الموضوع هو الوصف العنواني ، ولا قرينة على خلافه.

والجواب : أنّ القرينة إنّما هي فهم العرف ، بخلاف الظاهر ، لأنّ المدار في مباحث الألفاظ على المفاهيم العرفيّة وإن لم تكن مستندة إلى قرينة مخصوصة.

وإذا تحقّق عندك ذلك يستقيم لك أن تقول : إنّ المراد بقولهم : إنّ الأحكام تدور مدار الأسماء ، هو دورانها مدار الأسماء التي علّقت الأحكام عليها في ظواهر الأدلّة ، وأنّ هذه الضابطة منهم وردت لتأسيس أصل وقاعدة في ترتيب الأحكام على موضوعاتها ، فمرادهم به التنبيه على عدم جواز الخروج من ظواهر الأدلّة إلّا بقرينة فهم العرف أو غيره ، كما هو مقتضى تأسيس الأصل في موارده وتثمر هذه الضابطة فيما لو شكّ في كون الموضوع هو الوصف العنواني المذكور في ظاهر الدليل أو الأعمّ منه ومن الفاقد للوصف ، من جهة الشكّ في فهم العرف للتعميم ، فيقتصر حينئذ على ما اقتضاه ظاهر الدليل.

ثمّ إنّ الفرق بين المعنى المذكور والمعنى الذي أشار إليه المصنّف رحمه‌الله آنفا بقوله : «وممّا ذكرنا يظهر أنّ معنى قولهم ...» ، ظاهر عند المتأمّل.

٥٧٨

العناوين مختلفة والأحكام أيضا مختلفة ، وقد تقدّم حكاية (٢٥٩٣) بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم واختيار الفاضلين له.

ودعوى : احتياج استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ إلى القرينة الخارجيّة ، وإلّا فظاهر اللفظ كون القضيّة ما دام الوصف العنوانيّ لا تضرّنا فيما نحن بصدده ؛ لأنّ المقصود مراعاة العرف في تشخيص الموضوع وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقة ، ولا على ما يقتضيه الدليل اللفظيّ إذا كان العرف بالنسبة إلى القضيّة الخاصّة على خلافه. وحينئذ ، فيستقيم أن يراد من قولهم : " إنّ الأحكام تدور مدار الأسماء" أنّ مقتضى ظاهر دليل الحكم تبعيّة ذلك الحكم لاسم الموضوع الذي علّق عليه الحكم في ظاهر الدليل ، فيراد من هذه القضيّة تأسيس أصل قد يعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره ، فافهم.

الأمر الثاني ممّا يعتبر في تحقّق الاستصحاب : أن يكون في حال الشكّ متيقّنا بوجود المستصحب في السابق ، حتّى يكون شكّه في البقاء. فلو كان الشكّ في تحقّق نفس ما تيقّنه سابقا كأن تيقّن عدالة زيد في زمان كيوم الجمعة مثلا ، ثمّ شكّ في نفس هذا المتيقّن وهو عدالته يوم الجمعة ، بأن زال مدرك اعتقاده السابق ، فشكّ في مطابقته للواقع أو كونه جهلا مركّبا ، لم يكن هذا من مورد الاستصحاب لغة ولا اصطلاحا. أمّا الأوّل ، فلأنّ الاستصحاب لغة أخذ الشيء مصاحبا ، فلا بدّ من إحراز ذلك الشيء حتّى يأخذه مصاحبا ، فإذا شكّ في حدوثه من أصله فلا استصحاب. وأمّا اصطلاحا ، فلأنّهم اتّفقوا على أخذ الشكّ في البقاء أو ما يؤدّي هذا المعنى في معنى الاستصحاب.

نعم ، لو ثبت أنّ الشكّ بعد اليقين بهذا المعنى ملغى في نظر الشارع ، فهي قاعدة اخرى مباينة للاستصحاب ، سنتكلّم فيها بعد دفع توهّم من توهّم أنّ أدلّة

______________________________________________________

٢٥٩٣. لا يخفى أنّه لم يتقدّم منه ذلك ، بل استدلال الفاضلين على بقاء نجاسة الأعيان النجسة بعد الاستحالة.

٥٧٩

الاستصحاب تشملها ، وأنّ مدلولها لا يختصّ بالشكّ في البقاء ، بل الشكّ بعد اليقين ملغى مطلقا ، سواء تعلّق بنفس ما تيقّنه سابقا أم ببقائه.

وأوّل من صرّح بذلك الفاضل السبزواري في الذخيرة في مسألة من شكّ في بعض أفعال الوضوء ، حيث قال : والتحقيق أنّه إن فرغ من الوضوء متيقّنا للإكمال ، ثمّ عرض له الشكّ ، فالظاهر عدم وجوب إعادة شيء ؛ لصحيحة زرارة : " ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ" (٨) ، انتهى. ولعلّه قدس‌سره تفطّن له من كلام الحلّي في السرائر ، حيث استدلّ على المسألة المذكورة : بأنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلّا على يقين من كمالها ، وليس ينقض الشكّ اليقين (٩) ، انتهى. لكن هذا التعبير من الحلّي لا يلزم أن يكون استفادة من أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ.

ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء (١٠) ، لكنّ التعبير لا يلزم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين ، على ما توهّمه غير واحد من المعاصرين ، وإن اختلفوا بين مدّع لانصرافها إلى خصوص الاستصحاب وبين منكر له عامل بعمومها.

وتوضيح دفعه (٢٥٩٤):

______________________________________________________

٢٥٩٤. حاصل الدفع وما أورد عليه من السؤال وما أجاب به عنه : أنّ مناط اعتبار الشكّ الطاري ـ أعني : الاستصحاب ـ هو حصول اليقين بحدوث الشيء والشكّ في بقاء الحادث المتيقّن ، بمعنى تعلّق اليقين بالوجود الأوّل والشكّ بالوجود الثاني. ومناط اعتبار الشكّ الساري حصول اليقين بحدوث الشيء أوّلا ، ثمّ عروض الشكّ في نفس الحدوث ، بأن شكّ في صحّة اعتقاده السابق أو كونه جهلا مركّبا.

فعلى الأوّل ، يكون متعلّق اليقين والشكّ متّحدا مع قطع النظر عن تغاير زمان المتيقّن والمشكوك فيه ، لما عرفت من تعلّق اليقين فيه بالحدوث والشكّ بالبقاء ، ولازمه كون القضية المتيقّنة ـ أعني : عدالة زيد يوم الجمعة ـ متيقّنة حين الشكّ أيضا من غير جهة الزمان ، بمعنى حصول اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ، لكن

٥٨٠