الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

وبهذا التمهيد يصلح أن نفصل الكلام فى إطلاق القرآن باعتباراته الثلاثة ، فنبدأ بموطن اتفاق العلماء ، ثم نثنى بموطن الاختلاف.

الإطلاق الأول

القرآن باعتباره ألفاظا منطوقة

أولا : القرآن بوصفه علم شخص على هذا الاعتبار :

إذا أردنا أن نعرف القرآن من حيث هو علم شخص فعلينا أن نعين مدلوله بإيراد أهم خصائصه التى اشتهر بها ولا سيما عند علماء أصول الفقه ومنها :

١ ـ الإنزال أو التنزيل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ الإعجاز بسورة منه.

٣ ـ النقل بالتواتر.

٤ ـ الكتابة فى المصحف.

٥ ـ التعبد بالتلاوة.

وذكر بعض هذه الخصائص يكفى لتمييز مدلوله. ولنا أن نعرفه من خلال هذه الخصائص الخمسة بقولنا : القرآن هو «القول أو الكلام المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإعجاز بسورة منه المنقول إلينا بالتواتر ، المكتوب فى المصحف ، المتعبد بتلاوته من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس».

وخرج (بالقول أو الكلام) الألفاظ المهملة ، وب (المنزل) ما لم ينزل من كلامه المذخور عند الذى لا ينفد كلامه ، والأحاديث النبوية. أما خروج الأحاديث القدسية فيتوقف على القول فى : هل نزلت على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألفاظها أو لا؟ فبالأول : قال بعض المحققين مثل الأستاذ محمد عبد الله دراز فى «النبأ العظيم». وعليه نحتاج إلى قيد لإخراج هذه الأحاديث القدسية.

وبالثانى : قال الجمهور ، وعليه لا حاجة لقيد جديد لإخراجها. فالحديث النبوى سواء كان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهمه من كلام الله وبتأمله حقائق الكون فهو كالتوقيفي ، أم كان توقيفا بأن تلقى مضمونه من الوحى فهو من حيث مضمونه منسوب له سبحانه وتعالى ، ولكنه فى القسمين حرىّ بأن ينسب من حيث كونه كلاما لفظيا لقائله وهو النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فخرج القسمان بالقيد الأول. وكذلك الحال فى الحديث القدسى ؛ لأنه على القول الراجح منزل بمعناه فقط ؛ لأنه لم يأخذ أحكام حرمة اللفظ كالقرآن من حرمة روايته بالمعنى ، ومسّ المحدث لما حواه. والتحدى بالقرآن وعدمه بالحديث القدسى فارق آخر ، وكذلك عدم التعبد بتلاوته كلاهما يثبت عدم نزوله بلفظه.

١٠١

أما نسبة القول فى الحديث القدسى له سبحانه وتعالى فنسبة مألوفة معروفة فى العربية. وإنما لم نسمّ بعض الحديث النبوى بالقدسى لأننا لم نقطع بنزول معناه كما قطعنا فى الحديث القدسى ؛ لورود النص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القدسى : «قال الله تعالى». هذا مع تلقينا لكل سننه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقبول بقسميها التوفيقى والتوقيفى لقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر ٧).

وجعل التنزيل متعلّقا لقوله فى التعريف (على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قيد ثان يخرج المنزل على غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ملائكة ورسل وأنبياء آخرين كصحف إبراهيم ، وتوراة موسى.

وقولنا فى هذا التعريف : (للإعجاز بسورة منه) المقصود به إظهار عجز المرسل إليهم وصدق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا الإعجاز يكون بأى سورة ـ ولو الكوثر أقصر سورة أو ما فى قدرها ـ وهذا المعنى يفيد أن الإعجاز لم يكن بالقرآن كله كما فى آية الإسراء ، ولا بعشر سور كما فى آية هود ، بل بسورة واحدة. وجاء بها نكرة فى سياق الشرط ليعممها كما فى آية البقرة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ليدلّ إطلاقها على صدقها بأى سورة ولو أقصرها ، ويفيد أيضا أن المراد بالقرآن المعرف هو المجموع الشخصى الذى لا يقال إلّا على كل القرآن دفعة واحدة ، ويفيد أيضا منع توهم بعض الجاهلين أن الإعجاز لا يكون إلّا بما هو أكبر من سورة الكوثر مثلا.

وعليه فقولنا : (للإعجاز بسورة منه) قيد ثالث اكتفى به بعض المعرفين ؛ للاحتراز عن الكلام غير المعجز المنزل من عنده سبحانه وتعالى ، وعن المنسوخ ، وهذا صنيع ابن الحاجب ، ورأى ابن السبكى فى «جمع الجوامع» عدم الاكتفاء به ، وجعله مخرجا للأحاديث القدسية.

وقولنا : (المنقول إلينا بالتواتر) قيد رابع يخرج المنقول أحاديا ، كمنسوخ التلاوة إن نقل آحادا بسند صحيح أو حسن ، ويخرج أيضا القراءات الشاذة.

وأرى أن قيد التواتر فى التعريف إنما هو لبيان الواقع لا للإخراج ؛ لأن القراءات الشاذة ومنسوخ التلاوة خرجا بقيد الإعجاز السابق.

وكذلك قولنا : (المكتوب فى المصحف) فإنه لا يخرج شيئا. وإن كان بعض الأئمة كأبى حامد الغزالى فى «المستصفى» ألّف بين القيدين (التواتر والكتابة فى المصحف) واكتفى بهما عن غيرهما. وهو صنيع صدر الشريعة فى تنقيحه وتوضيحه. فعرف هؤلاء

١٠٢

(القرآن) بأنه هو : «ما نقل بين دفتى المصحف تواترا».

وقولنا : (المتعبد بتلاوته) أيضا لبيان الواقع لا للإخراج. ومن قال : إنه لإخراج القراءات الشاذة أو منسوخ التلاوة كالجلال المحلى ، فقول غير صحيح ، بل هذه العبارة لا تصلح قيدا ولا يحتاج إليها فى التعريف ؛ لأنه من أحكام القرآن ، ومن المقرر أن التعريفات تنزه عن ذكر الأحكام فيها ، قال الأخضرى :

وعندهم من جملة المردود

أن تدخل الأحكام فى الحدود

وذلك لأن اشتمال التعريف على الأحكام يوقع فى الدور ؛ لأن الحكم على الشيء فرع تصوره ، وبهذا يكون تصور الشيء توقف على نفس تصوره. ولكن هذا لا يمكن لأن عددا من العلماء كالزرقانى والشيخ غزلان والجلال المحلى ذكروا (المتعبد بتلاوته) كقيد ، ولكن العلامة الناصر استشكل هذا القيد ، ومع ذلك فنحن نسلم للجلال والبنانى بأن الحكم المذكور فى التعريف إن ذكر للتمييز فحسب لا يضرّ.

وقولنا : (من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس) لبيان أنه علم شخص يطلق على القرآن كله. ويشبهه فى هذه الدلالة قول ابن السبكى فى آخر تعريفه : (المحتج بأبعاضه).

ثانيا : القرآن بوصفه اسم جنس باعتبار اللفظ المنطوق :

وفى هذا الحديث نتكلم عن (القرآن) بوصفه اسم جنس على هذا الاعتبار نفسه ، فكيف نعرفه؟ وهل إطلاقه بوصفه اسم جنس حقيقة أو مجاز؟ وإن كان حقيقة فهل إطلاقه عليهما (علم الشخص واسم الجنس) من قبيل الاشتراك اللفظى أى بوضع واحد ، أو من المشترك المعنوى أى بأوضاع مختلفة؟

ويمكن أن نقول : إن لفظ (القرآن) كبقية أسمائه من المشترك اللفظى بين تمام المجموع «علم الشخص» وبين القدر المشترك بين الكل والبعض «اسم الجنس» ، والتعريف الذى يظهر أنه اختيار التفتازانى للقرآن بوصفه اسم جنس هو (الكلام المنقول فى المصحف تواترا) ولعل مما لا يخفى أن كون هذا تعريفا صحيحا للقرآن بهذا الوصف ـ أعنى وصف كونه اسم جنس ـ لا يتم إلا لو أريد من (أل) فى قوله : (الكلام). تعريف الجنس لا تعريف العهد ، وهذا هو قصده قطعا ، فأما حيث يراد منها تعريف العهد ، فإن هذا التعريف إنما يكون القرآن بوصفه علم شخص.

ويحسن زيادة لفظ (مطلق) قبل هذا التعريف لنفى احتمال التردد بين الجنس والعهد فى (أل). وعند تجرد إطلاق لفظ

١٠٣

(القرآن) عن القرينة فيحمل على معنى تمام المجموع الذى هو علم الشخص ، ويحمل أيضا عليه عند وجود القرينة المحتمة له كما فى قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). أما إذا وجدت القرينة الصارفة له عن هذا المعنى فيحمل على اسم الجنس كما فى قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) ؛ لأنه من المعلوم أن الاستماع مطلوب لبعض القرآن كما هو مطلوب لمجموعه. ولقد كان للقرينة دورها فى حمل لفظ (القرآن) على أحد المعنيين ؛ لأن شأن المشترك كذلك ، لأنه من قبيل المجمل المحتاج للقرينة لتبينه.

ووقوع لفظ (القرآن) نكرة فى سياق النفى وشبهه كالشرط والاستفهام قرينة صارفة له عن المعنى الشخصى إلى الجنسى بسبب العموم الذى عرض له فى هذا السياق.

وكذلك فى سياق الإثبات لتبادر الإطلاق الصالح لأن يقال على كل فرد من أفراد جنسها على سبيل البدل كما فى قوله تعالى :

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ).

ولقد نبه العلامة الفنارى على التلويح أن إطلاق المعنى الجنسى (للقرآن) على أبعاضه حقيقة ؛ وذلك لأن إطلاق العام وإرادة الخاص لا بخصوصه لا تخرجه عن حيز الحقيقة ، إنما المخرج هو إرادة الخاص بخصوصه ، وذلك لبقاء المعنى الكلى فى الإطلاق الأول ، وهو الحقيقة فى اسم الجنس وعدم بقائه فى الثانى لإرادة الجزئى الذى ينافى معنى الكلى.

الإطلاق الثانى

القرآن باعتباره نقشا مرقوما

النقوش الموجودة فى المصحف الدالة على ألفاظ القرآن لا على نفسها هى أحد الوجودات الأربعة وهى الوجود فى خطّ البنان ، وهذه الألفاظ المنقوشة تعطى حكم نفس الألفاظ عرفا وشرعا.

ولعل من السهولة بمكان تعريف (القرآن) باعتباره نقشا مرقوما كعلم شخص أو اسم جنس ، فالأول مثل قولنا : (ما بين دفتى المصحف من أول سورة الحمد إلى آخر سورة الناس). والثانى مثل قولنا : (مطلق ما فى المصحف ...).

ولقد اتفقت الأمة على صحة إطلاق (القرآن) بالاعتبارين السابقين.

١٠٤

الفرق بين القرآن وبين كل من الحديثين القدسى والنبوى

وخلاصة الفرق بين (القرآن) باعتبار اللفظ المنطوق والنقش المرقوم وبين الحديثين النبوى والقدسى :

(أ) ألفاظ القرآن منزلة ، والحديث النبوى غير منزلة ، أما الحديث القدسى فالجمهور على أنها منزلة خلافا لبعض المحققين.

(ب) القرآن لا تجوز رواية شىء منه بالمعنى ، والحديث النبوى تجوز باتفاق ، وو الحديث القدسى تجوز على التحقيق.

(ج) القرآن منزّل للإعجاز منه بسورة ، وكلا الحديثين ليس للإعجاز.

(د) القرآن منقول كله بالتواتر ، وكلا الحديثين ينقل بالتواتر والآحاد ، وأغلب نقلها بالآحاد.

(ه) للقرآن أسماؤه الخمسة المخصوصة ، وله اسم مخصوص لمجموعه المكتوب وهو (المصحف) ، وكلا الحديثين ليس كذلك.

(و) القرآن متعبد بتلاوته ، والحديث بقسميه ليس كذلك ، بل أقل القليل منه المتعبد بتلاوة لفظه وهو الأذكار إجماعا.

(ز) القرآن مختلف فى قراءة الجنب والحائض له والنفساء : الجمهور يمنع ، وفريق على جوازها ، والحديث تجوز قراءة هؤلاء له باتفاق.

(ح) مسّ المصحف للمحدث حدثا أصغر :

الجمهور على منعه ، وفريق على جوازه ، واتفقوا على جواز مس كتب الحديث للمحدث حدثا أصغر.

الإطلاق الثالث

لقرآن باعتباره كلاما

نفسيا قائما بذاته

(إطلاقه عند المتكلمين)

لقد ثار الخلاف حول النظر للقرآن من هذا الاعتبار ، وهو اعتبار الكلام النفسى القائم بذاته قديما قدم الذات الأقدس ، وذلك فى محاولة جميع العلماء تحديد العلاقة بين القرآن بهذا الاعتبار (الكلام النفسى القائم بذاته) ، وبين القرآن بالاعتبارين السابقين (اللفظ المنطوق والنقش المرقوم).

وقد كان للعلامة السعد التفتازانى فى شرح مقاصده نص طويل ، يوضح هذا الخلاف الواقع فى هذه المسألة ، يحسن ذكره بطوله ، فقد قال : «وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والمذاهب فى كون البارى تعالى متكلما ، وإنما الخلاف فى معنى كلامه وفى قدمه

١٠٥

وحدوثه ، فعند أهل الحق : كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف ، بل صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى ، منافية للسكوت والآفة كما فى الخرس والطفولة ، هو بها آمر ، ناه ، مخبر ، وغير ذلك يدل عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة ، فإذا عبر عنها بالعربية فقرآن وبالسريانية فإنجيل ، وبالعبرانية فتوراة ، فالاختلاف فى العبارات دون المسمى ، كما إذا ذكر الله تعالى بألسنة متعددة ولغات مختلفة.

وخالفنا فى ذلك جميع الفرق ، وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدال على المعانى المقصودة ، وأن الكلام النفسى غير معقول ، ثم قالت الحنابلة والحشوية : إن تلك الأصوات والحروف مع تواليها وترتب بعضها على بعض ويكون الحرف الثانى من كل كلمة مسبوقا بالحرف المتقدم عليه ، كانت ثابتة فى الأزل قائمة بذات البارى تعالى وتقدس ، وأن المسموع من أصوات القراء والمرئى من أسطر الكتاب نفس كلام الله تعالى القديم.

وكفى شاهدا على جهلهم ما نقل عن بعضهم : أن الجلدة والغلاف أزليان. وعن بعضهم : أن الجسم الذى كتب به الفرقان فانتظم حروفا ورقوما هو بعينه كلام الله تعالى ، وقد صار قديما بعد ما كان حادثا.

ولما رأت الكرّاميّة أن بعض الشر أهون من بعض ، وأن مخالفة الضرورة أشنع من مخالفة الدليل ذهبوا إلى أن المنتظم من الحروف المسموعة مع حدوثه قائم بذات الله تعالى ، وأنه قول الله تعالى لا كلامه. وإنما كلامه قدرته على التكلم وهو قديم ، وقوله حادث لا محدث. وفرقوا بينهما بأن : كل ما له ابتداء إن كان قائما بالذات فهو حادث بالقدرة غير محدث ، وإن كان مباينا للذات فهو محدث بقوله : «كن» لا بالقدرة.

والمعتزلة لما قطعوا بأنه المنتظم من الحروف ، وأنه حادث ، والحادث لا يقوم بذات الله تعالى ، ذهبوا إلى أن معنى كونه متكلما أنه خلق الكلام فى بعض الأجسام. واحترز بعضهم من إطلاق لفظ المخلوق عليه لما فيه من إيهام الخلق والافتراء ، وجوزه الجمهور.

ثم المختار عندهم ـ وهو مذهب أبى هاشم ومن تبعه من المتأخرين ـ أنه من جنس الأصوات والحروف ، ولا يحتمل البقاء حتى أن ما خلق مرقوما فى اللوح المحفوظ أو كتب فى المصحف لا يكون قرآنا ، وإنما القرآن ما قرأه القارئ وخلقه البارى من الأصوات المتقطعة والحروف المنتظمة.

وذهب الجبائى إلى أنه من جنس غير الحروف ، يسمع عند سماع الأصوات ، ويوجد

١٠٦

بنظم الحروف وبكتبها ، ويبقى عند المكتوب والحفظ ويقوم باللوح المحفوظ وبكل مصحف وكل لسان. ومع هذا فهو واحد لا يزداد بازدياد المصاحف ولا ينتقص بنقصانها ولا يبطل ببطلانها.

والحاصل أنه انتظم من هذه المقدمات قياسان : ينتج أحدهما قدم كلام الله تعالى ، وهو أنه من صفات الله وهى قديمة ، والآخر حدوثه ، وهو أنه من جنس الأصوات وهى حادثة. فاضطر القوم إلى القدح فى أحد القياسين. ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقية النقيضين فمنعت المعتزلة كونه من صفات الله ، والكرامية كون كل صفة قديمة ، والأشاعرة كونه من جنس الأصوات والحروف ، والحشوية كون المنتظم من الحروف حادثا.

ولا عبرة بكلام الكرامية والحشوية ، فبقى النزاع بيننا وبين المعتزلة وهو فى التحقيق عائد إلى إثبات كلام النفس ونفيه ، وأن القرآن هو هذا المؤلف من الحروف الذى هو كلام حى ، وإلا فلا نزاع لنا فى حدوث الكلام الحسى ، ولا لهم فى قدم النفسى لو ثبت ، وعلى البحث والمناظرة فى ثبوت الكلام النفسى ، وكونه هو القرآن ينبغى أن يحمل ما نقل من مناظرة أبى حنيفة وأبى يوسف ستة أشهر ، ثم استقرار رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر. (٢٩)

أ. د / إبراهيم عبد الرحمن خليفة

١٠٧

مصادر إضافية لمزيد من البحث والاطلاع

__________________

(١) الإتقان فى علوم القرآن ، للحافظ جلال الدين السيوطى ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، طبعة عيسى الحلبى ، الطبعة الأولى.

(٢) البرهان فى علوم القرآن ، لبدر الدين الزركشى ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط عيسى الحلبى ، الطبعة الأولى.

(٣) البيان فى مباحث من علوم القرآن ، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب غزلان ، ط دار التأليف ، الطبعة الأولى.

(٤) التلويح ، لسعد الدين التفتازانى ، على التوضيح لصدر الشريعة وحواشيه للفنرى وملا خسرو وغيرهما.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبى ط دار الكتاب ، الطبعة الثانية.

(٦) حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع ، لتاج الدين السبكى ، ط مصطفى الحلبى ، الطبعة الأولى.

(٧) حاشية سعد الدين التفتازانى على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب ، نشر مكتبة الكليات الأزهرية.

(٨) حاشية الخضرى على ابن عقيل ، ط الحلبى ، الطبعة الأولى.

(٩) حاشية الشيخ محمد عبده على شرح الجلال الدوانى للعقائد العضدية ، ط الخيرية.

(١٠) روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى ، لمحمود بن عمر الآلوسي ، ط المنيرية.

(١١) شرح المقاصد للتفتازانى.

(١٢) شرح المواقف وحواشيه ، ط اسطنبول ، الطبعة الأولى.

(١٣) مباحث فى علوم القرآن ، للدكتور صبحى الصالح ، ط دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الأولى.

(١٤) مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) للإمام الرازى ، ط المنيرية.

(١٥) مفردات القرآن ، للراغب الأصفهانى ، ط مصطفى الحلبى ، الطبعة الأولى.

(١٦) مناهل العرفان فى علوم القرآن ، للدكتور محمد عبد العظيم الزرقانى ، ط عيسى الحلبى ، الطبعة الثانية.

(١٧) النبأ العظيم ، للدكتور محمد عبد الله دراز ، نشر مكتبة عمار. وغير ذلك.

الهوامش :

__________________

(١) الإتقان ج ١ ص ١٧٨.

(٢) البرهان ج ١ ص ٢٧٣.

(٣) فى المطبوع «سيدلة» بالسين ، تصحيف ، وشيذلة ، ضبطها ابن خلكان بفتح الشين والذال واللام ، وقال : «وهو لقب عليه ، معناه : مع كشفى عنه» وعزيزى ، ضبطه أيضا بفتح العين ، هو ابن عبد الله أحد فقهاء الشافعية ، وصاحب كتاب البرهان فى مشكلات القرآن. توفى سنة ٤٩٤ ه‍. انظر ابن خلكان ج ١ ص ٣١٨ ، وشذرات الذهب ٣ / ٤٠١ ، وكشف الظنون ٢٤١.

(٤) اللحيانى : هو أبو الحسن على بن حازم ، اللغوى المشهور المتوفى سنة ٢١٥ ه‍ ، وقد أفاد ابن سيدة من كتبه فى تأليف (المخصص).

(٥) الإتقان ج ١ ص ١٨٢.

(٦) انظر : المسألة التاسعة من تفسير قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة ١٨٥) من تفسير الجامع لأحكام القرآن (ج ٢ ص ٢٩٨).

(٧) انظر : مناهل العرفان للزرقانى (ج ١ ص ١٤٠) ، والبيان ، للشيخ غزلان (ص ١٩ ـ ٢١).

(٨) البيان فى مباحث من علوم القرآن لغزلان (ص ٢٠).

(٩) انظر : البرهان (ج ١ ص ٢٧٧).

(١٠) انظر : الإتقان (ج ١ ص ١٨٢).

(١١) انظر : البرهان (ج ١ ص ٢٧٧) وما بعدها.

(١٢) انظر : البرهان (ج ١ ص ٢٧٨).

(١٣) وعبارة الزركشى عن هذا القول : «وقال القرطبى : القرآن ـ بغير همز ـ مأخوذ من القرائن». وهى أدق مما نقل عن الفراء ؛ لأن الاشتقاق إما أن يكون من المصدر ، وهو المختار الذى عليه مذهب البصريين ، وإما أن يكون من الفعل الماضى على ما هو مذهب الكوفيين ، والقرائن الذى هو جمع قرينة ليس بمصدر ولا بفعل حتى يشتق منه ، فالقول من مثله غلط محض ، أما الأخذ الذى عبر به القرطبى فيما نقل عنه الزركشى فهو أوسع دائرة من الاشتقاق فيصحّ.

(١٤) انظر : البرهان (ج ١ ص ٢٧٨).

(١٥) سورة آل عمران (٣ ، ٤).

(١٦) سورة الفرقان آية (١).

(١٧) انظر : البرهان (ج ١ ص ٢٨٠).

(١٨) روح المعانى ، للآلوسى (ج ١٨ ص ٢٣١).

(١٩) ـ

(١٩) روح المعانى ، للآلوسى (ج ١ ص ٨).

(٢٠) روح المعانى ، للآلوسى (ج ١ ص ١٠٦).

(٢١) انظر : مباحث فى علوم القرآن (ص ١٧ ـ ١٩).

(٢٢) انظر : البرهان (ج ١ ص ٢٨١).

(٢٣) سورة الحجر آية (٩).

(٢٤) سورة الزخرف آية (٤٤).

(٢٥) سورة الأنبياء آية (٥٠).

(٢٦) انظر : البرهان (ج ١ ص ٢٧٩).

(٢٧) انظر : البيان (ص ١٢٣).

(٢٨) البيان (ص ٢٢). وقوله رحمه‌الله : (وكلها أعلام بالغلبة) غلبة العلمية هى أن يكون للاسم عموم بحسب الوضع فيعرض له الخصوص فى استعماله لغلبة إطلاقه على شىء بعينه ، ثم إن كان استعمل فى غير ما غلب عليه كالعقبة والنجم فالغلبة تحقيقية ، وإن لم يستعمل فى غيره أصلا مع صلوحه لذلك بحسب وضعه فتقديرية. انظر حاشية الخضرى على ابن عقيل (ج ١ ص ٨٧). والأسماء الخمسة استعملت بالفعل فى فرد آخر مندرج تحتها فهى من الغلبة التحقيقية.

(٢٩) انظر : المقاصد (ج ٢ ص ٥).

١٠٨

مسألة : «نزول القرآن على سبعة أحرف»

هذا الموضوع من أصعب الموضوعات وأشدها على المحدثين وعلماء القرآن ، فإنه على الرغم من رواية الجمّ الغفير من الصحابة لهذه القضية عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى عدّ من روايتها السيوطى فى كتابه «الإتقان» واحدا وعشرين صحابيا (١) ، بل حتى أورد السيوطى فى «إتقانه» رواية أبى يعلى فى «مسنده» الكبير أن عثمان قال على المنبر :

أذكّر الله رجلا سمع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف». لما قام فقاموا ، حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال : وأنا أشهد معهم (٢).

نقول : على الرغم من هذا ، فإن أحدا من أولئك الصحابة لم يسأل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التحديد الضابط لهذه الأحرف السبعة ، والمعين لها واحدا بعد واحد حتى تبلغ سبعة لا تزيد ولا تنقص ، بل اكتفوا بتصويبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل من المختلفين فى القراءة بقوله : «هكذا أنزلت». ونحوه ، ودفعه لكل نزغة من شك يمكن أن

يوسوس بها الشيطان فى الصدور تجاه هذا التصويب ، بإخباره إياهم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، كما هى عادتهم ـ رضوان الله عليهم ـ فى عدم إلحاح المسألة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا سيما فيما لا تدعو إليه الضرورة.

فمن ثم اختلف الناس فى شأن هذه السبعة الأحرف اختلافا عظيما ، بلغ به ابن حبان خمسة وثلاثين قولا ، عدّ منها القرطبى خمسة فى مقدمة «تفسيره» (٣) ، ثم زاد السيوطى على هذا كله فبلغ فى «إتقانه» بهذا الاختلاف أربعين قولا ذكرها جميعا.

والناظر إلى هذه الأقوال ـ المتشعبة الخلاف فيما بينها تشعبا شديدا ـ نظرة إجمالية ، يجدها بين قائل بعدم انحصار عدد هذه الأحرف فى سبعة ، وإنما الأمر فى هذا هو على التسهيل والتيسير ، ولفظ (السبعة) يطلق على إرادة الكثرة فى الآحاد ، كما يطلق السبعون فى العشرات ، والسبعمائة فى المئين ولا يراد العدد المعين. قال الحافظ فى «الفتح» : (وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه) (٤).

وبين قائل بانحصار العدد فى سبعة بالفعل ، ثم لا يحاول أن يخطو خطوة وراء هذا فى تفسير هذه الأحرف ، بل يقول : هذا

١٠٩

الحديث هو من المشكل الذى لا يدرى معناه ، من قبيل أن الحرف من المشترك اللفظى ، فإن العرب تسمى الكلمة المنظومة حرفا ، وتسمى القصيدة بأسرها كلمة ، والحرف يقع على المقطوع من الحروف المعجمة ، والحرف أيضا : المعنى والجهة. قاله أبو جعفر محمد ابن سعدان النحوى (٥). وهو أيضا مختار السيوطى حسبما يفصح عنه قوله فى «شرح سنن النسائى» : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، والمراد به أكثر من ثلاثين قولا حكيتها فى «الإتقان» ، والمختار عندى : أنه من المتشابه الذى لا يدرى تأويله (٦).

وكذلك الشيخ ولى الله الدهلوى حيث قال في «شرحه على الموطأ» ما حاصله : «إن ما تقرر عندى وترجح فى هذا الاختلاف أن ذكر السبع فى الحديث لبيان الكثرة لا للتحديد» (٧).

وبين قائل : هى سبعة مفسرة ، ثم يتعدد القول فى تفسيرها حتى تبلغ الأقوال بعد القولين الآنفين ثمانية وثلاثين عددا فيتممها أربعين على ما عددها السيوطى.

ونحن بطبيعة الحال ليس من مقصودنا فى هذه الصفحات أن نستقصى جميع الأقوال مع ضعف أكثرها ، بل مقصودنا تجلية المعنى المقصود بالأحرف السبعة ، وتحقيق القول فيها ، وسبيلنا إلى تحقيق هذه الغاية أن نسوق بعض الروايات الفصل عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قضيتنا هذه ، لنستخلص منها ما يهدينا ـ إن شاء الله ـ إلى الصواب ، على نحو ما صنع شيخ أشياخنا الزرقانى فى «مناهله» ، وقد استوعب الروايات فى هذه المسألة ـ أو كاد ـ الحافظ ابن كثير فى كتابه «فضائل القرآن» من ص ١٦ حتى ص ٢١. وسنقتصر من ذلك على أيسر ما يتم به مقصودنا :

روى الشيخان ـ واللفظ للبخارى ـ عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أقرأنى جبريل على حرف فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف». زاد مسلم : قال ابن شهاب : بلغنى أن تلك السبعة الأحرف إنما هى فى الأمر الذى يكون واحدا لا يختلف فى حلال ولا حرام (٨).

حديث آخر : روى الشيخان ـ واللفظ للبخارى ـ من فضائل القرآن عن عمر بن الخطاب يقول : «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان فى حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكدت أساوره فى الصلاة ، فتصبرت حتى سلّم ، فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة

١١٠

التى سمعتك تقرأ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : كذبت ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إنى سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرسله ، اقرأ يا هشام». فقرأ عليه القراءة التى سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذلك أنزلت» ، ثم قال : «اقرأ يا عمر» ، فقرأت القراءة التى أقرأنى فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذلك أنزلت».

إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منه». (٩)

وكذا وقع لأبيّ مع آخرين ، يقرأ كل منهما بغير قراءة صاحبه فى سورة النحل ـ كما عند الطبرى ـ واحتكامهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتصويبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقراءتهم جميعا ، وضربه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صدر أبىّ دفعا لما اعتراه من الشك ، وقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى آخر الحديث فقال لى : «يا أبىّ ، أرسل إلىّ أن اقرأ القرآن على حرف ، فرددت إليه : أن هوّن على أمتى ، فردّ إلىّ الثانية :

اقرأه على حرفين ، فرددت إليه : أن هوّن على أمتى ، فردّ إلىّ الثالثة : اقرأه على سبعة أحرف ، ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها».

الحديث أخرجه مسلم.

ونحوا من هذا الاختلاف فى القراءة وتصويب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكلّ ، وقع لعبد الله بن مسعود وعمرو بن العاص إلى غير ذلك من وقائع الاختلاف والتصويب التى صحت فى هذه القضية.

حديث آخر : روى مسلم بسنده عن أبىّ بن كعب أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند أضاة بنى غفار.

قال : «فأتاه جبريل ـ عليه‌السلام ـ فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف ، فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتى لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين ، فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتى لا تطيق ذلك ، ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على ثلاثة أحرف ، فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتى لا تطيق ذلك ، ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا» (١٠).

وقد بين النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم السبب الذى من أجله لا تطيق أمته نزول القرآن على ما دون سبعة أحرف فى حديث الترمذى عن أبىّ قال : «لقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبرائيل ، فقال : يا جبرائيل إنى بعثت إلى أمة أميين ، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذى لم يقرأ كتابا قط ، قال : يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف». قال الترمذى : وفى الباب عن

١١١

عمر وحذيفة بن اليمان وأبى هريرة وأم أيوب ـ وهى امرأة أبى أيوب الأنصارى ـ وسمرة وابن عباس وأبى جهم بن الحارث بن الصمة.

هذا حديث حسن صحيح قد روى عن أبيّ بن كعب من غير وجه (١١). أ. ه.

ما نستخلصه من هذه الأحاديث :

١ ـ أن حقيقة العدد سبعة مرادة قطعا ، ومن زعم عدم الانحصار فيه فقد خالف صريح المنطوق.

٢ ـ أن السبعة أحرف كلها منزلة ، متساوية فى كل الأحكام الخاصة بالتلاوة والإعجاز.

٣ ـ أن نزول القرآن على سبعة أحرف سببه التيسير على الأمة والتخفيف عليها وإجابة لقصد نبيها حيث أتاه جبريل فأمره أن تقرأ أمته القرآن على حرف ، فطلب منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ المعافاة لأمته لأنها لا تطيق ذلك ، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف. ولأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل للناس كافة فسيعسر على الناس الانتقال من لغتهم إلى لغة أخرى ؛ ولذلك خفّف عن هذه الأمة بالأحرف السبعة ؛ ولذا اختلف العلماء فى جواز القراءة بلغة غير العربية على أقوال : ثالثها الجواز عند العجز عن العربية. نصّ على ذلك ابن الجزرى فى «نشره» (١٢). وذكر أمثلة لذلك بقراءة الهذلى لقوله تعالى : (حَتَّى حِينٍ) (عتى حين) ، وقراءة الأسدي ـ (تعلمون) و (تعلم) (وتسود) بكسر تاء المضارعة ، إلى غير ذلك من الأمثلة التى ذكرها.

كما أن هناك فوائد أخرى لنزول القرآن على سبعة أحرف : أن من تمام التيسير على الأمة جمع الأحرف السبعة لوجهات النظر المختلفة فى التأمل البلاغى فى النص القرآنى ، مما يبقى للقرآن مكانته السامية فى الإعجاز ؛ إذ كل قراءة بمنزلة آية ، فيكون هذا التنوع بمثابة الجمع لمناحى الإعجاز اللغوى والبلاغى.

ومن فوائد نزول القرآن على أحرف سبعة تعظيم ثواب هذه الأمة حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم فى تتبع معانى ذلك التنوع والتعدد ، فالأجر على قدر المشقة.

ومن فوائده أيضا : بيان قدر هذه الأمة وشرفها ، من حيث تلقيهم لكتاب ربهم بهذا التلقى ، وحفظه لفظة لفظة ، بصيغه وسكناته وحركاته وتفخيم حروفه وترقيقها ، فحفظوه من التحريف والتصحيف بما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم ، مما يؤكد اتصال سند هذه الأمة بكتاب ربها ، مما يدفع ارتياب الملحدين فى وصله. وهذا ما ذكره ابن

١١٢

الجزرى (١٣) من فوائد لنزول القرآن على سبعة أحرف.

٤ ـ أن التيسير بتعدد الأحرف تأخر إلى العهد المدنى ، هذا ما يفهم من حديث أبىّ عند مسلم وفيه : (أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند أضاة بنى غفار قال : فأتاه جبريل ـ عليه‌السلام ـ الحديث). حيث كانت هذه الأضاة بالمدينة كما قال الحافظ رحمه‌الله فى (الفتح) : وأضاة بنى غفار هى بفتح الهمزة والضاد المعجمة بغير همز وآخرة تاء تأنيث :

مستنقع الماء كالغدير وجمعه أضا كعصا ، وقيل بالمد (١٤) والهمز كإناء ، وهو موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بنى غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء ـ لأنهم نزلوا عنده» (١٥). والظاهر أن هذا التأخر إنما كان لعدم الحاجة ـ فى العهد المكى ـ إلى تعدد الأحرف لعدم انتشار الإسلام والقرآن آنئذ بين أحياء العرب ، وقصوره على القلة المؤمنة به ، وأغلبهم من قريش الذين أرسل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهرانيهم ، وأن القرآن المكى كان على أفصح لهجة مشهورة ومستفيضة فى جميع بطون قريش ، وأن هذه اللهجة كانت بالتالى مفهومة وميسرة لأولئك القلة المؤمنين به ، فلم تمس حاجتهم وقتئذ إلى المزيد من التيسير ، فلما كانت الهجرة إلى المدينة وبدء انتشار الإسلام بين العرب وفيهم من يمكن ألا يتقن تلك اللهجة ، مست الحاجة إلى التيسير بتعدد الأحرف ، وشمل هذا التعدد عندئذ بطبيعة الحال جميع القرآن مكيه ومدنيه من قبل أن التكليف هو بكل القرآن لا ببعضه دون بعض ، كما شمل تشريع هذا التعدد جميع الناس منذئذ لا فرق فى ذلك بين قرشى وغير قرشى من قبل أن الكل فى التشريع سواء.

ومن هنا اختلفت الأحرف المقروء بها سورة الفرقان المكية مثلا بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم بن حزام وهما قرشيان ، كما اختلفت بين أبىّ الأنصارى وغيره فى سورة النحل المكية أيضا ، وقراءة عبد الله بن مسعود وآخر فى سورة من حم المكيات كذلك ، إلى آخر تلك الوقائع.

وهكذا وجدنا القراءات العشر المتواترة المنسوبة إلى القراء العشرة لا تفرق فى تعددها واختلافها بين مكى ومدنى من الذكر الحكيم ، بل تعمها جميعا وعلى حد سواء ، كما لا تفرق فى تلقيها وأدائها بين أحد من الناس ، بل ورث القراءة بها فى الكل والإقراء بها للكل كابرا عن كابر ، ثم لم يزل الأمر على هذا الشمول للمقروء وقرائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن شاء الله تعالى.

ولعل ما قلناه من نزول القسم المكى من القرآن أول ما نزل بتلك اللهجة المستفيضة

١١٣

فى بطون قريش والمفهومة لها جميعا هو ما عناه عثمان رضي الله عنه من قوله للرهط القرشيين عند جمع القرآن : (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى عربية من عربية القرآن ، فاكتبوها بلسان قريش ، فإن القرآن أنزل بلسانهم) (١٦). قال القاضى أبو بكر بن الباقلانى : (معنى قول عثمان : «نزل القرآن بلسان قريش. أى : معظمه ، وأنه لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش ، فإن ظاهر قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أنه نزل بجميع ألسنة العرب ، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة ، أو هما دون اليمن ، أو قريشا دون غيرهم ، فعليه البيان ، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولا واحدا ، ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخر أن يقول بلسان بنى هاشم مثلا ؛ لأنهم أقرب نسبا إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سائر قريش (١٧).

وبالجملة ، فليس للتيسير بالأحرف السبعة ونزولها بالمدينة وقت معلوم على التحديد ، لكن الذى يظهر ويتفق مع طبيعة الأمور أن يكون ذلك قد تم بعد قدومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة واستقرار مقامه فيها بزمن يسير ، حيث بادرت أحياء من العرب بالقدوم إلى المدينة والدخول فى الإسلام كأسلم وغفار (١٨). فكان من المتجه إذن لهؤلاء وأمثالهم أن يكون لهم تيسير القرآن بنزوله على سبعة أحرف منذ هذا الوقت المبكر. والله أعلم بحقيقة الحال.

وقد حاول عدد من العلماء بيان كيف كان التعدد ، فذهب بعضهم إلى أن جبريل كان يقرأ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى كل عرضة بوجه أو حرف.

وهذا ما اختاره أبو عمرو الدانى (١٩). ولكننا نرى أن ذلك من الغيب المستور ونكل علمه إلى الله.

٥ ـ أن الصحابة لا محالة فهموا مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن ، بل لقد أقرأهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، ونقلوها بالتواتر كما هو الحال فى كل القرآن ؛ لأن هذه الأحرف كجزء القرآن فما وجب فى الكل وجب فى الأجزاء. وليست الأحرف السبعة من قبيل المشكل أو المتشابه الذى لا يمكن تأويله كما ذهب إليه محمد بن سعدان النحوى والسيوطى فى «المجتبى» وولى الدهلوى والآلوسي (٢٠).

والسؤال : ما المعنى الذى فهمه الصحابة رضى الله عنهم للأحرف السبعة؟ هل هى أصناف مختلفة من الكلام كالزاجر والآمر ، والحلال والحرام ، والمحكم والمتشابه ، والأمثال؟

ولقد جاء خبر عن ابن مسعود ورفعه للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نفس المعنى السابق. ولكن إرادة هذه

١١٤

الأصناف بالأحرف السبعة من الإحالة ووضوح البطلان بحيث لا يتسع لها عقل عاقل ؛ لأنه لا يصحّ أن يقرأ القرآن كله بصنف واحد من هذه الأصناف المذكورة. وقد ردّ الحافظ هذا الخبر الوارد عن ابن مسعود بما ذكره عن ابن عبد البر من عدم ثبوته ؛ لأن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يلق ابن مسعود وهو الراوى عنه. وقال : وقد أطنب ابن جرير الطبرى فى الرد على هذا الرأى بما حاصله أنه يستحيل أن يجتمع فى الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة. ثم ذكر أن تصحيح ابن حبان والحاكم لخبر ابن مسعود فيه نظر ، وذكر أنه رواه البيهقى مرسلا. وحكم عليه بالجودة. ثم ذكر أن المراد بالأحرف السبعة :

أن الكلمة الواحدة تقرأ على وجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة تيسيرا. ونقل عن الأهوازى والهمدانى ردهما لتأويل السبعة أحرف بالأصناف السبعة (٢١).

واقتصر ابن الجزرى من أمر هذا الحديث على تأويله فقال : (فإن قيل) : فما تقول فى الحديث ... وذكره من رواية الطبرانى بلفظ مقارب فيه تقديم وتأخير ثم قال فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن هذه السبعة غير السبعة الأحرف التى ذكرها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك الأحاديث ، وذلك من حيث فسرها فى هذا الحديث فقال : حلال وحرام إلى آخره. ثم أكد ذلك بالأمر بقول : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا). فدل على أن هذه غير تلك القراءات.

الثانى : أن الأحرف السبعة فى هذا الحديث هى هذه المذكورة فى الأحاديث الأخرى التى هى الأوجه والقراءات ، ويكون قوله : حلال وحرام إلى آخره تفسيرا للسبعة الأبواب. والله أعلم.

الثالث : أن يكون قوله : حلال وحرام إلى آخره لا تعلق له بالسبعة الأحرف ولا بالسبعة الأبواب ، بل إخبار عن القرآن أى هو كذا وكذا واتفق كونه بصفات سبع كذلك (٢٢)). أ. ه.

وكذلك صنع السيوطى من بعده وعبارته فى هذا المقام بعد ذكر الحديث وفيها المزيد من مقولات العلماء وموقفهم منه : (وقد أجاب عنه قوم ، بأنه ليس المراد بالأحرف السبعة التى تقدم ذكرها فى الأحاديث الأخرى ؛ لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا ، بل هى : ظاهرة فى أن المراد أن الكلمة تقرأ على وجهين وثلاثة إلى سبعة ، تيسيرا وتهوينا ، والشيء الواحد لا يكون حلالا وحراما فى آية واحدة ، وقال البيهقى ... وذكر تأويله السابق فى نقل «الفتح» ثم قال : وقال غيره : من أوّل الأحرف السبعة بهذا ، فهو فاسد ؛ لأنه محال أن يكون الحرف فيها حراما لا ما سواه ، أو

١١٥

حلالا لا ما سواه ، ولأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله أو حرام كله ، وأمثال كله.

وقال ابن عطية : هذا القول ضعيف ؛ لأن الإجماع على أن التوسعة لم تقع فى تحريم حلال ولا تحليل حرام ، ولا فى تغيير شىء من المعانى المذكورة. وقال الماوردى : هذا القول خطأ : لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف ، وإبدال حرف بحرف ، وقد أجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال بآية أحكام. وذكر قول أبى على الأهوازى وأبى العلاء الهمدانى السابق فى نقل «الفتح» (٢٣).

وتلك الأصناف السبعة ليس لها سند بالمرة ، ولقد وصل أصحاب هذا الرأى إلى أن جعلوا هذه الأصناف أربعين قولا ، ولقد أوجز الرد عليهم شيخ أشياخنا الزرقانى بعد ذكر هذه الأقوال الأربعين والتى جعلوا منها الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمحكم والمتشابه ـ فردّه عليهم بردود خلاصتها :

١ ـ أن سياق الأحاديث لا يساعد على حمل الأحرف السبعة على الأصناف السبعة ؛ لأنها كلها تصرح بأن الأحرف إنما هى فى القراءة والتلفظ.

٢ ـ عدم وجود سند صحيح لهذا القول.

٣ ـ التيسير المقصود من نزول القرآن على سبعة أحرف لا يتحقق مع هذه الأصناف والأنواع.

٤ ـ زيادة بعض تلك الآراء عن السبعة مما يعنى الخطأ فى العدّ أو أنهم يعتقدون أن السبعة غير مقصودة وهذا باطل.

٥ ـ أن أكثر ما ذكروه فى تلك الآراء يدخل بعضه فى بعض ، فمن المتعسر اعتبارها أقوالا مستقلة. ثم نقل ما نقله السيوطى عن الشرف المرسى من ردّ فى معنى الكلام السابق (٢٤).

ويورد أبو عمرو الدانى فى مقدمة «جامع البيان» فى القراءات السبع تحت عنوان (معنى الأحرف السبعة) وجهين للمراد من الأحرف السبعة :

أولهما : أن الأحرف السبعة سبعة أوجه فى اللغات ، ومثّل لها ب (أفلس ، وفلس) ، والحرف يراد منه الوجه ومنه قوله تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أى على وجه.

وثانيهما : أن الأحرف السبعة هى القراءات السبعة ، جريا على عادة العرب فى تسمية الشيء باسم ما له علاقة به من مقارنة أو مقاربة أو مجاورة ؛ ولذلك سمّى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القراءة حرفا وإن كان كلاما كثيرا.

فقد سمّى العرب القصيدة والخطبة والرسالة

١١٦

كلمة ، ومن هذا الاستعمال قوله تعالى :

(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) فقال : إنما يعنى بالكلمة هاهنا قوله فى سورة القصص :

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) فأطلق الكلمة على كل هذا الكلام ؛ ومن ثمّ خاطب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بالحضرة وسائر العرب فى هذا الخبر من تسمية القراءة حرفا لما يستعملون فى لغتهم وما جرت عليه عادة منطقهم (٢٥).

وعقّب ابن الجزرى فى «النشر» على كلام أبى عمرو فذكر أن كلا الوجهين محتمل ، وفرّق بينهما ، وذكر أن حديث «أنزل القرآن على سبعة أحرف» يحتمله الوجه الأول ، وحديث عمر مع هشام رضى الله عنهما يحتمله الوجه الثانى (٢٦).

والصواب : أن المعنيين لا فرق بينهما ؛ لأن عمر رضي الله عنه قال : سمعته يقرأ فيها أحرفا لم يكن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأنيها ، فلو كان معنى الحرف يخالف معنى القراءة تعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر ذلك ولنبهه لحاجته إلى معرفة ذلك.

وإذا عدنا إلى كلام أبى عمرو الدانى فنجد أن الوجه الأول اختاره جماعة من العلماء ذكرهم الزركشى فى «البرهان» منهم أبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن يحيى ثعلب ، ونقله حكاية ابن دريد (٢٧) عن أبى حاتم السجستانى (٢٨) ، وبعضهم عن القاضى أبى بكر الباقلانى. وذكر أن بعض القرآن نزل بلغة قريش وبعضه نزل بلغة هذيل ، وبعضه بلغة تميم ، وأزد ، وربيعة ، وهوازن ، وسعد بكر ، ومعانيها كلها واحدة. واحتج الأزهرى (٢٩) لهذا القول بقول عثمان فى جمع القرآن : «وما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش ، فإنه أكثر ما نزل بلسانه». وفى رواية : «إنما نزل بلسانهم».

فعلى فرض أن هذه الرواية الأخيرة هى المحفوظة ، فإن الحصر ب (إنما) ليس حصرا حقيقيا بل إضافيا ؛ لكثرة ما نزل بلغة قريش.

ونقل الزركشى عن ابن قتيبة وغيره إنكارهم أن يكون فى القرآن حرف من غير لغة قريش لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) ونقل عن ابن قتيبة قوله : ولا نعرف فى القرآن حرفا واحدا يقرأ على سبعة أوجه. ثم نقل تغليط ابن الأنبارى لابن قتيبة بحروف منها قوله تعالى : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) وقوله تعالى : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) وقوله (باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا).

١١٧

ونقل عن ابن عبد البر أنه نقل عن بعض أهل العلم إنكارهم لأن تكون السبعة أحرف سبع لغات ؛ لأن عمرو هشام بن حكيم أهل لغة واحدة ومع ذلك وقع بينهم الاختلاف (٣٠).

ونرى أن ما احتج به ابن قتيبة لا ينهض حجة ؛ لأن قوم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم العرب والناس كافة وليسوا قريشا فقط ؛ لأنه أرسل للناس كافة.

وأما ما احتج به ابن عبد البر فيدفعه أن شأن القراءة هو التلقى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا فرق بين أن يكون المتلقون من لغة واحدة أو من عدة لغات.

وقد أجاد الآلوسي فى نقله لرد السيوطى على هذه الشبهة بأنه : هل من أحد يدعى أن الإنزال كان كما كان ثم أهل اللغات هذبوه ورشحوه بكلماتهم بعد الإذن لهم بذلك؟ ؛ ولذا لا يتصور اختلاف أهل اللغة الواحدة ، والقبيلة الواحدة. ونقل عن الإمام السيوطى أن مرجع السبع الرواية لا الدراية بأن الصحابى قد يعى ما فى القراءة أو الرواية من لغات غير لغته وقد لا يدرى ، ومن ثمّ قد ينكر أحد الراويين رواية وقراءة الآخر (٣١).

نعم ، إن القول بأن السبعة أحرف سبع لغات قد يتحقق معه التيسير المراد من إنزال القرآن على سبعة أحرف ، ولكن الحديث عن السبعة أحرف ليس قاصرا على الكلام عن التيسير فحسب ، بل هناك مقامات بلاغية تختلف فيها أنظار العرب ، وكذلك مقام الإيجاز مع التفسير لتحقيق حجة الإعجاز لفهم الخصم ، ولو كان تعدد القراءات بمثابة تعدد الآيات لذهب مقصد الإيجاز وتضخم القرآن وعاد النقض على المقصود من التيسير ؛ ولذا فهذا الوجه ليس عندى بمرتضى.

ويشتد القصور والسقوط عن درجة القبول فى القول القائل بالاقتصار على ضرب مخصوص من اللغات ، وهو الألفاظ المترادفة وما يقاربها ، وقد سبق أن نسبه القرطبى لأكثر أهل العلم. ولقد كان لأصحاب هذا القول حجج كثيرة أوضح من صرح بها وأطال فى سردها أبو جعفر الطبرى.

ولذا سنجمل ما جاء فى تفسيره من أدلة على هذا القول : فقد بدأ بإنكار وجود حرف فى كتاب الله قد قرئ بسبع لغات ، وألزم الخصم بأنه لو قال بأن الأحرف السبعة سبع لغات مثبتة فى القرآن لما صحّ أن يقع الخلاف الوارد بين الصحابة فى القراءة ، وإقرار النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم على هذا الخلاف. وذكر أن مجرد الجمع بين هذا القول وحججه مفسد له ؛ لأن أصحاب هذا القول يحتجون بما روى عن الصحابة والتابعين أنه قال : هو بمنزلة قولك : (تعال) و (هلّم) و (أقبل) ، أو هو بمثابة قراءة ابن مسعود (إلا زقية) وهى فى

١١٨

قراءتنا (إلا صيحة) ، فهذه الحجج مبطلة لمقالتهم ؛ لأن ذلك لا يعنى اللغات السبع فى حرف واحد أو كلمة واحدة ، بل يعنى اختلاف الألفاظ مع اتفاق المعانى. ثم طالب أصحاب هذا القول بحرف واحد من الكتاب مقروء بسبع لغات.

ثم انتقل للجواب عن السؤال : أين الأحرف السبعة الآن التى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقراءة بها. هل نسخت ورفعت؟ فأجاب بأنها لم تنسخ ولم تضيعها الأمة ؛ لأن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيرت فى قراءته وحفظه بأى الأحرف السبعة شاءت ، كالحال فى الحنث فى اليمين تأتى بأى الخصال الثلاث شئت ، فتكون بذلك مصيبا مكفّرا ، وقد رأت الأمة لعلة من العلل ، الثبات على حرف واحد دون سائر الحروف الستة الباقية. ثم ذكر أحاديث جمع القرآن ، ثم ذكر أن هذه الأخبار التى يضيق عنها كتابه تكشف عن أن عثمان رضي الله عنه رأفة وشفقة بالأمة جمع الناس على حرف واحد لمنع الفتنة التى بدأت تظهر فى عصره من إنكار بعض الناس لبعض الحروف فى القرآن ، فأطاعته الأمة فى ذلك ووافقت عليه. حتى آل الأمر الآن إلى أنه لا قراءة إلا بالحرف الواحد الذى اختاره إمام المسلمين وأمير المؤمنين للأمة ووافقت عليه الأمة فى عصره وأقرته.

ثم أجاب عن سؤال ملخصه كيف جاز للأمة ترك القراءة ببعض أحرف القرآن؟

فأجاب بأن القراءة بالأحرف السبعة كانت رخصة يباح استخدامها وليس فرضا ؛ لأنه لو كان فرضا لوجب العلم بالأحرف السبعة على من تقوم الحجة بنقلهم ، ولما لم يفعلوا ذلك علم عدم فرضيته.

أما جعل اختلاف القراءة فى ضبط الكلمات مفسرا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف». فيراه الطبرى غير صحيح ؛ لأنهم اتفقوا على أن الخلاف فى مثل هذه التوجيهات والضبط لا يوجب تكفير الممارى فيه كما هو الحال فى الممارى فى الأحرف السبعة.

ثم أجاب عن تساؤل عن علمه بالأحرف السبعة التى نزل بها القرآن وألسنتها؟ فأجاب بأن الأحرف الستة الأخرى

لا حاجة لنا بمعرفتها ؛ لأننا إن عرفناها اليوم ما قرأنا بها للأسباب السابقة ، وقيل : إن خمسة منها لعجز هوازن واثنين لقريش وخزاعة. وذكر روايات فى ذلك عن ابن عباس وذكر أنها لا يصح الاحتجاج بها (٣٢). وهذا مجمل ما أتى به الطبرى من استدلال على رأيه.

وما قاله الطبرى واستدلّ به ليس مأخوذا عليه كله ، بل منه ما نوافقه عليه وأخّرنا ذكره

١١٩

لحين كلام الطبرى لموافقته ما نعتقده وخاصة فى ردّه على القائلين بأن الأحرف السبعة كانت سبع لغات.

ولكن لنا رد آخر على القائلين بهذا الرأى وهو : هل كان للعرب لغات متنافرة لا يفهم بعضهم بعضا حتى يحتاجوا إلى أن ينزل القرآن على سبع لغات فى الكلمة الواحدة؟ ، فلو كان الأمر كذلك ، كيف كانوا يحفظون قصائد شعراء القبائل ، وإن لم يكن الشاعر من نفس قبيلة الحفاظ؟ وكيف كان الشاعر يجوب القبائل يعرض شعره بغير ترجمان ، فالنابغة تارة عند الغساسنة فى الشام ، وأخرى عند المناذرة فى العراق ، وشعره يفهمه أهل القريتين ، والمعلقات السبع على أستار الكعبة يفهمها القاصى والدانى ، وأسواق العرب الجامعة يتعامل فيها الناس ، ويتساجل فيها الشعراء ، وهم من قبائل شتى. والنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقابل الوفود ويعرض عليهم الإسلام فيفهمون كلامه.

وأيضا الترادف ، وإن كان القائلون به هم الأكثرون ولكنهم لم يذكروا من ثمراته أن العرب كانوا مضطرين إليه لفهم بعضهم بعضا ؛ ولذا فهذا الرأى رأى ساقط عند الطبرى وعندنا.

وفيما نرى أن الطبرى يقرر بكل وضوح وصراحة وصرامة أن اختلاف اللهجات واللغات والقراءات فى النطق لا علاقة لها بحديث تعدد الأحرف السبعة ، وهذا هو مذهب الطبرى الذى صرّح به ، فلا داعى للتفرقة بين اللازم البين وغيره ؛ لأنه هو مذهب الرجل.

والذى يدفعنا للرد على كلام الطبرى ، أن مؤدى مذهبه هذا ضياع ستة أحرف من القرآن وأن القرآن فى العصر المكى كان قاصرا على قريش ، وأنّ من سواهم ممن عرض عليهم الإسلام معذورون غير مقصرين فى الجحود والكفر بمعجزته وشريعته لعدم فهمهم. وكل هذا مناف لما كان عليه العرب وواقعهم.

والظاهر من كلام الطبرى أنه يرى أن حكمة التيسير تقتضى أن تشمل الأحرف السبعة القرآن كله أو أكثره ، وعليه يلزمه ما قدمناه ، ولو عكس دعواه فجعل اختلاف اللهجات سبيلا إلى اختلاف النطق ، فبهذا لا تكون هناك صلة بين دعواه وحديث الأحرف السبعة ، بل بهذا يعود الاختلاف إلى حرف واحد ويلزمه ما لزمه من قبل.

وما استدل به من آثار لم يصحّ منها أثر واحد ، على ما سبق أن وضحنا ، ولم يجد فيها مثالا واحدا يؤيد دعواه حتى اخترع

١٢٠