بحوث في علم الأصول - ج ٧

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

له حالة سابقة قبل أن تخلق المرأة ، لا بما هو وصف ونعت ، لأنّ نعوتها فرع ثبوتها ، إذ أي متى صارت امرأة حتى توصف بأنها غير قرشية؟ وحينئذ ، فرّع الميرزا (قده) على مدّعاه هذا ، بأنّ استصحاب السالبة بانتفاء الموضوع لإثبات العدم النعتي متعذر ، لأنّه مثبت ، لأنّ العدم النعتي بما هو هو ، لا حالة سابقة له ، وإنّما الحالة السابقة للعدم المحمولي ، أي العدم بما هو هو ، وإثبات هذا العدم المحمولي باستصحاب العدم النعتي ، أصل مثبت لا نقول به.

بينما السيد الخوئي (قده) ومن سلك مسلك صاحب الكفاية (قده) ، ذهب إلى أنّ العدم ليس كالوجود ، إذ ليس من الضروري أن يؤخذ عدم القرشيّة بما هو نعت للمرأة ، فالقرشيّة متى أخذت وجب أخذها بما هي نعت ، لكن عدم القرشيّة ليس كذلك ، بل يعقل أخذه بما هو نعت ، وبما هو هو بحيال ذاته ، إذ كلاهما ممكن ثبوتا.

إذن ، فعلى الفقيه أن يرجع إلى مقام الإثبات ، ليرى أنّ الدليل يناسب أيّ شيء؟ وحينئذ ، يدّعي انّ الدليل يراه مناسبا لأخذه بما هو هو بحيال ذاته ـ أي للعدم المحمولي ـ ومعه ، يمكن إجراء استصحاب العدم الأزلي ، فنستصحب هذا العدم المحمولي ، وننقح بذلك موضوع الحكم الشرعي ، من دون إشكال الأصل المثبت.

والآن ، وقبل الدخول في النقطة الرابعة التي هي مصبّ الكلام وصلب الموضوع ، نحن بحاجة إلى تعميق تصور النعتية التي قيل في النقطة الثانية ، انّها غير معقولة ، بين الجوهرين ، أو العرضين العرضيّين لجوهر واحد ، أو العرضين لجوهرين أو من جوهر وعرض لجوهر آخر.

فهذه النعتية ، التي قيل : انّها معقولة بين العرض ومحله إثباتا ونفيا ، والتي قيل في النقطة الثالثة انّها ضرورية في طرف وجود العرض ، والتي قال الميرزا (قده) في النقطة الرابعة ، انّها ضرورية في طرف عدم العرض أيضا ، فهذه النعتية ، نريد أن نعمّق تصورنا لها ، لكي نفهم معنى النعتيّة في طرف

٢٤١

عدم العرض ، فإنها في طرف الوجود ، لدينا تصور ساذج عنها ، وكذلك في طرف العدم أيضا لدينا تصور ساذج عنها ، إذ العدم تارة يؤخذ بما هو هو فيكون عدما محموليا ، وأخرى ، يؤخذ بما هو نعت وصفة ، فيسمّى عدما نعتيا.

فتعميق هذه التصورات يساعدنا على الدخول في البحث دخولا واعيا.

وفي مقام تحقيق ما تسالم عليه الطرفان ، من أنّ النعتية معقولة وممكنة في العرض مع محله ، وعدم العرض مع محله ، كما ورد في النقطة الثانية ، ولكي نعرف انّ النعتية هذه معقولة أو غير معقولة ، نتكلم أولا في النعتية في جانب وجود العرض ، كي نعرف معنى أخذ النعتية بهذا النحو ، ولنعرف انها معقولة أو غير معقولة ، حتى إذا تعقلنا النعتيّة هذه ، حينئذ ، نتكلم في انّ هذه النعتية المعقولة في طرف الوجود إثباتا ، هل تكون معقولة في طرف العدم أيضا.

وسوف نتكلم أولا في النعتية في طرف وجود العرض ، لنرى ما معنى أخذها فيه ، ثم نتكلم في النعتية في طرف عدم العرض ، لنرى انّ أخذها فيه معقولا أم لا.

أمّا معنى أخذ العرض في طرف الوجود نعتا ، فيمكن أن يقرّب بعدة تقريبات.

١ ـ التقريب الأول : وهو مستفاد من كلمات السيد الخوئي (قده) في رسالته المعقودة في حكم اللباس المشكوك ، حيث فسّر النعتية بالوجود الرابط ، حيث انّ الوجودات أربعة أقسام :

الأول : موجود في نفسه لنفسه بنفسه ، وهو واجب الوجود ، وهو أعلى هذه الوجودات.

والثاني : هو الموجود في نفسه لنفسه بغيره ، وهو الجوهر.

والثالث : هو الموجود في نفسه لغيره بغيره ، وهو العرض.

٢٤٢

والرابع : هو الموجود في غيره لغيره بغيره ، وهو الوجود الرابط ، وهو أخسّ الوجودات.

ومعنى أخذ العرض على وجه النعتية ، يعني أخذ الوجود الرابط القائم بين العرض ومحله ، بين العلم والإنسان ، بين البياض والجسم ، فأخذ البياض في الجسم موضوع الحكم ، على وجه نعتي ، معناه دخل الوجود الرابط القائم بين العرض ومحله ، وذلك لأنه تارة يلحظ ذات العرض ويقال : إن كان هناك بياض فتصدق على الفقير ، من دون لحاظ كون العرض قائما بحائط الغرفة أو في العاج.

وأخرى يكون الحكم منوطا بوجود بياض ووجود ربط بين البياض وحائط الغرفة.

وهذا معناه : إنّ البياض أخذ بما هو نعت لجدار الغرفة ، أي الوجود الرابط بين الجوهر والعرض ، ليكون دخيلا في موضوع الحكم ، وحينئذ ، فرّع على أساس هذا التفسير ، انه بناء على هذا ، فإنّ النعتية في طرف العدم غير معقولة ، وذلك لأنّ الوجود الرابط إنّما يكون بين وجود العرض ـ البياض ـ ووجود محله ـ الجسم ـ لا بين عدم العرض ووجود الجسم ، إذ لا يعقل أن يكون الوجود الرابط بين أمر وجودي ، وأمر عدمي ، لأنّ هذا الوجود الرابط ، قوامه بطرفيه ، فلو كان أحد الطرفين فيه عدم العرض ، لكان معناه : تقوّم الأمر الوجودي بالعدمي ، وهو محال ، وإذا لم يكن معقولا وجود الرابط بين أمر وجودي وأمر عدمي ، إذن فالنعتيّة غير معقولة في طرف العدم ، لأنّ مرجع النعتية إلى الوجود الرابط ، وحيث انّه لا وجود رابط بين المحل والعدم ، إذن فالنعتية في طرف العدم غير معقولة ، ولهذا رجع العدم النعتي إلى وجود وصف نعتي مضاد للعدم النعتي ، فمثلا عدم القرشيّة ، إذا أردنا تصويره عدما نعتيا فلا يعقل أن يكون نفس هذا العدم نعتا ، لأنّ نعتيّته عبارة عن أخذ الوجود الرابط بين المرأة ، وعدم القرشيّة ، ولا وجود رابط في مثله ، بل لا بدّ أن يكون المأخوذ لبا في موضوع الحكم ضد القرشيّة ، أيّ أمر وجودي مضاد للقرشيّة ، كعنوان التميميّة ، وهذا المضاد للقرشيّة الملازم لعدمها يكون هو

٢٤٣

المأخوذ على وجه نعتي ، لأنّه وصف من الأوصاف الوجوديّة ، ويكون بينه وبين المحل وجود رابط.

إلا أنّ الصحيح هو ، انّه لا يمكن تفسير النعتيّة بالوجود الرابط ، سواء قلنا بالوجود الرابط كما يقتضيه كلام السيد الخوئي (قده) أو أنكرنا الوجود الرابط كما أنكره السيد الخوئي (قده) في المعنى الحرفي ، حيث أنكر كون الحروف من قبيل الوجود الرابط أو هي هو ، فعلى كلا التقديرين لا يمكن القول بأنّ النعتية في طرف العرض بمعنى الوجود الرابط ، ليفرّع عليه النعتيّة في طرف العدم ، وذلك لأنّ هذا الوجود الرابط على تقدير القول به ، فهو مختص بالأعراض المقوليّة الحقيقيّة مع موضوعاتها ، من قبيل مقولة : الأين ، والكيف ، والمتى ونحوها من الأعراض التي يكون لها ولموضوعاتها وجود في الخارج ، كالبياض ، وحينئذ يدّعى وجودا ثالثا فانيا في الطرفين ، اسمه الوجود الرابط.

أمّا الأعراض غير المقوليّة الموجودة في الخارج من الأعراض الانتزاعية الاعتبارية ، فليس بينها وبين محلها وجودا رابطا ، وذلك ، لعدم وجود لها في الخارج ، بل ظرف عروضها الذهن ، ومعه لا وجود رابط بينها وبين الذات بحسب الخارج ، فمثلا : وصف المطلّقة ، لو فرض أن أردنا لحاظه مع محله فلا وجود رابط بين الذات والمطلقة ، لأنّ كونها مطلّقة ليس عرضا حقيقيا قائما فيها ليفترض الوجود الرابط بينها وبين محلها ، والعرض الذي يكون جزءا لموضوع الحكم الشرعي قد يكون اعتباريا ، وقد يكون انتزاعيا ، وكلّها تؤخذ على وجه النعتيّة ، إذن فلا بد من تفسير النعتية ، بحيث لا يكون رجوعها للوجود الرابط الخارجي الذي هو غير متعقل بين الموضوع والاعدام ، بل لا بدّ من تفسيرها بمعنى يناسب الأعراض الاعتبارية والانتزاعية ، وحينئذ ، قد يناسب الأعراض العدميّة ، وقد يناسب الأعراض الوجودية ، إذن فالنعتية بمعنى الوجود الرابط ليس منثلما في باب الاعدام فقط ، بل كذلك ينثلم في باب الوجود ، بمعنى أنّ العرض الذي يؤخذ جزءا في موضوع الحكم الشرعي قد يكون وجوديا وقد يكون عدميا.

٢٤٤

هذا مضافا إلى انه لو فرّعنا على هذا المطلب ان النعتية في العدم بما هو عدم غير معقولة ، وأرجعنا العدم النعتي للوجود الملازم للعدم ، إذن فما ذا نقول في مورد لا يوجد فيه ملازم وجودي لهذا الأمر العدمي.

٢ ـ التقريب الثاني : هو ما يستفاد من كلمات الميرزا (قده) في رسالته المعقودة في حكم اللباس المشكوك.

وحاصله : إنّ وجود العرض ـ الذي هو من المرتبة الثالثة ـ هو وجود في نفسه لغيره بغيره ، ومعنى كونه ، انّه وجود في نفسه ، يعني انه مضاف إلى ماهيّة قابلة للاستقلال في مقام التعقل والتصور ، فوجود البياض في الجسم ، هو وجود لماهيّة البياض ، وماهيّة البياض ، ماهيّة قابلة في نفسها للتعقل بقطع النظر عن الجسم ، إذن فهذا الوجود وجود في نفسه ، وهذا يمثل جنبة الماهية ، لكن هو في نفس الوقت وجود ، وهذا يمثل جنبة التحقق في هذا الوجود ، بمعنى انه في عالم التحقق والعين ، وجوده في نفسه خارجا هو عين اتصاف المحل به ، لا انه وجوده في نفسه شيء ، واتصاف الجسم به شيء آخر كما يقول أصحاب الوجود الرابط.

وحينئذ ، فإن أخذ هذا الوجود بلحاظ الحيثية ، أي بما هو مضاف إلى ماهية قابلة للاستقلال في مقام التعقل ، إذن فيكون هذا محموليا وان أخذ بما هو مضاف لمحله ، وبما هو وجود لغيره ، إذن فيكون نعتيا ، فالنعتية في المقام عبارة عن أخذ العرض كما هو في الواقع ، فإنّ وجود العرض في الواقع في نفسه هو عين وجود موضوعه ومحله ، فإذا أخذ كما هو في الواقع ، إذن يكون قد أخذ على وجه نعتي.

وهذا الكلام غير تام ، حيث يرد عليه عدة إيرادات :

١ ـ الإيراد الأول : هو انه إذا فسّر الميرزا (قده) النعتية بهذا المعنى ، إذن كيف يفسر الميرزا (قده) النعتية في طرف العدم ، مع انّه هو نفسه لم يدّع انّ النعتية في طرف العدم معقولة فقط ، بل قال أنها ضرورية في طرف وجود العرض وعدمه على السواء ، حينئذ ، كيف يتصوره ، مع ان عدم العرض ليس

٢٤٥

فيه هذه الحيثية ، فإن نفس عدم العرض في نفسه ليس وجودا رابطيا ، بحيث يكون وجوده في نفسه هو عين وجود موضوعه ، أي يكون عين وجوده لغيره.

فهذا التفسير لا يصح في طرف الوجود مطلقا ، لأنه إنّما يصح في طرف الأعراض الخارجية فقط ، ولا يصح في الأعراض الانتزاعية والاعتبارية بناء على انه لا وجود لها في الخارج حتى يكون وجودها في نفسها هو عين وجود موضوعاتها.

٣ ـ التقريب الثالث : هو أن يقال : بأنّ النعتية في طرف العرض ، لا حاجة فيها لإدخال مسألة الوجود الرابط الذي أدخله السيد الخوئي (قده) ، ولا للوجود الرابطي الذي أدخله الميرزا (قده) ، وهو عبارة عن كون وجود الشيء في نفسه عين وجوده لغيره.

بل النعتية مرجعها بحسب الحقيقة ، إلى التحصيص والتقييد ، وذلك لأنّ العرض بما هو مفهوم كلي ـ كمفهوم البياض ـ ينقسم بلحاظ موضوعه إلى حصتين ، بياض العاج ، وبياض الثلج ونحوه ، وهذا تحصيص في عالم المفهوم بغض النظر عمّا يتحصص به من وجود ربط ورابط وعاج وثلج خارجا وعدمه ، وهذا بخلاف العرض مع عرض آخر عرضي له ، أو الجوهر مع جوهر آخر ، أو جوهر في نفسه ، وعرض لجوهر آخر ، فإن هذه كلها مفاهيم لا يتحصص بعضها بلحاظ البعض الآخر تحصصا ابتدائيا ، بل تتحصص بضم مفهوم ثالث. كمفهوم المقارنة ، فمثلا إذا أردنا أن نحصص مفهوم دخول زيد إلى الغرفة بنزول المطر ، فهنا لا يعقل تحصيص دخوله ابتداء بنزول المطر ، بل لا بدّ من الاستعانة بمفهوم ثالث ، وهو مفهوم المقارنة فنحصصه به فنقول : إذا كان دخول زيد مقارنا لنزول المطر ، وهذا بخلاف تحصص الدخول بالنسبة إلى زيد نفسه ، فإنه متحصص بالنسبة لزيد نفسه ابتداء حين جعله نعتا له بلا حاجة إلى ضم مفهوم المقارنة وما ذلك إلّا لأنه عرضه.

٢٤٦

وهذا معناه ، إنّ العرض بالنسبة إلى محله ، قابل للتحصيص مباشرة ، وهذا التحصيص يوازي الرابطية في الوجود الرابط لكن في عالم المفهوم ، إذن فهذا التحصيص ، أمر قابل ومعقول في كل وصف عرضي مع محله ، سواء كان العرض من الأوصاف المقوليّة ، كالبياض ، أو كان من الأوصاف الانتزاعية ، كالزوجيّة ، أو كان من الأوصاف الاعتبارية ، كالمطلقيّة ، وحينئذ يكون تفسير النعتية بمعنى التحصّص المباشر أمر معقول إذا تعقلنا هذا المعنى السيّال للنعتية في تمام أفراد الوجود.

وحينئذ ، نأتي إلى طرف العدم ، فنرى انّه غير معقول فيه ، لأنه في طرف عدم العرض لا نتعقل تحصّص العدم بلحاظ المحل ، وإنّما التحصّص يكون في المعدوم ، لأنّه عند ما نقول : «عدم قرشية المرأة» ، فهنا حصّص شيء بالمرأة ، ولكن الذي حصّص هو المعدوم لا العدم ، لأنّ القرشيّة حصتان : لأنها تارة حصة امرأة قرشيّة ، وأخرى حصة قرشيّة رجل ، فالقرشيّة حصّص بالمرأة ، ثم أضيف إلى هذه الحصة الخاصة العدم ، لا أن العدم هو الذي حصّص.

فعدم القرشية لا يعقل أن يحصّص بالنسبة إلى المرأة مباشرة من دون توسط مفهوم ثالث كالمقارنة.

إذن فالعدم النعتي بهذا المعنى غير معقول.

فالصحيح إذن ، في المقام هو ، أنّ العدم النعتي غير معقول في نفسه ، إلّا بعناية إضافيّة ، من قبيل عناية إدخال مفهوم ثالث إلى العدم أو تطعيمه بأمر وجودي ، لا تحويله إلى أمر وجودي مضاد ، كتحويل عدم القرشيّة إلى تميميّة.

هذه هي دعوانا الأولى في المقام.

ولكي تتّضح هذه الدعوى أكثر ، علينا أن نفتّش عن معنى للنعتية ، بحيث يحقق ما ادّعاه الميرزا (قده) من عدم معقوليتها بين الجوهرين ، وبين العرضين المستقلين ، ومعقوليتها بين العرض ومحله.

٢٤٧

وبعد أن نتوصل إلى معنى للنعتية يكون غير معقول هناك ومعقولا هنا ، نتكلم حينئذ ، في انّ هذا المعنى للنعتية ، هل هو معقول في طرف عدم العرض كما ادّعاه الميرزا (قده) ، أم انّه غير معقول فيه.

وهنا ينبغي أن يعلم ، بأنّ هذه النعتيّة التي نفتش عن تصوير لها ، ليس المراد منها ، مجرد إيقاع نسبة ذهنية بين الشيئين ، ولو إنشاء واعتبارا من قبل بحيث لا يكون لهذه النسبة أيّ حكاية عن الواقع والخارج ، إذ من الواضح انّ هذه النسبة بهذا المعنى ، يمكن تصورها بين الجوهرين فضلا عن غيرهما ، إذ الذهن قادر على إنشاء هذه النسبة بين أيّ شيئين إنشاء بحثا ومن دون أن يكون لها محكيّ وواقع وراء عالم الذهن ، فيقول مثلا ، «زيد الماء» ، لأنه يشرب الماء كثيرا ، و «زيد الحمار» ، لأنه غبيّ ، فيحمل جوهرا على جوهر آخر ويدعي الاتحاد ، إلّا انّها مجرد نسبة ذهنية بحتة وليس لها ما بإزاء ، وليس لها منشأ انتزاع في الخارج وعالم الواقع.

ولكن نحن لا نفتش عن النعتيّة بهذا المعنى ، وسرّ ذلك هو ، إنّنا نفتش عن نعتيّة بحيث لو أخذت في جانب العدم ، كان مقتضاها تعذر استصحاب العدم الأزلي.

والنعتية بهذا المعنى ، أي التي بحيث لو أخذت في موضوع الحكم الشرعي لتعذر إجراء استصحاب العدم الأزلي ، ليست هي النعتيّة بمعنى النسبة التي ينشئها الذهن اصطناعا وبلا منشأ انتزاع من الخارج ، فإن هذه النعتية ، قد يأخذها الإنسان بين العرض والمحل وبين هذه النسبة بنحو المعنى الاسمي للوصفيّة. فيقول : «المرأة الموصوفة بعدم القرشية» ، إلّا انّ هذا الاتصاف ما لم يثبت انه مرآة وحاك عن واقع في الخارج لا يكون مانعا عن جريان استصحاب العدم الأزلي ، لأنه حينئذ ، لا يكون دخيلا حقيقة في موضوع الحكم الشرعي ، بل يعتبر مجرد تفنّن في الكلام ، ولهذا قد يؤخذ أحد العرضين العرضيّين موضوعا للآخر ، ويؤخذ الآخر عرضا له ، ولا يستشكل الميرزا (قده) ولا نحن في جريان الاستصحاب ، فمثلا لو قيل : «اغسل ثوبك

٢٤٨

بالماء الطاهر» ، فإنّ الماء هنا له عرضان : أحدهما الغسل ، والثاني ، الطاهر ، وهذان عرضان عرضيّان على محل واحد ، وليس أحدهما موضوعا للآخر ، ومقتضى كلام الميرزا (قده) ، انه لا يؤخذ أيّ منهما نعت للآخر ، مع انّه من حيث التركيب الكلامي قد أخذ أحدهما نعتا للآخر ، لأنه قال : الغسل بالماء الطاهر مطهر ، فالغسل أضيف للماء الطاهر بما هو طاهر ، وجعل موضوعه ذاك المقيد ، إذ الطهارة هنا أخذت قيدا في موضوع الغسل.

إلّا أنّ هذا مجرد تفنن في التعبير ، فما دام الغسل والطهارة عرضين عرضيّين بحسب الواقع ، فأخذ المولى الغسل مقيدا بالطهارة ، وأخذه للطهارة جزءا في موضوع الغسل ، هو مجرد تفنن في التعبير ، ولهذا لو كان للماء حالة سابقة ، وهي الطهارة مثلا ، فإنّنا نجري استصحاب الطهارة في الماء ونغسل به ونثبت انه مطهّر ، مع انه لو كنّا نهتم بهذا التقييد ، لكان هذا الاستصحاب مثبتا ، لأنّ استصحاب طهارة الماء ، لا يثبت انّ الغسل وقع غسلا بالماء الطاهر بما هو طاهر ، إلّا بالملازمة العقليّة.

وقد تخلصنا من المثبتيّة هنا ، لأننا قلنا : بأنّ الغسل مع الطهارة ليس بينهما ترتب في الواقع ، وليس أحدهما عرضا للآخر ، حتى تكون النسبة بينهما نسبة حاكية عمّا بإزاء في الواقع ، وإنّما هي مجرد تفنن في التعبير ، إذ أنّ معنى قوله : «الغسل بالماء الطاهر مطهر» ، معناه ، انه إذا كان ماء ، وكان طاهرا ، وغسل به ، كان ما غسل به طاهرا.

إذن فنحن نفتش عن نعتيّة بمعنى يمنع من جريان استصحاب العدم الأزلي ويجعله مثبتا ، وهذا إنّما يتم لو تصورنا ربطا مخصوصا بين العدم والذات ، أي بين عدم القرشيّة والمرأة ، بنحو يكون له محكي في الخارج ، فإنه حينئذ يقال : بأنّ هذا العدم دخيل في موضوع الحكم الشرعي ، واستصحاب العدم الأزلي لا يثبت بنفسه ذات الدخيل ، فيكون مثبتا.

إذن فأساس البحث يفتش عن نعتية بهذا المعنى ، تعبّر عن نسبة وربط حاك عمّا بإزاء في الواقع.

٢٤٩

وهذا المعنى من النعتية ، هو الذي أراد السيد الخوئي (قده) أن يحصله في الوجود الرابط ، حيث ذكرنا في التقريب الأول بأنّه قال : بأنّ النعتية مرجعها إلى الوجود الرابط ، وطبعا هو لا يقصد انّ المولى في عالم جعل الحكم يأخذ الوجود الرابط ، لأنّ الوجود الرابط أمر خارجي لا يجرّ إلى الذهن من الخارج ويأخذه في موضوع الحكم الموجود في ذهنه ، بل مقصوده : إنّ هذه النسبة التي نعبر عنها بالنعتيّة ، هي حاكية عن الوجود الرابط ، لتكون نسبة ذات مدلول واقعي لا مجرد نسبة إنشائية بحتة ، وحينئذ ، قال السيد الخوئي (قده) : انّ هذا الوجود الرابط يفي بالمقصود ، لأنّ المقصود هو أن نفسر النعتية بمعنى يكون غير معقول بين العرضين وبين الجوهرين ، ويكون معقولا بين العرض ومحله ، وقد حصلنا عليه ، لأنّ الوجود الرابط غير معقول بين الجوهرين ولا بين العرضين ، وهو معقول بين العرض ومحله.

وبعد هذا قال : انّ هذا المعنى في طرف العدم غير معقول ، بمعنى انّ إجراء هذه النسبة مع التحفظ على مدلولها الواقعي بهذا الوجود الرابط غير معقول ، وذلك لعدم وجود رابط بين عدم العرض ومحله ، إذن فلا يمكن أن تكون هذه النسبة حاكية عن مدلول واقعي لعدم وجوده بينهما.

وقد سبق وقلنا : انّ هذا التقريب غير تام ، لأنّ الوجود الرابط كما انّه غير متحقق بين عدم العرض ومحله ، فكذلك هو غير معقول وغير متحقق بين بعض الأعراض ومحالّها ، لأنّ العرض إذا كان خارجيا ، فلا يكون بينه وبين موضوعه وجود رابط ، وأمّا الأعراض غير الخارجية كالاعتبارية والانتزاعية مثلا ، فإن ظرف العروض لها إنّما هو الذهن ، ويستحيل أن يكون لها وجود رابط في الخارج.

إذن فالنعتية بهذا المعنى ، لا تفي بتعقل النعتية في تمام موارد العرض.

٢ ـ التقريب الثاني : هو ما ذكره الميرزا (قده) من أنّ معنى النعتيّة هو ، الوجود الرابطي ، فإنّ الوجود الرابطي الذي هو المرتبة الثالثة من مراتب

٢٥٠

الوجود الخارجي ، هو بنفسه مربوط ذاتا بمحله بلا حاجة إلى افتراض وجود آخر نسميه بالوجود الرابط ، فهو ، وجوده في نفسه ، عين وجوده في موضوعه ، وحينئذ ، تكون النعتية عبارة عن نسبة ذهنية حاكية عن حيثية رابطية هذا الوجود الرابطي التي هي أمر خارجي واقعي ، حينئذ ، بناء على ذلك ، إذا طبّقنا النعتيّة بهذا المعنى ، نرى انّها غير معقولة بين الجوهرين ، وبين العرضين ، لأنّه لا وجود رابطي بينهما ، بينما نراها معقولة بين العرض ومحله ، لأنّ الوجود الرابطي ثابت بينهما.

كما انّنا نراها غير معقولة في طرف العدم ، لأنّ العدم لا يعقل أن يكون له وجود رابطي ، وقد أشرنا سابقا في مقام الإشكال عليه ، انّه لا يفي بالمطلوب وبالتالي فهو غير معقول في الأعراض الاعتبارية والانتزاعية ، لأنّ الأعراض غير المقولية ليس لها وجود رابطي في الخارج ، وحينئذ ، تكون النعتيّة بهذا المعنى ، غير وافية بالمطلوب.

٣ ـ التقريب الثالث : هو أن يقال : بأنّ معنى النعتيّة هو ، نسبة تحصيصيّة تتمثل في تضييق وتحصيص مفهوم بمفهوم آخر بنحو مباشر ، وهذا التحصيص يكون حاكيا عن ربط واقعي ثابت بين المفهومين ، لا مجرد اصطناع من قبل الذهن ، وهذا الربط الواقعي محفوظ في تمام الأعراض والصفات مع محالّها وموضوعاتها ، سواء كانت هذه الصفات مقوليّة أو اعتباريّة أو انتزاعيّة ، بحيث انّ كل صفة مع محلها يكون لها هذا الربط ، وهذا الربط الواقعي مبني على ما أوضحناه سابقا ، من أنّ لوح الواقع عندنا أوسع من لوح الوجود ، وحينئذ ، فالصفة حتى لو كانت اعتباريّة أو انتزاعية ، فما دامت ثابتة في الواقع لموصوفها ، وليست كذبا عليه ، إذن فهناك ربط واقعي بين الصفة والموصوف ، مناسب مع مقدار واقعيّة هذه الصفة ، وإن لم يكن هذا أمرا موجودا في الخارج ، لأنّ لوح الواقع أوسع من لوح الوجود ، ولهذا أدخلنا كلّ الملازمات في لوح الواقع كالملازمة بين العلة والمعلول ونحوها مع انه ليس لها وجود في الخارج ، لأنها لو كانت موجودة ، فإمّا أن يكون وجودها واجبا فيلزم تعدّد الواجب ، وإمّا أن يكون ممكنا ، فيحتاج حينئذ إلى

٢٥١

علة ، مع انّ الملازمة بين العلة والمعلول لا تحتاج في وجودها إلى علة ، فهذا الربط الذي يسمّى ربط واقعي ، المحفوظ بين كل صفة وموصوفها هو الذي يكون ما بإزاء النسبة ، والنسبة هي تحصيص أحد المفهومين بمفهوم آخر فيما إذا كان بينهما ربط واقعي بهذا المعنى.

إذن فالنعتيّة ، عبارة عن تضييق أحد المفهومين بالآخر ، بحيث يكون حاكيا عن ربط واقعي بينهما.

وهذا الربط الواقعي ، إذا أمكن تعقّله من قبل الذهن البشري ، انتزع منه نسبة ذهنية ، تكون بالنسبة لذلك الربط ، كالماهيّة بالنسبة إلى الوجود ، وتكون هذه النسبة حاكية عن ذلك الربط الثابت في لوح الواقع ، وإذا لم يمكن تعقل هذا الربط لدى الذهن البشري ، فحينئذ ينتزع مفهوما اسميا للتعبير عنه والإشارة إليه.

وهذا الربط قد ينتزع من كل نحو من أنحائه مفهوم اسمي فالربط الواقعي بين الصفة والموصوف ينتزع منه مفهوم الوصفيّة والموصوفيّة ، والربط بين الظرف والمظروف كذلك ينتزع منه الظرفيّة والمظروفيّة ، وهكذا ينتزع من هذا الربط مفاهيم أخرى بحسب ما يتعقّل الذهن البشري ، وواحد من هذه المفاهيم مفهوم النعتيّة الذي هو عبارة أخرى عن الصفتيّة ، وكذلك الصفتية ، وكلاهما شأن من شئون بعض أنحاء الربط الواقعي ، وهو ربط الصفة بالموصوف ، فإنه ربط ينتزع منه ، انّ هذا عارض وذاك محلّه.

وهناك أنحاء أخرى من الربط لا ينتزع منها الصفتيّة ، كما لو قلنا : «جاء زيد وعمرو معا» ، فهنا : كلمة «معا» تدل على نسبة ذهنية ، وهذه النسبة هي بإزاء نحو من الربط الواقعي بين زيد وعمرو ، ولكن هذا الربط لا ينتزع منه انّ زيدا صفة لعمرو ولا العكس أيضا ، بل ينتزع منه مفهوم اسمي آخر ، كالمقارنة بين مجيء عمرو وزيد ، وهكذا كلّ مفهوم ينتزع منه مفهوم اسمي مناسب له.

وحينئذ ، في مقام تحقيق جريان الاستصحاب وبيان ما هو العدم

٢٥٢

النعتي ، فإنّ كلمة النعتية بما هي لا موضوعية لها ، لأنّ المقصود بيان انّه متى يكون إجراء استصحاب مفاد كان مثبتا ومفاد ليس التامة كذلك ، ومتى لا يكون مثبتا ، وحينئذ قالوا : إنه إذا أخذ الوجود أو العدم بنحو نعتي يكون استصحاب مفاد كان التامة للوجود أو استصحاب ليس التامة للعدم ، يكون مثبتا ، وأمّا إذا أخذ الوجود بنحو محمولي فلا يكون مثبتا ، إذن ، فتمام النظر إلى تشخيص متى يكون الاستصحاب مثبتا ومتى لا يكون كذلك.

إذن فينبغي التعبير ، بأنّه كلّما تركب الموضوع من جزءين ، فإن أخذ ربط مخصوص بينهما في لوح الواقع يحكي عن نسبة ذهنية في لوح الذهن ، والمولى بتوسط هذه النسبة أخذ ذاك الربط في الموضوع ، حينئذ يكون استصحاب ذات الجزء مثبتا ، لأنّ إثبات هذا الجزء بالاستصحاب ، مع إثبات الآخر بالاستصحاب ، لا يثبت الربط القائم بينهما إلّا بالملازمة ، فيكون مثبتا.

وأمّا إذا كان الموضوع مركبا من ذات الجزءين من دون ربط بينهما واقعا ، فحينئذ لا يكون استصحاب الجزء مثبتا ، أي لا ملازمة بينهما.

فالبحث يدور حقيقة ، في أنّ أحد الجزءين أخذ مربوطا بالجزء الآخر أم لا؟

وأمّا كلمة نعتيّة ، فليس لها أيّ موضوعية ، لأنها أحد أوجه الربط ليس إلّا.

ومن هنا يعرف ، انّه بين العرضين لمحلين أو الجوهرين ، وإن كانت النعتيّة غير معقولة بينهما ، لكن قد يكون بينهما ربط غير نعتي ، من قبيل المعيّة ، وحينئذ ، يتعذر إحراز الموضوع باستصحاب أحد الجزءين وضمّه إلى ثبوت الآخر بالوجدان ونحوه.

وحينئذ في باب العدم النعتي ، لا بدّ من التكلم في انّ عدم الوصف ، هل يعقل أخذه مربوطا بالذات أو لا يعقل؟.

وقد أشرنا فيما تقدم إلى أنّ البحث ليس في مجرد إيقاع نسبة إنشائية

٢٥٣

بين عدم القرشيّة وذات المرأة ، لأنّ هذا أمر ممكن ، بل البحث في نسبة يكون لها محكيّ في لوح الواقع.

وهنا نقول : إنه لا يتصور ربط واقعي بين عدم القرشية وذات المرأة ، وإنّما الربط بين القرشيّة والمرأة ، فعدم القرشيّة ، عدم المربوط ، لا عدم مربوط ، وفرق بينهما.

والبرهان على ذلك هو ، انّ عدم القرشيّة ، لو كان بينه وبين ذات المرأة ربط واقعي بإزائه نسبة ذهنية حاكية عن ذلك الربط ، لكان مرجع هذه النسبة إلى نحوين ، إمّا تحصيص هذا العدم وتقييده بالمرأة ، كما هو الحال في كل نسبة تحصيصيّة ، مع انّ تحصيص العدم أمر غير معقول ، إذ التحصيص فيه ، يكون دائما للمعدوم ، والعدم يكون عدما للمحصص ، لا أنّ نفس العدم محصّصا ، فالقرشيّة التي هي المعدوم ، هي التي تحصص ، بأن تكون تارة قرشيّة امرأة ، وأخرى قرشيّة رجل ، فإذا حصّصت القرشية بذلك ، حينئذ ، يطرأ العدم على هذه الحصة الخاصة ، وأمّا نفس العدم فلا يقبل التحصيص ابتداء ، وهذا يكشف عن انه لا ربط بينه وبين الذات ، وإلّا لانتزع منه نسبة من النسب التحصيصيّة.

وأمّا البرهان على أنّ العدم لا يقبل التحصيص ابتداء فهو ، انّه إذا حصّصنا عدم القرشية بالمرأة ، فمعناه : إننا افترضنا حصتين من العدم ، وحينئذ ، نسأل : هل انّ المعدوم بإحدى الحصتين غير المعدوم بالأخرى أم غيره؟.

فإن كان غيره ، فهذا معناه ، أخذ التحصيص في مرتبة المعدوم ، ولهذا تغاير المعدوم هنا عن المعدوم هناك.

ومن الواضح ، انّك إذا حصّصت المعدوم وافترضت عدم قرشيّة ، محصّصة بالمرأة ، فحينئذ ، لا يعقل تحصيص عدم قرشية المرأة بعد ذلك مرة ثانية ، لأنّ المعدوم بعد تحصيصه ، لا يقبل تحصيصا ثانيا ، لأنه ليس له حصتان ، إحداهما للمرأة ، والأخرى للرجل.

وإن فرض انّ المعدوم بأحدهما كان عين المعدوم بالآخر ، فهذا يعني :

٢٥٤

انّ المعدوم لم يتحصّص في المرتبة السابقة ، وإنّما التحصيص وقع على العدم أولا وبالذات.

إذن فالمعدوم بهذا العدم عين المعدوم في ذاك ، وهذا محال ، لأنّ لازمه يناقض بديهيّة وحدة النقيض ، لأنّ معنى تحصّص العدم حينئذ ، انّ عدمين لهما معدوم واحد ، أي إنّ وجودا واحدا في مقابله عدمان ، مع انّ بديهية وحدة النقيض تقتضي انّ كل وجود ليس في مقابلة إلّا عدم واحد ، وكلّ عدم لا يرفعه إلّا وجود واحد ، هذا مضافا إلّا انّ لازم ذلك ـ بعد فرض انّ المعدوم لم يحصّص ـ انّ المعدوم طبيعي القرشيّة ، والتحصيص طرأ على العدم نفسه ، وطبيعي القرشيّة يشمل قرشيتين ، قرشية المرأة ، وقرشية الرجل ، وهذا معناه : إنّ العدم النعتي المحصّص ، عدم لقرشية المرأة ، ولقرشيّة غيرها ، أي انّه عدم عرض ثابت في محل آخر مربوطا بهذا المحل ، مع انّ هذا ، فرض عدمه في كلام الميرزا (قده) ، حيث لم يدّعه ولم يفترضه ، إذن طروّ التحصيص على العدم غير معقول.

والحكماء وإن لم يبرهنوا على ذلك ، لكن من مجموع كلامهم ، يظهر انّهم يدّعون بداهة ذلك ، حيث انّهم ادّعوا انّ التحصيص إنّما يطرأ على الوجود فقط.

وقد يقال : إنّه ما الفرق بين العدم والوجود في القرشية ، حيث انّ عدم القرشية لا يعقل تحصيصه بالمرأة ، بينما وجودها يعقل تحصيصه بالمرأة تارة ، وبالرجل أخرى؟.

والجواب هو أن وجود القرشية هو عين القرشية بحسب المصداق الخارجي ، إذ ليس لوجود القرشية مصداق ، وللقرشية مصداق آخر بل هما متحدان خارجا.

والفرق بينهما ذهني بحت ، إذ هما يحكيان عن شيء واحد بينه وبين المرأة ربط ، وهذا الشيء الواحد ، تارة نعبّر عنه بالقرشية ، وأخرى بوجود القرشية.

٢٥٥

وأمّا عدم القرشية ، فالعدم هنا ليس عين القرشية في عالم الصدق والمصداق ، بل مصداق أحدهما غير مصداق الآخر.

ومن هنا ، لا تكون ربطيّة القرشيّة ، ربطيّة لنفس عدم القرشية ، بينما هي ربطيّة لوجودها.

وبهذا اتضح إنه لا ربط ولا نعت بحسب الحقيقة بين عدم القرشيّة وذات المرأة ، وبتعبير الميرزا (قده) ، لا نعتيّة بين عدم العرض وذات المرأة.

إذن فالعدم النعتي بهذا المعنى ، غير معقول ، وهو يضر بجريان الاستصحاب ويكون موجبا لمثبتيّته.

إذن فلا بدّ من إرجاع العدم النعتي إلى أخذ أمر ثبوتي مساوق لعدم القرشيّة ، لا أخذ نفس عدم القرشية ، وهذا الأمر الثبوتي من قبيل أن نقول : «التولد من غير القرشية» ، بدلا من قولنا : «عدم القرشية» فالأول يمكن أخذه في الموضوع دون الثاني ، وحينئذ ، أخذ هذا الأمر الثبوتي في الموضوع ، يكون مانعا من جريان استصحاب العدم الأزلي ، لأنّ استصحاب عدم تولدها من قرشي لا يثبت تولدها من غير القرشي ، إلّا بناء على الملازمة العقلية.

ثم إنّه لو تجاوزنا هذا الكلام مع الميرزا (قده) وفرضنا معقوليّة العدم النعتي أو الأزلي ، كما يريد الميرزا (قده) وغيره ، وفرضنا انّ عدم القرشيّة يمكن ربطه بالمرأة وتحصيصه بها ، فحينئذ ، نقول :

هل يمنع هذا عن جريان الاستصحاب باعتباره مثبتا ، كما ذكر الميرزا (قده)؟.

الصحيح ، إنه لا يكون مانعا عنه ، وذلك لأنّ عدم القرشية إذا فرضنا وجود ربط بينه وبين المرأة ، فإنّ هذا الربط يتصوّر على نحوين.

١ ـ النحو الأول : هو أن يكون طرف الربط الثاني هو ذات المرأة ، بقطع النظر عن وجودها.

٢ ـ النحو الثاني : هو أن يكون طرف الربط الثاني ، هو المرأة الموجودة بما هي موجودة.

٢٥٦

وحينئذ ، فإن فرض الثاني ، وهو أنّ طرف الربط كان المرأة الموجودة بما هي موجودة ، كما لو قال : إذا وجدت امرأة وكانت موصوفة بعدم القرشيّة ، فكذا ، فحينئذ ، يتعذّر استصحاب العدم الأزلي ، لأنّ الربط القائم بين وجود المرأة ، وعدم القرشية ليس له حالة سابقة ، لأنّ هذا الربط ، فرع وجود المرأة ، إذ قبل وجودها لا ربط بين وجودها هذا قبل انوجاده ، وبين عدم القرشية.

وإن فرض الأول ، وهو ، أنّ الربط بين عدم القرشية وذات المرأة ، كما لو قال : إذا وجدت امرأة موصوفة بعدم القرشية ، فكذا ، فمعنى هذا : إنّا فرضنا الوجود يطرأ على المرأة الموصوفة بعدم القرشية ـ لا العكس كما في الأول ـ فإذا فرض هذا ، حينئذ ، فهذا الربط ثابت منذ الأزل ، لأنّ المرأة منذ الأزل هي لا قرشيّة ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وحينئذ ، ما قيل : من انّ ثبوت شيء لشيء ، فرع ثبوت المثبت له ، فثبوت وصف القرشيّة للمرأة فرع ثبوت المرأة ، مثل هذا الكلام ، لا محصّل له ، إلّا أن يكون مفاده ، إنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له بالنحو المناسب للثابت من الثبوت ، فإن كان الثابت عبارة عن الاتصاف بالعدم ، فإنّ هذا لا يستدعي ثبوتا أكثر ممّا يناسب نفس العدم أي ثبوتا ذهنيا محضا.

وكون القضية بحسب صورتها موجبة ، وأنّ المناطقة ذكروا ، إنّ هذه القضية يشترط فيها وجود الموضوع ، غير وارد في المقام ، فإنّ هذه وإن كانت موجبة صورة ، إلّا انه بحسب الحقيقة غير موجبة ، لأنّ الاتصاف بعدم القرشية لا يحتاج إلى وجود المرأة لكي تتصف بالقرشية ، بل هي قبل وجودها موصوفة بذلك ، لأنّ الربط بين عدم القرشيّة وبين هذه المرأة ـ على فرض تعقله ـ فهو ربط في لوح الواقع ، لا ربط في لوح الوجود ، والربط في لوح الواقع لا يحتاج إلى وجود طرفيه أصلا ، كالربط بين العلة والمعلول ، مع انّه لا علة ولا معلول ، وعليه : فهذا الربط والنعتيّة ليس مساوقا للمنع عن جريان الاستصحاب.

٢٥٧

٤ ـ النقطة الرابعة : والآن : وبعد أن تكلمنا في النقطة الثالثة التي اتفق فيها الميرزا (قده) (١) ، والسيد الخوئي (قده) ، وهي تحقيق وتصوير العدم النعتي ، وسواء كنّا قد توصلنا إلى تصوير النعتية المانعة عن جريان الاستصحاب في نفس العدم ، أو تصورناها في أمر ثبوتي وجودي ملازم للعدم ، فعلى كلا التقديرين ، ننتقل إلى النقطة الرابعة التي اختلف السيد الخوئي (قده) مع الميرزا (قده) ، النقطة الرابعة وهي أنّه إذا تردّد المأخوذ في موضوع العام بين كونه عدما محموليا ـ عدم القرشيّة المحمولي ـ فيجري استصحاب العدم الأزلي ، وبين كونه عدما حقيقا ـ بالمعنى الحقيقي للعدم ، أو العدم الراجع إلى أمر وجودي ـ فلا يجري الاستصحاب ، فأيّهما المتعيّن؟ وعليه ، فالكلام يقع في مقامين ، مقام الثبوت ، ومقام الإثبات.

١ ـ المقام الأول : وهو مقام الثبوت ، فقد اختلف فيه الميرزا (قده) مع السيد الخوئي (قده) ، حيث انّ الميرزا (قده) يذهب (٢) إلى أنّ المتعين ثبوتا هو ، أخذ العدم النعتي فقط ، ويستحيل أخذ العدم المحمولي.

بينما يذهب السيد الخوئي (قده) ، إلى إمكان كل منهما ، غايته : إنّ المعيّن منهما يكون في ذمة المقام الثاني ، أي مقام الإثبات والاستظهار من الأدلة.

وقد أشرنا سابقا إلى أنّ كلا من الميرزا (قده) ، والسيد الخوئي (قده) ، قد اتفقا في النقطة الثانية ، على أنّ العرض في جانب الوجود يؤخذ بنحو نعتي.

لكن السيد الخوئي (قده) برهن ببرهان يختص بطرف الوجود ولا يشمل العدم.

بينما برهن الميرزا (قده) عليه ببرهان يجري في طرف العدم أيضا ، واختصر برهانه على هذا الطرف.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الخوئي ـ ص ٤٦٤ ـ ٤٧٤.

(٢) المصدر السابق.

٢٥٨

فقد ذكر السيد الخوئي (قده) (١) بالنسبة إلى طرف الوجود ، إنّ القرشيّة لو كانت مأخوذة في موضوع الحكم ، تعيّن أخذها بنحو نعتي بالنسبة إلى المرأة ، لأنه لو أخذ وجود ذات القرشية كيفما اتفق ومن دون أن تضاف إلى المرأة وتلحظ نعتا عدميا للزم ترتب الحكم بمجرد أن يوجد رجل قرشي آخر ، وذلك لأنّ القرشيّة كما توجد في المرأة القرشية ، كذلك توجد في الرجل القرشي ، وهذا خلف ، لأنّ الحكم لا يترتب على هذه المرأة بمجرد كونها قرشيّة ، إذن ، فاختصاص الحكم بالمرأة ، لا يكون إلّا بتحصيص القرشيّة وأخذها نعتا لهذه المرأة كي يستحيل انطباقها على غير صنفها.

وهذا البرهان يختص بطرف الوجود ، وأمّا طرف العدم فلا يوجد ضرورة لأخذه نعتا وصفة كي ينطبق على المرأة ، بل يكفي أن نحصص المعدوم ، فنقول : «عدم القرشية هذه» ، وحينئذ ، سوف لن ينطبق هذا العدم إلّا على عدم قرشيتها ، لا على عدم قرشيّة إنسان آخر.

إذن فموضوع الحكم هو ، عدم قرشيتها ، ومن هنا فصّل بين طرف الوجود ، وطرف العدم.

أمّا الميرزا (قده) (٢) ، فقد ذهب إلى أنّ عدم القرشيّة ، يجب أن يؤخذ عدما نعتيا ، ولا يعقل أخذه محموليا ، إذ كما انّ النعتية في طرف وجود القرشية ضرورية ، كذلك هي في طرف عدم القرشية ضرورية أيضا.

وحاصل برهانه على ذلك ، مبني على أصل موضوعي افترضه وهو ، انّ الذات ، أو الماهيّة ، أو العام ، لها نحوان من الانقسام.

١ ـ النحو الأول : انقسامه بلحاظ صفاته ، وعوارضه الطارئة ، أي انّه له تحصّصات بلحاظ هذه العوارض ، كما في الإنسان ، فإنه بحسب عوارضه ينقسم إلى أسود وأبيض ، وفاسق ومؤمن ، وهكذا.

__________________

(١) المصدر السابق ـ ص ٤٧٤.

(٢) المصدر السابق.

٢٥٩

٢ ـ النحو الثاني : انقسامه بلحاظ مقارناته ، فإن الإنسان تارة يكون مقارنا مع هذا الإنسان ، وأخرى لا يكون مقارنا معه ، وإنّما مقارنا مع آخر ، وكل ماهيّة حينما يراد ملاحظة الإطلاق والتقييد فيها ، يكون ذلك بلحاظ النحو الأول ، وهو أسبق بمرتبة من ملاحظة الإطلاق والتقييد بلحاظ النحو الثاني ، بمعنى انّ المرأة حينما نريد تحصيصها وتقييدها ، ففي المرتبة الأولى نلتفت إلى صفاتها وعوارضها من حيث كونها قرشية أو غير قرشية ، ثمّ بعد ذلك ، يأتي دور الانقسام بلحاظ المقارنات ، من حيث انّه هل يوجد معها الشيء الفلاني أو لا؟ ومن هنا سمّي الانقسام الأول بالأولي ، وسمّي الانقسام الثاني بالثانوي ، لأنّ الإطلاق والتقييد ، أول ما يتوجه بلحاظ الانقسام الثاني ، فمثلا إذا أردنا أن نحكم بحكم معلّق على مجيء زيد ، فأول ما نلحظ في هذا المقام ، إنّ مجيئه ، هل يكون ظهرا أو عصرا ، بسرعة أو ببطء ، أو مطلقا من حيث الزمان ومن حيث السرعة والبطء ، وهكذا في بقيّة الصفات ، ثم بعده نلحظ انّه هل ندخل مع زيد عمروا أو لا.

وهذا الكلام افترضه الميرزا (قده) أصلا موضوعيا ، وفرّع عليه ، إنّ العدم النعتي حيث انّه نعت من النعوت وعرضا من الأعراض. يدخل في المرتبة الأولى من الانقسام ، فانقسام المرأة إلى امرأة موصوفة بعدم القرشية ، بنحو نعتي ، وإلى امرأة قرشيّة ، يدخل في المرتبة الأولى ، بينما العدم المحمولي يدخل في المرتبة الثانية ، لأنّ العدم المحمولي لم يلحظ بما هو صفة للمرأة ، بل قد لوحظ بما هو هو وبحياله ، فحاله حال الرجل لو لوحظ مع المرأة.

وحيث ذكرنا في الأصل الموضوعي ، إنّ المولى يجب أن يعالج مشكلة الإطلاق والتقييد أولا في مرتبة الانقسامات الأولية ، وبعده في المرتبة الثانوية للانقسام.

فأوّل ما يطرح من انقسام حينما يريد المولى أن يجعل على المرأة حكما ، هو انقسامها إلى امرأة موصوفة بالقرشية ، وامرأة موصوفة بعدم القرشية ، لأنّ هذا انقسام بلحاظ العوارض.

٢٦٠