موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٤

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٣٥

والارادة بالمعنى الأخلاقي هي الرغبة في الخير والسعي اليه والحرص عليه ، ولذلك قيل ان الارادة هي ارادة التقرب الى الله ، أي ارادة طاعته الموجبة لثوابه ، والله جل جلاله لا يأمر الا بالخير ، ولا يدعو الا الى الحق.

«وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»(١).

ومن عيوبنا الواضحة ضعف الارادة ، ولقد يعرف الانسان منا طريق الخير ولا يستجيب له بقوة أو عزيمة ، وقد تكون لديه الرغبة في بلوغ أمر ، ولكنه لا يتخذ من ارادته القوية الحازمة مركبا الى تحقيق أمله وبلوغ مطلبه.

ولقد تحدث القرآن الكريم في أكثر من موطن عن ارادة الخير ، وعدّ ذلك فضيلة يتحلى بها الأخيار من عباده ، وقد يعبر عن هذه الفضيلة الجليلة بأنها «ارادة وجه الله».

وينبغي أن نتذكر هنا أن الارادة صفة من صفات الله تبارك وتعالى ، فهو سبحانه صاحب الارادة الكاملة الشاملة المطلقة ، والقرآن يصف الحق جل جلاله بأنه «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ*» وبقوله :

«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(٢)

ويقول الغزالي في بيان هذه الصفة :

«ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لا يخرج عن مشيئته لفتة ناظر ، ولا فلتة خاطر ، بل هو المبدىء المعيد ، الفعال لما يريد ، لا رادّ لأمره ،

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ٢٥.

(٢) سورة يس ، الآية ٨٢.

٢١

ولا معقب لقضائه ، ولا مهرب لعبد عن معصيته ، الا بتوفيقه ورحمته ، ولا قوة له على طاعته الا بمشيئته وارادته ، فلو اجتمع الانس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون ارادته ومشيئته لعجزوا عن ذلك».

* * *

ولقد أثنى الحق عز شأنه على عباده الابرار أصحاب الارادة المستقيمة الكريمة ، فقال في سورة الانعام :

«وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ»(١).

أي يريدون طاعته ويخلصون فيها ، ويتوجهون الى الله لا الى غيره ، وخص الغداة والعشي بالذكر ـ وهما أول النهار وآخره ـ لأن الشغل الدنيوي غالب فيهما على الناس ، ومن كان في وقت الشغل مقبلا على العبادة فهو في أوقات الفراغ من الشغل أعمل ، أو لعله أراد أنهم يدعون ربهم في كل الاوقات ، وعبر عن الكل بالبداية والنهاية.

وعاد القرآن المجيد الى تأكيد هذا المعنى فقال في سورة الكهف :

«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا»(٢).

وأرشد القرآن الى أن مكارم الصفات ارادة العزة الحقيقية القويمة ،

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٥٢.

(٢) سورة الكهف ، الآية ٢٨.

٢٢

وأن مصدرها هو الله جل جلاله ، وأن جوهرها الكلم الطيب والعمل الصالح ، فقال في سورة فاطر :

«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»(١).

وكأن النص الحكيم يقول : من تولدت عنده ارادة الاعتزاز والرغبة في الرفعة والسمو فليتجه الى الله وحده ، وليستمد منه هذه العزة ، فهو سبحانه مصدر كل عز ، وواهب كل رفعة ، وليتلمس ذلك بالقول الجميل الطيب ، والعمل الصالح النافع.

ويشير القرآن الى أن الارادة الخيّرة لها أركانها التي تنهض عليها وتتحقق بها ، فيقول في سورة الاسراء :

«وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً»(٢).

أي من كانت ارادته متجهة الى ثواب الدار الآخرة ـ لأنها الاعلى والابقى والاحلى ـ وعمل لها عملها اللائق بها المناسب لها ، وكان هذا العمل المبرور قائما على الايمان ، مستندا الى اليقين ، فذلك هو الفائز السعيد ، الذي يتقبل الله منه عمله ، ويرضى عنه ، ويشكره له بالثواب والنعيم.

ويشير القرآن الى أن أصحاب الارادة القوية المخلصة يتحملون في سبيلها متاعب فيقول في سورة النور :

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية ١٠.

(٢) سورة الاسراء ، الآية ١٩.

٢٣

«وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا»(١).

فهؤلاء الفتيات يردن العفة والحصانة ، ولكن مالكيهن يحرضونهن على الانحراف فيأبين فيتعرضن للعنت والاذى ، ولقد ذكر أهل التفسير أن رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول كانت له جارية تسمى «معاذة» ، وكان يكرهها على الزنى ، فتأبى فيؤذيها ، فذهبت الى أبي بكر رضي الله عنه تشتكي اليه ذلك ، فأبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقبضها ويصونها منه ، ونزلت الآية :

* * *

والارادة ليست مجرد كلام وادعاء ، بل عمادها الالتزام والعمل ، مع الاعداد والاستعداد ، وفي سورة التوبة جاء قوله تعالى :

«وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً»(٢).

أي من الزاد والراحلة والسلاح وغيره ، مما يعد لمثل هذا السفر البعيد. وهنا نتذكر قول أبي الطيب :

واذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الاجسام

والارادة السليمة القوية تقتضي استغلال الاوقات وقتا بعد وقت. ولعل الكتاب المجيد يشير الى هذا حين يقول في سورة الفرقان :

«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٣٣.

(٢) سورة التوبة ، الآية ٤٦.

٢٤

أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً»(١).

فالله جل جلاله قد أوجد الليل والنهار ، يخلف كل واحد منهما صاحبه ، يتعاقبان ولا يفتران ، اذا ذهب هذا أقبل هذا ، واذا جاء هذا ذهب ذاك ، وانما جعلهما الله متعاقبين لعمل عباده الموصول ، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل ، وبذلك يعوض ما فاته أو ما فرط فيه ، وفي الحديث : «ان الله عزوجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل». وفي الحديث أيضا : «أحب الأعمال الى الله أدومها وان قل».

والارادة قد تنزل في مستواها ، فلا تكون مفخرة لصاحبها ، وان حققت له شيئا من المتاع ، وقد تعلو وتسمو حتى تلحق بجناب الله ورحابه ، وهذا يذكرنا بقول الله تعالى في سورة الأحزاب :

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً»(٢).

وكانت ارادة نساء النبي ـ بعد التخيير ـ ارادة سامية عالية ، فقد صبرن على الضراء واللأواء. وأعرضن عن الدنيا ، وأردن الله ورسوله والدار الآخرة ، ولقد روت السيرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية ٦٢.

(٢) سورة الاحزاب ، الآيتان ٢٨ و ٢٩.

٢٥

عقب نزول الآية الى السيدة عائشة رضي الله عنها ، وعرض عليها الأمر ، ونصحها ألا تجيب حتى تستشير أبويها ، ولكنها عجلت بالجواب ذاكرة أن الامر لا يحتاج الى مشاورة ، وقالت : بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأجابت الزوجات الطاهرات كلهن بمثل هذا الجواب ، رضوان الله عليهن.

وهكذا كانت كل منهن عندها الارادة الشخصية الكافية لتقرير الخطة واجابة السؤال.

وهذا هو سيدنا ورائدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب المثل الاعلى في الارادة القوية العازمة الحازمة حين يقف في وجه الشرك والكفر قائلا : «والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه».

* * *

ولقد تحدثت الصوفية عن «الارادة» على طريقتهم ، فورد عنهم أكثر من تعريف للارادة ، فهي عندهم «ترك العادة» ، أو «نهوض القلب في طلب الحق» أو هي «لوعة تهوّن كل روعة». ويقول الدقاقي : «الارادة لوعة في الفؤاد ، لذعة في القلب ، غرام في الضمير ، انزعاج في الباطن ، نيران تأجج في القلب». ويقول أبو محمد المرتعش : «الارادة حبس النفس عن مراداتها ، والاقبال على أوامر الله ، والرضا بموارد القضاء عليه». ولعل أقرب أقوال هؤلاء الى المعنى الاخلاقي هو من يقول ان الارادة هي مخالفة العادة ، أي ترك عادات النفس وشهواتها ورعوناتها ، والاقبال على هدى الله عزوجل.

ولقد تحدث القوم طويلا عن «المريد» ، وهو الذي شرع في السير الى الله ، وهم يرونه فوق «العابد» ودون «الواصل». ومن صفات

٢٦

المريد عندهم التحبب الى الله بالنوافل ، والاخلاص في نصيحة الأمة ، والأنس بالخلوة ، والصبر على مقاساة الاحكام ، والايثار لأمر الله ، والحياء من نظره ، وبذل المجهود في محبوبه ، والتعرض لكل سبب يوصل اليه ، والقناعة بالخمول ، وعدم قرار القلب حتى يصل الى وليه ومعبوده.

وهم يرون ان الوقت أعز شيء على المريد ، ويغار عليه أن ينقضي دون أداء واجب فيه ، فان الوقت اذا فات لا يمكن استدراكه أبدا ، لأن الوقت التالي له واجب خاص يتعلق به ، فاذا فات فلا سبيل الى تداركه ، وهكذا : والاشتغال بالندم على وقت فائت تضييع لوقت حاضر ، ولذلك قيل : الوقت سيف ان لم تقطعه قطعك ، ومعنى هذا أن الارادة حركة مستمرة دائبة ، تدفع صاحبها على الدوام الى أداء واجب والقيام بتبعة.

والارادة تقوى بحياة القلب ، ولذلك يقول ابن القيم : «كلما كان القلب أتمّ حياة ، كانت همته أعلى ، وارادته ومحبته أقوى ، فان الارادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب ، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وارادته ، فضعف القلب وفتور الهمة : اما من نقصان الشعور والاحساس ، واما من وجود الآفة المضعفة للحياة ، فقوة الشعور وقوة الارادة دليل على قوة الحياة ، وضعفها دليل على ضعفها.

وكما أن علو الهمة وصدق الارادة والطلب ، من كمال الحياة ، فهو سبب الى حصول أكمل الحياة وأطيبها ، فان الحياة الطيبة انما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة والارادة الخالصة ، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة ، وأخس الناس حياة أخسهم همة ، وأضعفهم محبة وطلبا ، وحياة البهائم خير من حياته كما قيل :

نهارك يا مغرور سهو وغفلة

وليلك نوم ، والردى لك لازم

وتكدح فيما سوف تنكر غبة

كذلك في الدنيا تعيش البهائم

تسر بما يفنى ، وتفرح بالمنى

كما غرّ باللذات في النوم حالم

٢٧

والمقصود ان حياة القلب بالعلم والارادة والهمة ، والناس اذا شاهدوا ذلك من الرجل قالوا : هو حي القلب. وحياة القلب بدوام الذكر وترك الذنوب ، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه‌الله :

رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يورث الذل ادمانها

وترك الذنوب حياة القلوب

وخير لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين الا الملو

ك ، وأحبار سوء ورهبانها

وباعوا النفوس ولم يربحوا

ولم يغل في البيع أثمانها

فقد رتع القوم في جيفة

يبين لذي اللب خسرانها»

والقوم يرون أن المريد يتمكن من الارادة بثلاثة أمور ، هي صحة القصد ، وصحة العلم ، وسعة الطريق ، ويعلق ابن القيم على هذه الامور ، فيذكر أنه بصحة القصد من المريد يصح سيره ، وبصحة العلم ينكشف له الطريق ، وبسعة الطريق يهون عليه المسير ، وكل طالب أمر من الامور لا بد له من تعيين مطلوبه ، وهو المقصود ، ومعرفة الطريق الموصل اليه ، والأخذ في السلوك ، فمتى فاته أمر من هذه الامور لم يصح طلبه ولا سيره ، فالامر دائر بين مطلوب يتعين ايثاره على غيره ، وطلب يقوم بقصد من يقصده ، وطريق يوصل اليه.

فاذا تحقق العبد بطلب ربه وحده تعين مطلوبه ، فاذا بذل جهده في طلبه صح له طلبه ، فاذا تحقق باتباع أوامره واجتناب نواهيه صح له طريقه ، وصحة القصد والطريق موقوفة على صحة المطلوب وتعينه.

ويرى القوم أن الارادة الصادقة تشغل المريد عن ارادة أي شيء سوى الله تعالى ، ويحذرون المريد أن يريد السّوى ـ أي غير الله ـ وان علا ، والمرء يحجب عن الله بقدر ارادته لغيره. ولذلك قال الحق جلا حلاله اخبارا عن عباده المقربين :

٢٨

«إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً»(١).

وقال تعالى :

«وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى»(٢).

ولقد توسعوا في الحديث عن ارادة العبد بالنسبة الى ربه جل جلاله ، وقد جاء في كتاب «مدارج السالكين» حول هذا الموضوع كلام دقيق عميق ، من الخير أن نقف عليه بنصه ، فهو يقرر أن الناس في هذا المجال أربعة أقسام :

«أحدهم : من لا يريد ربّه ولا يريد ثوابه ، فهؤلاء أعداؤه حقا ، وهم أهل العذاب الدائم ، وعدم ارادتهم لثوابه اما لعدم تصديقهم به ، واما لايثار العاجل عليه ولو كان فيه سخطه».

والقسم الثاني من يريده ويريد ثوابه ، وهؤلاء خواص خلقه. قال الله تعالى :

«وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً»(٣).

فهذا خطابه لخير نساء العالمين ، أزواج نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) سورة الانسان ، الآية ٩.

(٢) سورة الليل ، ١٩ و ٢٠.

(٣) سورة الاحزاب ، ٢٩.

٢٩

وقال الله تعالى :

«وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً»(١).

فأخبر ان السعي المشكور سعي من أراد الآخرة ، وأصرح منها قوله لخواص أوليائه ، وهم أصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم في يوم أحد :

«مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ»(٢)

فقسمهم الى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما.

وقد غلط من قال : فأين من يريد الله؟ فان ارادة الآخرة عبارة عن ارادة الله تعالى وثوابه ، فارادة الثواب لا تنافس ارادة الله.

والقسم الثالث : من يريد من الله ولا يريد الله ، فهذا ناقص غاية النقص ، وهو حال الجاهل بربه ، الذي سمع أن ثمة جنة ونارا ، فليس في قلبه غير ارادة نعيم الجنة المخلوق ، لا يخطر بباله سواه البتة. بل هذا حال أكثر المتكلمين المنكرين رؤية الله تعالى ، والتلذذ بالنظر الى وجهه في الآخرة ، وسماع كلامه وحبه ، والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله ، وهم عبيد الاجرة المحضة ، فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس.

ومنهم من يصرح بأن ارادة الله محال ، قالوا : لأن الارادة انما تتعلق بالحادث ، فالقديم لا يراد. فهؤلاء منكرون لارادة الله غاية الانكار ، وأعلى الارادة عندهم ارادة الاكل والشرب والنكاح واللباس في الجنة

__________________

(١) سورة الاسراء ، آية ١٩.

(٢) سورة آل عمران ، ١٥٢.

٣٠

وتوابع ذلك. فهؤلاء في شق ، وأولئك الذين قالوا : لم نعبده طلبا لجنته ، ولا هربا من ناره ، في شق ، وهما طرفا نقيض ، بينهما أعظم من بعد المشرقين.

وهؤلاء من أكثف الناس حجابا ، وأغلظهم طباعا ، وأقساهم قلوبا ، وأبعدهم عن روح المحبة والتأله ، ونعيم الارواح والقلوب ، وهم يكفّرون أصحاب المحبة والشوق الى الله والتلذذ بحبه ، والتصديق بلذة النظر الى وجهه وسماع كلامه بلا واسطة. وأولئك لا يعدونهم من البشر ، الا بالصورة ، ومرتبتهم عندهم مرتبة قريبة من مرتبة الجماد والحيوان البهيم ، وهم عندهم في حجاب كثيف عن معرفة نفوسهم وكمالها ، ومعرفة معبودهم وسر عبوديته. وحال الطائفتين عجب لمن اطلع عليه.

والقسم الرابع ـ وهو محال ـ أن يريد الله ولا يريد منه ، فهذا هو الذي يزعم هؤلاء أنه مطلوبهم ، وأن من لم يصل اليه ففي سيره علة ، وأن العارف ينتهي الى هذا المقام ، وهو أن يكون الله مراده ولا يريد منه شيئا ، كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال : قيل لي : ما تريد؟ فقلت : أريد أن لا أريد.

وهذا في التحقيق عين المحال الممتنع عقلا وفطرة ، وحسا ومعنى ، فان الارادة من لوازم الحي ، وانما يعرض له التجرد عنها بالغيبة عن عقله وحسه ، كالسكر والاغماء والنوم ، فنحن لا ننكر التجريد عن ارادة ما سواه من المخلوقات التي تزاحم ارادتها ارادته. أفليس صاحب هذا المقام مريدا لقربه ورضاه ودوام مراقبته والحضور معه؟ وأي ارادة فوق هذه؟.

نعم قد زهد في مراد لمراد هو أجل منه وأعلى ، فلم يخرج عن الارادة ، وانما انتقل من ارادة الى ارادة ، ومن مراد الى مراد ، وأما خلوه عن الارادة بالكلية مع حضور عقله وحسه فمحال. وان حاكمنا في ذلك محاكم الى ذوق مصطلم مأخوذ عن نفسه ، فان عن عوالمها ، لم ننكر ذلك ، لكن هذه

٣١

حال عارضة غير دائمة ، ولا هي غاية مطلوبة للسالكين ، ولا مقدورة للبشر. ولا مأمور بها ، ولا هي أعلى المقامات ، فيؤمر باكتساب أسبابها ، فهذا فصل الخطاب في هذا الموضع. والله سبحانه وتعالى أعلم».

وفي مجال الحديث عن الارادة نتذكر الاثر السائر : «ان لله عبادا اذا أرادوا أراد». واذا كان هناك من يشطح في تفسير هذا الاثر شطحا غير مقبول ولا معقول ، فنحن نفهمه على أن عباد الله الابرار يستجيبون لربهم ، ويتقيدون بأمره ، ويخضعون ارادتهم لارادته ، فلا يكون منهم الا ما يرضيه ، فكأن ارادة الله هي ارادتهم. ونحن نفهم هذا الفهم في ضوء الحديث القدسي المروي عن رب العزة جل جلاله ، وقد رواه البخاري في صحيحه ، وهو «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب اليّ عبدي بشيء أحب اليّ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب اليّ بالنوافل حتى أحبه ، فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وان سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا اكره مساءته».

والمراد بالولي في هذا الحديث هو العالم بالله ، المواظب على طاعته ، المخلص في عبادته ، المريد لوجهه ، والمراد بالنوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها مكملة لها ، فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة. ولقد أشار القشيري الى معنى التقرب حين قال : «قرب العبد من ربه يقع أولا بايمانه ، ثم باحسانه ، وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه ، وفي الآخرة من رضوانه ، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه». ومثل هذا لا يريد الا ما يريده الله ، فارادته معلقة بارادة الله ، فاذا أراد فكأن الله أراد.

رزقنا الله استقامة الارادة وعلوها ، حتى لا نبعد عن حمى أولئك الابرار الاطهار.

٣٢

الاشفاق

تقول لغة العرب ـ وهي لغة القرآن الكريم ـ : أشفق من الشيء خاف أن يناله منه مكروه. وأشفق على فلان : خاف أن ينزل به مكروه ، وعطف عليه عناية به. وأشفق عليه : خاف من حلول المكروه به ، مع نصح. والاشفاق عناية مختلطة بخوف ، لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه.

واذا قيل : «أشفق منه» فمعنى الخوف فيه أظهر ، واذا قيل : «أشفق فيه» كان معنى العناية فيه أظهر ، كما في قوله تعالى في سورة الطور :

«إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ»(١).

ويقال : أنا مشفق من هذا الامر ، أي خائف منه خوفا يرقق القلب ويبلغ منه. والشفقة هي الرحمة والرقة والخوف من حلول المكروه.

والاشفاق خلق من أخلاق القرآن الحكيم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وقد جاء ذكر الاشفاق في أكثر من آية كريمة ، وقد نوه

__________________

(١) سورة الطور ، آية ٢٦.

٣٣

القرآن بشأن الاشفاق حين جعله صفة من صفات الملائكة الذين هم عباد الله المكرمون ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، وهذا نفهم منه أن الاشفاق لا يقتضي أن يكون هناك ذنب يخاف منه صاحبه أو يهابه ، فالله جل جلاله يقول في سورة الانبياء عن الملائكة :

«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ»(١).

أي خائفون من هيبته وجلاله ، وهم مشفقون مع أنهم ليس لهم ذنب ، وهم بطبيعتهم خائفون لله ، مشفقون من خشيته ، على قربهم وطهارتهم ، وطاعتهم التي لا استثناء فيها ، ولا انحراف عنها.

وكذلك ذكر القرآن المجيد أن «الاشفاق» من صفات المتقين ، فقال في سورة الانبياء :

«الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ»(٢)

أي : وهم من عذاب يوم القيامة وسائر ما يجري فيه من السؤال والحساب مشفقون ، فيعدلون بسبب هذا الاشفاق عن معصية الله تعالى ، وهم تستشعر قلوبهم خشية الله تعالى وهم لم يروه ، ويخافون الآخرة فيعملون لها ويستعدون ، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بضياء الله ويسيرون على هداه.

ويقرر القرآن أيضا أن الاشفاق صفة للمسارعين في الخيرات وهم بها سابقون ، فيقول في سورة المؤمنين :

__________________

(١) سورة الانبياء ، ٢٨.

(٢) سورة الانبياء ، الآية ٤٩.

٣٤

«إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ ، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ»(١).

وقد علق الفخر الرازي على هذه الآيات بقوله : «اعلم أنه تعالى لما ذم من تقدم ذكره بقوله : «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» ثم قال : «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» بيّن بعده صفات من يسارع في الخيرات ويشعر بذلك ، وهي أربعة :

الصفة الاولى قوله : «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» والاشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف ، فمنهم من قال : جمع بينهما للتأكيد ، ومنهم من حمل الخشية على العذاب. والمعنى : الذين هم من عذاب ربهم مشفقون. وهو قول الكلبي ومقاتل.

ومنهم من حمل الاشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة ، والمعنى : الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته ، جادّون في طلب مرضاته.

والتحقيق أن من بلغ في الخشية الى حد الاشفاق ـ وهو كمال الخشية ـ كان في نهاية الخوف من سخط الله عاجلا ، ومن عقابه آجلا ، فكان في نهاية الاحتراز عن المعاصي».

ثم تحدث الرازي عن الصفة الثانية وهي الايمان بآيات الله جل جلاله ، وعن الصفة الثالثة وهي عدم الاشراك بالله سبحانه ، ثم قال :

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية ٥٧ ـ ٦١.

٣٥

«الصفة الرابعة» : قوله : «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ».

معناه : يعطون ما أعطوا ، فدخل فيه كل حق يلزم ايتاؤه ، سواء كان ذلك من حق الله تعالى ، كالزكاة والكفارة وغيرهما ، أو من حقوق الآدميين كالودائع والديون وأصناف الانصاف والعدل.

وبيّن أن ذلك انما ينفع اذا فعلوه وقلوبهم وجلة ، لأن من يقدم على العبادة وهو وجل من تقصيره ، واخلاله بنقصان أو غيره ، فانه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهدا في أن يوفيها حقها في الاداء.

وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» : أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق ، وهو على ذلك يخاف الله تعالى؟!.

فقال عليه الصلاة والسلام : «لا يا ابنة الصدّيق ، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو على ذلك يخاف الله تعالى».

واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن ، لأن الصفة الاولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي ، والصفة الثانية دلت على ترك الرياء في الطاعات ، والصفة الثالثة دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاث يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير ، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين ، رزقنا الله سبحانه الوصول اليها».

ويرى بعض المفسرين المعاصرين أن الآيات الكريمة السابقة فيها ابراز لصورة اليقظة والحذر في القلوب المؤمنة ، بعد ابراز صورة الغفلة والغمرة في القلوب الضالة ، فيسوق في تبيان ذلك العبارة التالية :

«من هنا يبرز أثر الايمان في القلب ، من الحساسية والارهاف والتحرج ، والتطلع الى الكمال ، وحساب العواقب ، مهما ينهض بالواجبات والتكاليف.

٣٦

فهؤلاء المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى ، وهم يؤمنون بآياته ، ولا يشركون به ، وهم ينهضون بواجباتهم وتكاليفهم ، وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا ، ولكنهم بعد هذا كله «يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» لاحساسهم بالتقصير في جانب الله ، بعد أن بذلوا ما في طوقهم ، وهو في نظرهم قليل.

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : يا رسول الله ، «الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عزوجل؟ قال : لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو يخاف الله عزوجل».

ان قلب المؤمن يستشعر فضل الله عليه ، ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة ، ومن ثم يستصغر كل عباداته ، ويستقل كل طاعاته ، الى جانب آلاء الله ونعمائه. كذلك هو يستشعر بكل ذرة فيه جلال الله وعظمته ، ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله ، ومن ثم يشعر بالهيبة ، ويشعر بالوجل يشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه ، لم يوفه حقه عبادة وطاعة ، ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرا.

وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات ، وهم الذين يسبقون لها فينالونها في الطليعة ، بهذه اليقظة ، وبهذا التطلع ، وبهذا العمل ، وبهذه الطاعة ، لا أولئك الذين يعيشون في غمرة ، ويحسبون لغفلتهم أنهم مقصودون بالنعمة ، مرادون بالخير ، كالصيد الغافل يستدرج الى مصرعه بالطعم المغري. ومثل هذا الطير في الناس كثير ، يغمرهم الرخاء ، وتشغلهم النعمة ، ويطغيهم الغنى ، ويلهيهم الغرور ، حتى يلاقوا المصير».

واذا كان أهل التفسير المعروف المألوف يسيرون في تبيان «الاشفاق» على ما رأينا من صور ، فان أهل التصوف يسلكون طريقهم الخاص بهم في تصوير هذه الصفة ، فيقول القشيري مثلا : «أمارة الاشفاق من

٣٧

لخشية اطراق السريرة في حال الوقوف بين يدي الله بشواهد الادب ، محاذرة بغتات الطرد ، لا يستقر بهم قرار لما داخلهم من الرعب ، واستولى عليهم من سلطان الهيبة».

* * *

والقرآن الكريم يذكر لنا أن فضيلة «الاشفاق» من صفات أهل لجنة المكرمين ، حيث يتحدث في سورة المعارج عن المصلين المخلصين لمصدقين بيوم الدين ، فيقول عنهم :

«وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ»(١).

وبعد أن يصفهم بحفظ فروجهم وأماناتهم وعهدهم ، وأنهم القائمون بشهاداتهم ، والمحافظون على صلواتهم ، يقول :

«أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ»(٢).

وقوله : «مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» أي خائفون ، لأن هذا العذاب لا يأمنه أحد ، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه. ويشير الرازي الى أن «الاشفاق» يكون من أمرين : اما بالخوف من ترك الواجبات ، أو الخوف من الاقدام على المحظورات. ومن يدوم به الخوف والاشفاق فيما كلف به يكون حذرا من التقصير ، حريصا على القيام بما كلف به من علم وعمل ، والانسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي ، واحترز عن المحظورات بالكلية ، بل يجوز أن يكون قد وقع منه تقصير في شيء من ذلك ، فلا جرم يكون خائفا أبدا.

ويتعرض التفسير المعاصر البصير الى الظلال القرآنية التي تستوحى

__________________

(١) سورة المعارج ، الآية ٢٧.

(٢) سورة المعارج ، الآية ٣٥.

٣٨

من قوله تعالى عن «الاشفاق» :

«وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ». (١).

فيصورها بهذا التعبير : «هذه درجة أخرى وراء مجرد التصديق بيوم الدين ، درجة الحساسية المرهفة ، والرقابة اليقظة ، والشعور بالتقصير في جناب الله على كثرة العبادة ، والخوف من تلفت القلب واستحقاقه للعذاب في أية لحظة ، والتطلع الى الله للحماية والوقاية».

ولقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو من عند الله ، وهو يعرف أن الله قد اصطفاه ورعاه ، كان دائم الحذر دائم الخوف لعذاب الله ، وكان على يقين أن عمله لا يعصمه ولا يدخله الجنة الا بفضل من الله ورحمة. وقال لاصحابه : «لن يدخل الجنة أحدا عمله». قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟. قال : «ولا أنا الا أن يتغمدني الله برحمته».

وفي قوله هنا : «إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» ايحاء بالحساسية الدائمة التي لا تغفل لحظة ، فقد تقع موجبات العذاب في لحظة الغفلة فيحق العذاب ، والله لا يطلب من الناس الا هذه اليقظة وهذه الحساسية ، فاذا غلبهم ضعفهم معها ، فرحمته واسعة ، ومغفرته حاضرة ، وباب التوبة مفتوح ليست عليه مغاليق ، وهذا قوام الامر في الاسلام بين الغفلة والقلق ، والاسلام غير هذا وتلك ، والقلب الموصول بالله يحذر ويرجو ، ويخاف ويطمع ، وهو مطمئن لرحمة الله على كل حال».

ويقول القرآن الكريم في سورة الشورى عن الاشفاق من يوم القيامة :

__________________

(١) سورة المعارج : الآيات ٢٧ ـ ٢٨.

٣٩

«يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ»(١).

فالمؤمنون ـ كما يعبر القشيري ـ يؤمنون بالبعث وما بعده من أحكام الآخرة ، ويكلون أمورهم الى الله ، فلا يتمنون الموت حذر الابتلاء ، ولكن اذا ورد الموت لم يكرهوه ، وكانوا مستعدين له.

والذين لا يؤمنون بالساعة لا تحس قلوبهم هو لها ، ولا تقدر ما بنتظرهم فيها ، فلا عجب يستعجلون بها مستهترين ، لأنهم محجوبون لا يدركون ، وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها ، ومن هنا هم يشفقون ويخافون ، وينتظرونها بوجل وخشية ، وهم يعرفون ما هي حين تكون ، وانها لحق ، وانهم ليعلمون انها الحق ، وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون.

ويشير القرآن المجيد الى أن فضيلة «الاشفاق» يجعلها الحق سبحانه سبب النجاة من النار ، وسبب الفوز بالنعيم ، فيقول في سورة الطور عن المؤمنين وهم في الجنة :

«وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ : قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ»(٢).

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية ١٨.

(٢) سورة الطور ، الآية ٢٥ ـ ٢٧.

٤٠