الموسوعة القرآنيّة - ج ٩

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ٩

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٤

٨٩ ـ (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) :

(بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اللغو : الساقط الذي لا يتعلق به حكم ، وهو أن يحلف الرجل على الشيء أنه كذلك وليس كما ظن.

(بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) بتعقيدكم الأيمان ، وهو توثيقها بالقصد والنية.

(فَكَفَّارَتُهُ) فكفارة نكثه. والكفارة : الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة ، أي تسترها.

(مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ) من أقصده ، لأن منهم من يسرف فى إطعام أهله ، ومنهم من يقتر.

(أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) : إخراجها من الرق.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) إحداها.

(فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) متتابعات.

(ذلِكَ) المذكور.

(إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم.

(وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) فبروا بها ولا تحنثوا.

(كَذلِكَ) مثل ذلك البيان.

(يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) شريعته وأحكامه.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه.

٩٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) :

٤٠١

(الْأَنْصابُ) الحجارة يذبح عندها تقربا إلى الأصنام التي كانوا يعبدونها.

(وَالْأَزْلامُ) الحصى ونحوه مما كانوا يقضون به فى مغيبات أمورهم.

(رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) مما يزينه الشيطان من أباطيله.

٩١ ـ (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) :

(وَعَنِ الصَّلاةِ) اختصاص للصلاة من بين الذكر ، كأنه قيل : وعن الصلاة خصوصا.

٩٢ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) :

(وَاحْذَرُوا) وكونوا حذرين خاشين ، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم.

(فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول ، لأن الرسول ما كلف إلا البلاغ المبين ، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم.

٩٣ ـ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) :

(إِذا مَا اتَّقَوْا) ما حرم عليهم منها.

(وَآمَنُوا) وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه.

(ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ثم ثبتوا على التقوى والإيمان.

(ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم.

٤٠٢

يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم ولا حرج فى أي شىء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم ، ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا.

٩٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) :

نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون ، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم فى رحالهم فيتمكنون من صيده ، أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم.

(لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر فى الآخرة فيتقى الصيد ، ممن لا يخافه فيقدم عليه.

(فَمَنِ اعْتَدى) فصاد.

(بَعْدَ ذلِكَ) الابتلاء فالوعيد لاحق به.

٩٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) :

(حُرُمٌ) محرمون.

(مُتَعَمِّداً) أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه ، أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله.

(فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) أي فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد.

(مِنَ النَّعَمِ) تفسير للمثل ، أي نظيره من النعم.

(يَحْكُمُ بِهِ) بمثل ما قتل.

(ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) حكمان عادلان من المسلمين.

٤٠٣

(هَدْياً) حال عن (فَجَزاءٌ) فيمن وصفه بمثل ، لأن الصفة خصصته فقربته من المعرفة ، أو بدل عن (مِثْلُ) فيمن نصبه ، أو عن محله فيمن جره.

(بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي أن يذبح بالحرم.

(ذلِكَ) إشارة إلى الطعام.

(صِياماً) تمييز للعدل.

(لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام.

والوبال : المكروه والضرر الذي يناله فى العاقبة من عمل يسوء لثقله عليه.

(عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) لكم من الصيد فى حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسألوه عن جوازه.

(وَمَنْ عادَ) إلى قتل الصيد وهو محرم بعد نزول النهى.

(فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ينتقم ، خبر مبتدأ محذوف تقديره : فهو ينتقم الله منه ، ولذلك دخلت الفاء.

٩٦ ـ (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) :

(صَيْدُ الْبَحْرِ) مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل.

(وَطَعامُهُ) وما يطعم من صيده.

والمعنى : أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد فى البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه.

(مَتاعاً لَكُمْ) مفعول معه ، أي أحل لكم تمتيعا لكم.

(وَلِلسَّيَّارَةِ) وللمسافرين يتزودونه قديدا.

(صَيْدُ الْبَرِّ) ما صيد فيه.

٩٧ ـ (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ

٤٠٤

وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) :

(الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح.

(قِياماً لِلنَّاسِ) انتعاشا لهم فى أمر دينهم ودنياهم ونهوضا إلى أغراضهم ومقاصدهم فى معاشهم ومعادهم ، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم.

(وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) الشهر الذي يؤدى فيه الحج ، وهو ذو الحجة.

وقيل : عنى جنس الأشهر الحرم.

(وَالْهَدْيَ) ما يساق إلى البيت من النعم.

(وَالْقَلائِدَ) والمقلد منه خصوصا ، وهو البدن ، لأن الثواب فيه أكثر وبهاء الحج معه أظهر.

(ذلِكَ) إشارة إلى جعل الكعبة قياما للناس ، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره.

(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) كل شىء.

(وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهو عالم بما يصلحكم وما ينعشكم مما أمركم به وكلفكم.

٩٨ ـ (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) :

(شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن انتهك محارمه.

(غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن حافظ عليها.

٩٩ ـ (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) :

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) تشديد فى إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ.

٤٠٥

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة ، فلا عذر لكم فى التفريط.

١٠٠ ـ (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) :

البون بين الخبيث والطيب بعيد عند الله تعالى وإن كان قريبا عندكم ، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب ، فإن ما تتوهمونه فى الكثرة من الفضل لا يوازى النقصان فى الخبيث وفوات الطيب.

(فَاتَّقُوا اللهَ) وآثروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر.

١٠١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) :

(إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) جملة شرطية.

أي لا تكثروا مساءلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تسألوا عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها.

(وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) جملة شرطية معطوفة على ما قبلها ، أي وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة فى زمان الوحى ، وهو ما دام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهركم يوحى إليه ، تبد لكم تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم وتؤمروا بتحملها ، فتعرضوا أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها.

(عَفَا اللهُ عَنْها) عفا الله عما سلف من مساءلتكم فلا تعودوا إلى مثلها.

(وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم فيما فرط منكم بعقوبة.

١٠٢ ـ (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) :

(قَدْ سَأَلَها) الضمير ليس براجع إلى أشياء حتى تجب تعديته

٤٠٦

بالحرف (عن) وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها (لا تَسْئَلُوا) ، يعنى : قد سأل قوم هذه المسألة من الأولين.

(ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها) أي بمرجوعها ، أو سببها.

(كافِرِينَ) وذلك أن بنى إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.

١٠٣ ـ (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكرا بحروا أذنها ، أي شقوها وحرموا ركوبها ، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى ، وإذا لقيها المعيى لا يركبها ، واسمها البحيرة.

وكان الرجل يقول : إذا قدمت من سفرى أو برئت من مرضى فناقتى سائبة ، وجعلها كالبحيرة فى تحريم الانتفاع بها.

وكانت الشاة إذا ولدت أنثى فهى لهم ، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم ، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.

وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره ، فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

و (ما جَعَلَ) أي ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك.

(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فلا ينسبون التحريم إلى الله حتى يفتروا ولكنهم يقلدون فى تحريمها كبارهم.

١٠٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا

٤٠٧

حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) :

(أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) الواو واو الحال ، دخلت عليها همزة الإنكار.

أي إن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى ، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة.

١٠٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) :

(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والفساد من الكفرة يتمنون دخولهم فى الإسلام ، فقيل لهم : عليكم أنفسكم ، وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها فى طرق الهدى.

(يَضُرُّكُمْ) الضلال عن دينكم.

(إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إذا كنتم مهتدين.

١٠٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) :

(اثْنانِ) خبر للمبتدإ (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) على تقدير : شهادة بينكم شهادة اثنين ، أو على أنه فاعل (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) على معنى : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان.

(إِذا حَضَرَ) ظرف للشهادة.

(حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من (إِذا حَضَرَ) وإبداله منه دليل على وجوب الوصية.

(مِنْكُمْ) من أقاربكم ، أو من المسلمين.

٤٠٨

(مِنْ غَيْرِكُمْ) من الأجانب.

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي إن وقع الموت فى السفر ولم يكن معكم أحد من عشرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية.

(تَحْبِسُونَهُما) تقفونهما وتصبرونهما للحلف.

(مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) من بعد صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع الناس.

وقيل : بعد صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما.

(إِنِ ارْتَبْتُمْ) اعتراض بين القسم والمقسم عليه. أي ان ارتبتم فى شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما.

(بِهِ) الضمير للقسم.

(وَلَوْ كانَ) الضمير للمقسم له. يعنى : لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا. أي لا نحلف كاذبين لأجل المال ، ولو كان من نقسم له قريبا منا.

١٠٧ ـ (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) :

(فَإِنْ عُثِرَ) فإن اطلع.

(عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي فعلا ما أوجب إثما ، واستوجب أن يقال إنهما لمن الآثمين.

(فَآخَرانِ) فشاهدان آخران.

(يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) أي من الذين استحق عليهم الإثم. أي من الذين جنى عليهم ، وهم أهل الميت وعشيرته.

(الْأَوْلَيانِ) الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما. والرفع على تقدير : هما الأوليان. أو بدل من الضمير فى (يَقُومانِ) أو (فَآخَرانِ).

٤٠٩

١٠٨ ـ (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) :

(ذلِكَ) الذي تقدم من بيان الحكم.

(أَدْنى) أن يأتى الشهداء على نحو تلك الحادثة.

(بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) أن نكر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور كذبهم.

(وَاسْمَعُوا) سمع إجابة وقبول.

١٠٩ ـ (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) :

(يَوْمَ يَجْمَعُ) بدل من المنصوب فى قوله (وَاتَّقُوا اللهَ) وهو بدل اشتمال ، كأنه قيل : واتقوا الله يوم جمعه ، أو ظرف لقوله (لا يَهْدِي) أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يفعل بغيرهم.

أو ينصب على إضمار : اذكر.

(ما ذا أُجِبْتُمْ) ما ذا ، انتصب بقوله : أجبتم ، انتصاب مصدره ، على معنى : أي إجابة أجبتم.

(لا عِلْمَ لَنا) إذ كان الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم ، وكلوا الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهارا للتشكى واللجأ إلى ربهم فى الانتقام منهم.

(إِنَّكَ أَنْتَ) أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره.

١١٠ ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ

٤١٠

الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) :

(إِذْ قالَ اللهُ) بدل من قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ).

(أَيَّدْتُكَ) قويتك.

(بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالكلام الذي يحيا به الدين ، وأضافه إلى القدس ، لأنه سبب الطهر من أوضار الآثام.

(فِي الْمَهْدِ) فى موضع الحال ، أي تكلمهم طفلا.

(وَكَهْلاً) أي تكلمهم فى هاتين الحالتين غير أنه يتفاوت كلامك فى حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل.

(الْكِتابَ) الخط.

(وَالْحِكْمَةَ) الكلام المحكم الصواب.

(وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) خصا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة ، لأن المراد بهما جنس الكتاب والحكمة.

(كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) هيئة مثل هيئة الطير.

(بِإِذْنِي) بتسهيلى.

(فَتَنْفُخُ فِيها) الضمير للكاف ، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى عليه‌السلام وينفخ فيها.

(تُخْرِجُ الْمَوْتى) من القبور وتبعثهم.

(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) يعنى اليهود حين هموا بقتله.

١١١ ـ (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) :

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أمرتهم على ألسنة الرسل.

(مُسْلِمُونَ) مخلصون.

٤١١

١١٢ ـ (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) :

(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة.

١١٣ ـ (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) :

(وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بنى إسرائيل.

١١٤ ـ (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) :

(اللهُمَ) أصله : يا الله ، فحذف حرف النداء وعوض منه الميم.

(رَبَّنا) نداء ثان.

(تَكُونُ لَنا عِيداً) أي يكون يوم نزولها عيدا.

(لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من (لنا) بتكرير العامل ، أي لمن فى زماننا من أهل ديننا ، ولمن يأتى بعدنا.

١١٥ ـ (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) :

(عَذاباً) تعذيبا.

(لا أُعَذِّبُهُ) الضمير للمصدر ، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء.

١١٦ ـ (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي

٤١٢

بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) :

(سُبْحانَكَ) من أن يكون لك شريك.

(ما يَكُونُ لِي) ما ينبغى لى.

(أَنْ أَقُولَ) قولا لا يحق لى أن أقوله.

(فِي نَفْسِي) فى قلبى.

(وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي تعلم معلومى ولا أعلم معلومك.

(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تقرير للجملتين معا ، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهى إليه علم أحد.

١١٧ ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) :

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أن ، إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر ، والمفسر : إما فعل القول ، وإما فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له.

أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يتوسط بينهما حرف التفسير.

وأما فعل الأمر ، فمسند إلى ضمير الله عزوجل.

وان جعلتها موصولة بالفعل ، لم تخل من أن تكون :

بدلا من (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ، أو من الهاء فى (به) وكلاهما غير مستقيم.

والوجه أن يحمل فعل القول على معناه ، لأن معنى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) : ما أمرتهم إلا ما أمرتنى به.

٤١٣

(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) رقيبا أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به.

(فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة وأنزلت عليهم من البينات وأرسلت إليهم الرسل.

١١٨ ـ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) :

(فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك.

(الْعَزِيزُ) القوى القادر على الثواب والعقاب.

(الْحَكِيمُ) الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب.

١١٩ ـ (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) :

(يوم) بالرفع والإضافة.

وقرئ بالنصب :

إما على أنه ظرف للفعل (قالَ) : وإما على أن (هذا) مبتدأ ، والظرف خبر. والمعنى : هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع يوم ينفع.

١٢٠ ـ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) :

(وَما فِيهِنَ) ما ، يتناول الأجناس كلها تناولا عاما.

٤١٤

(٦)

سورة الأنعام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) :

(جَعَلَ) يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى : أحدث وأنشأ ، كما هنا ، وإلى مفعولين إذا كان بمعنى : صير.

والفرق بين الخلق والجعل ، أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفى الجعل معنى : التضمين ، كإنشاء شىء من شىء ، أو تصير شىء شيئا ، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن الأول هذه الآية.

(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) عطف على قوله قبل (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على معنى : أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلا نعمة ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته.

وإما عطف على قوله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شىء منه.

٢ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) :

(ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أجل الموت.

(وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل القيامة. وجاز تقديم المبتدأ النكرة ، وهو واجب التأخير ، إذا كان خبره ظرفا لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة.

٤١٥

٣ ـ (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) :

(فِي السَّماواتِ) متعلق بمعنى اسم الله ، كأنه قيل : وهو المعبود فيها ، أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها ، أو هو الذي يقال له : الله فيها لا يشرك به فى هذا الاسم.

ويجوز أن يكون (اللهُ فِي السَّماواتِ) خبرا بعد خبر ، على معنى : أنه الله ، وأنه فى السماوات والأرض. بمعنى أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه منه شىء ، كأن ذاته فيهما.

(يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) إن أردت أنه المتوحد بالإلهية كان هذا تقريرا له ، لأن الذي استوى فى علمه السر والعلانية هو الله وحده.

وكذا إذا جعلت (فِي السَّماواتِ) خبرا بعد خبر.

وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم.

وقد يكون خبرا ثالثا.

(وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من الخير والشر ، ويثيب عليه ويعاقب.

٤ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) :

(مِنْ آيَةٍ) من ، للاستغراق.

(مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) من ، للتبعيض.

أي : وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال إلا كانوا عنه معرضين ، تاركين للنظر ، لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأسا ، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب.

٥ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) :

(فَقَدْ كَذَّبُوا) مردود على كلام محذوف ، كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها ، وهو الحق.

٤١٦

(لَمَّا جاءَهُمْ) يعنى القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم فى الفصاحة فعجزوا عنه.

(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الشيء الذي كانوا به يستهزءون ، وهو القرآن ، أي أخباره وأحواله.

والمعنى : سيعلمون بأى شىء استهزءوا ، وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم فى الدنيا ، أو يوم القيامة.

٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) :

(مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) جعلنا لهم مكانا فيها.

(ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي لم نعط أهل مكة ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم من البسطة فى الأجسام ، والسعة فى الأموال ، والاستظهار بأسباب الدنيا.

(وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) مغزارا.

(قَرْناً آخَرِينَ) أي لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ، وأنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده.

٧ ـ (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) :

(كِتاباً) مكتوبا.

(فِي قِرْطاسٍ) فى ورق.

(فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) ولم يقتصر بهم على الرؤية لئلا يقولوا : سكرت أبصارنا ، ولا تبقى لهم علة.

(إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تعنتا وعنادا للحق بعد ظهوره.

٤١٧

٨ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) :

(لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أمر إهلاكهم.

(ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) بعد نزوله طرفة عين.

إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فى صورته ، وهى آية لا شىء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون ، كان لا بد من إهلاكهم.

وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة ، فيجب إهلاكهم.

وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا فى صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.

ومعنى (ثُمَ) بعد ما بين الأمرين : قضاء الأمر ، وعدم الإنظار ، جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر ، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة.

٩ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) :

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا.

(لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأرسلناه فى صورة رجل كما كان ينزل جبريل فى أعم الأحوال فى صورة وصية ، لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة فى صورهم.

(وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك فى صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك. فإن قال لهم : الدليل على أنى ملك أنى جئت بالقرآن المعجز ، وهو ناطق بأنى ملك لا بشر كذبوا ، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن ، فهو لبس الله عليهم.

٤١٨

١٠ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما كان يلقى من قومه.

(فَحاقَ) فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزءون به وهو الحق ، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به.

١١ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) :

(انْظُرُوا) أي سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين.

١٢ ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) :

(لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سؤال تبكيت.

(قُلْ لِلَّهِ) تقرير لهم ، أي هو الله ، لا خلاف بينى وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره.

(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجبها على ذاته فى هدايتكم إلى معرفته ، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السماوات والأرض ، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شىء بقوله :

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فيجازيكم على إشراككم.

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) نصب على الذم ، أو رفع ، أي : أريد الذين خسروا أنفسهم ، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم.

(فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي الذين خسروا أنفسهم فى علم الله ، لاختيارهم الكفر ، فهم لا يؤمنون.

١٣ ـ (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) :

٤١٩

(وَلَهُ) عطف على لفظ (الله).

(ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من السكنى.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ، فلا يخفى عليه شىء مما يشتمل عليه الملوان.

١٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) :

(أَغَيْرَ اللهِ) جاءت همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو (أَتَّخِذُ) لأن الإنكار فى اتخاذ غير الله وليا لا فى اتخاذه الولي ، فكان أولى بالتقديم.

(فاطِرِ السَّماواتِ) بالجر صفة لله. وقرئ بالرفع على المدح.

(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) وهو يرزق ولا يرزق.

(أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سابق أمته فى الإسلام.

(وَلا تَكُونَنَ) وقيل لى : لا تكونن.

(مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.

١٥ ـ (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) :

قل : إنى أخاف إن أخلفت أمر ربى وعصيته ، عذاب يوم شديد.

١٦ ـ (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) :

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) العذاب.

(يَوْمَئِذٍ) يوم الحساب.

(فَقَدْ رَحِمَهُ) لله الرحمة العظمى ، وهى النجاة.

١٧ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) :

(بِضُرٍّ) من مرض أو فقر أو غير ذلك من البلاء ، فلا قادر على كشفه إلا هو.

٤٢٠