٤ ـ المفصل ، وهو ما يلي المثانى من قصار السور ، وسمى مفصلا لكثرة المفصول التى بين السور ببسم الله الرحمن الرحيم. وقيل : لقلة المنسوخ فيه.
* * *
(٥٦) الشرط :
وتتعلق به قواعد :
١ ـ المجازاة إنما تتعقد بين جملتين :
أولا هما فعلية تلائم الشرط.
وثانيتهما : قد تكون اسمية ، وقد تكون فعلية جازمة ، وغير جازمة ، أو ظرفية ، أو شرطية.
فإذا جمع بينهما وبين الشرط ، اتحدتا جملة واحدة.
ويسمى المناطقة الأول مقدما والثانى تاليا.
فإذا انحل الرباط الواصل بين طرفى المجازاة عاد الكلام جملتين كما كان.
٢ ـ أصل الشرط والجزاء أن يتوقف الثانى على الأول ، بمعنى أن الشرط إنما يستحق جوابه بوقوعه هو فى نفسه ، كقوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) المائدة : ١١٨ ، وهم ، عباده ، عذبهم أو رحمهم.
٣ ـ أنه لا يتعلق إلا بمستقبل ، فإن كان ماضى اللفظ كان مستقبل المعنى.
٤ ـ جواب الشرط أصله الفعل المستقبل ، وقد يقع ماضيا ، لا على أنه جواب فى الحقيقة ، نحو قوله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) آل عمران : ١٤٠ ، ومس القرح قد وقع بهم ، والمعنى : إن يؤلمكم ما نزل بكم فيؤلمهم ما وقع ، فالمقصود ذكر الألم الواقع لجميعهم ، فوقع الشرط والجزاء على الألم.
٥ ـ أدوات الشرط حروف ، وهى «إن» ، وأسماء مضمنة معناها ، وأقواها دلالة على الشرط «إن» ، لبساطتها ، ولهذا كانت أم الباب ، وما سواها فمركب معنى «إن» وزيادة معه.
٦ ـ قد يعلق الشرط بفعل محال يستلزمه محال آخر ، وتصدق الشرطية دون مفرديها ، أما صدقها فلا يستلزم المحال ، وأما كذب مفرديها فلاستحالتهما ، وعليه قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) الزخرف : ٨١.
٧ ـ الاستفهام إذا دخل على الشرط ، كقوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ) آل عمران : ١٤٤ ، فالهمزة فى موضعها ، ودخولها على أداة الشرط ، والفعل الثانى ، الذى هو جزاء ، ليس جوابا للشرط ، وإنما هو المستفهم عنه ، والهمزة داخلة عليه تقديرا ، فينوى به التقديم ، وحينئذ لا يكون جوابا ، بل الجواب محذوف ، والتقدير : أانقلبتم على أعقابكم. إن مات محمد؟ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته.
٨ ـ إذا تقدمت أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء ، ثم ذكر فعل الشرط ولم يذكر له جواب ، فلا تقدير عند الكوفيين ، بل المقدم هو الجواب ، وعند البصريين دليل الجواب.
٩ ـ إذا دخل على أداة الشرط واو الحال ، لم يحتج إلى جواب ، فإن أجيب الشرط كانت الواو عاطفة لا للحال.
١٠ ـ الشرط والجزاء لا بدّ أن يتغايرا لفظا ، وقد يتحدان فيحتاج إلى التأويل كقوله تعالى : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) الفرقان : ٧١ ، على حذف الفعل ، أى : من أراد التوبة فإن التوبة معرضة له ، لا يحول بينه وبينها حائل.
وقد يتقاربان في المعنى ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) محمد : ٣٨.
١١ ـ أن يعترض الشرط على الشرط ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) الواقعة ٨٨ ، ٨٩ ، فقد اجتمع هنا شرطان وجواب واحد ، فإما أن يكون جوابا لأما أو لأن ، ولا يجوز أن يكون جوابا لهما ، لأنه ليس ثمة شرطان لهما جواب واحد ، ول كان هذا لجاز شرط واحد له جوابان ، ولا يجوز أن يكون جوابا لأن دون أما ، لأن
أما لم تستعمل بغير جواب ، فجعل جوابا لأما ، فتجعل أما وما بعدها جوابا لأن.
وقيل : إذا دخل الشرط على الشرط ، فإن كان الثانى ، بالقاء فالجواب المذكور جوابه ، وهو وجوابه جواب الشرط الأول.
وإن كان ، بغير الفاء ، فإن كان الثانى متأخرا فى الوجود عن الأول كان مقدرا بالفاء ، وتكون الفاء جواب الأول ، والجواب المذكور جواب الثانى ، وإن كان الثانى متقدما فى الوجود على الأول فهو فى نية التقديم وما قبله جوابه ، والفاء مقدرة فيه.
وأما إن لم يكن أحدهما متقدما فى الوجود ، وكان كل واحد منهما صالحا لأن يكون هو المتقدم ، والآخر متأخرا ، كان الحكم راجعا إلى التقدير والنية ، فأيهما قدرته شرطا كان الآخر جوابا له.
وإن كان مقدرا بالفاء كان المتقدم فى اللفظ أو المتأخر ، وعلى كلا التقديرين فجواب الشرط الذى هو الجواب محذوف.
* * *
(٥٧) الصفة :
وهو مخصصة إن وقعت صفة لنكرة ، وموضحة إن وقعت صفة لمعرفة ، وتأتى :
١ ـ لازمة لا للتقييد ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) المؤمنون : ١١٧ ، وهى صفة لازمة جىء بها للتوكيد.
٢ ـ بلفظ والمراد غيره ، كقوله تعالى : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) البقرة : ٦٩ ، قيل : المراد : سوداء ناصع ، وقيل : بلى هى على بابها.
٣ ـ للتنبيه على التقسيم ، كقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) الأنعام : ٩٩ ، فهى لنفى توهم توقف الإباحة على الإدراك والنضج بدلالته على الإباحة من أول إخراج الثمرة ، إذ المعلوم أنه إنما يؤكل إذا أثمر.
* * *
(٥٨) الطباق :
وهو إن يجمع بين متضادين مع مراعاة التقابل ، وهو قسمان :
١ ـ لفظى ، كقوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) التوبة : ٨٢.
٢ ـ معنوى ، كقوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) يس : ١٥ ، ١٦ معناه : ربنا يعلم إنا لصادقون.
* * *
(٥٩) الطلب :
وضعه موضع الخير ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَأَلْقِ عَصاكَ) النمل : ٨ ـ ١٠ ، فقوله : «ألق» معطوف على قوله «أن بورك» ، فكلمة «ألق» وإن كانت إنشاء لفظا لكنها خبر معنى ، والمعنى : فلما جاءها قيل : بورك من فى النار ، وقيل : ألق.
* * *
(٦٠) العدد :
وتحته قواعد : (ا) القاعدة الأولى :
اسم الفاعل المشتق من العدد ، وله استعمالات :
(ا) أن يراد به واحد من ذلك العدد ، وهذا يضاف العدد الموافق له ، نحو قوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) التوبة : ٥ ، وهذا القسم لا يجوز إطلاقه فى حق الله تعالى ، ولهذا قال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) المائدة : ٧٣.
(ب) أن يكون بمعنى التصيير ، وهذا يضاف إلى العدد المخالف له فى اللفظ بشرط أن يكون أنقص منه بواحد ، كقوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) المجادلة : ٧.
(ب) القاعدة الثانية
حق ما يضاف إليه العدد من الثلاثة إلى العشرة أن يكون اسم جنس أو اسم جمع ، وحينئذ يجوز :
(ا) أن يجر بالحرف «من» ، كقوله تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) البقرة : ٢٦٠.
(ب) كما يجوز إضافته ، كقوله تعالى : (تِسْعَةُ رَهْطٍ) النمل : ٤٨.
وإن كان غيرهما من الجموع أضيف إليه الجمع على مثال جمع القلة من التكسير ، وعلته أن المضاف موضوع للقلة ، فتلزم إضافته إلى جمع القلة ، طلبا لمناسبة المضاف إليه المضاف فى القلة ، لأن المفسر على حسب المفسر ، كقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) لقمان : ٢٧.
(ح) القاعدة الثالثة
ألفاظ العدد نصوص ، ولهذا لا يدخلها تأكيد ، لأنه لدفع المجاز فى إطلاق الكل وإرادة البعض ، وهو منتف فى العدد ، وقد أورد على ذلك آيات شريفة ، منها قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) البقرة : ١٩٦ ، والجواب أن التأكيد هنا ليس لدفع نقصان أصل العدد ، بل لدفع نقصان الصفة ، لأن الغالب فى البدل أن يكون دون المبدل منه ، فأفاد أن الفاقد للهدى لا ينقص من أجره شىء.
* * *
(٦١) العطف : وينقسم إلى :
١ ـ عطف مفرد على مثله ، وفائدته تحصيل مشاركة الثانى للأولى فى الإعراب ، ليعلم أنه مثل الأول فى فاعليته أو مفعوليته ، فيتصل الكلام بعضه ببعض ، أوفى حكم خاص دون غيره ، كقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) المائدة : ٦ ، فمن قرأ بالنصب عطفا على «الوجوه» كانت الأرجل مغسولة ، ومن قرأ بالجر عطفا على «الرءوس» كانت ممسوحة.
٢ ـ عطف جملة على جملة :
(ا) إن كانت الأولى لا محل لها من الأعراب ، كان من قبيل عطف المفرد على المفرد ، وكانت فائدة العطف الاشتراك فى مقتضى الحرف العاطف ، فإن كان العطف بغير الواو ظهر له فائدة من التعقيب ، مثل الفاء ، أو الترتيب مثل ثم ، أو نفى الحكم عن الباقى مثل لا.
(ب) إذا كان ما قبلها بمنزلة الصفة من الموصوف والتأكيد من المؤكد فلا يدخلها عطف ، لشدة الامتزاج ، كقوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) البقرة : ١ ، ٢.
(ج) إذا غايرت الثانية ما قبلها ، وليس بينهما نوع ارتباط يوجه ، فلا عطف ، إذ شرط العطف المشاكلة ، وهو مفقود ، وذلك كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) البقرة : ٦ ، بعد قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) البقرة : ٥.
(د) إذا غايرت الثانية ما قبلها ، ولكن بينهما نوع ارتباط ، كان العطف كقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) البقرة : ٥.
(ه) إذا كان بتقدير الاستئناف ، فلا عطف ، كقوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً يَبْكُونَ. قالُوا يا أَبانا) يوسف : ١٦ ، ١٧ ، كأن قائلا قال : لم كان كذا؟ فقال : كذا.
(ز) إذا طالت الحكاية عن المخاطبين فلا عطف ، كقوله تعالى : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) البقرة : ٢٥٨.
* * *
(٦٢) العكس :
وهو أن يقدم فى الكلام جزء ثم يؤخر ، كقوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) الممتحنة : ١٠
* * *
(٦٣) فواتح السور :
افتتح سبحانه وتعالى كتابه العزيز بعشرة أنواع من الكلام لا يخرج شىء من السور عنها :
١ ـ الاستفتاح بالثناء عليه جل وعز ، والثناء قسمان :
(ا) إثبات لصفات المدح ، نحو : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الفاتحة «الأنعام ، الكهف ، سبأ ، فاطر.
(ب) نفى وتنزيه من صفات النقص ، نحو قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) الإسراء : ١.
٢ ـ الاستفتاح بحروف التهجى ، نحو : الم ، المص.
وهذه الحروف التى افتتح الله بها السور نصف أسماء حروف للعجم ، أربعة
عشر : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والخاء ، والقاف ، والنون ، يجمعها قولك : لم يكرها نص حق سطع.
ثم هى مشتملة على أنصاف أجناس الحروف. المهموسة ، والمجهورة ، والشديدة ، والمطبقة ، والمستعلية ، والمنخفضة ، وحروف القلقلة.
والأسماء المتهجاة فى أوائل السور ثمانية وسبعون حرفا.
وهى فى القرآن فى تسعة وعشرين سورة.
وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف فهى مشتملة على مبدأ الخلق ونهايته وتوسطه ، مشتملة على خلق العالم وغايته ، وعلى التوسط بين البداية من الشرائع والأوامر.
وإذا تأملنا السور التى اجتمعت على الحروف المفردة نجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف ، فمن ذلك :
(ا) (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) فإن السورة مبنية على الكلمات القافية ، من ذكر القرآن ، ومن ذكر الخلق ، وتكرار القول ومراجعته مرارا ، والقرب من ابن آدم ، وتلقى الملكين ، وقول العتيد ، وذكر الرقيب ، وذكر السابق ، والقرين ، والإلقاء فى جهنم ، والتقدم بالوعد ، وذكر المتقين ، وذكر القلب ، والقرن ، والتنقيب فى البلاد ، وذكر القتل مرتين ، وتشقق الأرض ، وإلقاء الرواسى فيها ، وبسوق النخل ، والرزق ، وذكر القوم ، إلى غير ذلك.
ثم إن كل معانى السورة مناسب لما فى حرف القاف من الشدة والجهر والقلقلة والانفتاح.
(ب) (ص) فإن السورة تشتمل على خصومات متعددة ، فأولها خصومة الكفار مع النبى صلىاللهعليهوسلم ، ثم اختصام الخصمين عند داود ، ثم تخاصم أهل النار ،
ثم اختصام الملأ الأعلى فى العلم ، وهو الدرجات والكفارات ، ثم تخاصم إبليس واعتراضه على ربه وأمره بالسجود ، ثم اختصامه ثانيا فى شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم.
(ج) (ن وَالْقَلَمِ) فإن فواصلها كلها على هذا الوزن ، مع ما تضمنت من الألفاظ النونية.
ويعد المفسرون هذا من المتشابه فى القرآن الذى لا يعلم تأويله إلا الله ، غير أن ابن قتيبة يرى أن الله لم ينزل شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده ويدل به على معنى أراده ، ويقول : فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال وتعلق علينا بعلة.
ويمضى ابن قتيبة فى حديثه فيقول : وهل يجوز لأحد أن يقول : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يكن يعرف المتشابه ، وإذا جاز أن يعرفه مع قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته. فقد علم «عليّا» التفسير.
ودعا لابن عباس فقال : اللهم علمه التأويل وفقهه فى الدين. ثم يقول ابن قتيبة : وبعد. فإنا لم نر المفسرين توقفوا عن شىء من القرآن فقالوا : هذا متشابه لا يعلمه إلا الله ، بل أمروه كله على التفسير حتى فسروا الحروف المقطعة فى أوائل السور.
ويقول ابن قتيبة فى تفسير قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) آل عمران : ٧ : فإن قال قائل : كيف يجوز فى اللغة أن يعلمه الراسخون فى العلم ، وأنت إذا أشركت الراسخين فى العلم انقطعوا عن «يقولون» ، وليست هاهنا واو نسق توجب للراسخين فعلين؟ قلنا له : إن «يقولون» هاهنا فى معنى الحال ،
(ـ ٩ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ٣)
كأنه قال : «والراسخون فى العلم قائلين أمنا به».
والمفسرون مختلفون فى تفسير هذه الحروف المقطعة.
فمنهم من يجعلها أسماء للسور ، تعرف كل سورة بما افتتحت به منها ، فهى أعلام تدل على ما تدل عليه الأسماء من أعيان الأشياء ، وتفرق بينها ، فإذا قال القائل : قرأت «المص» ، أو قرأت «ص» ، أو «ن» ، دل بذاك على ما قرأ.
ولا يرد هذا أن بعض هذه الأسماء يقع لعدة سور ، مثل «حم» و «الم» ، إذ من الممكن التمييز بأن يقول : «حم السجدة» و «والم» البقرة ، كما هى الحال عند وقوع الوفاق فى الأسماء ، فتمييزها بالإضافات ، وأسماء الآباء والكنى.
ويجعلها بعضهم للقسم ، وكأن الله عزوجل أقسم بالحروف المقطعة كلها ، واقتصر على ذكر بعضها من جميعها ، فقال : «الم» وهو يريد جميع الحروف المقطعة كما يقول القائل : تعلمت «ا ب ت ث» ، وهو لا يريد تعلم هذه الأحرف دون غيرها من الثمانية والعشرين.
ولقد أقسم الله بحروف المعجم لشرفها وفضلها ، إذ هى مبانى كتابه المنزل على رسوله.
ويجعلها بعضهم حروفا مأخوذة من صفات الله تعالى يجتمع بها فى المفتتح صفات كثيرة ، ويكون هذا فنّا من فنون الاختصار عند العرب.
وهذا الاختصار عند العرب كثير. يقول الوليد بن عقبة ، من رجز له :
قلت لها قفى |
|
فقالت قاف |
أى قالت : قد وقفت ، فأومأ بالقاف إلى معنى الوقوف.
وعلى هذا يجعل المفسرون كل حرف من هذه الحروف يشير إلى صفة من صفات الله.
فيقول ابن عباس مثلا فى تفسير قوله تعالى : (كهيعص) إن الكاف ، من كاف ، والهاء ، من هاد ، والياء ، من حكيم ، والعين ، من عليم ، والصاد ، من صادق.
ويقول بعضهم : وهذه الحروف التى فى أوائل السور جعلها الله تعالى حفظا للقرآن من الزيادة والنقصان ، ولعل هذا الذى جعل بعض المحدثين ـ أعنى الأستاذ على نصوح ـ الطاهر يقول فى : كتابه أوائل السور فى القرآن الكريم :
١ ـ إن أوائل السور تقوم على حساب الجمل.
٢ ـ إنها تبين عدد الآيات المكية أيام كان القرآن يخشى عليه من أعدائه فى مكة من أن يزيدوا فيه أو أن ينقصوا منه ، ودليله على ذلك :
(ا) أنها وردت مع تسع وعشرين سورة من سور القرآن.
(ب) من هذه السور سبع وعشرون مكية واثنتان مدنيتان ، هما البقرة وآل عمران.
(ج) أن هاتين السورتين المدنيتين نزلتا فى أول العهد المدنى ، ولم يكن قد استقر أمر المسلمين كثيرا ، فهو عهد أشبه بعهد مكة.
(د) أنه حين اشتد أمر المسلمين وكانت كثرة من القارئين والكاتبين لم تكن ثمة فواتح سور.
ولقد تتبع فى كتابه سور القرآن الكريم ، ذات الفواتح ، وطابق بين جملها والآيات المكية بها فإذا هو ينتهى إلى رأى شبه قاطع.
٣ ـ الاستفتاح بالنداء ، نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) المائدة ، الحجرات ، الممتحنة.
٤ ـ الاستفتاح بالجمل الخبرية ، نحو قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) ، وجملة هذه السور ثلاث وعشرون سورة.
٥ ـ الاستفتاح بالقسم ، نحو قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ) ، وجملة هذه السور خمس عشرة سورة.
٦ ـ الاستفتاح بالشرط ، نحو قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ). وجملة هذه السور سبع سور.
٧ ـ الاستفتاح بالأمر ، نحو قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ) ، وجملة هذا السور ست سور.
٨ ـ الاستفتاح بالاستفهام ، نحو قوله تعالى : (هَلْ أَتى) ، وجملة هذه السور ست سور.
٩ ـ الاستفتاح بالدعاء ، نحو قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ، وجملة هذه السور ثلاث سور
١٠ ـ الاستفتاح بالتعليل ، نحو قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، وهذا فى موضع واحد.
* * *
(٦٤) الفواصل :
الفاصلة : كلمة آخر الآية ، وتكون من حروف متشاكلة فى المقاطع يقع بها إفهام المعانى ، وتقع الفاصلة عند الاستراحة فى الخطاب لتحسين الكلام بها ، وهى ما يباين القرآن بها سائر الكلام. وسميت فاصلة لأنه ينفصل عندها الكلامان ، وذلك أن آخر الآية فصل بينهما وبين ما بعدها كقوله تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) فصلت : ٣ ، من أجل هذا كان اختيار هذا الاسم لها ، ولم تسم أسجاعا ، لشرف القرآن الكريم عن أن يشارك غيره من كلام الآحاد فى صفة من صفاته ، ثم إن السجع هو الذى يقصد فى نفسه ثم يحيل المعنى عليه ، والفواصل تتبع المعانى ، ولا تكون مقصودة فى نفسها ، أعنى أن السجع يتبع المعنى فيه اللفظ الذى به يؤدى السجع ، وليس كذلك ما اتفق مما هو فى تقدير السجع من القرآن ؛ لأن اللفظ وقع فيه تابعا للمعنى ، وفرق بين أن ينتظم الكلام فى نفسه بألفاظه التى تؤدى المعنى المقصود فيه ، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ.
والمناسبة فى مقاطع الفواصل حيث تطرد واقعة ، من ذلك :
١ ـ زيادة حرف ، ولهذا لحقت الألف «الظنون» فى قوله تعالى (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) الأحزاب : ١٠ ، لأن مقاطع فواصل هذه السورة ألفات متقلبة عن تنوين فى الوقف» فزيد على النون ألف لتساوى المقاطع ، وتناسب نهايات الفواصل.
٢ ـ حذف همزة أو حرف اطرادا ، كقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) الفجر : ٤.
٣ ـ الجمع بين المجرورات ، كقوله تعالى : (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) الإسراء : ٦٩ فأخر «تبيعا» وترك الفصل بين المجرورات ، لتكون نهاية هذه الآية مناسبة لنهايات ما قبلها حتى تتناسق على صورة واحدة.
٤ ـ تأخير ما أصله أن يقدم ، كقوله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) طه : ٦٧ ، لأن أصل الكلام أن يتصل الفعل بفاعله ويؤخر المفعول ، ولكن آخر الفاعل ، وهو موسى ، لرعاية الفاصلة.
٥ ـ إفراد ما أصله أن يجمع ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) القمر : ٥٤ ، قال الفراء : الأصل : الأنهار ، وإنما وحد لأنه رأس آية ، فقابل بالتوحيد رءوس الآى.
٦ ـ جمع ما أصله أن يفرد ، كقوله تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) إبراهيم : ٣١ ، إذ المراد : ولا خلة ، بدليل الآية الأخرى لكن جمعه لمناسبة رءوس الآى.
٧ ـ تثنية ما أصله أن يفرد ، كقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) الرحمن : ٤٦.
فالتثنية هنا لأجل الفاصلة ، رعاية للتى قبلها والتى بعدها على الوزن ، وقال الفراء : هذا من باب مذهب العرب فى تثنية البقعة الواحدة وجمعها. ورد عليه ابن قتيبة فقال : إنما يجوز فى رءوس الآى زيادة هاء السكت أو الألف ، أو حذف همزة أو حرف ، فأما أن يكون الله وعد جنتين فتجعلهما جنة واحدة من أجل رءوس الآى فمعاذ الله ، وكيف هذا وهو يصفها بصفات الاثنين ، قال تعالى : (ذَواتا أَفْنانٍ) الرحمن : ٤٨ : ثم قال تعالى : (فِيهِما) الرحمن : ٥٠.
٨ ـ تأنيث ما أصله أن يذكر ، كقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) المدثر : ٥٤ ، وإنّما عدل إليها للفاصلة.
٩ ـ الزيادة ، كقوله تعالى فى سورة الأعلى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الأعلى : ١ ، وفى سورة العلق : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) العلق : ١ ، فزاد فى الأولى «الأعلى» وزاد فى الثانية «خلق» مراعاة للفواصل فى السورتين ، وهى فى الأعلى (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) الأعلى : ٢ ، وفى العلق (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) العلق : ٢.
١٠ ـ صرف ما أصله ألا ينصرف ، كقوله تعالى : (قَوارِيرَا. قَوارِيرَا) الإنسان : ١٥ ، ١٦.
صرف الأول لأنه آخر الآية ، وآخر الثانى بالألف ، فمن جعله منونا ليقلب تنوينه ألفا ، فيتناسب مع بقية الآى ، كقوله تعالى : سلاسلا وأغلالا ـ هذه قراءة نافع وأبى بكر ، والكسائى ، وأبى جعفر ـ فإن «سلاسلا» لما نظم إلى (أَغْلالاً وَسَعِيراً) الإنسان : ٤ ، صرف ونون للتناسب ، وبقى «قواريرا» الثانى ، فإنه وإن لم يكن آخر الآية جاز صرفه ، لأنه لما نون «قواريرا» الأول ناسب أن ينون «قواريرا» الثانى ليتناسبا ولأجل هذا لم ينون «قواريرا» الثانى إلا من ينون «قواريرا» الأول
وقيل : إنما صرفت للتناسب ، واجتماعه مع غيره من المتصرفات ، فيرد إلى لأصل ليتناسب معها.
١١ ـ إمالة ما أصله ألا يمال ، وهو أن تنحو بالألف نحو الياء ، كإمالة ألف (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) الضحى : ١ ، ٢ ، ليشاكل التلفظ بها التلفظ بما بعدها.
١٢ ـ العدول عن صيغة الماضى إلى الاستقبال ، كقوله تعالى : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) البقرة : ٨٧ ، حيث لم يقل : وفريقا قتلتم ، إذ هى هنا رأس آية.
* * *
(٦٥) القراءات :
سيأتى لرأى فى القراءات السبع ، عند الكلام على اللغات ، ومعنى قوله صلىاللهعليهوسلم : نزل القرآن على سبعة أحرف ، أى : على سبعة أوجه من اللغات متفرقة فى القرآن.
ويقول ابن العربى : لم يأت فى معنى هذا السبع نص ولا أثر ، واختلف الناس فى تعيينها.
ويقول أبو حيان : اختلف الناس فيها على خمسة وثلاثين قولا.
وروى عن عمر أنه قال : نزل القرآن بلغة مضر.
وإذا رجعنا نحصى قبائل مضر وجدنا هنا سبع قبائل ، وهى : هذيل ، وكنانة ، وقيس ، وضبة ، وتيم الرباب ، وأسد بن خزيمة ، وقريش.
كما يروى عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على سبع لغات ، منها خمس بلغة العجز من هوازن ، واثنان لسائر العرب ، والعجز هم : سعد بن بكر ، وجشم ابن بكر ، ونصر بن معاوية ، وثقيف ، وكان يقال لهم : عليا هوازن.
كما يروى عن أبى حاتم السجستانى أنه قال : نزل القرآن بلغة قريش ، وهذيل وتميم ، والأزد ، وربيعة ، وهوازن وسعد بن بكر.
كما يروى السيوطى فى الإتقان آراء غير مسندة ، منها :
١ ـ أنها سبع لغات متفرقة لجميع العرب ، كل حرف منها لقبيلة مشهورة.
٢ ـ أنها سبع لغات ، أربع لعجز هوازن : وثلاث لقريش.
٣ ـ أنها سبع لغات ، لغة لقريش ، ولغة لليمن ، ولغة لجرهم ، ولغة لهوازن ، ولغة لقضاعة ، ولغة لتميم ، ولغة لطيئ.
٤ ـ أنها لغة الكعبين : كعب بن عمر ، وكعب بن لؤى ، ولهما سبع لغات.
وهذا الخبر مسند لابن عباس من طريق آخر غير الطريق الأول الذى روى به خبره السابق.
وهذا الاختلاف فى التعيين لا يضير فى شىء ، فثم لغات سبع مفرقة فى القرآن أخبر الرسول عن جملتها ولم يخبر عن تفصيلها ، وكان هذا التفصيل مكان الاجتهاد بين المجتهدين.
وليس معنى الحديث أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات ، بل اللغات السبع مفرقة ، تقرأ قريش بلغتها. وتقرأ هذيل بلغتها ، وتقرأ هوازن بلغتها ، وتقرأ اليمن بلغتها.
وفى ذلك يقول أبو شامة نقلا عن بعض شيوخه : أنزل القرآن بلسان قريش ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالها على اختلاف فى الألفاظ والإعراب.
ويقول ابن الجوزى : وأما وجه كونها سبعة أحرف دون أن لم تكن أقل أو أكثر ، فقال الأكثرون : إن أصول قبائل العرب تنتهى إلى سبعة ، وأن اللغات الفصحى سبع ، وكلاهما دعوى.
وقيل : ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص ، بل المراد
السعة والتيسير ، وأنه لا حرج عليهم فى قراءته بما هو فى لغات العرب من حيث إن الله تعالى أذن لهم فى ذلك.
والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد ، بحيث لا يزيد ولا ينقص ، بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر.
وكانت هذه المبالغات علمها إلى الرسول قد أحاطه الله بها علما ، وحين يقرأ الهذلى بين يديه «عتى حين» وهو يريد (حَتَّى حِينٍ) المؤمنون : ٥٤ ـ الصافات : ١٧٤ و ١٧٨ ـ الذاريات : ٤٣. يحيزه ـ لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها.
وحين يقرأ الأسدي بين يديه (تَسْوَدُّ وُجُوهٌ) آل عمران : ١٠٦ ، بكسر التاء فى «تسود» ، و (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) يس : ٦٠ ، بكسر الهمزة فى «أعهد» ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يهمز التميمى على حين لا يهمز القرشى ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «وإذا قيل لهم» البقرة : ١١ ، و «غيض الماء» هود : ٤٤ ، بإشمام الضم مع الكسر : يجيزه لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين قرأ قارئهم (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) يوسف : ٦٥ ، بإشمام الكسر مع الضم فى «ردت» ، حين ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ فارئهم (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) يوسف : ١١ ، بإشمام الضم مع الإدغام فى ميم «تأمنا» يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل وتكليفه غير هذا عسير.
وحين يقرأ قارئهم «عليهم» و «فيهم» بالضم ، ويقرأ قارئ أخر «عليهم و» و «فيهمو» ، بالصلة ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «قد أفلح» ، و «قل أوحى» ، و «خلوا إلى» بالنقل» يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «موسى» و «عيسى» ، بالإمالة وغيره بغيرها ، يجيزه لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «خبيرا» ، و «بصيرا» بالترفيق ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «الصلوات» و «الطلاق» ، بالتفخيم ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
ويفسر لك هذا ما روى عن عمر قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها ، وقد كان النبى صلىاللهعليهوسلم أقرأنيها ، فأتيت به النبى صلىاللهعليهوسلم فأخبرته : فقال له : اقرأ ، فقرأ تلك القراءة : فقال : هكذا أنزلت ، ثم قال لى : اقرأ فقرأت. فقال : هكذا أنزلت. ثم قال : هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرءوا منه ما تيسر.
وكذلك يفسر لك هذا ما روى عن أبى قال : دخلت المسجد أصلى فدخل رجل فافتتح «النحل» فقرأ ، فخالفنى فى القراءة ، فلما انفتل قلت : من أقرأك؟ فقال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ثم جاء رجل فقام يصلى ، فقرأ ، وافتتح النحل ، فخالفنى وخالف صاحبى ، فلما انفتل قلت : من أقرأك؟ فقال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : فأخذت بأيديهما فانطلقت بهما إلى النبى صلىاللهعليهوسلم. فقلت : استقرئ هذين ، فاستقرأ أحدهما ، فقال : أحسنت. ثم استقرأ الآخر ، فقال : أحسنت.
ويقول ابن قتيبة : «ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته ، وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لاشتد ذلك عليه ، وعظمت المحنة فيه ، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة ، وتذليل للسان وقطع للعادة.
ويقول ابن قتيبة :
وقد تدبرت وجوه الخلاف فى القراءات فوجدتها سبعة أوجه :
أولها : الاختلاف فى إعراب الكلمة ، أو فى حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها فى الكتاب ، ولا يغير معناها ، نحو قوله تعالى : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) هود : ٧٨ ، و «أطهر لكم» بالنصب ـ و (هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) سبأ ١٧ : و «هل يجازى إلا الكفور» ـ و (يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) النساء ٣٧ ، الحديد ٢٤ ـ و «بالبخل» بفتح الباء والخاء ـ و «فنظرة إلى ميسرة» البقرة : ٢٨٠ ، و «ميسرة» بضم السين.
ثانيها : أن يكون الاختلاف فى إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها فى الكتاب ، نحو قوله تعالى : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) سبأ : ١٩ ، و (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ـ و (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) «النور : ١٥ و «تلقونه» بفتح فكسر فضم ـ و (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) : يوسف ٤٥» و «أمة» أى : نسيان.
ثالثها : أن يكون الاختلاف فى حروف الكلمة دون إعرابها ، بما يغير معناها ولا يزيل صورتها ، نحو قوله : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) البقرة : ٢٥٩ ، و «ننشرها» بالراء و «حتى إذا فزع عن قلوبهم» سبأ : ٢٣ ، و «فرغ» بالراء والغين المعجمة.
رابعها : أن يكون الاختلاف فى الكلمة بما يغير صورتها فى الكتاب ولا يغير معناها فى الكلام ، نحو قوله تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) يس : ٢٩ ، و «زقية واحدة» ـ و (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) القارعة : ٥ ، و «كالصوف».
خامسها : أن يكون الاختلاف فى الكلمة بما يزيل صورتها ومعناها ، نحو قوله : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الواقعة : ٢٩ و «طلح».
سادسها : أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير ، نحو قوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ). ق : ١٩ ، وفى قراءة أخرى : «وجاءت سكرة الحق بالموت».
سابعها : أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان ، نحو قوله تعالى : (وما عملت أيديهم) (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) يس : ٣٥ ونحو قوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لقمان ٢٦ ، و (إن الله الغنى الحميد).
ثم قال ابن قتيبة :
فإن قال قائل : هذا جائز فى الألفاظ المختلفة إذا كان المعنى واحدا ، فهل يجوز أيضا إذا اختلفت المعانى؟
قيل له : الاختلاف نوعان : اختلاف تغاير ، واختلاف تضاد.
فاختلاف التضاد لا يجوز ، ولست واجده بحمد الله فى شىء من القرآن إلا فى الأمر والنهى من الناسخ والمنسوخ.
واختلاف التغاير جائز ، وذلك مثل قوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أى بعد حين و «بعد أمة» أى بعد نسيان له ، والمعنيان جميعا ، وإن اختلفا ، صحيحان ، لأن ذكر أمر يوسف بعد حين وبعد نسيان له.
وكقوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) ، أى تقبلونه وتقولونه ، (وتلقونه) من الولق ، وهو الكذب ، والمعنيان جميعا ، وإن اختلفا ، صحيحان ، لأنهم قبلوه وقالوه وهو كذب.
وكقوله : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) على طريق الدعاء والمسألة ، و (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) على جهة الخبر ، والمعنيان ، وإن اختلفا ، صحيحان.
وكقوله : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) وهو الطعام ، و (أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) بضم الميم وسكون التاء وفتح الكاف ، وهو الأترج. فدلت هذه القراءة على معنى ذلك الطعام.