نفحات القرآن - ج ٤

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-98-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٠٠

في ذكر هذه العبارات : «بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوّة إلّابالله العلي العظيم» مائة مرّة بعد صلاة الصبح.

وبعضها الآخر في سورة «الحمد» و «التوحيد» و «آية الكرسي» و «القدر».

وبعضها في الآيات الست الأواخر من سورة الحشر.

وبالتالي فبعضها الأخر في : (قُلِ اللهمَّ مَالِكَ المُلكِ) إلى قوله : (وَتَرزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ). (آل عمران / ٢٦ ـ ٢٧)

وغير هذه التعابير (١).

ويمكن أن يكون سبب هذا التفاوت هو تعدُّد الاسم الأعظم ، أو تفاوت المقاصد ، ولكن المهم في الوقت ذاته هو أنّ طهارة القلب ، وخلوص النيّة ، والتوجُّه إلى الله ، وقطع الأمل عمن سواه ، والتخلُّق بهذه الصفات هي التي تخلق روح الاسم الأعظم.

* * *

__________________

(١) بحار الانوار ، ج ٩٣ ، ص ٢٢٣ ؛ اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٠٧.

٤١
٤٢

صفات الله تعالى

١ ـ صفات ذات الله

أ) صفات جمال الله

ب) صفات جلال الله

٢ ـ صفات فعل الله

٤٣
٤٤

أقسام صفات الله تعالى

كما هو المتعارف فإنّ صفات الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين :

«صفات الذات» ، و «صفات الفعل».

وصفات الذات تنقسم إلى قسمين أيضاً : صفات الجمال ، وصفات الجلال.

والمراد من صفات الجمال ، الصفات الثابتة له تعالى ، كالعلم والقدرة والأزليّة والأبدية ، لذا تُسمى «بالصفات الثبوتية». أمّا صفات الجلال فيُراد بها الصفات التي تتنزه ذاته المقدّسة عنها ، كالجهل والعجز والجسمانية وما شاكل. لذا تُسمى بـ «الصفات السلبية». وكلا النوعين يسميان بصفات الذات ، وبغض النظر عن أفعاله سبحانه فهي قابلة الإدراك (أي يُمكن إدراكها).

ويقصد بصفات الفعل الصفات التي لها علاقة بأفعال الله ، أي لا تطلق عليه قبل صدور فعل منه ، وبعد صدوره يُتصف بها كالخالق والرازق والمحيي والمميت.

ونؤكد مرّة اخرى بأنّ صفات ذاته وصفات فعله لامتناهية ، لأنّ كمالاته غير متناهية ، وكذلك أفعاله ومخلوقاته لامتناهية ولا محدودة أيضاً.

ولكن مع هذا فإنّ قسماً من هذه الصفات يُعدُّ أساساً لبقية الصفات ، والصفات الأخيرة تعتبر فروعاً ، وبالالتفات إلى هذه النقطة يمكن القول : بأنّ الصفات الخمس التالية تُعدُّ أصلاً لجميع الأسماء والصفات الإلهيّة المقدّسة ، وما سواها تعدّ فروعاً لها ، وهذه الصفات الخمس هي :

(الوحدانيّة ، العلم ، القدرة ، الأزليّة ، الأبديّة).

* * *

٤٥
٤٦

أ) صفات جمال الله

(العلم ـ القدرة ـ الأزليّة ـ الأبديّة)

ونظراً لما قلنا آنفاً ، نحاول الآن شرح هذه الصفات الأساسيّة الخمس ، وبما أننا شرحنا الوحدانيّة سابقاً فإننا سنتعرض إلى شرح الصفات الأربع المتبقيّة.

٤٧
٤٨

١ ـ علم الله المطلق

تمهيد :

إنّ من أهم صفات الله سبحانه وتعالى بعد التوحيد تتمثل في علمه اللامحدود وإحاطته بكافة أسرار عالم الوجود المترامي الأطراف ، وذاته المقدّسة ، فلا تخفى عليه خافية ولا شاردة ولا واردة ولا ذرة في هذا العالم الواسع.

لقد أحاط علمه ـ جلّ وعلا ـ بكل قطرة غيثٍ تنزل من السماء ، وبكل زهرة تتفتح في أغصان الأشجار ، وبكل حبّة في ظلمات الأرض ، وبكل موجود وكائن حي يسبح في أعماق البحار العميقة المظلمة ، وبكل شهاب يضيء وينطفي في هذه السماء الواسعة ، وبكل موجٍ يرتفع ويهدر على سطح المحيطات ، وبكل نطفةٍ تنعقد في ظلمات الرحم ، وبالتالي بكل فكرةٍ تخطر على بال أحد.

وعلمه بالأزل والأبدِ واحد ، وإحاطته العلمية بملايين مليارات السنوات الماضية والمستقبلية كإحاطته بالحاضر ، وبحضوره في كل مكانٍ وزمان فلم يبق للبعيد والقريب والماضي والحاضر والمستقبل معنىً ، فجميعها متساوية لديه جلّ شأنه.

هذه هي الحقيقة التي تُنتقى من مجموع الآيات القرآنية ، والتفكرّ بها له أثر كبير في عقائدنا وأعمالنا. وبعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات القرآنية التالية :

١ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ). (البقرة / ٢٣١)

٢ ـ (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَو تُبدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّماواتِ وَمَا فِى الأَرضِ). (آل عمران / ٢٩)

٣ ـ (وَهُوَ اللهُ فِى السَّماواتِ وَفِى الأَرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَاتَكْسِبُونَ). (الانعام / ٣)

٤٩

٤ ـ (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَايَعلَمُهَا إِلّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلّا يَعلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ). (الانعام / ٥٩)

٥ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلّامُ الغُيُوبِ). (التوبة / ٧٨)

٦ ـ (وَمَا تَكُونُ فِى شَأنٍ وَمَا تَتلُوا مِنهُ مِنْ قُرآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلّا كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعزُبُ عَن رَّبِّكَ مِنْ مِّثقَالِ ذَرَّةٍ فِى الأَرضِ وَلَا فِى السَّمَاءِوَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ). (يونس / ٦١)

٧ ـ (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرضِ وَمَا يَخرُجُ مِنهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعرُجُ فيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (الحديد / ٤)

٨ ـ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ). (الملك / ١٤)

٩ ـ (وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأَرضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ). (لقمان / ٢٧)

١٠ ـ (إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدرِى نَفسٌ بِأَىِّ أَرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ). (لقمان / ٣٤)

١١ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ* وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالأَرضِ إِلّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ). (النمل / ٧٤ ـ ٧٥)

١٢ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأَنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسوِسُ بِهِ نَفسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبلِ الوَرِيدِ). (ق / ١٦)

شرح المفردات :

«العلم» : في الأصل بمعنى إدراك حقيقة شيء معين ، وهو على نوعين ، إدراك ذات الشي ، وإدراك صفات الشيء ، والأول يتعدّى إلى مفعولٍ واحد كقولك : (علِمْتُهُ) ، والثاني يتعدّى إلى مفعولَين ، كقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمتُمُوهُنَّ مُؤمِناتٍ). (الممتحنة / ١٠)

٥٠

ومن جهةٍ اخرى فإنّ العلم على قسمين : لأنّه تارة يراد منه الجانب (النظري) وهو ما يرتبط بالمسائل الفكريّة والعقائديّة ، وأحياناً اخرى الجانب (العملي) وهو ما يرتبط بالمسائل العمليّة كالعبادات والمسائل الاجتماعيّة.

ومن جهة ثالثة أيضاً يُقسَّمُ العلم إلى قسمين : (عقلي) و (سمعي) ، فالأول يُسْتحصل بالدليل العقلي ، والثاني من لسان الوحي ، وقد ورد في مقاييس اللغة بأنّ العلم في الأصل بمعنى ذلك الأثر الذي بواسطته يُعرف شيء معين ، لذا فقد وردت كلمة (التعليم) بمعنى وضع العلامات وكلمة (العَلَمْ) بمعنى الراية.

«علّام» : ـ على وزن جبّار ـ وعلّامة كلاهما تعنيان العالِم الغزير العلم.

و «العلَمْ» : ـ على وزن قَلمْ ـ ورد بمعنى الجبل الشاهق أيضاً ، و (العَيْلَم) بمعنى البحر أو البئر الملي بالمياه ، كان هذا مجمل ما قاله المحققون حول تفسير كلمة (العِلْم).

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

الله عزوجل عالم بكل شيء :

بيّنت الآية الأولى بتعبيرٍ مختصر وذي معنى أنّ الله بكل شيء عليم ، بدون استثناء ، فقالت : (وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ).

وقد تكرر هذا التعبير والتأكيد ، في أكثر من عشر مّرات في السور القرآنية المختلفة ، بنفس هذه العبارة أو بعبارات مشابهة لها ، وهو يمثل أصلاً قرآنياً كلياً في وصف علم الله.

إنّ هذه العبارة من هذه الآية ـ التي هي محلُّ بحثنا ـ قد وردت بعد أن ذكرت قسماً من حقوق النساء والأحكام الإلهيّة الخاصة بها ، والتي ورد فيها تحذير لذوي الاغراض الخبيثة الذين يرومون استغلال هذه القوانين الإلهيّة بصورة سيئة ، وقد بيّن القرآن هذه الجملة في آيات اخرى أيضاً بعد تذكيره بضرورة التزام التقوى أو أحكامٍ اخرى ، أو ذكره لبعض الصفات الإلهيّة وما شاكل ذلك ، كل هذا من أجل بيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ الأحكام التي

٥١

وضعها الله حكيمة وذات مصالح وأغراض وفلسفة معينة من جهة ، وأيضاً فإنّها تحذير لجميع المتخلفين عنها ، الذين يعلم الله أعمالهم ونيّاتهم من جهة اخرى ، والأثر التربوي لهذا الاعتقاد بالنسبة للإنسان واضحٌ ، فمن البديهي أنّ الذي يعلم ويدرك بأنّ الأمر صادرٌ ممن أحاط علمه بجميع أسرار الوجود وكل ما يحتاجه الإنسان ، وكذلك يعلم أنّ من يراقبه عالم بكل شيء ، فمن البديهي أن لا يجيز لنفسه ارتكاب أدنى مخالفة.

* * *

يعلَمُ نيّاتكم :

تحدثت الآية الثانية عن اطلاع الله سبحانه على نيّات البشر ، وعلى أسرار جميع موجودات عالم الوجود ، فقالت : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَو تُبدُوهُ يَعلَمْهُ اللهُ).

وكذلك : (وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّماوَاتِ وَمَا فِى الأَرضِ).

فهذه الآية أيضاً تحذّر الناس من التهرّب من إنجاز وظائفهم ومسؤولياتهم باختلاق حُجج مختلفة (كحجة التقيّة التي ورد ذكرها في الآية التي سبقتها) ، لأنّ الذي يحاسبهم لا يعلم أسرارهم التي يضمرونها في قلوبهم وما في صدورهم فحسب ، بل يعلم جميع أسرار السموات والأرض.

ولقد ورد نفس هذا المفهوم والمعنى في سورة البقرة أيضاً ، لكنّه ـ سبحانه ـ قال هناك : (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ). (البقرة / ٢٨٤)

ومن المسُلم به هو أنّ المحاسبة فرع من العلم والاطلاع ، وتعبير (صدور) الذي ورد في الآية السابقة بمعنى النفوس بقرينة هذه الآية ، ثم أنّ وقوع القلب في الصدر ، ووجود علاقة وثيقة بين ضربات هذا القلب وبين بقاء الإنسان على قيد الحياة ، علاوة على أنّ أي تغيير نفسي يترك أثراً في القلب ، كان استعمال القرآن الكريم في آياته لكلمة (القلب) كناية عن الروح والنفس.

وبتعبير آخر ، فإنّ أي انفعال نفسي وروحي يقع للإنسان ، من قبيل الميول والاغراض

٥٢

الحب والبغض ، الفرح والحزن ، الخوف والهلع ، الهدوء وراحة البال ، الجهر والأسرار ، سوف تكون له آثار مادية على القلب أولاً ، ويكون لهذه الآثار ردود فعل من بينها زيادة أو قلّة ضربان القلب ، هدوء القلب أو اضطرابه واختلال في ضغط الدم ، كل ذلك استجابة للحالة الروحية التي يتعرض لها الإنسان.

وبغير ذلك فمن البديهي أنّه لا القلب مركز الاحساسات الروحية ولا الصدر ، ولا حتّى الدماغ ، وجميع هذه الامور ترتبط بروح الإنسان التي ما وراء هذه الأعضاء ولهذا فقد قيل : إنّ القلب قد يأتي بمعنى العقل أحياناً (١).

* * *

يعلم السر والجهر :

الآية الثالثة ـ علاوة على ما ورد في الآيات السابقة ـ تتعرض إلى مسألة علم الله بأعمال الإنسان بشكل خاص ، حيث قالت : (وَهُوَ اللهُ فِى السَّمواتِ وَفِى الأَرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ).

وقد أوضح القسم الأول من الآية حضور الله في كل نقطة من عالم الوجود ، أمّا القسم الثاني فقد ذكر علمه سبحانه ، والقسم الثالث إحاطته جلّ وعلا بأعمال الناس وهي بصورة عامّة انذار لجميع الناس (٢).

ومن البديهي أنّ المقصود من حضوره ـ جلّ وعلا ـ في السموات والأرض لا يُراد منه الحضور المكاني ، لأنّه ليس جسماً ليحل بمكان ، فحضوره بمعنى الإحاطة الوجودية ، فهو سبحانه قد أحاط بكُلّ شيء علماً ، وكل شيء حاضر عنده.

وأمّا معنى قوله تعالى «ويعلم ما تكسبون»؟ فقد قال بعض المفسرين : بأنّه دليل على

__________________

(١) لزيادة التوضيح راجع التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٧ من سورة البقرة.

(٢) تفسير المنار ، والمراغي ، في ذيل الآية مورد البحث.

٥٣

اطلاع الله على السر والجهر (١) (الباطن والظاهر) ، وبتعبير آخر اطلاعه على النيات القلبية والأعمال الظاهرية ، وقال الآخرون بأنّها إشارة إلى حالات وصفات روحية ومعنوية يبلغها الإنسان بأعماله ، وعليه فهي ذات مفهوم جديد مغاير للسّر والجهر (٢).

وقال آخرون أيضاً : «السّر هذا بمعنى النيّات والجهر بمعنى الحالات وما تكسبون بمعنى الأعمال» (٣).

إنّ هذه التفاسير الثلاثة مناسبة كلها ، ولكن من خلال تتبع موارد استعمال مادة «كسب» في القرآن الكريم ، فإنّ التفسير الثالث يعتبر أقرب إلى الصواب.

* * *

وعنده مفاتح الغيب :

بيّنت الآية الرابعة سعة علم الله اللامحدود بتعابير لطيفة اخرى مع ذكر شيء من التفصيل ، فقالت أولاً : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيبِ لَايَعلَمُهَا إِلَّا هُو).

ثم أشارت إلى جوانب من الغيب فقالت : (وَيَعْلَمُ مَا فِى البَرِّ وَالبَحْرِ) و : (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرضِ) ، حتى قال في كلمة شاملة ورائعة : (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبينٍ).

تُعدّ هذه الآية الشريفة من أشمل الآيات القرآنية التي تحدثت عن علم الله اللامتناهي باسلوب دقيق جدّاً.

فابتدأت من علم الغيب إلى ما في البر وأعماق البحر وما تسقط من الأشجار من أوراق ، ثم الحبات الخفية في ظلمات الأرض والبراري والجبال والأودية والغابات ، التي تنتظر الغيث لتنبت ، فعدتها جميعا ضمن دائرة علم الله المطلق.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٧ ، ص ٧٩.

(٢) تفسير الميزان ، ج ٧ ، ص ٩.

(٣) تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٢٧٤.

٥٤

لو أمعنا النظر في مفاهيم هذه الآيات وتصورنا آلاف الملايين من الكائنات الحية الموجودة في البر والبحر بأنواعها العجيبة المذهلة. ولو تصورنا مجموع أشجار الكرة الأرضية مع جميع أوراقها وعدد مايسقط منها في كل يومٍ وكل ساعة وكل لحظة ، والمكان الذي تسقط فيه ، وكذلك لو تصورنا مجموع حبوب النباتات التي تنتقل على سطح الأرض ـ بواسطة البشر ، والرياح وأنواع الحشرات والسيول وماشاكل ذلك ـ وتنتظر دورها في ظلمات الأرض للإنبات والنمو ، وعلمنا بأنّ الله سبحانه وتعالى قد أحاط علماً بجميع هذه الامور وبجميع مشخّصاتها وجزئياتها ، لأدركنا سهولة إحاطته تعالى بأعمالنا.

لقد فسّرت روايات عديدة ، منقولة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، «ظلمات الأرض» بالرحم و «الحبة» بمعنى الولد ، و «الورقة» بمعنى الأجنة الساقطة ، و «الرطب» بمعنى النطف التي تعيش و «اليابس» بمعنى النطف التي تموت وتجف.

وأشار بعض مفسّري أهل السنة كالآلوسي في كتابه (روح المعاني) إلى هذا الحديث بتعجب ، واعتبره على خلاف ظاهر الآية.

صحيح أنّه وبالنظرة الاولى يبدو من ظاهر الآية أنّها تُشير إلى حبّات النباتات ، لكن الحديث أعلاه أشار إلى مفاهيم تستنبط من هذه الآية بالدلالة الالتزامية ، لأنّه لا يوجد تفاوت جذري بين النطفة والحبّة ، وهكذا بين باطن الأرض وظلمات الرحم ، والعالم بالاولى هو عالم بالثانية بسهولة لأنّهما متشابهتان مع بعضهما (١).

وعلاوة على ذلك فإنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام كانوا يعلمون باطن القرآن كظاهره ، وهذا التفسير يحتمل أن يكون جزءاً من الباطن.

وقد فسّر المفسرون الرطب واليابس بمعان كثيرة ، منها أنّهم قالوا : بأنّ الرطب بمعنى الكائن الحي : واليابس بمعنى الميت ، أو الرطب بمعنى المؤمن ، واليابس بمعنى الكافر ، أو الرطب بمعنى الكائن الحي ، واليابس بمعنى الجماد ، أو الرطب بمعنى العالم ، واليابس بمعنى الجاهل (٢).

__________________

(١) ورد في تفسير البرهان خمسة أحاديث في هذا المجال منقولة عن الإمام الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام.

(٢) تفسير روح البيان ، ج ٣ ، ص ٤٤ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٧ ، ص ١٤٩.

٥٥

لكن الظاهر أنّ هذا التعبير كناية عن العموم والشمول في عالم المادة ، كما يستعمل أحياناً في التعابير اليومية التي تحتاج إلى هذا المعنى.

* * *

إنّه علّام الغيوب :

تشير الآية الخامسة ـ بقرينة الآيات السابقة لها إلى المنافقين ، فتقول : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) و : (أَنَّ اللهَ عَلَّامُ الغُيُوبِ).

وتعبير «علّام الغيوب» تعبير جديد يمر علينا في هذه الآية ، ونظراً لكون «علّام» صيغة من صيغ المبالغة ولفظ «الغيوب» لفظاً عاماً ، فإنّه يشمل جميع خفيات عالم الوجود بأكمله وعالمي الطبيعة وما وراء الطبيعة.

واللطيف هو أنّ جميع الآيات القرآنية التي تناولناها في بحثنا لحد الآن حول علم الله ، وردت كتحذير للناس لكي يراقبوا أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم ، أي أنّها أشارت إلى المسائل التربوية قبل كل شيء.

«النجوى» : من نجوة و «نجاة» في الأصل بمعنى المكان المرتفع ، ومن حيث إنّ الشخص إذا أراد أن يحدث صاحبه بسرّ معين فانّه ينفرد به في مكان منعزل ، فإنّ هذه الكلمة وردت هنا بمعنى الهمس في الاذن.

* * *

موجودٌ في كل مكان :

تحدثت الآية السادسة في البداية عن شهادة الله على أعمال وأقوال وحالات الإنسان ، ثم عن سعة علمه واحاطته بكل شيء في الوجود ، وفي الحقيقة فإنّ لهاتين المسألتين ارتباطاً لطيفاً مع بعضهما ، قال سبحانه : (وَمَا تَكُونُ في شَأنٍ وَمَا تَتلُوامِنهُ مِنْ قُرآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذ تُفيضُونَ فِيهِ) (١).

__________________

(١) ذكر المفسّرون ثلاثة احتمالات حول مرجع ضمير (منه) : الأول أنّه يعود إلى (الله) والثاني ضمير (الشأن) ـ

٥٦

والجدير بالذكر هو أنّ المخاطب في الجملتين الأوليتين هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث أشارت إلى الشأن ، (أي الحالات والأعمال المهمّة) ، وتلاوة القرآن الكريم ، أمّا المخاطب في الجملة الثالثة التي تحدثت عن مطلق الأعمال ، فهم الناس بأجمعهم.

وعلى أيّة حال ، بما أنّ المخاطب في بداية الآية هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الذيل هم جميع الناس ، فانّها تدل على العموم والشمول.

وعلاوة على ذلك فهي تشمل حالات الإنسان وأقواله وأعماله (الاستناد إلى تعابير الشأن والتلاوة والعمل).

و «الشهود» : جمع «شاهد» ، وهو بمعنى الحاضر والناظر والمراقب (واستعمال صيغة الجمع بخصوص الباري ـ كما وضّحنا هذه المسألة كراراً ـ إنّما هو كناية عن عظمته وعلو مقامه سبحانه وتعالى) ، ولهذا التعبير مفهوم أوسع من مفهوم العلم ، وهو في الواقع يشير إلى حقيقة كون علم الله علماً حضورياً ، وسنشرح ذلك في قسم التوضيحات.

«تفيضون» : من «الافاضة» وهي في الأصل بمعنى امتلاء الإناء بالماء بحيث ينساب من حافته ، وهذه الكلمة تستعمل بمعنى الشروع بالأعمال باقتدار أو بصورة جماعة ، وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى أيضاً.

ثم أضاف سبحانه قائلا : (وَمَا يَعزُبُ عَنْ رَّبِّكَ مِنْ مِّثقَالِ ذَرَّةٍ فِى الأَرضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ).

«يعزب» : من «العزوب» ـ على وزن «غروب» ـ وهو بمعنى البعد والانزواء والغيبة ، وقال بعض اللغويين والمفسّرين : بأنّه بمعنى الابتعاد عن العائلة وفراق الأهل لتحصيل مرتع للمواشي ، ويُطلق «عزبْ» و «عازب» على كل من يبقى بعيداً عن أهله ، أو كل من لم

__________________

ـ والثالث على (القرآن) لكننا نعتقد بأنّ الاحتمال الأول أقوى ، ويصير مفهوم الآية كالتالي : (وما تتلو أيّ قسمٍ من القرآن عن الله عزوجل إلّا ....) والدليل على هذا التفسير هو الآية السابقة لهذه الآية والتي تقول : (ما معناه) (بأن ما كان ينسبه الكفار إلى الله تعالى إنّما هو كذب وافتراء) فقالت هذه الآية : بأنّ نبي الإسلام منزّه عن القيام بمثل هذه الأعمال وأنّ جميع ما يخبر به هو من عند الله.

٥٧

يتزوج أيضاً ، وكذلك يُطلق على أي لون من الفراق والغيبة (١).

ويعد هذا التعبير في هذه الآية إشارة لطيفة إلى حضور جميع الأشياء بين يدي الله ، فحقيقة علم الله هو هذا «العلم الحضوري ، كما سنذكره فيما بعد.

وكما قلنا سابقاً فإنّ المقصود من «الكتاب المبين» هو علم الله الذي يعبَّر عنه بـ «اللوح المحفوظ» أيضاً ، «والمثقال» معناه ، «الوزن» و «الذرة» فسرت بعدة وجوه منها : الديدان الصغار والغبار الذي يلتصق باليد ، وذرّات الغبار العالقة في الفضاء والتي تُرى عندما تدخل أشعة الشمس في الغرفة المظلمة ، وأيا كان من هذه التعابير فإنّه كناية عن منتهى الصغر والدقة في الحجم وتلويح بسعة علم الله سبحانه وتعالى.

* * *

وهو معكم اينما كنتم :

في الآية السابعة نلاحظ نقطتين جديدتين في مجال علم الله : (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرضِ وَمَا يَخرُجُ مِنهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعرُجُ فِيهَا).

وعليه فهو يعلم بكل مايلجُ في الأرض من جميع بذور النباتات وقطرات الغيث وجذور الأشجار والمعادن والذخائر والكنوز والدفائن وأجساد الموتى وأنواع الحشرات التي تتخذ من أعماق الأرض بيوتاً لها.

وكذلك يعلم بكل النباتات التي تنبت في الأرض وتخرج منها ، والكائنات الحيّة التي تخرج منها ، والمعادن والكنوز التي تظهر ، والمواد المنصهرة التي تخرج من بطون الأرض على صورة براكين ، وعيون الماء الصافية أو المياه المعدنية الساخنة التي تنبع من الأرض ، وأشعة الشمس الحيوية ، وقطرات الغيث التي تسقط من السماء ، والشُهُب والنيازك والحبّات التي تنقلها الرياح من مكان إلى آخر ، وكذلك يعلم بما يعرج إلى السماء من الملائكة وأرواح الناس ، وأنواع الطيور والغيوم التي تتكوّن من مياه المحيطات والبحار.

__________________

(١) مقاييس اللغة ؛ مفردات الراغب ؛ لسان العرب.

٥٨

وبالتالي فهو سبحانه قد أحاط علماً بأدعية وأعمال الناس التي تعرجُ إلى السماء.

ولو أمعنا النظر في هذه الحقيقة أي بأنواع الكائنات الموجودة في هذه العناوين الأربعة ، لأدركنا عظمة وسعة علم الله.

والنقطة الاخرى هي قوله سبحانه في نهاية الآية : (وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ).

فما أجمله وألطفه من تعبير؟ إنّه تعالى يقول : إن كان الحديث في بداية الآية عن علم الله بمختلف الموجودات الأرضية والسماوية فإنّ هذا لا يعني أبداً أن تعبدوهُ بعيداً عنكم ، فإنّه معكم أينما كنتم ، وهو يرى أعمالكم ، فإنّه لم يقل : «يعلم» بل قال : «بصير» وهذا دليل على الحضور والمشاهدة.

واللطيف في هذه الآية هو الاستعانة بمسألة علم الله لتربية الإنسان أيضاً.

فمن جهة تقول ـ هذه الآية ـ للإنسان : إنّك لست وحيداً فهو تعالى معك أينما كنت ، فتمنح بذلك لروحه السكينة ، ولقلبه الصفاء ، ومن جهة اخرى تقول له : أنت بين يدي الله والعالم كُله في قبضته فراقب أعمالك جيداً. وبهذا الترتيب تجعله دائماً بين الخوف والرجاء.

ومن البديهي فإنّ هذه المعيّة لا تعني الحضور المكاني بل هي إشارة إلى احاطة علم الله بكل شيء.

* * *

الخالق عليم بخلقه :

جاءت الآية الثامنة باستدلال واضح ، ملموس لإثبات علم الله المحيط بكل شيء وبجملة مختصرة وغنية جدّاً ، كما هو شأن القرآن الكريم ـ حيث قال تعالى : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ) (١).

__________________

(١) يوجد احتمالان في معنى هذه الجملة في الآية الشريفة ، الأول : أن تكون (من) فاعل ل (يعلم). والآخر : أن ـ

٥٩

لو أردنا أن نشرح هذا الدليل بشكل بسيط نقول : بأنّ نظام موجودات الكون يدلّ على أنّها ـ الموجودات ـ خلقت وفق خطة وأهداف معينة وبرنامج دقيق ، وعليه فإنّ خالق هذه الموجودات يعلم بجميع أسرارها حتى قبل خلقها.

ولو التفتنا إلى مسألة ديمومة واستمرار خلق الله ، وأنّ جميع الممكنات مرتبطة مع واجب الوجود في الوجود وفي البقاء ، وفيض الوجود يفيض من ذلك المبدأ الفيّاض على المخلوقات في كل آن ، لأدركنا بأنّ علمه وإحاطته بجميع موجودات عالم الوجود دائم وسرمدي وفي كُل مكان وزمان ، فتأمل.

والجدير بالالتفات هو أنّ الآية ابتدأت باستفهام استنكاري ، فهي تطلب الإجابة من سامعها ، أي أنّ الموضوع بدرجة من الوضوح بحيث إنّ كل من يراجع عقله ووجدانه يعلم أو يدرك بأنّ الخالق لأي شيء خبير به حتماً (١).

و «لطيف» : من ماة «لطف» ، وهو هنا بمعنى خالق الموجودات اللطيفة والأشياء الظريفة والدقيقة جدّاً ، أو بمعنى من أحاط بها علماً.

وقالوا أيضاً في معنى الخبير : بأنّه من يعلم بالأسرار الخفية ، ووصفه تعالى بهاتين الصفتين تلويح عن علمه بأسرار الكون ورموزه الخفية.

والجدير بالملاحظة هو أنّ الله قد خاطب الناس قبل هذه الآية فقال : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُم أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). (الملك / ٣)

ثم طرح الاستدلال المذكور أعلاه لإثبات هذه القضية. وعليه فإنّ الاستناد إلى هذه الآية في الاستدلال على إثبات علم الله سبحانه يدلّ على أثرها التربوي أيضاً.

يتّضح ممّا قِيل حول تفسير هذه الآية بأنّ مفهومها واسع جدّاً ، وينبغي أن لا تحدد بعلم الله بأعمال الناس ونيّاتهم وعقائدهم فحسب ، بل هي في الحقيقة دليل كُلي ومنطقي على علم الله ، وقد جاءت لتوضيح جانب تربوي معين.

__________________

ـ تكون (من) مفعولاً وفاعله ضمير مستتر يعود على (الله). ففي الصورة الاولى يكون معنى الآية هكذا : «هل أنّ الخالق لا يعلم؟» وفي الصورة الثانية يكون المعنى «هل أنّ خالق الكائنات لا يعلم بها» والنتيجة واحدة بالرغم من أنّ الأول أقرب.

(١) الاستفهام الاستنكاري يعطي معنى النفي ، ووجود لا النافية في الآية يصبح نفي النفي إثبات.

٦٠