تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))

البيان : ان شطر الآية الاولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الارض واجبا ثقيلا بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها ، ويفردها بمكان خاص ، لا تبلغ اليه جماعة اخرى.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، ان التعبير بكلمة (أُخْرِجَتْ) المبني لغير الفاعل ، تعبير يلفت النظر ، وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة ، تخرج هذه الامة اخراجا وتدفعها الى الظهور دفعا. لتكون طليعة ، ولتكون لها القيادة ، بما انها هي خير امة ، والله يريد أن تكون القيادة للخير ، وفي أول مقتضيات هذا المكان ، ان تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد ، وان تكون لها القوة التي تمكنها من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهي خير أمة أخرجت للناس.

واقامتها على المعروف هو النهوض بتكاليف الامة الخيرة ، بكل ماوراء هذه التكاليف من متاعب ، ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة.

فلا بد من الايمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر ، وهذا يستند الى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الاجيال.

وهذا ما يحققه الايمان باقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه ، وللانسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون ، ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الاخلاقية ، وفي القرآن المجيد مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة ، تأتي ان شاء الله في مواضعها.

٢٦١

عن النبي ص وآله : لما وقعت بنو اسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم (ع). ثم جلس ـ وكان متكئا فقال : لا والذي نفسي بيده حتى تلزموهم بالحق).

وعنه ص وآله : والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله ان يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً)

البيان : وهكذا ترسم هذه الحقيقة في مشهد ينبض بالحركة ويفيض بالحياة على طريقة التعبير القرآني الجميل ، ان الاموال والاولاد ليست بمانعتهم من الله ، ولا تصلح فدية لهم من العذاب ولا تنجيهم من النار ، وهذا الانذار عام وليس بمختص باليهود والنصارى ، بل يشمل المشركين والمسلمين على حد سواء ، فأهل العصيان والاجرام ليس مصيرهم الا الى النار وبئس القرار.

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ ، وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ، فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر فيجعلها خطا مستقيما ثابتا واصلا.

وأهل الكفر والعصيان ، هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود بين العباد وبين الله القوي الغني ، وهما كتاب الله وعترة الرسول وهم الحجج على الخلق أجمعين.

وهكذا يتقرر ان لا جزاء على بذل ، ولا قيمة لعمل ، الا ان يرتبط بمنهج الايمان بالله والولاء لأهل بيت العصمة والعمل الصالح ، يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى حجة لمخلوق أو معذرة لانسان.

٢٦٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ

قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))

البيان : انها صورة كاملة السمات ، ناطقة بدخائل أهل الضلال ، تسجل مشاعرهم الباطنة ، وتسجل بذلك كله نموذجا بشريا مكرورا في كل زمان ومكان.

وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن المجيد ، هذا الرسم العجيب ، كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب من نصارى ويهود ، وترسم صورة قوية للغيظ الذي كانوا يضمرونه للاسلام والمسلمين.

في الوقت الذي كان بعض المسلمين مخدوعا بهم ، فجاء هذا التنوير والتحذير ، يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الامر ، ويوعيها من كيد المجرمين ، ولم يجيء هذا التنوير والتحذير ، ليكون مقصورا على فئة خاصة أو زمان خاص فهو حقيقة دائمة تواجه واقعا دائما ، كما ترى مصداقه في عصرنا الحاضر.

وها هو ذا كتاب الله يعلمنا ـ كما أعلم الجماعة المسلمة الاولى ـ كيف تتقي كيدهم وندفع أذاهم. فيقول عزوجل : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ، إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

اذن فهو الصبر والعزم والصمود على التقوى والتمسك بحبل الله المتين ، وحصنه الحصين ، هو التقوى لله التي تربط القلوب بالله ، فلا

٢٦٣

تلتقي مع أحد الا في منهجه ، ولا اعتصام الا بحبله وعروته الوثقى والركوب في سفينة أهل بيت نبيه (ع) الذين من تبعهم وسار على خطهم فاز ونجى ، ومن تركهم وخالفهم غرق في مهاوي الضلال وهوى.

هذا هو طريق الصبر والتقوى ، وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها وحققوا منهج الله في حياتهم كلها ، الا عزوا وانتصروا ، ووقاهم الله كيد أعدائهم ، وكانت كلمتهم العليا.

وما ترك المسلمون ذلك ومالوا الى اليمين واليسار ، الا كتب الله عليهم الخذلان والخسران والتاريخ كله شاهد عيان : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) الدنيا (أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢))

البيان : هاتان الآيتان نزلتا في وقعة أحد ويمكن لمن يريد الاطلاع على التفاصيل في الجزء (٢ ص ٩٢).

هكذا يبدأ باستعادة المشهد الاول للمعركة واستحضاره ، وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين ، الاولين بهذا القرآن ، ومن ذكرتهم ، ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو وبهذا النص من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته ، وبكل حيويته ، وأولها حقيقة حضور الله سبحانه معهم وسمعه وعلمه بكل ما كان ومادار بينهم ، وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الاسلامي ، وهي الحقيقة الاساسية الكبيرة ، التي أقام عليها الاسلام منهجه التربوي ، والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الاسلامي ، الا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها. (وَإِذْ غَدَوْتَ ...) والاشارة هنا الى النبي ص وآله ، وقد لبس لامته ودرعه ، وبعد التشاور في الأمر

٢٦٤

وما انتهى اليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها ، وما أعقب ذلك من تنظيم رسول الله ص وآله ، ومن أمر الرماة باتخاذ موقفهم على الجبل ، وهو مشهد يعرفونه ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

فيا له من مشهد الله حاضره ، والله شاهده ، ويالها من رهبة ومن روعة تحف به وتخالط كل مادار فيه من تشاور ، والسائر مكشوف فيه لله عزوجل ، وهو يسمع ما تقوله الالسن وتكنه الضمائر.

واللمسة الثانية هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين تفشلا ، حين انفصل عبد الله بن ابي بثلث الجيش مغضبا حيث أن رسول الله ص وآله لم يأخذ برأيه.

والطائفتان هما بنو سلمة ، وبنو حارثة ، فكادتا تنفصلا عن المسلمين لو لا ان أدركتهما ولاية الله وتثبيته ، كما أخبر النص القرآني (وَاللهُ وَلِيُّهُما) راجع بالتفصيل الجزء الثاني ص ٢٩ ، ماذا في التاريخ.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))

البيان : اما النصر فكان فيه رائحة المعجزة ـ كما أسلفنا ـ فقد تم بغير أداة من الادوات المادية المألوفة للنصر ، فبهذا يذكرهم الله سبحانه ويرد النصر الى سببه الاول : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) ..

٢٦٥

ان الله هو الذي نصرهم فاذا اتقوا وخافوا ، فليتقوا وليخافوا الله وحده الذي بيده الأخذ والعطاء فالان يعلمهم الله أن مرد الامر كله اليه ، وان الفاعلية كلها منه سبحانه ، وان نزول الملائكة ليس الا بشرى لقلوبهم لتأنس بهذا وتستبشر وتطمئن به ، اما النصر فمنه مباشرة ، ومتعلق بقدره وارادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ).

وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الامر كله الى الله ، كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الاصيلة : قاعدة رد الامور جملة الى مشيئة الله عزوجل الطليقة ، وارادته الفاعلة وقدرته المباشرة ، وتنحية الاسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة ، وانما هي أداة تحركها المشيئة وتحقق بها ما تريد وجوده أو عدمه ، عطاءه أو حرمانه ، نصره أو خذلانه ، لا غير كن فيكون.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وقد حرص القرآن المجيد على تقرير هذه القاعدة في التصور الاسلامي. وعلى تنقيتها من كل شائبة ، وعلى تنحية الاسباب الظاهرة والوسائل والادوات ، عن أن تكون لها أدنى دخل في الفاعلية التي يريد الله العزيز الحكيم ، لتبقى الصلة المباشرة بين الخالق والمخلوق ، بين القلوب ومالكها ومحركها ، بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط ، كما هي في عالم الحقيقة.

(إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) س ٢ ١٧ ي

وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن المجيد ، المؤكدة بشتى أساليب التوكيد ، استقرت هذه الحقيقة في قلوب المسلمين ، على نحو بديع هادىء عميق مستنير ثابت تزول الجبال ولا يزول.

لقد عرفوا ان الله عزوجل هو الفاعل وحده لما يشاء ، وعرفوا كذلك انهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والاسباب ـ التي هو

٢٦٦

جعلها وأمرهم بالاخذ بها ـ وبذل الجهد والوفاء بالتكاليف فريضة منه فاستيقنوا الحقيقة ، وأطاعوا الامر في توازن شعوري وحركي عجيب.

فهو العزيز القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر ، وهو الحكيم الذي يجري قدره وفق حكمته ، فلا هم اسباب هذا النصر وصانعوه ، ولا لهم دخل في تحقيقه ، وان هم الا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء ، وكأنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله. لتحقيق حكمة الله من وراء قصده.

فان انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة ، وقد يقودهم الى الايمان والتسليم ، فيتوب الله عليهم بعد كفرهم ويختم لهم بالاسلام والهداية ، و (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). والباب مفتوح امام جميع العباد على حد سواء ، لينالوا مغفرته ورحمته ، بالعودة اليه ، ورد الامر كله له ، واداء الواجب المفروض ، وترك ماوراء ذلك لحكمة الله عزوجل ، ومشيئته المطلقة ، من وراء الوسائل والاسباب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))

البيان : لقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي ، بالتفصيل (البقرة آية ٢٧٥) فلا نكرر الحديث عنه هنا. ولكن نقف عند الاضعاف المضاعفة ، فان قوما يريدون في هذا الزمان ان يتوروا خلف هذا النص

٢٦٧

ويتداروا به : ان المحرم هو الاضعاف المضاعفة. أما الاربعة في المئة وما يقرب منها ، فليست محرمة.

ونبدأ فنحسم القول بان الاضعاف وصف لواقع ، وليست شرطا يتعلق به الحكم والنص ، الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا ، بلا تحديد ولا تقييد (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) أيا كان.

فاذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف لنقول : انه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا ، فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة ، والتي قصد اليها النهي هنا بالذات ، انما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت ، أيا كان سعر الفائدة فيه ومقدارها.

ان النظام الربوي معناه اقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة ومعنى هذا ان العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة ، فهي عمليات متكررة من ناحية ، ومركبة من ناحية أخرى فهي تنشأ مع الزمن والتكرار والتركيب اضعافا مضاعفة بلا جدال.

ان النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف ، فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب ، وانما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان.

ومن شأن هذا النظام ان يفسد الحياة النفسية والخلقية ـ كما فصلنا ذلك أيضا ـ ومن ثم تتبين علاقته بحياة الامة كلها ، وتأثيره في مصائرها جميعا.

والاسلام ـ وهو ينشىء الامة المسلمة ـ كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية ، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الامة ، معروف ، فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو اذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير.

٢٦٨

أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح ، واتقاء النار التي أعدت للكافرين اما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك ، وهو أنسب تعقيب ، انه لا يأكل الربا انسان يتقي الله ، ويخاف النار التي أعدت للكافرين ، ولا يأكل لربا انسان يؤمن بالله ، ولا يعزل نفسه من صفوف الكافرين.

والايمان ليس كلمة تقال باللسان ، انما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الايمان ، وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته.

ومحال أن يجتمع ايمان ونظام ربوي في مكان ، وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة ، وهناك النار التي أعدت للكافرين ، والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة الى تقوى الله ، والى اتقاء النار التي أعدت للكافرين ، ليس عبثا ولا مصادفة ، انما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين ، ولذا قال عزوجل (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله ، فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى ، ولتحقيق منهج الله في حياة الناس ، ولقد سبق الحديث في ما مضى ، عن فعل الربا فراجع (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية .. يصوره سباقا الى هدف يناله العاهل فهي الجنة والمغفرة ، (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) أي اسرعوا الى التوبة والانابة ، والندم علم ما حصل منهم والعزم على عدم العودة اليه ابدا.

٢٦٩

ان هذا الدين ليدرك ضعف الانسان البشري الذي قد تهبط به شهواته الى التسافل. وذل الخطيئة ، وتدفعه نزواته وشهواته الى المخالفة لأمر الله والخروج من حصنه الحصين ولكن لم يغلق الباب في وجهه ان اراد التوبة والندم والرجوع ، بل يقبله ويعفو عنه ان تاب توبة نصوحا. (ونعم أجر العاملين الذين ينفقون في السراء والضراء والله يحب المحسنين)

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))

البيان : والسنن التي يشير اليها السياق هنا ويوجه اليها أبصار الناظرين الذين تنفعهم العظة هي عاقبة المكذبين على مدار التاريخ ، ومداولة الايام بين الناس والابتلاء والتمحيص.

ومداولة الايام بين الناس والابتلاء والتمحيص ، لسرائر البشر وامتحان قوة الصبر على الشدائد واستحقاق النصر للصابرين ، والتدمير للمكذبين.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أهل الايمان هم في العلو الاعلى في نفوسهم وعقائدهم وان كانت أبدانهم مهانة أو مستعبدة ، فالعلو والسمو للنفوس فقط واما البدن فهو مادة حيوانية لا يجوز أن توصف بالاهانة والكرامة ، كبقية الحيوانات.

وهذا البيان انما يدركه وينتفع به المتقون ، فان الكلمة الهادية

٢٧٠

لا يستشرفها الا القلب المؤمن المفتوح للهدى ، والعظة البالغة الذي اذا التقى بالموعظة يبتهج وينشرح. ويستنير.

فالايمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة ، ثم يمضي السياق القرآني فيكشف عن الحكمة الكامنة وراء الاحداث في تربية الامة المسلمة. وتمحيصها واعدادها لدورها الاعلى. ولتكون أداة لمحق الكافرين والمنافقين ..

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))

البيان : الآية الاولى نزلت بعد معركة احد ، حينما انهزم الاصحاب عن النبي ص وآله وشاع بانه قتل ولم يبقى يدافع عنه سوى أسد الله الغالب علي بن ابي طالب (ع) وابو دجانة. وقد اصيب النبي ص وآله وكسرت رباعيته ، وبقي علي (ع) يدافع عنه وكل ما أقبلت كتيبة من الاعداء قال لعلي (ع) أكفني اياها فينحدر علي الى حامل رايتها فيقده نصفين ويرجع للنبي حتى قتل سبعة من حملة الالوية وانقطع سيفه فألقاه الى النبي ص وآله ، فاعطاه ذو الفقار ونزل جبرائيل يقول لا فتى الا علي ، ولا سيف الا ذو الفقار ، وقال للنبي انها المواساة. فقال ص وآله : انه مني وانا منه. فقال جبرائيل : وانا منكما.

٢٧١

وهذه الآية وان كانت قد نزلت بمناسبة موقعة أحد الا ان مصداقها الاهم والاولى هو الانقلاب الذي حصل لهؤلاء المنافقين بعد موت النبي ص وآله مباشرة ، فتركوه مسجى على فراشه بدون غسل ودفن وسارعوا الى عقد خلافتهم المبشومة التي اغتنموا فيها انشغال حيدر الكرار بتجهيز النبي المختار ومواراته في مقره الاخير. وأبرموا خلافتهم الضالة المضلة التي جلبت على الاسلام والمسلمين المصائب والويلات من ذلك العهد الى عصرنا هذا والى يوم القيامة سيبقى شرها وفسادها قائما لا ينتهي وفرقوا المسلمين شيعا وأحزابا ، وما كفاهم هذا الانقلاب وهذه الفضيحة لهم ، حتى أسرعوا يحملون الحطب لحرق بيت فاطمة على كل من فيه ـ ان لم يخرج علي ويبايع السامري ـ وفي البيت خير أهل الارض الذين باهل بهم النبي ص وآله نصارى نجران ، وأعلى بهم الله كلمة الاسلام وخذل المنافقين والكفار.

نعم أراد هؤلاء المنافقون أن يحرقوا بيت علي وبيت النبي وفيه أهل البيت الذي زكاهم وطهرهم من الرجز تطهيرا وأوجب حبهم ومودتهم على كل من أقر لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة.

نعم كان في البيت الذي أراد أهل السقيفة حرقه ، جميع بني هاشم ومعهم سلمان المحمدي وابو ذر والمقداد وعمار ، ومع هذا كله فقد أقدم ابن الخطاب على حرق هذا البيت على من فيه فقيل له ان في البيت فاطمه بنت النبي. قال : وان ، لان حب الرياسة أفقده جميع مداركه ، وحمل مع بقية المنافقين السلاح وكل من مر بهم أو رأووه خبطوه ومسحوا يده على يد عجلهم الذي عبدوه من دون الله الواحد القهار. وهذا ما كان يشير اليه النبي ص وآله لعلي (ع) (أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي).

٢٧٢

ان محمدا ص وآله رسول من عند الله. جاء ليبلغ كلمة الله. والله باق لا يموت ، وكلمته باقية لا تموت. وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم اذا مات النبي ص وآله ..

قال الامام الصادق (ع) كانت بعد موت جدي رسول الله ص وآله ردة لم يسلم منها الا ثلاثة ـ غير أهل البيت (ع) ـ سلمان وابو ذر والمقداد ، ثم جعل الناس يرجعون بعد ذلك.

فالله باق لا يموت ، وكلمته باقية لا تموت ، وهذه حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول ، وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الاولية البسيطة.

ان البشر الى فناء ، والعقيدة الى بقاء ، ومنهج الله للحياة ، مستقل في ذاته عن الذين يحملونه في كل عصر وزمان ، ويؤدونه الى الناس ، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ ، والمسلم الذي يحب رسول الله ص وآله حقيقة يستحيل أن ينقلب اذا مات أو قتل أو غاب ، لكن الانقلاب شأن المنافقين الذين يظهرون الاسلام والايمان ويخفون الكفر والنفاق (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ)

الله أكبر ما أعظم هذا الاستنكار ، وهذا التهديد ، وهذا الانقلاب ، وفي التعبير تصوير حي للارتداد (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) .. (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) فهذه الحركة الحسية في هذا الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه الحقيقة ، كأنه منظر مشهود ، والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة يوم أحد ـ بل المراد الانقلاب الذي حصل عند موت النبي ص وآله من أهل السقيفة وعند عقد بيعتهم الخبيثة ، والاستيلاء على رياستهم المجنونة

٢٧٣

التي افقدتهم كل ادراك وصواب ، حتى جعل ابن الخطاب يقول ما مات محمد بل غاب كما غاب موسى وسيرجع ويقطع أيد وأرجل من قال أنه مات. والذي دعاه الى هذا القول خشية أن يبايع الناس امير المؤمنين (ع) قبل أن يأتي زميله ابو بكر من السنح لانه كان ساعة ذلك غائبا فأراد ابن الخطاب شغل الناس حتي يأتي زميله ويبرم ما تعاقدوا عليه في صحيفتهم التي كتبوها ووضعوها أمانة عند عبيدة بن الجراح (راجعها في الجزء الاول) (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) فانما هو الخاسر الذي يؤذي نفسه بارتداده فينتكب الطريق المستقيم. وانقلابه لن يضر الله شيئا. فالله غني عن الناس وعن ايمانهم. ولكنه ـ رحمة منه للعباد ـ شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم ولخيرهم ، وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة والقلق في الدنيا في ذات نفسه ، وفي الآخرة عذاب خالد فيه.

(وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) الذين يثبتون على الصراط المستقيم ولا يخونون العهد والميثاق الذين يعرفون نعمة الله ومقدارها التي منحها الله لعباده في اعطائهم هذا المنهج الالهي ودلهم على مترجمه ومفسره لهم كما يريد الله ورسوله لينتفعوا به ويسعدوا باتباعه والسير على طريقه وسبيله.

قال عزوجل :

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ. وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) س ٦ ١٥٢ ي

فالذين ثبتوا ولم ينقلبوا يشكرون الله على ما هداهم هذا السبيل (يوم غدير خم) عندما نصب لهم عليا (ع) علما فيشكرونه باتباع المنهج ، ويشكرونه ويثنون على الله ، ومن ثم يسعدون بهذا الثبات وهذا الاتباع لعلي وابنائه المعصومين (ع) ، ثم يسعدون في الآخرة بجزاء الله

٢٧٤

لهم كما سعدوا في الدنيا بالثبات والاستقامة.

وكأنما أراد الله عزوجل بهذه الحادثة ، وبهذه الآية أن يفطم المسلمين الحقيقيين عن تعلقهم بالاهواء وأن يصلهم مباشرة بالنبع الفياض الذي يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ، الذي هو باب مدينة علم الرسول ص وآله.

وكأنما اراد الله سبحانه أن يأخذ بأيدي هؤلاء المستقيمين ، فيصلهم مباشرة بالعروة الوثقى عروة أهل البيت (ع) وكأنما أراد الله سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بحملة الاسلام مباشرة ، وان يجعل عهدهم معهم مباشرة. وان يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد امام الله بلا واسطة ، كما أعلنها يوم غدير خم : من كنتم مولاه فعلي مولاه.

وكأنما كان الله سبحانه يعتبر الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى ـ حين تقع ـ وهو يعلم عزوجل ، يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم فشاء أن يخبرهم بذلك قبل وقوعه لاتمام الحجة البالغة على عباده.

(وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) الذين يدركون نعمة التكريم الالهي لهذا الانسان حيث أظهر له من البيان كأنه يدركه قبل وقوعه بالعيان ، وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة ، وحقيقة الغاية التي ينتهي اليها الاحياء ، وفق ما جنت أيديهم وما صنعوه وأعدوه ليوم رحيلهم من هذه الدار الى دار القرار.

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

انهم لم يطلبوا من الله عزوجل نعمة ولا ثراء ، بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء ، لقد كانوا أكثر أدبا مع خالقهم وهم يتوجهون اليه ، فلم

٢٧٥

يطلبوا منه الا غفران الذنوب وتثبيت الاقدام والنصر على الكافرين ، حتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم انما يطلبونه لاعلاء كلمة الدين واهلاك أعدائه الكافرين ، انه الادب اللائق بالمؤمنين. وهؤلاء الذين لم يطلبوا لانفسهم شيئا ، أعطاهم الله من عنده كل شيء له وعنده ، أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة ، وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ، ويرجونه ، (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا ، وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ).

(فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا ، وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) ، وقد أدت تلك الحقائق الدور في تربية الجماعة المسلمة ، وقد ادخرت هذا الرصد للامة المسلمة في كل عصر وجيل حتى الابد بفضل اولئك الذين ثبتوا على الصراط المستقيم ومع أهل بيت النبي ص وآله حينما انقلب الناس على أعقابهم وعبدوا العجل واتبعوا السامري وخسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين ، والعاقبة للمتقين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ

٢٧٦

ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

البيان : لقد اتنهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح ليثبطوا عزائمهم ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ، ويصوروا لهم مخاوف القتال وعواقب الاشتباك مع المشركين وحلفائهم ، وجو الهزيمة هو أصلح الاجواء ، لبلبلة القلوب وخلخلة الصفوف واشاعة عدم الثقة في القيادة ، والتشكيك في جدوى الاصرار على المعركة مع الأقوياء ، وتزيين الانسحاب منها ومسالمة المنتصرين فيها ، مع اثارة المواجع الشخصية والآلام الفردية وتحويلها لهدم كيان العقيدة ، ثم للاستسلام للاقوياء الغالبين.

ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا ، فطاعة الذين كفروا عاقبتهما الخسارة المؤكدة ، ولكن يخبرهم الله عزوجل ان خسارة الارتداد هي الخسارة الحقيقية اما الموت والانتقال الى نعيم الابد فهو ربح لا مثيل له ولا يعادله الدنيا وما فيها.

ثم يمضي يثبت قلوب المسلمين ويبشرهم بالقاء الرعب في قلوب الاعداء والنصر لهم فليثبتوا (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) والوعد من الله القوي الذي لا يغلب محقق للنصر والفوز. (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) وكان ذلك مطلع المعركة ـ يوم أحد ـ ولكن خيانة الرماة قلبت النصر هزيمة ، والربح خسران فالنصر مشروط بالطاعة

٢٧٧

(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) كي يعمق وقع المشهد في حسهم ويثير الخجل والحياء من فعلهم المزري ، فهم يصعدون في الجبل هربا في اضطراب ورعب ودهشة ، لا يلتفت أحد منهم الى أحد ، والرسول ص وآله يدعوهم ـ بعدما صاح صائح ان محمدا قد قتل ، فزلزلت قلوبهم الخالية من الايمان الصحيح ، ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها سكون عجيب حينما سمعوا صوت رسول الله يوبخهم على هزيمتهم وفرارهم من الموت الذي يدركهم اينما كانوا ولو في بيوتهم ،

أما الطائفة الاخرى التي تثبت ولم تزحزها الرياح كايمانها الثابت ، فهم ذوو الايمان الصحيح ، فقد رفعوا وارتفعوا عند رجوع المنهزمين منكسين لرؤوسهم من الخجل والحياء والخزي والعار.

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) س ٨ / ١٦ ي

(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) ، فليس كالمحنة محك يكشف ما في صدور المنافقين. ويشرح صدور المؤمنين ، فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

ولقد علم الله عزوجل دخيلة الذين انهزموا وفروا يوم التقى الجمعان في غزوة أحد أنهم انهزموا وتولوا بسبب ارتكابهم للجرائم ، فأصبحت نفوسهم مزعزعة ، قد دخلها الشيطان واستذلهم فنزلوا وزاغوا وسقطوا في مهاوي الخزي والعار ، واستحقوا العذاب بما أخلفوا ما عاهدوا الله عليه (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) وأولهم الشيخان.

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ).

٢٧٨

فالموت أو القتل في سبيل الله بهذا القيد وبهذا السبيل خير من الحياة ، وخير مما يجمعه الناس في هذه الحياة ، وأي متاع خير مما يعقبه مغفرة الله ورحمته ، وهي في ميزان الحقيقة ، خير من الدنيا الفانية أم الآخرة الخالدة وعند هذا الاعتبار تفرح القلوب اذا ختم لها بالشهادة في سبيل الله ، وترى الموت حياة أبدية وثروة خالدة.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

البيان : ان السياق يتجه هنا الى رسول الله ص وآله ، وفي نفسه شيء من القوم تحمسوا للخروج ثم ضعفوا أمام اغراء الغنيمة ، ووهنوا أمام اشاعة مقتله ، وانقلبوا على أعقابهم مهزومين وهم لا يلوون على أحد. (فَاعْفُ عَنْهُمْ) وبهذا النص الجازم : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) يقرر الاسلام هذا المبدأ في نظام الحكم. ان التصور الاسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر الله سبحانه ، وتحقق هذا القدر في الحياة الانسانية من خلال نشاط الانسان وفاعليته وعمله.

وهنا في قضية النصر والخذلان بوصفهما نتيجتين للمعركة ـ أي معركة ـ يرد المسلمين الى قدر الله ومشيئته ، ويعلقهم بارادة الله وقدرته : ان ينصرهم الله فلا غالب لهم ، وان يخذلهم فلا ناصر لهم من بعده).

٢٧٩

انه التوازن العجيب الذي لا يعرفه القلب البشري الا في الاسلام. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ان لكل امة من الامم الكبيرة رسالة ، واكبر أمة هي التي تحمل اكبر رسالة ، وهي التي تقدم أكبر منهج. وهي التي تنفرد في الارض بأرفع مذهب للحياة ، والعرب يملكون هذه الرسالة ـ وهم فيها اصلاء وغيرهم من الشعب هم شركاء ، فأي شيطان ياترى؟؟؟ يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم أي شيطان أغواهم. لقد كانت المنة الالهية على هذه الامة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة الا شيطان ، وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان.

لا شيء الا هذه الرسالة الكبيرة ، لا شيء الا هذا المنهج الفريد ، لا شيء الا هذه المنة التي اختارهم الله لها ، وأكرمهم بها ، وانقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم ، والبشرية اليوم أحوج ما تكون اليها ، وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والافلاس.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥))

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦))

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧))

البيان : لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه ، حملة رايته ، وأصحاب عقيدته ، ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الايمان في قلوبهم ، فهذه سنة الله لا تحابي أحدا.

فاما حين يقصرون في أحد الجهد الذي في وسعهم ، كان عليهم ان يتقبلوا نتيجة التقصير. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) : أنفسكم هي التي

٢٨٠