الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-01-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وهذا وإن لم يرجع الى الاستصحاب المصطلح إلّا بالتوجيه ، إلّا أنّ الغرض من الاستشهاد به بيان كون هذه القاعدة إجماعيّة.

وربما فصّل بعض المعاصرين تفصيلا يرجع حاصله إلى :

______________________________________________________

(وهذا وان لم يرجع الى الاستصحاب المصطلح) لان الاستصحاب المصطلح ، هو عبارة عن يقين سابق ، وشك لا حق ، كما اذا علمنا انّ زيدا كان متوضئا ، ثم شككنا في انه بطل وضوؤه بالحدث ، نستصحب وضوئه.

وكما اذا علمنا ان زيدا كان حيا ، ثم شككنا في موته حتى لا ننفق على زوجته ، كان استصحاب بقائه حيا موجبا للانفاق على زوجته ، ومثل هذا الاستصحاب المصطلح لا يأتي في المقام ، اذ المقام بالنسبة الى ظهور العام والمطلق لا يستصحب ، فان الظهور ليس قابلا للشك ، لأنه أمر عرضي وجداني فهو امّا موجود ، وامّا غير موجود ، وان اللفظ امّا ان يكون ظاهرا في معنى عرفا ، أو لا يكون ظاهرا في هذا المعنى.

وعليه : فلا معنى للشك والاستصحاب (الّا بالتوجيه) بأن ندرج ما ذكره الاصوليون ، وبعض الاخباريين في الاستصحاب المصطلح ، ونقول : اذا شككنا في انه حدث مخصص ، أو مقيد ، نستصحب عدم حدوث المخصص لا المقيد.

(الّا انّ الغرض من الاستشهاد به) اي بقول بعض الاخباريين والاصوليين هو (بيان كون هذه القاعدة) وهي : حجيّة الظواهر ، وان لم يكن عليها ظن ، او قام على خلافها ظنّ (اجماعيّة) فانّ الاصولي والاخباري يرى حجيّة الظواهر ، وان كان على خلافها ظنّ أو لم يكن على وفاقها ظنّ.

(وربّما فصّل بعض المعاصرين) وهو الشيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم (تفصيلا) جديدا(يرجع حاصله الى) انّه : لو شك في وجود القرينة

٣٠١

«أنّ الكلام إن كان مقرونا بحال او مقال يصلح أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقيّ فلا يتمسّك فيه بأصالة الحقيقة ، وإن كان الشكّ في أصل وجود الصارف ، او كان أمر منفصل يصلح لكونه صارفا ،

______________________________________________________

وعدمها ، أو شك في قرينيّة الموجود بأن كان هناك ما يحتمل أن يكون قرينة ، ولكنه كان منفصلا عن الكلام ، فالاصل الحقيقة ، امّا اذا شك في قرينيّة ما يحتمل ان يكون قرينة لكنّه كان متصلا بالكلام ، لم تجر أصالة الحقيقة.

والحاصل : (انّ الكلام ان كان مقرونا بحال) كالمجاز المشهور حيث ان الشهرة حال مقترن بالكلام (أو مقال) كالعام المتعقب بضمير يرجع الى بعض افراده ، مثل قوله سبحانه : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ...)(١) ، حيث انّ : (بُعُولَتُهُنَ) يرجع الى بعض المطلقات ، ولا يشمل البائنات (يصلح) أي ذلك الحال او المقال (أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقي ، فلا يتمسك فيه باصالة الحقيقة) وذلك لان الكلام بسبب هذا الحال ، أو المقال ، المقارنين للكلام صار مجملا.

(وان كان الشك في أصل وجود الصارف) أي القرينة ، كما اذا قال المولى : أكرم العلماء وشكّ في وجود المخصص وعدمه ، وان كان الشكّ له ما يبرره ، كما اذا شكّ في انّ المولى يريد اكرام الفاسق من العلماء أم لا ، حيث ذوق المولى عدم احترام غير العادل ، لكن لم يكن ذلك بحيث يكون قرينة حالية ، (أو كان) في المقام (أمر منفصل) مجمل (يصلح لكونه صارفا) بان قال : اكرم العلماء ، وقال في كلام آخر : لا تكرم زيد ، وكان هناك زيدان عالم وجاهل ، فان كان المولى

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٢٨.

٣٠٢

فيعمل على أصالة الحقيقة».

وهذا تفصيل حسن متين ، لكنّه تفصيل في العمل بأصالة الحقيقة عند الشكّ في الصارف ، لا في حجّيّة الظهور اللفظيّ ، ومرجعه إلى تعيين الظهور العرفيّ وتمييزه عن موارد الاجمال ،

______________________________________________________

اراد زيدا العالم ، في استثنائه ، يلزم عدم اكرام زيد العالم ، وامّا ان اراد زيدا الجاهل ، فكل العلماء يكرمون حتى زيدا العالم ، وسيأتي الكلام في ذلك ، (فيعمل) فيه (على اصالة الحقيقة) (١) لانه ليس هناك ما يهدم هذا الاصل العقلائي ، بخلاف الصورتين الأوليين ، حيث هناك ما يهدمه ، (وهذا تفصيل حسن متين ، لكنه) خارج عن مبحث اصالة الظهور التي نحن بصددها ، حيث انّ كلامنا في ان الظاهر حجّة مطلقا ، أو في الجملة ، لا في انه : هل يعلم باصالة الحقيقة ام لا؟ ، وهذا التفصيل (تفصيل في العمل باصالة الحقيقة ، عند الشك في الصّارف) وهو يجري عند الشكّ في وجود القرينة ، أو في قرينيّة الموجود المنفصل ، ولا يجري عند الشكّ في قرينيّة الموجود المتصل ـ على ما عرفت ـ أي (لا في حجيّة الظهور اللّفظي) الذي نحن بصدده.

(ومرجعه) أي : مرجع هذا التفصيل الذي ذكره صاحب الحاشية ، انّما هو (الى تعيين الظهور العرفي ، وتمييزه عن موارد الاجمال) وليس تفصيلا فيما نحن فيه.

والحاصل : ان الكلام في الكبرى ، وهذا المفصل فصل الصغرى ، اذ الكلام في ان الظهور حجّة مطلقا أو ليس بحجّة مطلقا او التفصيل ، بينما هذا المفصل فصل

__________________

(١) ـ بحر الفوائد : ج ١ ص ١١٠.

٣٠٣

فان اللفظ في القسم الأوّل يخرج عن الظهور إلى الاجمال بشهادة العرف.

ولذا توقّف جماعة في المجاز المشهور والعامّ المتعقّب بضمير يرجع إلى بعض افراده والجمل المتعدّدة المتعقّبة للاستثناء والأمر والنهي الواردين في مظانّ الحظر

______________________________________________________

في ان أيّ مورد يوجب الظهور ، وأيّ مورد لا يوجب الظهور ، مع تسليمه بان الظهور اينما حصل حجة ، وهذا هو الذي نحن بصدده لكنه اراد تعيين ان أي لفظ باق على ظهوره ، وأي لفظ خارج عن ظهوره ، ومجمل ، حتى لا يتمسك فيه باصالة الظهور.

وعليه : (فان اللّفظ في القسم الاوّل) أي : فيما كان الكلام مقترنا بحال ، او مقال متصل ، صالح للقرينيّة(يخرج عن الظهور الى الاجمال بشهادة العرف) والوجدان فاذا راجعنا العرف في مثل هذين اللفظين لا يحكمون بالظهور ، كما انّا اذا راجعنا وجداننا نرى انّا لا نفهم الظهور في هذين الموردين ، (ولذا توقف جماعة في المجاز المشهور ، والعام المتعقب بضمير يرجع الى بعض افراده ، والجمل المتعدّدة المتعقّبة للاستثناء) كما اذا قال المولى : اكرم العلماء واحترم العباد ، واطع الامراء العدول الّا زيدا ، وكان في كل من الطوائف زيد ، فهل الاستثناء من الجملة الاخيرة ، أو من كل الجمل؟.

ولا يخفى : انه لا فرق في الاجمال ، بين ان يكون استثناء ، أو حال ، أو تمييز ، أو صفة ، أو ما أشبه ، فالاستثناء من باب المثال ، بل لا فرق بين ان يكون في آخر الجمل ، أو في اوّلها ، كما اذا قال : لا تكرم زيدا واكرم العلماء والعباد والزهاد ، حيث انّ زيد موجود في كل من الطوائف الثلاث ، فهل الاستثناء خاص بالعلماء أو عام يشمل حتى العبّاد والزّهاد أيضا؟

(و) كذا توقف هذا البعض في (الامر والنهي ، الواردين في مظان الحظر

٣٠٤

والايجاب ، إلى غير ذلك ممّا احتفّ اللفظ بحال او مقال يصلح لكونه صارفا ، ولم يتوقف أحد في عامّ بمجرّد احتمال دليل منفصل يحتمل كونه

______________________________________________________

والايجاب) ، اما كون الامر في مورد الحظر ، فمثل قوله سبحانه : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) ، حيث كان محظورا على المحرم الصيد ، فالأمر بعد هذا الحظر ، لا يكون دليلا على الوجوب ، واما كون النهي بعد الايجاب ، فمثل قوله عليه‌السلام : «لا تصلي الحائض» (٢) بعد ان كانت الصلاة واجبة عليها قبل الحيض ، فالنهي بعد هذا الوجوب ، لا يكون دليلا على الحرمة ، ولذا ذهب بعض الفقهاء الى ان العبادة الشريعيّة محرّمة على الحائض ، لا ما اذا أتت بالصلاة لا بقصد التشريع ، استنادا الى ان النهي لا يدل في هذا المقام على التحريم.

(الى غير ذلك) كالاستثناء بعد الاستثناء ، هل هو استثناء من الأوّل ، أو من الثاني؟ فاذا قال : عندي عشرة الّا خمسة الّا ثلاثة ، فهل الثلاثة استثناء عن العشرة أيضا حتى يبقى اثنان ، أو عن الخمسة حتى يبقى ثمانية؟ ، لكن هذا ، فيما اذا كان الثاني قابلا للخروج عن كل من المستثنى والمستثنى منه ، امّا اذا لم يكن قابلا للخروج من الاستثناء ، فهو استثناء من الأوّل قطعا.

كما اذا قال : عندي عشرة الّا ثلاثة الّا خمسة ، حيث يكون الباقي اثنان قطعا.

ونحوه (ممّا احتفّ اللفظ بحال أو مقال يصلح لكونه صارفا) عن الحقيقة.

(و) أمّا الكلام في القسم الثاني : وهو ما اذا شكّ في أصل وجود القرينة ، أو في قرينيّة الموجود المنفصل فلا يخرج الكلام عن الظهور بسبب ذلك ، ولذا(لم يتوقف أحد في عام ، بمجرد احتمال دليل منفصل يحتمل كونه

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٢.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ٢ ص ٣٤٣ ب ٣٩ ح ٢٣١٨ (بالمعنى).

٣٠٥

مخصّصا له ، بل ربما يعكسون الأمر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال وارتفاع الاجمال لأجل ظهور العامّ ، ولذا لو قال المولى : اكرم العلماء ، ثمّ ورد قول آخر من المولى إنّه لا تكرم زيدا ، واشترك زيد بين عالم وجاهل ، فلا يرفع اليد عن العموم بمجرّد الاحتمال ، بل يرفعون الاجمال بواسطة العموم ، فيحكمون بارادة زيد الجاهل من النهي.

______________________________________________________

مخصّصا له) كما يأتي من مثال المصنّف عن قريب ، (بل ربّما يعكسون الأمر) أي : يجعلون العام المتقدّم بيانا لهذا المنفصل المجمل المتأخر ، فيكون العام مبينا للمجمل ، لا ان المجمل يكون مخصصا للعام (فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال) أي : احتمال كون المنفصل قرينة للعام ومخصصا له (وارتفاع الاجمال) من هذا المنفصل المجمل (لأجل ظهور العام) وبسببه ، فالعام يكون قرينة للمنفصل ، لا ان المنفصل يكون مخصصا للعام.

(ولذا لو قال المولى : اكرم العلماء ، ثمّ ورد) منفصلا(قول آخر من المولى : انّه لا تكرم زيدا ، واشترك زيد بين عالم وجاهل) مما يسبب أن يكون زيد مجملا في ان المراد هل هو : عدم اكرام زيد العالم أو المراد : عدم اكرام زيد الجاهل؟ ، (فلا يرفع اليد عن العموم ، بمجرد الاحتمال) في هذا المنفصل ، بأن يقال : ان زيدا محتمل أن يكون عالما ، فهو يخصص اكرم العلماء(بل) يقال : باصالة العموم في العام ، ويتمسكون بعمومه لرفع الاجمال عن زيد ، لان اكرم العلماء يشمل كل العلماء حتى زيدا العالم ، فبه (يرفعون الاجمال) عن زيد في لا تكرم زيدا ، بأن يقال : انّ المراد من زيد ، الذي يحرم اكرامه ، هو زيد الجاهل ؛ وذلك (بواسطة العموم) فانه مبيّن لاجمال زيد ، وموضح بان المراد من زيد في قوله : لا تكرم زيدا ، هو زيد الجاهل لا العالم (فيحكمون بارادة زيد الجاهل من النهي).

٣٠٦

وبازاء التفصيل المذكور تفصيل آخر ضعيف ، وهو : «أنّ احتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة فلا يصحّ رفع اليد عن الحقيقة ، وإن حصل من دليل معتبر فلا يعمل باصالة الحقيقة ،

______________________________________________________

وكذلك الحال بالنسبة إلى المطلق والمقيد ، فمثال المصنف قدس‌سره بالنسبة إلى العام والخاصّ من باب المثال ، لا من باب الخصوصيّة.

(وبازاء التفصيل المذكور) الّذي ذكره الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية ، ووصفناه : بانّه حسن متين (تفصيل آخر ضعيف ، وهو : انّ احتمال ارادة خلاف مقتضى اللّفظ ، إن حصل من امارة غير معتبرة ، فلا يصحّ رفع اليد عن الحقيقة) ، مثلا : اذا قال المولى : أكرم العلماء ، ودلّ خبر ضعيف على النهي من إكرام زيد نجري اصالة العموم والحقيقة ، في اكرم العلماء ، ونقول : بانّه يجب اكرام كلّ فرد عالم ، ونقدّم العام : أكرم العلماء ، في زيد على لا تكرم زيدا ، وان كان لا تكرم زيدا بالنسبة إلى اكرم العلماء خاصّا ، إلّا انّ ضعف دليل الخاصّ بسبب عدم الاعتناء به ، فنجري في الخاصّ حكم العموم ، وهو : وجوب الاكرام.

(وان حصل من دليل معتبر ، فلا يعمل بأصالة الحقيقة) بالنسبة إلى العام ، وانّما يقدم الخاصّ الّذي يضمنه الدليل المعتبر ، على العام ، لانّ الخاصّ أخصّ من العام ، والمفروض انّ الخاصّ حجة.

وحاصل هذا التفصيل : انّه ، اذا شكّ في كون شيء قرينة على عدم ارادة العام ، فان كان الشيء المشكوك القرينية معتبرا ، فهو موجب لاجمال العام ، وان لم يكن معتبرا ، لم يكن موجبا لاجمال العام ، من غير فرق بين كون المشكوك متصلا أو منفصلا ، مثلا : اذا قال : اكرم العلماء ، وقال : لا تكرم زيدا ، فان كان لا تكرم زيدا معتبرا ، بسبب اجمال حكم العام في انّه ، هل يشمل زيدا العالم أم لا؟ لفرض انّ

٣٠٧

ومثّل له بما إذا ورد في السنّة المتواترة عامّ وورد فيها أيضا خطاب مجمل يوجب الاجمال في ذلك العامّ ولا يوجب الظنّ بالواقع. ـ قال فلا دليل على لزوم العمل بالأصل تعبّدا ، ـ ثمّ قال ـ : ولا يمكن دعوى الاجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبّدا ،

______________________________________________________

هناك زيدين : عالم ، وجاهل ، وان كان لا تكرم زيدا غير معتبر ، كان العام شاملا لزيد العالم ، فيجب اكرامه ، من غير فرق بين أن يقول : لا تكرم زيدا متصلا بالعام أو منفصلا عنه.

(ومثّل له بما اذا اورد في السنّة المتواترة عام) بان قال : اكرم العلماء حيث يجب اكرام كلّ عالم عالم ، حسب هذا العام (وورد فيها) أي : في نفس السنّة(أيضا ، خطاب مجمل) نحو : لا تكرم زيدا وزيد هذا له فردان عالم وجاهل فانّه (يوجب الاجمال في ذلك العام ، ولا يوجب) العام فيما اذا صار مجملا(الظنّ بالواقع) ، فانّه اذا كان ، لا تكرم زيدا معتبرا ، لا نظنّ بسبب العام : أكرم ، وجوب اكرام زيد ، فيسري اجمال زيد إلى اكرم العلماء ، بخلاف ما اذا كان : لا تكرم زيدا غير معتبر ، فلا يسري اجماله إلى اكرم العلماء.

ولذلك (قال : فلا دليل على لزوم العمل بالاصل تعبّدا) أي : العمل باصالة الحقيقة في اكرم العلماء من دون ظنّ بالواقع.

وبالجملة : الخاصّ المجمل ، اذا كان معتبرا ، أوجب صرف اصالة العموم ، والحقيقة في العام ، وعدم بقاء ظهور فيه يوجب الظنّ ، بخلاف ما اذا لم يكن معتبرا.

(ثم قال : ولا يمكن دعوى الاجماع على لزوم العمل باصالة الحقيقة تعبّدا) حتّى يقال : بانّه لا فرق بين كون المجمل معتبرا ، أو غير معتبر ، فانّه يلزم العمل

٣٠٨

فانّ اكثر المحقّقين توقّفوا فيما إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح» ، انتهى ، ووجه ضعفه يظهر ممّا ذكر ،

______________________________________________________

بأصالة الحقيقة ، في جانب العام ، حتّى يقال : بانّ اكرم العلماء ، يشمل زيدا أيضا ، سواء كان لا تكرم زيدا معتبرا ، أو لم يكن معتبرا ، (فانّ أكثر المحققين توقّفوا ، فيما اذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الرّاجح) ممّا يدلّ على انّهم ، لا يعملون بأصالة الحقيقة تعبدا ، والّا لم يكن وجه للتوقف في انّه هل يقدّم الحقيقة المرجوحة أو المجاز الراجح؟.

(انتهى) هذا التفصيل (ووجه ضعفه ، يظهر ممّا ذكر) في التفصيل المتقدّم ، عن الشيخ محمد تقي صاحب المعالم ـ الّذي ذكرنا : انّه تفصيل متين ـ لانّه تفصيل في بعض شقوق التفصيل المتقدّم.

وحاصل جواب المصنّف عنه : تسليم الاجمال في المتصل مطلقا معتبرا كان أو غير معتبر ، ومنعه في المنفصل مطلقا معتبرا كان أو غير معتبر ، فاذا قال : اكرم العلماء ولا تكرم زيدا ، وفرضنا انّ لا تكرم زيدا معتبر ، وكان متصلا ، أوجب الاجمال ، وكذلك لو فرضنا انّ المتصل كان غير معتبر ، أمّا اذا قال : لا تكرم زيدا منفصلا وبعد مدة من الزمان ، فلا فرق في عدم تعديه إلى العام ـ ممّا يسبب اجماله ـ بين ان يكون لا تكرم زيدا معتبرا ، أو غير معتبر.

فانّه اذا اتصل بالكلام ، ما يصلح للقرينيّة ، خرج اللفظ عن الظهور عرفا ـ على المشهور ـ فلا يجري اصالة الحقيقة ، وأمّا لو شكّ في القرينيّة رأسا بأن لم نعلم ، هل هناك قرينة أو لم تكن قرينة أو كان هناك شيء منفصل مجمل صالح للقرينيّة؟ فلا يخرج اللفظ عن الظهور ، سواء كان المنفصل معتبرا ، أو لم يكن معتبرا ، ويجري الاصل في العموم المتقدّم.

٣٠٩

فانّ التوقّف في ظاهر خطاب لأجل احتمال خطاب آخر لكونه معارضا ممّا لم يعهد من أحد من العلماء ، بل لا يبعد ما تقدّم من حمل المجمل في أحد الخطابين على المبيّن في الخطاب الآخر.

وأمّا قياس ذلك على مسألة تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح ، فعلم فساده ممّا ذكر في التفصيل المتقدم ، من أنّ

______________________________________________________

(فانّ التوقف في ظاهر خطاب) مثل : اكرم العلماء(لاجل احتمال خطاب آخر) نحو : لا تكرم زيدا ، حيث كان زيد مجملا بين العالم والجاهل ، فالتوقف فيه (لكونه) أي لكون ظاهر خطاب : اكرم العلماء(معارضا) مع المجمل ، في : لا تكرم زيدا ، المحتمل للأمرين : (ممّا لم يعهد من أحد من العلماء) لانّهم يجرون اصالة الحقيقة في : اكرم العلماء.

(بل لا يبعد ما تقدّم : من حمل المجمل ، في أحد الخطابين) مثل : لا تكرم زيدا(على المبيّن في الخطاب الآخر) مثل : اكرم العلماء ، فانّ لا تكرم زيدا ، وان كان مجملا في نفسه ، لكن وضوح اكرم العلماء في شموله لزيد العالم ، يوجب رفع الاجمال ، عن : لا تكرم زيدا.

وعليه : فيخصص زيد في : لا تكرم زيدا ، بالجاهل ، ويكون زيد العالم مشمولا : ل : اكرم العلماء ، ويتمّ حمل زيد المجمل المنهي عن اكرامه على زيد المبيّن المأمور باكرامه.

(وأمّا قياس ذلك) التفصيل الّذي ذكره هذا الشخص (على مسألة : تعارض الحقيقة المرجوحة ، مع المجاز الراجح ، فعلم فساده ممّا ذكر في التفصيل المتقدّم) المتين ، (من انّ) اللفظ ، ان اتّصل بحال أو مقال يصلح لكونه صارفا ،

٣١٠

الكلام المكتنف بما يصلح أن يكون صارفا قد اعتمد عليه المتكلم في إرادة خلاف الحقيقة لا يعدّ من الظواهر ، بل من المجملات.

وكذلك المتعقّب للفظ يصلح للصارفيّة كالعامّ المتعقّب بالضمير وشبهه ممّا تقدّم.

______________________________________________________

فلا يجري اصالة الحقيقة في العام ، بل يصير مجملا ، وأمّا اذا كان المجمل منفصلا ، فتجري اصالة الحقيقة في العام.

ففي النوع الأوّل : (الكلام المكتنف بما يصلح ان يكون صارفا ، قد اعتمد عليه المتكلّم في ارادة خلاف الحقيقة ، لا يعدّ من الظواهر) سواء كان مقرونا بحال أو متصلا بمقال (بل) يعدّ ذلك الكلام وهو العام في المثال (من المجملات ، وكذلك المتعقّب للفظ يصلح للصارفية ، كالعام المتعقّب بالضمير ، وشبهه ، ممّا تقدّم) حيث ذكرنا هناك : عدم الفرق ، بين ان يكون المتعقّب للكلام استثناء ، أو صفة ، أو حالا ، أو تمييزا ، أو غيرها ، بل قد تقدّم : انّه لا فرق بين تقدّم ما يحتمل القرينيّة ، وبين تأخره.

ثم انّ ما ذكرناه فيما تقدّم : من انّ الأصل : حرمة العمل بالظنّ ، الّا ما خرج ، فانّ الخارج امور :

الأوّل : الامارات المعمولة في استنباط الاحكام الشرعية ، من الفاظ الكتاب والسنّة ، وهي ـ كما اشرنا اليها سابقا ـ على قسمين :

القسم الأوّل : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم ، عند احتمال ارادته خلاف ذلك كأصالة الحقيقة ، واصالة العموم ، واصالة الاطلاق ، عند احتمال خلافها ، وقد تقدّم الكلام في ذلك.

٣١١

القسم الثاني :

وأمّا القسم الثاني : وهو الظنّ الذي يعمل لتشخيص الظواهر كتشخيص أنّ اللفظ المفرد الفلانيّ ، كلفظ الصعيد او صيغة افعل ، او أنّ المركّب الفلانيّ ، كالجملة الشرطيّة ، ظاهر بحكم الوضع في المعنى الفلانيّ ، وانّ الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر ـ بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر ـ في مجرّد رفع الحظر دون الالزام ،

______________________________________________________

ما يعمل لتشخيص أوضاع الالفاظ ، وتشخيص مجازاتها عن حقائقها ، وظواهرها عن خلافها ، والكلام الآن في هذا القسم ، وقد قال المصنّف قدس‌سره : ـ

القسم الثاني :

(وامّا القسم الثاني : وهو الظنّ الّذي يعمل لتشخيص الظواهر ، كتشخيص : انّ اللفظ المفرد الفلاني ، كلفظ الصعيد ، او صيغة افعل ، أو أنّ المركب الفلاني ، كالجملة الشرطيّة ، ظاهر بحكم الوضع في المعنى الفلاني) أو غير ظاهر فيه : ـ فهل ـ مثلا ـ الصعيد ظاهر في مطلق وجه الارض ، الأعمّ من : التراب ، والحجر ، والرمل ، والحصى ، وغير ذلك ، أو خاصّ بالتراب؟ وهل انّ صيغة افعل ظاهرة في الوجوب أو الاستحباب ، أو الأعمّ من الاستحباب ، والوجوب؟ وهل انّ الجملة الشرطية ، ظاهرة في الانتفاء عند الانتفاء ام لا؟ (و) هل (انّ الأمر الواقع عقيب الحظر ، ظاهر ـ بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر ـ في مجرّد رفع الحظر دون الالزام) أو غير ظاهر فيه؟.

ولا يخفى انّ في هذه المسألة خلافا في موضعين :

الاوّل : في انّ الأمر الواقع بعد الحظر مثل قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ

٣١٢

والظنّ الحاصل هنا يرجع إلى الظنّ بالوضع اللغويّ او الانفهام العرفيّ ، والأوفق بالقواعد عدم حجّيّة الظنّ هنا ، لأنّ الثابت المتيقن هي حجّيّة الظواهر.

______________________________________________________

فَاصْطادُوا)(١) هل هو ظاهر في الوجوب أم لا؟.

الثاني : في انّ الامر الواقع في مقام توهّم الحظر ، مثل : الامر بالسعي في مقام توهّم حرمته ، لمكان وجود الصنمين على الصفا والمروة ، هل هو ظاهر في الوجوب ام لا؟ (والظنّ الحاصل هنا يرجع إلى) امرين :

اولا : (الظنّ بالوضع اللغوي) مثل : الظنّ بأنّ الصعيد لمطلق وجه الارض ، أو للتراب فقط.

ثانيا : (أو الانفهام العرفي) كالظنّ بأنّ المتبادر عرفا من الأمر الواقع عقيب الحظر ، هو الاباحة ، أو الوجوب وهكذا بالنسبة إلى الجملة الشرطية وغير ذلك.

(والأوفق بالقواعد عدم حجيّة الظنّ هنا) في كلا الموضعين سواء الظنّ بالوضع اللغوي او الظنّ بالانفهام العرفي ، وانّما كان الأوفق بالقواعد ، عدم حجيّة الظنّ في المقامين ، لانّ الاصل : حرمة العمل بالظنّ ، إلّا ما خرج بالدليل ، ولا دليل على خروج هذا الظنّ في المقامين.

ان قلت : كما انّ الظنّ بالمراد من الظاهر يكون حجّة ، كذلك الظنّ بان هذا ظاهر ، حجّة.

قلت : كلا ، ليس هناك دليل على حجّية الظنّ الثاني (لانّ الثابت المتيقن ، هي حجّية الظواهر) بعد ان احرزنا انّ هذا الكلام ـ مثلا ـ ظاهر في هذا المعنى.

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٢.

٣١٣

وأمّا حجّيّة الظنّ في أنّ هذا ظاهر ، فلا دليل عليه عدا وجوه ذكروها في إثبات جزئيّ من هذه المسألة ، وهي حجّيّة قول اللغويّين في الأوضاع.

فانّ المشهور كونه من الظنون الخاصّة التي ثبت حجّيتها

______________________________________________________

(وامّا حجّية الظنّ في انّ هذا ظاهر فلا دليل عليه) بل اللازم ان نقطع بانّ هذا ظاهر ، حتّى نحكم بانّه مراد ـ ولو كان الحكم من باب الظنّ.

نعم ، اذا علمنا الظهور ، ولم نعلم انّ هذا الظاهر مراد ام لا ، فالظنّ هنا حجّة ، كما سبق في كلام المصنّف ، اذ العقلاء ، واهل اللسان ، متّفقون في حمل اللفظ على معناه الظاهر فيه ، فانّهم يجرون اصالة عدم القرينة اذا احتمل وجود القرينة.

واما اذا لم يعلم الظهور ، ولا دليل على حجية الظن بالظهور ، فالاصل عدم حجية مثل هذا الظن.

(عدا) وهو استثناء من قوله : «فلا دليل عليه» (وجوه ذكروها في اثبات جزئي من) جزئيات (هذه المسألة وهي) أي ذلك الجزئي (حجّية قول اللغويين في الاوضاع).

فانّهم قالوا : بأنّ قول اللغوي حجة ، مع انّ قول اللغوي لا يوجب العلم ، وانّما يوجب الظنّ ، ولم يذكر العلماء وجها ، على حجية سائر الجزئيات لهذه الكلية من قبيل : الاستعمال ، والقياس ، والاستحسان ، ونحوها ، (فان المشهور كونه) أي قول اللغوي (من الظنون الخاصّة ، الّتي ثبت حجّيتها) بالدليل المخصوص ، اذ المشهور عند العلماء : انّ قول اللغوي حجّة ، وليس كسائر الظنون في عدم الحجيّة ـ تمسّكا باصالة عدم حجيّة الظنّ ـ ، وانّما خرج من ذلك العموم هذا الجزئي ، وهو : قول اللغوي للدليل الخاصّ ، فاذا لم نعرف معنى الصعيد ، أو آلة اللهو ، أو الآنية ، أو ما اشبه ، وراجعنا اللغويين جاز لنا التمسّك بأقوالهم في افادة

٣١٤

مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة وإن كانت الحكمة في اعتبارها

______________________________________________________

مراد الشارع ، وترتّب الحكم عليه وان لم نكن نقطع بصحّة اقوال اللغويين ، هذا(مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في) معظم (الاحكام الشرعية) أي انّ حجيّة قول اللغوي ليست مستندة إلى الانسداد ، بل حتّى في حال انفتاح باب العلم ، يكون قول اللغوي حجة ، وذلك لانّ الظنّ الّذي هو حجة ـ والمراد به : الظنّ النوعي ، لا الشخصي ـ على قسمين :

الأوّل : الظنّ الخاصّ ، الّذي ليس وجه حجّيته : انسداد باب العلم ، بل هو حجّة ، وان كان باب العلم منفتحا وتمكنّا من العلم ، مثلا : خبر زرارة حجّة ، وان كان موجبا للظنّ دون العلم ، وحجّيته ثابتة حتّى مع انفتاح باب العلم ، وتمكّن الّذي يسمع الخبر من زرارة ان يصل إلى الامام الصادق عليه‌السلام ، ويستعلم منه.

الثاني : الظنّ المطلق ، وهو الّذي حجّيته : انسداد باب العلم بمعظم الاحكام الشرعية ، فاذا فرض انّ باب العلم كان مفتوحا ، لم يكن لمثل هذا الظنّ حجيّة.

والمشهور يقولون : بحجّية قول اللغوي ، من باب الظنّ الخاصّ ، وانّ تمكّن الانسان من العلم ، كما اذا تمكن أن يذهب إلى البلاد العربية ، ويستعلم معنى اللفظ من نفس العرب ، بما يوجب علمه بالمعنى ، فانّه ليس بواجب ، وان لم يكن عسرا وحرجا عليه ، لانّهم يرون قول اللغوي حجة مطلقا ، تمكّن الانسان من العلم أو لم يتمكن.

هذا(وان كانت الحكمة في اعتبارها) أي : الظنون الخاصّة من باب الحكمة ، لا من باب العلّة ، فانّ العلّة لازمها دوران الأمر مدار العلّة وجودا وعدما ، بينما الحكمة تسبب التشريع ، ولا يدور الحكم مدارها وجودا وعدما.

٣١٥

انسداد باب العلم في غالب مواردها ، فانّ الظاهر أنّ حكمة اعتبار أكثر الظنون الخاصّة ، كأصالة الحقيقة المتقدّم ذكرها وغيرها ، انسداد باب العلم في غالب مواردها من العرفيّات والشرعيّات.

______________________________________________________

وعليه : فحكمة اعتبارها هو : (انسداد باب العلم في غالب مواردها) أي : موارد الظنون (فانّ الظاهر : انّ حكمة اعتبار اكثر الظّنون الخاصّة ، كأصالة الحقيقة ـ المتقدّم ذكرها ـ وغيرها) كالظاهر ، وخبر الثقة ، والشهرة ، وفتوى المفتي ، والبيّنة ، وقول المرأة بالنسبة إلى انّها متزوجة أو ليست متزوجة ، أو حامل أو ليست بحامل ، أو انقضت عدّتها أو لم تنقض عدّتها ، وغير ذلك ، انّما هو لاجل (انسداد باب العلم في غالب مواردها من العرفيّات والشرعيّات).

اما العرفيّات ، فكالمكاتبات ، والمكالمات ، والوصايا ، والأقارير ، والشهادات والاشارات ، وغيرها ، ممّا نرى انّ عرف العقلاء يحكمون بحجية الظن فيها ، وان تمكّنوا من العلم.

وأمّا الشرعيات : فمثل الفاظ القرآن الحكيم ، والاخبار المروية عنهم عليهم‌السلام وكذا الموارد الّتي يعمل فيها بخبر الثقة ، حيث قال عليه‌السلام : «والأشياء كلّها على ذلك حتّى تستبين أو تقوم به البيّنة» (١) ، إلى غيرها ، فانّ الشارع والعرف ، انّما يحكمون بكفاية الظنّ في هذه الامور ، من باب الحكمة لا من باب العلّة.

فاذا قال الشارع ـ مثلا : ـ «الماء اذا بلغ قدر كرّ فلا ينجّسه شيء» (٢) ، فالانفعال

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٢ ح ١ وح ٢ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ١٥٠ ب ٦ ح ١١٨ ، الاستبصار : ج ١ ص ٦ ب ١ ح ١ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٩ ح ١٢.

٣١٦

والمراد بالظنّ المطلق ما ثبت اعتباره من أجل انسداد باب العلم بخصوص الأحكام الشرعيّة ، وبالظنّ الخاصّ ما ثبت اعتباره ،

______________________________________________________

وعدم الانفعال ، دائران مدار الكرّيّة ، اينما كانت لم ينفعل الماء وأينما لم تكن انفعل.

أمّا اذا قال الشارع : تجب العدّة للمطلّقة بحكمة عدم اختلاط المياه ، فانّ وجوب العدّة وعدم وجوبها ، ليس دائرا مدار اختلاط المياه وجودا وعدما ، بل اللازم : العدّة في المدخولة غير اليائسة ، حتّى وان لم ينزل الرجل في دخوله بها أو علمنا بعدم وجود الماء في رحمها.

وانّما كان الحكم في بعض المواضع دائرا مدار العلّة ، وفي بعض المواضع ليس دائرا مدار العلّة ، بل من باب الحكمة ، لانّ العلّة هي الأصل ، والحكمة من جهة انّه لو أراد الشارع ، أو العقلاء ادارة الحكم مدار العلّة ، لزم تفويت المصلحة كثيرا مثلا : اذا قال الشارع للمرأة : اذا علمت ان لا ماء في رحمك ، جاز لك التزويج فكثيرا ما يكون الماء في رحمها ، وهي بالجهل المركّب تقطع بعدم وجود الماء ، فتتزوج ، وتختلط المياه في رحمها ، فيوجب اختلاط الانساب ، وصونا لذلك يقول الشارع : يجب على المرأة العدّة ، سواء قطعت بوجود الماء أو بعدم وجوده ، أو شكّت في الوجود ، وعدمه ، فاختلاط المياه أخذ من باب الحكمة ، لا من باب العلّة(و) ممّا تقدّم ظهر : انّ (المراد بالظنّ المطلق : ما ثبت اعتباره من أجل انسداد باب العلم بخصوص الاحكام الشرعية) ويسمّى ظنا مطلقا ، من جهة انّ حجّيته ، ليس بسبب دليل مخصوص.

(و) المراد(بالظنّ الخاصّ : ما ثبت اعتباره) بدليل مخصوص ، بعنوان مخصوص ، كالدليل الدال على حجيّة الخبر الواحد ، أو فتوى المفتي ، أو

٣١٧

لا لأجل الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظنّ بعد تعذّر العلم.

وكيف كان ، فاستدلّوا على اعتبار قول اللغويّين باتفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج ، ولم ينكر ذلك أحد على أحد.

وقد حكي عن السيّد رحمه‌الله في بعض كلماته دعوى الاجماع على ذلك ، بل ظاهر كلامه المحكيّ اتّفاق المسلمين.

______________________________________________________

الشهرة ، أو البيّنة ، أو ما اشبه ، فاعتباره ثابت (لا لأجل الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظنّ ، بعد تعذّر العلم) وان كانت الحكمة في الظنّ الخاصّ أيضا هو : انسداد باب العلم على الأغلب ـ كما أشرنا اليه ـ.

(وكيف كان : فاستدلّوا على اعتبار) قبول (قول اللّغويين ب) وجوه متعدّدة ، وذكر المصنّف بعضها :

أحدها : (اتفاق العلماء ، بل جميع العقلاء) والفرق بينهما : انّ الأوّل : اجماع المتشرعة ، والثاني : اجماع أهل الألسنة(على الرجوع اليهم) أي : إلى اللغويين (في استعلام اللغات و) في (الاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج) مع الخصوم ، فهم يستفيدون من أهل اللغة في فهمهم أنفسهم ، كما انّهم يردّون خصومهم بأقوال أهل اللغة أيضا ، (ولم ينكر ذلك أحد على أحد) فانّه لم يقل أحد ، بأن قول اللغوي ليس بحجة ، كما لم يقل أحد ، بان قول أهل الخبرة ليس بحجة ، (وقد حكي عن السيد رحمه‌الله في بعض كلماته دعوى الاجماع) من العلماء(على ذلك) الّذي ذكرناه من حجّية قول اللغوي (بل ظاهر كلامه المحكي : اتفاق المسلمين) الأعمّ من العلماء ، على حجّية قول اللغوي.

هذا تمام الكلام في الدليل الأوّل ، وهو : اجماع العلماء.

٣١٨

قال الفاضل السبزواريّ ، فيما حكي عنه ، في هذا المقام ، ما هذا لفظه :

«صحّة المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ، ممّا اتفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان» ، انتهى.

وفيه : أنّ المتيقّن من هذا الاتفاق هو الرجوع إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحو ذلك ، لا مطلقا ،

______________________________________________________

أما الدليل الثاني : ما ذكره المصنّف قدس‌سره بقوله : (قال الفاضل السّبزواري : فيما حكي عنه في هذا المقام) أي : مقام حجّية قول اللغوي (ما هذا لفظه : صحّة المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم) المتفوقين على غيرهم ، (البارعين) وبرع بمعنى : ظهر ، أي ظهروا(في فنّهم) بحيث اصبحوا يعدّون من اهل الخبرة فيه : فانّ الناس يرجعون اليهم (فيما اختصّ بصناعتهم) كالرجوع إلى الطبيب في الطب ، وإلى الفقهاء في الفقه ، وإلى النحاة في النحو ، وإلى البنائين في البناء ، وما اشبه ذلك (ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان) ومصر ، والشارع لم يغيّر طريقة العقلاء ، بل اقرّها حين الرجوع إلى الشهود ، واهل الخبرة ، وما اشبه ذلك (انتهى).

وكيف كان : فانّ الشيخ ردّ هذا الدليل على اطلاقه ، وانّما قبله مقيدا ، فعنده ليس قول اللغوي بما هو لغوي حجّة مطلقا ، حتّى يشمل الواحد من اللغويين ، وان لم يكن عادلا ، قال : (وفيه : انّ المتيقّن من هذا الاتفاق هو الرجوع اليهم) أي إلى اللغويين (مع اجتماع شرائط الشهادة : من العدد ، والعدالة ، ونحو ذلك) كأن يكون اخبار اللغوي عن حسّ ، بذهابه إلى مراكز العرب ، واستفادة اللغة منهم ، لا بما اذا كان ذلك عن اجتهاده ، (لا مطلقا) فانّه ليس قول اللغوي

٣١٩

ألا ترى أنّ أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع إليه من أهل الرجال ، بل وبعضهم على اعتبار التعدّد ، والظاهر اتّفاقهم على اشتراط التعدّد والعدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم وغيرها.

______________________________________________________

حجّة ، إلّا اذا كان من عنوان البيّنة فلم يثبت انّهم يرجعون إلى قول اللغوي مطلقا ، (ألا ترى أن أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع اليه من اهل الرجال) ليكون داخلا في خبر العدل (بل وبعضهم على اعتبار : التعدد) ليدخل في البينة ، وأي فرق بين الرجال في سند الحديث ، وبين قول اللغوي في معنى مفرداته وجمله؟ فانّه كما يشترط في الرجال العدد والعدالة ، حتّى يؤخذ بقوله ، كذلك يعتبر في اللغوي العدد والعدالة ، حتّى يؤخذ بقوله.

وهذا ليس في مجرّد قول اللغوي والرجال ، بل (والظاهر اتفاقهم على اشتراط التعدد ، والعدالة ، في أهل الخبرة في مسألة التقويم) لأموال الصغار والمجانين ، فيما اذا اريد بيعها أو نحوها(وغيرها) كتعيين الضمانات ، والخسارات ، والاضرار ، وما اشبه.

والحاصل : انّه لم يثبت اجماع من العلماء ، ولا من العقلاء على الرجوع إلى قول اللغوي ، أو غير اللغوي ، من سائر أهل الخبرة ، فيما لم يكن هناك عدد وعدالة.

هذا ما يراه المصنّف ، لكن الاظهر : انّ المتشرعة والعقلاء ، لا يشترطون العدد ، ولا العدالة ، بل يرجعون في أهم امورهم إلى أهل الخبرة ـ وان لم يكن عدد وعدالة ـ فتراهم يراجعون الاطباء حتّى في العمليات الجراحية الخطيرة ، بدون اشتراطهم التعدد والعدالة فيهم ، وكذلك بالنسبة إلى ركوبهم البواخر ، والسيارات ، والطائرات ، خصوصا الأخيرة ، فانّها من أخطر الأمور للنفس والمال ،

٣٢٠