الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-01-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

.................................................................................................

______________________________________________________

من التفسير والتأويل ، كما ذكر ذلك عليّ عليه‌السلام بنفسه في رواية رويت عنه.

ومن المعلوم : انّهم ما كانوا يريدون التفسير والتأويل ، لأنّه كان يتنافى ومقاصدهم السياسية ، ثمّ انّه حتّى اذا لم يكن فيه التفسير والتأويل ، لم يكونوا يريدونه لانّه يكون امتيازا له عليه‌السلام ، حيث يقال : انّ القرآن استنسخ منه.

وأمّا مسألة جمع عمر ، وجمع عثمان ـ على فرض الصحة ـ ، فالمراد بالجمع : انّ المصاحف المتشتتة ، الّتي كتب كلّ من الصحابة لنفسه بعض جزء منه ، اتلفت حتّى لا يكون هناك مصحف كامل ، ومصاحف ناقصة ، اذ من الطبيعي انّ مدرس الفقه أو الاصول ـ مثلا ـ الّذي يجمع كلامه تلاميذه ، يختلفون فيما يكتبونه عنه ، حيث انّ بعضهم يكون غائبا لمرض ، أو سفر ، أو ما اشبه ، فلا يكتب هذا الغائب الكلّ ، مع انّ الاستاذ بنفسه ، أو بعض التلاميذ الدائمي الحضور ، يكتبون الكلّ.

وعمر وكذلك عثمان انّما أبادا مثل هذه المصاحف المختلفة والمتشتتة ، لا القرآن الكامل الّذي كان في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذا ، وقد لاحظت أنا مصاحف كتبت قبل الف سنة ، وكانت في خزانة الإمام الحسين عليه‌السلام ، فلم تكن إلّا مثل هذا القرآن ، بدون أي تغيير اطلاقا.

وأما مسألة القراءات فهي شيء حادث ، كانت حسب الاجتهادات لجماعة خاصّة ، لكن لم يعبأ بها المسلمون لا في زمان القرّاء ولا بعد زمانهم ، ولم يعتنوا بها اعتناء يوجب تغيير القرآن ، وقد تقدّم تاريخ أزمنة هؤلاء القرّاء.

كما انّ هناك عدّة مصاحف موجودة من خط الائمة عليهم‌السلام في كلّ من : ايران ، والعراق ، وتركيا ، وغيرها ، وكلّها كهذا القرآن بلا تغيير اصلا.

٢٤١

إنّ وقوع التحريف في القرآن ، على القول به ، لا يمنع من التمسّك بالظواهر ،

______________________________________________________

ولذا نستشكل نحن في صلاة من يقرأ «ملك» في سورة الحمد ، مكان «مالك» أو «كفؤا» بالهمزة في سورة التوحيد مكان «كفوا» بالواو ، او ما اشبه ذلك ، وعلى هذا : فالبحث المذكور في هذا التنبيه مبني على ذلك القول ، لا على القول الّذي اخترناه تبعا لغير واحد من المحقّقين قديما وحديثا.

كما انّ روايات التحريف الموجودة في كتب السنّة والشيعة ، روايات دخيلة ، أو غير ظاهرة الدلالة ، وقد تتبّعنا ذلك فوجدنا ، انّ الروايات الّتي في كتب الشيعة تسعين بالمائة ـ ٩٠% ـ منها عن طريق السيّاري ، وهو باجماع الرجاليين كذّاب وضّاع ضالّ ، والبقيّة بين ما لا سند لها ، أو لا دلالة لها ، كما يجدها المتتبّع الفاحص.

واما روايات السنة : فهي أيضا تنادي بكذب أنفسها ، كما لا يخفى على من راجع الروايات ، في البخاري ، وغيره ، وحيث انّ المسألة خارجة عن مقصد الشرح ، نكتفي منها بهذا القدر ، فنرجع إلى شرح المتن ونقول :

وكيف كان ف(انّ وقوع التحريف) أي : الزيادة والنقصان (في القرآن على القول به) أي : بالتحريف كما ذهب اليه بعض ، خلافا للمشهور من المحققين ، من عدم وقوع الزيادة والنقيصة فيه (لا يمنع من التمسّك بالظواهر).

أمّا احتمال وجه المنع ، فلأنّا لا نعلم بسلامة هذه الظواهر الموجودة للعلم الاجمالي ، فاذا قال المولى ـ مثلا ـ جئني بأسد يرمي ، فحذف يرمي من كلامه بعد التحريف ، لم يكن الاسد ظاهرا في مراده ، الّذي هو الرجل الشجاع ، فلا يمكن العمل به.

٢٤٢

لعدم العلم الاجماليّ باختلال الظواهر بذلك ، مع أنّه لو علم لكان من قبيل الشبهة ، الغير المحصورة. مع أنّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة ،

______________________________________________________

وكذلك اذا قال المولى ، كلمات وعلمنا بالحذف في الجملة ، فانّ ظواهر تلك الكلمات لا يمكن العمل بها ، للعلم الاجمالي بخروج بعض الظواهر ، عمّا كان ظاهرا فيه قبل التحريف.

وانّما قلنا : لا يمنع لوجوه ثلاثة ، ذكرها المصنّف : ـ

اولا : (لعدم العلم الاجمالي باختلال الظواهر بذلك) أي : بسبب التحريف ، وذلك لاحتمال ان يكون الساقط آيات مستقلّة ، او كلمات مستقلّة ، غير مخلّة بظواهر سائر الآيات ، الّتي هي محل الابتلاء.

مثلا : نحتمل ان يكون الساقط في سورة يوسف شيئا مربوطا بالقصة الغابرة ، ممّا لا مدخليّة لها في اصول الدين ، أو فروعه ، وهكذا ، فالظواهر تبقى على حجّيتها.

ثانيا : (مع انّه لو علم) أي : علمنا اجمالا باختلال بعض الظواهر بالتحريف (لكان من قبيل الشبهة غير المحصورة) وقد تقرر في الاصول : انّ الشبهة غير المحصورة ، لا توجب للانسان تكليفا.

كما اذا كان هناك الف إناء فتنجس إناء واحد من تلك الأواني ، فانّ العلم الاجمالي بنجاسة هذا الألف ، لا يوجب الاجتناب عن هذه الأواني في الجملة ، ومعنى في الجملة : انّه لا يجوز ارتكاب الكلّ ، كما قرر في محله.

ثالثا : (مع انّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة) كنجاسة إناء في عشرة أواني ، حيث يلزم الاجتناب عن جميعها ، كما قرر في باب العلم الاجمالي

٢٤٣

أمكن القول بعدم قدحه ، لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر الغير المتعلّقة ، بالأحكام الشرعيّة العمليّة التي أمرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب ، فافهم.

______________________________________________________

(أمكن القول بعدم قدحه) ، مثلا ـ لو فرضنا انّ واحدا في العشرين من ظواهر القرآن اختل بسبب التحريف ، فانّه لا يضرّ بالحجّيّة أيضا ، مع انّ الشبهة من قبيل المحصورة ، وذلك (لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره ، من الظواهر غير المتعلقة بالاحكام الشرعيّة العمليّة الّتي امرنا) من قبل الشارع (بالرجوع فيها) أي : في تلك الاحكام (إلى ظاهر الكتاب).

فانّ العلم الاجمالي انّما يكون منجّزا ، اذا علم المكلّف انّ التكليف موجه اليه ، لا ما اذا لم يعلم ، كما اذا كان هناك عشرة أواني قرب بئر ، فوقعت قطرة من ماء نجس ، ولم يعلم بانّها وقعت في احدى هذه الأواني أو في البئر ، فانّه حيث لا يعلم بحدوث التكليف عليه ، جاز له ارتكاب الكلّ لأدلّة البراءة.

والمقام من هذا القبيل ، حيث انّه في القرآن أحكام وقصص وما اشبه ، فاذا احتملنا انّ التحريف وقع في القصة ، والتاريخ ، وما اشبه ولم نقطع ، بأنّ التحريف وقع في الاحكام جاز لنا الأخذ بالظواهر في جميع الاحكام الّتي هي محل الابتلاء.

(فافهم) ولعلّه اشارة إلى انّ مناط الحجّيّة : الظهور ، ومع اختلال بعض الظواهر لا يكون بناء العقلاء على الأخذ بظاهر أي منها. فاذا أمر المولى أمرا ونهى نهيا وسرد تاريخا ، ثمّ علمنا من الخارج أو من نفس قول المولى : انّ احد هذه الظواهر ، خرج عن الحجّيّة لخروجه عن الظهور ، فانّ مجرد احتمال ان يكون

٢٤٤

الرابع : قد يتوهّم : «أنّ وجوب العمل بظواهر الكتاب بالاجماع مستلزم لعدم جواز العمل بظاهره ،

______________________________________________________

الظاهر المختل هو التاريخ ـ مثلا ـ لا ينفع في الأخذ بظاهر الأمر والنهي.

وليس المقام من الشبهة غير المحصورة ، بعد ما ورد من حذف ثلث القرآن ، بين قوله سبحانه :

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى)(١).

وقوله سبحانه : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ...)(٢).

وفي كتب العامّة ما يشبه ذلك ، بالنسبة إلى اسامي الصحابة ، المحذوفة من القرآن الحكيم.

هذا ، ولكن الجواب الّذي ذكرناه أولا ، هو الجواب الّذي يمكن الاعتماد عليه عن هذا الاشكال.

التنبيه (الرابع) في جواب اشكال ذكره صاحب القوانين ، في العمل بظواهر القرآن وهو انّه (قد يتوهّم انّ) اثبات (وجوب العمل بظواهر الكتاب بالاجماع) لانّ الاجماع ، هو الّذي يفيد وجوب العمل بظواهر الكتاب ، والمراد به : اجماع غير الّذين خالفوا ـ كجماعة من الاخباريين ـ وإلّا فمن الواضح : انّ الاجماع المطلق غير موجود في المقام.

(مستلزم لعدم جواز العمل بظاهره) أي : بظاهر الكتاب العزيز ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ، لانّه يستلزم اجتماع الوجود والعدم من آن واحد ، بالنسبة إلى شيء واحد إلى سائر الشرائط المذكورة في باب التناقض ، وهذا بديهي الاستحالة.

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٣.

(٢) ـ سورة النساء : الآية ٣.

٢٤٥

لأنّ من تلك الظواهر ظاهر الآيات الناهية عن العمل بالظنّ مطلقا حتّى ظواهر الكتاب.

وفيه : أنّ فرض وجود الدليل على حجيّة الظواهر موجب لعدم ظهور الآيات الناهية في حرمة العمل

______________________________________________________

وانّما يلزم من وجوب العمل ، عدم جواز العمل (لانّ من تلك الظواهر) الواجب العمل بها(ظاهر الآيات الناهية عن العمل بالظنّ مطلقا) أي : سواء كان العمل بالظنّ من الظاهر ، او من غير الظاهر ، فقوله سبحانه وتعالى : ـ

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، وغير ذلك من الآيات الناهية عن العمل بالظنّ ، تشمل أيضا العمل بالظاهر ، لانّ العمل بالظاهر من صغريات العمل بالظنّ ، اذ نحن لا نقطع من الظاهر بالمراد ، وانّما نظنّ بانّ مراد المولى ذلك.

وعليه : فاذا وجب العمل بظاهر الكتاب ، وجوب العمل بظاهر قوله سبحانه :

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٢) ، وبقوله سبحانه : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٣) وغيرها من سائر الآيات ، ومعنى وجوب العمل بها ، عدم العمل بظاهر القرآن ، فظاهر القرآن يقول : لا تعمل بظاهر القرآن ، لأنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تشمل (حتّى ظواهر الكتاب) نفسه.

(وفيه :) اولا : انّ الآيات الناهية ، لا تشمل الظواهر ، لانّ الظواهر خارجة بالاجماع فهو تخصيص في باب حرمة العمل بالظنّ ، حيث (انّ فرض وجود الدّليل على حجيّة الظواهر ، موجب لعدم ظهور الآيات الناهية ، في حرمة العمل

__________________

(١) ـ سورة الاسراء : الآية ٣٦.

(٢) ـ سورة الاسراء : الآية ٣٦.

(٣) ـ سورة يونس : الآية ٣٦.

٢٤٦

بالظواهر ، مع أنّ ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجيّة أنفسها ، إلّا أن يقال إنّها لا تشمل أنفسها ، فتأمّل.

وبازاء هذا التوهّم ، توهّم : «أنّ خروج ظواهر الكتاب عن الآيات الناهية ليس من باب التخصيص ، بل من باب التخصّص ،

______________________________________________________

بالظواهر) فليست الظواهر من صغريات الظنّ ، لأنّ الظواهر خارجة بالاجماع من باب التخصيص ، وانّما يشمل الظنّ غير الظواهر من الظنون العادية.

ثانيا : (مع انّ ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجّيّة أنفسها) وذلك محال بأن تقول الآية الناهية : لا تعمل بي ، فانّه لو شملت الآيات الناهية ظواهر الكتاب أيضا ، لشملت نفسها ، لأنّ نفس هذه الآيات الناهية من ظواهر الكتاب ، وهذا محال.

(إلّا أن يقال : انّها) أي : الآيات الناهية(لا تشمل انفسها) لأنّ المتبادر من الآيات الناهية غير انفسها.

(فتأمّل) ويمكن أن يكون إشارة إلى انّه : لا يتمكن الاجماع من اخراج الظواهر ، على نحو التخصيص ، اذ الآيات الناهية آبية عن التخصيص فانّه كيف يمكن أن يقال : انّ طبيعة الظنّ ليست طريقا ، ثمّ يقول : انّ هذا الظنّ ليس كذلك؟

وبعبارة اخرى : انّ الآيات الناهية ، وان لم تشمل انفسها من حيث التبادر اللفظي للانصراف الّذي ذكرناه ، إلّا انّها تشمل انفسها بالمناط ، ومعنى المناط ، انّ الظنّ الّذي ليس بحجّة في نفسه شامل للظاهر أيضا.

(وبازاء هذا التوهّم) القائل بالتخصيص (توهّم) آخر قائل بالتخصّص ، وهو : (انّ خروج ظواهر الكتاب عن الآيات الناهية ليس من باب التخصيص ، بل من باب التخصّص).

٢٤٧

لأنّ وجود القاطع على حجّيّتها يخرجها عن غير العلم الى العلم».

وفيه : ما لا يخفى.

______________________________________________________

والفرق بينهما : انّ التخصيص خروج حكمي ، والتخصّص خروج موضوعي ، فاذا قال : اكرم العلماء إلّا زيدا ، وكان زيد عالما ، كان تخصيصا ، أمّا اذا كان زيد جاهلا كان تخصّصا ، لانّه لم يدخل في العلماء حتّى يخرج منهم.

فالتوهّم الأوّل كأن يقول : انّ الآيات الناهية شاملة لظواهر القرآن ، إلّا انّ الظواهر خارجة بسبب الاجماع ، فهو تخصيص.

والتوهّم الثاني كأن يقول : بأنّ الآيات الناهية ، لا تشمل الظواهر اطلاقا ، بل تشمل سائر الظنون العاديّة ، فخروج الظواهر من باب التخصّص ، وذلك (لانّ وجود) الدليل (القاطع على حجّيّتها يخرجها عن غير العلم إلى العلم) فانّ ما دلّ على حجّيّة الظواهر ، من الاجماع والروايات المتواترة وما اشبه ، تخرج الظواهر من كونها ظنا إلى كونها علما.

(وفيه ما لا يخفى) لأنّ الدليل المعتبر على حجّيّة الظواهر ، لا يجعل الظواهر علما ، بل تكون ظنا معتبرا ، وفرق بين الظنّ المعتبر ، وبين العلم.

هذا ، ولكن يمكن ان يقال : انّ الظنّ مطلقا حجّة عند العقلاء ، والشرع لم يغيره.

أمّا انّه حجّة مطلقا عندهم ، فلبنائهم في كلّ امورهم المهمّة وغير المهمّة على الظنون ، فمن يسافر بالطائرة ، أو الباخرة ، أو السيارة ، أو غير ذلك ، هل يعلم انّ سائقها يعرف السياقة كاملا ، فيوصله بسلام؟ أو انّ وسيلة النقل الّتي حجز مقعده منها صحيحة سالمة توصله بسلام؟ فمع انّه لا يعلم بذلك ، يسلم نفسه وامواله وعائلته اليهم ، كما انّه يسلمها جميعا إلى وسيلة النقل المجهولة.

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذلك من يعطي نفسه للطبيب الجرّاح ، لاجراء عمليّة جراحيّة عليه ، خصوصا لو كانت العمليّة صعبة هل يعلم بانّ الطبيب الجراح ماهر في مهنته؟.

وكذا من يراجع الطبيب في مرضه ويشرب الدواء الّذي وصفه الطبيب له ، هل يعلم بأنّ الدواء دواء سالم عن الاشتباه ، صحيح من حيث التركيب؟.

وهكذا من يتاجر فهل يضمن ربح تجارته؟ ومن يقوّم ملكه لبيعه هل يضمن صحّة تسعيره؟ إلى غير ذلك من امورهم ، أليس كلّ ذلك ظنّ؟.

وأمّا انّ الظنّ في الشرع كذلك ، فلأنّ حال المسلمين في زمانهم عليهم‌السلام ، كان كذلك ، وهم لم يردعوا عنه ، والّا لوصل خلافه الينا ، ولم يصل ، بل وصل العكس ، وهو : اعتمادهم على الظنّ مطلقا.

أمّا الآيات الناهية ، فهي في قبال الدليل العقلائي القائم على عدم صحّة عبادة الاصنام ، وما أشبه ذلك حيث كان المشركون يعملون في قبال الدليل على ظنونهم غير العقلائية ، والعقلاء لا يرون مثل هذا الظنّ حجّة ، بالاضافة إلى انّها في اصول الدين ، فلا يمكن تعديتها إلى فروع الدين ، وسائر الشئون الدنيويّة ، لأهميّة اصول الدين بما لا أهمية مثلها في فروع الدين.

ولو لم نقل بذلك ، كان التوهّم الثاني هو الأقرب إلى الدليل ، فخروج الظنّ ، من باب التخصّص لا التخصيص ، اذ التخصيص في معنى قوله سبحانه :

(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) ، غير وارد ، فانّ أمثال هذه الآية ، من قبيل ما لا يمكن تخصيصه.

__________________

(١) ـ سورة يونس : الآية ٣٦.

٢٤٩

وأمّا التفصيل الآخر : فهو الذي يظهر من صاحب القوانين ، في آخر مسألة حجيّة الكتاب وفي أوّل مسألة الاجتهاد والتقليد ، وهو الفرق بين من قصد إفهامه بالكلام ، فالظواهر حجّة بالنسبة إليه من باب الظنّ الخاصّ ، سواء كان مخاطبا ، كما في الخطابات الشفاهيّة ، ام لا ،

______________________________________________________

والحاصل لما مضى يكون كالتالي :

اوّلا : انّ الظنّ حجّة مطلقا ، إلّا ما خرج.

ثانيا : لو لم نقل بذلك ، يكون خروج الظنّ ، في الموارد المذكورة ، من باب التخصّص لا التخصيص.

هذا هو تمام الكلام في القول : بالتفصيل ، بين ظواهر الكتاب فليست بحجّة ، وبين ظواهر غير الكتاب فهي حجّة.

(وأمّا التفصيل الآخر ، فهو الّذي يظهر من صاحب القوانين ، في آخر مسألة حجيّة الكتاب ، وفي أوّل مسألة الاجتهاد والتقليد ، وهو : الفرق بين من قصد افهامه بالكلام فالظواهر حجّة ، بالنسبة اليه) سواء كان من قصد افهامه حاضرا أو غائبا ، موجودا أو معدوما في حال الخطاب ، فالظاهر يكون بالنسبة اليه حجّة(من باب الظنّ الخاصّ) لاتفاق أهل اللسان على ذلك ، من غير فرق بين اللّغة العربية أو الفارسية أو غيرهما.

(سواء كان) من قصد أفهامه (مخاطبا) شفها ، بان يكون حاضرا في مجلس الخطاب ، والمخاطب مشافه له (كما في الخطابات الشفاهية) بأن يقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن حضر مجلسه اعملوا كذا ، أو لا تعملوا كذا ، (ام لا) بان يخاطب المسلمين ، الحاضرين منهم والغائبين ، الموجودين منهم والمعدومين ، الذين سيأتون فيما بعد ، فيقول لهم : اعلموا ايها المسلمون انّه يجب عليكم العمل

٢٥٠

كما في الناظر في الكتب المصنّفة ، لرجوع كلّ من ينظر إليها ؛ وبين من لم يقصد إفهامه بالخطاب ، كأمثالنا بالنسبة الى أخبار الأئمة عليهم‌السلام الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين وبالنسبة الى الكتاب العزيز ، بناء على عدم كون خطاباته موجّهة إلينا

______________________________________________________

بكذا(كما في الناظر في الكتب) ، المتعارفة(المصنّفة لرجوع كلّ من ينظر اليها) ، فانّ امثال هذه الكتب ، لم تكتب لجماعة خاصّة كانوا في حضور المؤلف ، أو كانوا في زمانه ، فانّ المصنفين غالبا يؤلّفون الكتاب لكلّ من نظر فيه وطالعه ، ولو بعد آلاف السنوات ، فيكون الجميع مقصودا بالافهام ، ولهذا تكون هذه الكتب حجّة بالنسبة اليهم.(وبين من لم يقصد افهامه بالخطاب) حتّى وان كان حاضرا في المجلس ، كما اذا كان المتكلّم يريد جماعة خاصّة كالعلماء ـ مثلا ـ أو المهندسين أو الاطبّاء ، فانّ غير هؤلاء اذا كانوا حاضرين في مجلس الخطاب ، لا يشملهم الخطاب ، فليس الظواهر حجّة بالنسبة اليهم (كأمثالنا بالنسبة إلى اخبار) الرسول والزهراء و (الأئمّة عليهم‌السلام الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين) ، فانّ المقصود بالخطاب هو السائل لا كلّ من يسمع الخطاب ، ولو كان حاضرا في مجلس المعصوم عليه‌السلام ، فالغائب في ذلك الزمان وكذلك نحن لسنا مقصودين بالافهام ، ولذا فالظاهر ليس حجّة لنا(و) لا لأمثالنا(بالنسبة الى الكتاب العزيز بناء على عدم كون خطاباته موجّهة الينا) بل خطاباته موجهة إلى الموجودين ، في زمن نزول الآيات ، فمثل قوله سبحانه : (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ)(١) ، وقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ

__________________

(١) ـ سورة الانفال : الآية ٦٥.

٢٥١

وعدم كونه من باب التأليف للمصنّفين ، فالظهور اللفظيّ ليس حجّة حينئذ لنا ، إلّا من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم.

ويمكن توجيه هذا التفصيل :

______________________________________________________

يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)(١) ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة» (٢) ، كلّها خاصة بأولئك ولا تشملنا ، بل لا يشمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا للجيش الّذي يعقده أسامة ، بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاذا عقد جيشا وأراد غزوا ، فلم ينظم بعض المسلمين تحت لوائه ، لا يشمله لعن الرسول.

(و) ذلك ل(عدم كونه من باب التأليف للمصنفين) أي : بناء على انّا لسنا مقصودين بالافهام ، فالقرآن العزيز ـ على رأيه ـ ليس من قبيل تأليف المصنفين ، أمّا بناء على كوننا مقصودين بالافهام في الكتاب العزيز ، وفي كلماتهم عليهم‌السلام ، فالخارج يحتاج إلى الدليل.

وعلى قول صاحب القوانين : (فالظهور اللفظي) في الآيات والاخبار(ليس حجّة حينئذ لنا الّا من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم) لا من باب الظنّ الخاصّ ، الّذي كلامنا فيه الآن.

والحاصل : انّ صاحب القوانين ، يرى حجّيّة هذه الامور من باب الظنّ المطلق ، كسائر الظنون ، لا من باب انّه ظنّ خاصّ.

(ويمكن توجيه هذا التفصيل) بما حاصله : انّه اذا كان الشخص مقصودا بالافهام ، فاحتمال خلاف ظاهر اللفظ ، يكون من جهة احتمال غفلة المتكلّم ،

__________________

(١) ـ سورة الانفال : الآية ٦٥.

(٢) ـ دعائم الاسلام : ج ١ ص ٤١ ، الصراط المستقيم : ج ٢ ص ٢٩٦ (بالمعنى) ، إثبات الهداة : ج ٢ ص ٣٨٣ ، الملل والنحل للشهرستاني : ص ٦.

٢٥٢

بأنّ الظهور اللفظيّ ليس حجّة إلّا من باب الظنّ النوعيّ وهو كون اللفظ بنفسه لو خلّي وطبعه مفيدا للظنّ بالمراد.

فاذا كان مقصود المتكلّم من الكلام ، إفهام من يقصد إفهامه ، فيجب عليه

______________________________________________________

أو غفلة السامع ، والغفلة منفيّة بالأصل.

أمّا اذا لم يكن الشخص مقصودا بالافهام ، فهناك احتمال آخر في عدم ارادة المتكلّم الظاهر ، لاحتمال انّ المتكلّم أتى بقرينة يفهمها المخاطب دون الشخص الثالث ، ولا أصل ينفي هذا الاحتمال ، فكيف يمكن اعتماد الثالث ، على هذا الظاهر الّذي يحتمل احتمالا عقلائيا ، عدم ارادة المتكلّم له ، لانّه نصب قرينة يفهمها المخاطب دون غير المخاطب؟.

وعليه : فانّا نعلم علما قطعيّا(بأنّ الظهور اللفظي ليس حجّة الّا من باب الظنّ) لانّ الظواهر لا تفيد العلم ، ولذا اتفق العلماء على أنّ معيار حجّيّة الظواهر من باب الظنون ، لكن لا يراد بالظنّ : الشخصي ، بل المراد بالظنّ (النوعي) ومعنى الظنّ النوعي : انّ النوع يظنّون من هذا الظاهر هذا المعنى : (وهو كون اللفظ بنفسه) أي : لا بالدليل الخارجي (لو خلّي وطبعه) وذلك بأن لم يكن للمتكلّم اسلوب جديد ، في افادته ما يريده ، ولم يكن للمخاطب وسوسة أو نحوها ، حتّى يظنّ الخلاف من الظاهر(مفيدا للظنّ بالمراد) وهذا خبر قوله : «كون اللفظ» ، فالمناط لحجّيّة الظهور عند أهل اللسان : المخاطب بالمراد ، والظنّ انّما يحصل لمن قصد افهامه ، دون غيره ، بمعنى : انّ العقلاء يظنّون ظنا نوعيا بمراد المتكلّم ، فيما اذا كان الطرف هو المخاطب ، لا ما اذا كان انسانا ثالثا ، لم يقصد المتكلّم خطابه ، (فان كان مقصود المتكلّم من الكلام افهام من يقصد افهامه) أي : مخاطبه (فيجب عليه) أي : على المتكلّم من جهة أن لا يكون مغريا بالجهل

٢٥٣

إلقاء الكلام على وجه لا يقع المخاطب معه في خلاف المراد ، بحيث لو فرض وقوعه في خلاف المقصود ، كان إمّا لغفلة منه في الالتفات إلى ما اكتنف به الكلام الملقى إليه ، وإمّا لغفلة من المتكلّم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد ،

______________________________________________________

(القاء الكلام على وجه) يفيد المراد و (لا يقع المخاطب معه) أي : مع ذلك الوجه (في خلاف المراد) ، فاذا اراد من الصلاة ، الأركان المخصوصة لا الدعاء ، وقد كان المتعارف : فهم الدعاء من الصلاة ، لا الأركان المخصوصة ، وجب على المتكلّم فيما اذا قال : أقيموا الصلاة أن يقيم قرينة كي يفهم المخاطب مراده من الصلاة ، وكذلك بالنسبة إلى الزكاة ، والحجّ ، وغيرها ، كما انّه اذا أراد من الأسد : الحيوان المفترس وجب عليه ان لا يأتي بقرينة ، تصرف ظاهر اللفظ عن معناه اللغوي ، أمّا اذا كان مراده من الأسد : الرجل الشجاع ، فاللازم عليه : أن يأتي بقرينة تصرف الظاهر عن ظاهره ، مثل : اسد يرمي ، أو أسد في الحمام أو ما اشبه ذلك.

(بحيث لو فرض وقوعه) أي : المخاطب ، (في خلاف المقصود) أي : خلاف مقصود المتكلّم (كان امّا لغفلة منه) أي : المخاطب (في الالتفات إلى ما) أي القرينة اللفظية ، أو العقليّة الّتي (اكتنف به الكلام الملقى اليه) أي : إلى المخاطب (وامّا لغفلة من المتكلّم في القاء الكلام على وجه يفي بالمراد).

والحاصل : فهم خلاف المراد ، ينتج امّا من جهة انّ المتكلّم لم يأت بالقرينة ، كما اذا قال : الأسد ، وأراد الشجاع ، بدون ان يأتي بمثل يرمي ، غفلة من المتكلّم في انّ هذه القرينة لازمة لفهم المخاطب مراده ، أو من جهة انّ المخاطب غفل عن اشتمال كلام المتكلّم على يرمي ، ففهم من الأسد الحيوان المفترس ،

٢٥٤

ومعلوم أنّ احتمال الغفلة من المتكلّم او السامع احتمال مرجوح في نفسه مع انعقاد الاجماع من العقلاء والعلماء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة في جميع امور العقلاء ، أقوالهم وأفعالهم.

______________________________________________________

لا ما أراده المتكلّم من الرجل الشجاع ، (ومعلوم : انّ احتمال الغفلة من المتكلّم ، أو السّامع ، احتمال) ضعيف لا يضرّ بالظاهر ، و (مرجوح في) حدّ(نفسه) فلا يوجب عدم الظنّ بالمراد ، الظنّ الّذي هو ملاك الظهور ، والأخذ والعطاء.

هذا من ناحية ضعف الاحتمال في نفسه (مع انعقاد الاجماع من) أهل اللّسان ، أي : (العقلاء والعلماء) الذين هم قسم من العقلاء(على) اصالة عدم الغفلة في المتكلّم ، أو في السامع و (عدم الاعتناء باحتمال الغفلة في جميع أمور العقلاء) من (أقوالهم وأفعالهم) ، فانّه اذا احتمل انّ العاقل ، فعل فعلا غفلة ، أو قال قولا غفلة ، بحيث لا يريد ظاهر ذلك القول ، أو كان فعله صادرا عن غير ارادة جدّية لغفلته ، فالأصل العقلائي عدم الاعتناء بهذا الاحتمال ، مثلا : ـ في الشهادات والأقارير ، والأوامر ، والنواهي ، وغيرها ، اذا أطلقها المتكلّم ، لا يحتمل العقلاء الغفلة فيها ، فلا يحتملون انّه اراد النهي وقال الامر ، أو اراد بالشهادة زيدا ، فتلفظ غفلة بلفظ عمرو ، وهكذا اذا صلّى ، أو صام ، أو اشترى ، أو باع ، أو استأجر ، أو ما اشبه ، لا يحتمل العقلاء غفلة الفاعل في هذه الافعال ، بان يحتملوا انّه يريد البيع ـ مثلا ـ فقال لفظ الاستئجار أو بالعكس ، إلى غير ذلك.

لا يقال : انّا نعلم علما يقينا ، بوجود الغفلة في الاقوال والافعال للعقلاء في الجملة ، فكيف نجري أصل عدم الغفلة؟.

لانّه يقال : الغفلة في قبال عدم الغفلة قليلة جدا ، والقليل ليس مورد اعتناء

٢٥٥

وأمّا إذا لم يكن الشخص مقصودا بالافهام ، فوقوعه في خلاف المقصود لا ينحصر سببه في الغفلة. فانّا إذا لم نجد في آية او رواية ما يكون صارفا عن ظاهره واحتملنا أن يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اخفيت علينا ،

______________________________________________________

العقلاء ، ولذا يجرون اصالة عدم الغفلة في الاقوال والافعال ، إلّا اذا ثبت خلاف هذا الاصل.

(وامّا اذا لم يكن الشخص مقصودا بالافهام) فلا يلزم على المتكلّم ، رعاية حال مثل هذا الشخص ، ولذا يحتمل هذا الثالث احتمالا عقلائيا بوجود قرينة اختفت عليه ، (فوقوعه) أي : هذا الثالث (في خلاف المقصود) للمتكلّم (لا ينحصر سببه في الغفلة) ، للمتكلّم ، أو لهذا الشخص الّذي يريد فهم مراد المتكلّم من كلامه ، وهو الشخص الثالث ، بل ربّما يكون عدم فهم هذا الثالث مراد هذا المتكلّم ، لاختفاء القرائن المكتنفة بالكلام حالا ، أو مقالا بالنسبة اليه.

والحاصل : انّ اصالة عدم الغفلة من المتكلّم تكفي بالنسبة إلى الثالث ، لكن الثالث ، لا يتمكن انّ يكتفي بهذا الاصل ، بل يحتاج إلى أصل آخر ، وهو : اصالة عدم القرينة بين المتكلّم والسامع ، وهذا ليس أصلا عقلائيا يبني عليه في التفهيم والتفاهم لدى العقلاء.

(فانّا اذا لم نجد في آية أو رواية ، ما يكون صارفا عن ظاهره) والضمير المذكر في «ظاهره» عائد إلى الكلام المستفاد من العبارة(واحتملنا ان يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اخفيت علينا) ، بأن كانت هناك قرينة حالية ، أو مقاليّة بين المتكلّم والمخاطب بتلك الآية ، أو بتلك الرواية ، لكن تلك القرينة اختفت علينا سواء كنّا غائبين عن مجلس الخطاب ، أو كنّا معدومين في وقت الخطاب ، بل

٢٥٦

فلا يكون هذا الاحتمال لأجل غفلة من المتكلم او منّا ، إذ لا يجب على المتكلّم إلّا نصب القرينة لمن يقصد افهامه ، مع أنّ عدم تحقّق الغفلة من المتكلّم في محلّ الكلام مفروض لكونه معصوما. وليس اختفاء القرينة علينا مسبّبا عن غفلتنا عنه ، بل لدواعي الاختفاء

______________________________________________________

وحتّى اذا كنّا في مجلس الخطاب ، اذا احتملنا أن يكون بين المتكلّم والمخاطب مواطاة على القرينة.

(فلا يكون هذا الاحتمال) أي : احتمال القرينة المختفية علينا هو (لاجل غفلة من المتكلّم أو منّا) لانّ هذا الاحتمال ، احتمال جديد ، غير احتمال الغفلة(اذ لا يجب على المتكلّم إلّا) رعاية حال مخاطبه ، لا رعاية من حضر مجلسه ، أو رعاية الغائب عن مجلسه ، أو رعاية المعدوم ، الّذي سيوجد بعد ذلك.

فاللازم على المتكلّم (نصب القرينة لمن يقصد أفهامه ، مع انّ عدم تحقق الغفلة من المتكلّم في محل الكلام) في باب الآيات والروايات (مفروض) لانّ المفروض انّ محل كلامنا : الآيات والروايات ، وهي صادرة عمّن لا يخطأ لانّه الله سبحانه وتعالى او من قبله سبحانه (لكونه معصوما) ، فأصالة عدم الغفلة غير محتاج اليها في محل البحث ، نعم ، غفلة الشخص الثالث وعدم غفلته ، مورد الاصل ، أي الاصل : انّ الشخص الثالث لم يغفل ، كما انّ الاصل : انّ المخاطب لم يغفل ، وكذا ـ في غير الله سبحانه وتعالى ، والمعصومين عليهم‌السلام ، الاصل عدم الغفلة في المتكلم أيضا.

(وليس اختفاء القرينة علينا مسبّبا عن غفلتنا عنه ، بل لدواعي الاختفاء) فلا يكفي اصالة عدم غفلتنا بالنسبة إلى الآيات والروايات في استفادتنا من الظواهر مراد المتكلّم ، بل نحتمل احتمالا عقلائيا انّ القرائن كانت موجودة ، وقد اختفت

٢٥٧

الخارجة عن مدخليّة المتكلّم ومن القي إليه الكلام.

فليس هنا شيء يوجب بنفسه الظنّ بالمراد ، حتّى لو فرضنا الفحص ، فاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائه علينا ليس هنا ما يوجب مرجوحيّته حتّى لو تفحّصنا عنها ولم نجدها ،

______________________________________________________

علينا ، وهي ، القرائن (الخارجة عن مدخلية المتكلّم ومن القي اليه الكلام) الّذي كان حاضرا في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عند قراءة الرسول الآية عليه ، أو أمره ونهيه بشيء من الاحكام ، ومثل هذا لاحتمال لا أصل ينفيه ، خصوصا بالنسبة إلى الاخبار الّتي اختلطت فيها التقيّة بغير التقيّة.

كما انّ التقطيع فيها اوجب اختفاء كثير من القرائن ، في أوّل الكلام لآخره ، أو في آخر الكلام لاوّله ، أو في وسط الكلام لاوّله ، أو آخره.

(فليس هنا) للشخص الثالث (شيء يوجب بنفسه الظنّ بالمراد) ، فانّه اذا لم يلزم على المتكلّم ـ في عرف العقلاء رعاية حال من لم يقصد افهامه ، بحيث احتمل الثالث اختفاء القرائن ، لا يحصل لهذا الثالث ، الظنّ بمراد المتكلّم ، من نفس الظاهر ، بحيث يكون ظنا نوعيا خاصا وان كان ظنا من باب الانسداد ـ كما يقوله القوانين ـ وذلك (حتّى لو فرضنا الفحص) من هذا الشخص الثالث.

وعليه : (فاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائه علينا) ونحن الشخص الثالث ، لانّنا لم نكن مقصودين بالخطاب على هذا لقول ، وانّما كان المقصود بالخطاب : الذين كانوا زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والائمة الطاهرين عليهم‌السلام يثبته انّه (ليس هنا ما يوجب مرجوحيته حتّى لو تفحّصنا عنها ولم نجدها).

وقوله : «ليس هنا» ، خبر قوله : «فاحتمال» أي : انّ احتمال وجود القرينة

٢٥٨

إذ لا تحكم العادة ، ولو ظنّا ، بأنّها لو كانت لظفرنا بها ، إذ كثير من الامور قد اختفت علينا.

بل لا يبعد دعوى العلم بأنّ ما اختفى علينا من الأخبار والقرائن أكثر ممّا ظفرنا بها ، مع أنّا لو سلّمنا حصول الظنّ بانتفاء القرائن المتصلة ،

______________________________________________________

واختفائها ، احتمال قوي موجود قبل الفحص وبعد الفحص واليأس ، واذا كان هذا الاحتمال موجودا عند العقلاء ، فلا يحصل لهم الظنّ بمراد المتكلّم الظاهر من كلامه ، فلا يمكن الاعتماد على الظاهر في استفادة مراد المتكلّم منه ، (اذا لا تحكم العادة) العقلائية ولو احتمالا ، (ولو ظنا ، بانّها لو كانت لظفرنا بها) فانّ العادة لم تجر بالظفر بالقرائن المختفية ، فيما اذا لم يكن مقصود المتكلّم الشخص الثالث ، (اذ كثير من الامور قد اختفت علينا) ولم تتوفر الدواعي في حفظ تلك القرائن ، حيث لم نكن نحن المقصودين ، فاذا خاطب المولى عبدا واراد بذلك كلّ عبيده ، وكانت هناك قرائن ، توفرت الدواعي لحفظ تلك القرائن ، حتّى يطلع العبيد عليها ، فيطيعون المولى ، أما اذا كان المقصود المخاطب فقط ، لم تكن تلك الدواعي فلا تحفظ القرائن ، وحينئذ لا يكون الظاهر حجّة لدى العبيد الذين لم يكونوا مقصودين بالخطاب.

(بل لا يبعد دعوى العلم : بأن ما اختفى علينا من الاخبار والقرائن ، أكثر ممّا ظفرنا بها) لكثرة التقطيع في الروايات ، وتداخل التقيّة في غيرها ، وعدم استواء فهم المخاطبين لكلمات المولى ، فاذا فحصنا عن تلك القرائن ، لا يحصل لنا العلم بعدمها ، بل ولا الظنّ بعدم تلك القرائن ، ولو فرض حصول الظنّ بعدم القرينة ، لم يكن هذا الظن حجّة لعدم بناء العقلاء على حجية مثل هذا الظن.

(مع انّا لو سلّمنا حصول الظنّ) بعد الفحص (بانتفاء القرائن المتّصلة) ولم

٢٥٩

لكنّ القرائن الحاليّة وما اعتمد عليه المتكلّم من الامور العقليّة او النقليّة الكليّة او الجزئية

______________________________________________________

نقل : بأن تقطيع الاخبار وغيره ، اوجب انتفاء القرائن المتصلة الّتي تعني المقصود من الكلام (لكن القرائن الحالية) كصدور الكلام في حال التقيّة(وما) أي : القرائن الّتي (اعتمد عليه المتكلّم من الامور العقلية ، او النقليّة الكلّيّة) فلا نسلم حصوله ، اما القرينة العقليّة الكلّيّة ، فمثل : انّ المولى حكيم والحكيم لا يأمر بشيء اعتباطي ، فيكون قرينة على انّ الظاهر ليس مراد المولى ، مثلا : لو قال المولى : تقدّم إلى النور ، لم يكن مراده : المشي إلى مكان المصباح ، ـ لانّه اعتباط فرضا ـ بل مراده : الذهاب إلى العلم ، فيكون هذا قرينة عقليّة كلّيّة على المراد.

وأما القرينة النقليّة فمثل : وقوع الامر عقيب الحظر ، ووقوع النهي عقيب توهّم الوجوب ، فانّهما قرينتان على عدم وجوب الامر ، وعدم حرمة النهي ، فاذا قال : سبحانه : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) لم يكن معنى الامر هنا : الوجوب ، بل معناه : الاباحة ، لانّه واقع بعد النهي عن الاصطياد في حال الاحرام ، وكذلك اذا أمر بالصدقة قبل النجوى ، ثمّ قال : لا تعطوا الصّدقة ، لم يكن نهيا تحريميا ، بل لافادة ارتفاع الوجوب.

(أو الجزئيّة) في قبال الكلّيّة ، فانّ القرينة اما عقليّة أو نقليّة ، وكلّ منهما امّا كلّيّة تشمل هذا الموضوع وسائر المواضيع وتعمّ هذا المولى وسائر الموالي أو جزئيّة مختصة بهذا الموضوع وهذا المولى كما اذا قال المولى : اكرم العلماء وعلم العبد بانّه لا يريد الفسّاق ، لانّ الفسّاق مبغوضون عنده ، فانّ هذه قرينة جزئية على عدم

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٢.

٢٦٠