الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-01-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ثم إنّك قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ خلاف الأخباريّين في ظواهر الكتاب ليس في الوجه الذي ذكرنا ، من اعتبار الظواهر اللفظيّة في الكلمات الصادرة لافادة المطالب واستفادتها ، وإنّما يكون خلافهم في أنّ خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادة المراد من أنفسها ، بل بضميمة

______________________________________________________

نعم ، لا اشكال في انّ القرآن الحكيم ، حيث كان اعجازا يكون شموله لهذه الخصوصيات أكثر ، لانّ الاعجاز فوق مستوى كلام العقلاء.

(ثمّ انّك قد عرفت ممّا ذكرنا :) انّ النزاع بيننا وبين الاخباريين صغروي لا كبروي ، اذ القياس هكذا صورته : صغرى هذا الكلام صادر للتفهيم والتفاهم.

كبرى : كلّ كلام صادر لذلك فهو حجّة.

فالاخباريون ينكرون الصغرى ، ويقولون : انّ القرآن لم يصدر للتفهيم والتفاهم بنفسه ، ومجرّدا عن كلماتهم «عليهم الصلاة والسلام».

وذلك أمّا لعدم ظهور للقرآن اطلاقا لاختلاطه بالمتشابه ، وصيرورة الجميع متشابها.

وأمّا لانّ له ظهور ، لكن الشارع يريد تفهّم ذلك الظاهر بسبب تفسير الائمّة عليهم‌السلام ، لا انّه بحيث يعمل به كلّ احد ، من دون مراجعتهم عليهم‌السلام.

وأمّا الكبرى ، فمتّفق عليها بيننا وبين الاخباريين ، وأشار اليه بقوله :

(انّ خلاف الاخباريين في ظواهر الكتاب ، ليس في الوجه الّذي ذكرنا) كبرويّا(من اعتبار الظواهر اللفظيّة في الكلمات الصادرة لإفادة المطالب ، واستفادتها) فانّهم يسلّمون بهذه الكبرى (وانّما يكون خلافهم في) الصغرى ، بأمرين :

اولا(انّ خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادة المراد من أنفسها ، بل بضميمة

٢٢١

تفسير أهل الذكر او أنّها ليس بظواهر بعد احتمال كون محكمها من المتشابه ، كما عرفت من كلام السيّد المتقدم.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : إنّه ربّما يتوهم بعض : «أنّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى

______________________________________________________

تفسير أهل الذكر) «عليهم الصلاة والسلام» ، حيث ، انّهم هم أهل الذكر ، الذين عناهم الله سبحانه وتعالى بقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) ، فانّ ظاهر آية الذكر ، وان كان علماء الأديان السابقة ، إلّا انّ باطنها الائمّة عليهم‌السلام ، كما في الروايات.

ثانيا : (أو انّها) أي المذكورات ، في القرآن الحكيم من الكلمات ، والجمل والآيات (ليست بظواهر بعد) نهي الشارع عن اتباع المتشابه ، وهي من المتشابه ايضا ل(احتمال كون محكمها) أي محكم الكلمات الواردة في القرآن الحكيم قد اختلطت بالمتشابه ، فصارت (من المتشابه ، كما عرفت من كلام السيد المتقدّم) وقد تقدّم الجواب عن اشكالهم الصغروي.

هذا (وينبغي التنبيه على أمور) مرتبطة بالقرآن الحكيم ، وبالاخبار أيضا :

(الاوّل : انّه ربّما يتوهّم بعض : انّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى) أي : لا ثمرة مهمّة ، لهذا البحث ، والبحث الّذي لا ثمرة مهمّة له ، الأولى تركه ، وعدم ذكره في كتاب الاصول الموضوع لاجل ان يكون مقدمة للفقه في الامور العملية.

__________________

(١) ـ سورة الانبياء : الآية ٧.

٢٢٢

إذ ليست آية متعلّقة بالفروع او الاصول إلّا ورد في بيانها او في الحكم الموافق لها خبر او أخبار كثيرة ، بل انعقد الاجماع على أكثرها ، مع أنّ جلّ آيات الاصول والفروع ، بل كلّها ، ممّا تعلّق الحكم فيها بامور مجملة لا يمكن العمل بها إلّا بعد

______________________________________________________

(اذ ليست آية متعلّقة بالفروع أو الاصول إلّا ورد في بيانها) وتفسيرها ، والمراد منها ، وخصوصيّاتها(أو في الحكم الموافق لها) بدون التفسير(خبر ، أو أخبار كثيرة ، بل انعقد الاجماع على أكثرها) ونحن اذا راجعنا تلك الاخبار نكتفي عن البحث في ظاهر الآية وانّه هل يشمل هذا الفرع الّذي هو محل الابتلاء ، أو لا يشمل؟.

وكذلك بالنسبة إلى اصول الدين : مثل الامور المرتبطة بالله سبحانه وتعالى ، وصفاته ، والنّبوة العامّة والنبوّة الخاصّة ، والامامة ، والمعاد ، بل وكذلك ما هي من شئونها : كأحوال القيامة ، وأحوال البرزخ ، والملائكة ، وغيرها.

وعلى كلّ حال : يكفينا ما وصلنا من الأخبار والاجماعات ، بل والأدلّة العقليّة في جملة من تلك الاصول ، بل والفروع أيضا بمقتضى قاعدة : «كلّما حكم به العقل حكم به الشرع» ، فلا حاجة إلى البحث والتفتيش والتنقيب في انّ ظواهر القرآن حجّة ام لا؟ كما وقع بين الاخباريين.

(مع انّ جلّ آيات الاصول والفروع ، بل كلّها ، ممّا تعلّق الحكم فيها بأمور مجملة) ومن المعلوم انّ المجمل لا يمكن الأخذ به لأنّه لا ظاهر له.

وعليه : فالآيات بين : ما لا ظاهر لها ، وبين ما لها ظاهر ، لكن الروايات والاجماعات والأدلّة العقلية تكفينا عنها ، فانّ المجمل (لا يمكن العمل بها الّا بعد

٢٢٣

أخذ تفصيلها من الأخبار» ، انتهى.

أقول : ولعلّه قصّر نظره الى الآيات الواردة في العبادات ، فانّ أغلبها من قبيل ما ذكره ،

______________________________________________________

اخذ تفصيلها من الاخبار انتهى) (١).

وفيه : انّ كلا الاشكالين : ـ اشكال : كفاية الاخبار ، والاجماعات ، والأدلّة العقليّة ، عن الاحتياج إلى ظواهر القرآن الحكيم ، واشكال : انّ الآيات كلّها مجملات فلا يمكن أخذ شيء منها ـ غير تامّ.

ولا يخفى انّ المتوهّم ، وان كان من اعاظم العلماء وهو : المولى أحمد النراقي في كتابه : «مناهج الاصول» ، الّا أنّا تتبّعنا الآيات ، والروايات ، والاجماعات والادلّة العقليّة ، فظهر لنا عدم صحّة اشكالية.

(اقول : ولعلّه) أي : المتوهّم (قصر نظره) أي : نظر فقط(إلى الآيات الواردة في العبادات) مثل قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...)(٢).

وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ...)(٣) ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...)(٤) ، وغير ذلك من سائر آيات العبادات (فانّ اغلبها من قبيل ما ذكره) ، أي : انّها لا ظاهر لها ، حيث انّها مجملة ، وقد ورد في تفسيرها روايات متواترة ، واجماعات متكثّرة ، فلا ثمرة في البحث عن : حجّيّة ظواهرها ، أو لا حجّيّتها ، ومع ذلك فسيأتي في آخر كلام المصنّف الاشكال أيضا في استفادة الاحكام من آيات العبادات.

__________________

(١) ـ مناهج الاصول للنراقي : ص ١٥٨.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

(٣) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٣.

(٤) ـ سورة آل عمران : الآية ٩٧.

٢٢٤

وإلّا فالاطلاقات الواردة في المعاملات ممّا يتمسّك بها في الفروع الغير المنصوصة او المنصوصة بالنصوص المتكافئة كثيرة جدّا ، مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ،)

______________________________________________________

(والّا) أي : وان لم يقصر نظره إلى آيات العبادات (فالاطلاقات الواردة في المعاملات) بالمعنى الأعم ، اذ المعاملة تشمل العقد ، وتشمل الايقاع في بعض اطلاقاتها(ممّا) أي من الاطلاقات التي (يتمسّك بها في الفروع غير المنصوصة ، أو المنصوصة بالنصوص المتكافئة) أو بالنصوص المجملة ، (كثيرة جدا) أي انّا نحتاج إلى الآيات في موارد عديدة.

الأوّل : في الفروع التي لا نصّ فيها.

الثاني : في الفروع التي فيها نصّ لكن هناك نصوص متعارضة ومتضاربة ، ممّا يرجع إلى القرآن الحكيم من الفيصلة بينها وترجيح هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا.

الثالث : الاخبار التي هي مجملة ، ولا يستفاد منها الفرق المراد ، بحيث لو لم تكن الآية لم نتمكن من استجلاء ما أريد بالرواية ، فثمرة حجّيّة ظواهر القرآن الحكيم ، تظهر في هذه الموارد.

(مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١)) هل يشمل المعاطاة والعقود الجديدة ، من : التأمين والمغارسة ، وعقد الهيئة لا الفرد ، وغيرها ، ممّا كثر ذكرها في كتب المتأخرين خصوصا مثل الشهيد في المسالك وغيره؟.

(و) مثل : ((أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢)) هل يشمل بيع الروح لا الجسم ، كأن يبيع

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ١.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

٢٢٥

و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ،) و (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ،)

______________________________________________________

روح المال السائل في اعيانه ، لا جسم الاعيان ، فالبائع والمشتري يشتركان في هذا الروح وهذا الجسم ، فلأحدهما الروح ، ولأحدهما الجسم؟.

وهل يشمل بيع الحقّ ، كحقّ الصوت ، وحقّ تركيب الدواء ، ونحو ذلك ، خصوصا في المسائل الحديثة المتكثّرة؟ وقد ألمعنا إلى جملة من هذه المسائل الحديثة في كتاب «الفقه : الحقوق» (١).

وهكذا يقال بالنسبة إلى وقف الروح لا الجسم ، كما اذا كانت له اموال متعددة ، كدور ، ودكاكين ، وبساتين ، وما اشبه ذلك ، لكنّه يقف روحها لا جسمها ، فالمتولي يتمكن من تبديل الجسم الى جسم آخر ، كجعل الدكان دارا ، والدار دكانا إلى غير ذلك ، وانّما يحتفظ بالروح فقط.

(و) مثل : ((تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٢)) هل يشمل مثل تجارة : الحقوق وانّ كلّ من ابتكر ابتكارا يبيع حقّه لانسان ، وذلك الانسان يتاجر بتلك الحقوق ، صلحا ، ورهنا ، واجارة ، وما اشبه؟.

وهل يشمل مثل اجارة الرحم من المرأة لتربية ولد من غيرها في رحمها ، كما يتعارف عليه الآن.

(و) مثل : ((فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)(٣)) حيث دلّت على جواز الرهن ، واشتراط القبض فيه ، فهل هذا ينطبق في كلّ مكان ، او في أماكن خاصّة وردت في الروايات ، أو ذكرها بعض الفقهاء؟ مثلا : هل يشمل رهن الانسان نفسه لمقتضى ،

__________________

(١) ـ راجع موسوعة الفقه : ج ١٠٠ للشارح.

(٢) ـ سورة النساء : الآية ٢٩.

(٣) ـ سورة البقرة : الآية ٢٨٣.

٢٢٦

و (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ،) و (لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ،) و («أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ،)

______________________________________________________

«النّاس مسلّطون على انفسهم» (١) أو لا يشمل رهن الانسان نفسه ، إلى غير ذلك.

ومثل : ((وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)) (٢) دلّت على انّ السّفيه ، محجور ، لكن الكلام في انّه : هل المراد السفيه الكامل ، او يشمل السفيه الأقوالي ، لا الأعمالي؟.

وهل يشمل السفيه ، بكلّ اقسامه : كالمعتوه والمسرف ، والمبذّر ، ونحوهم ، او خاص بقسم من السفهاء؟.

ومثل : ((وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ)) (٣) هل المراد بالأحسن في الاستثناء ، الأحسن واقعا ، أو المراد : الاحسن مثل الأقوى والاحوط في اقوال الفقهاء.

ومثل الاولى في قوله سبحانه : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)(٤) بالنسبة إلى اهل النار ، فهل المراد بالآية المباركة امثال هذه الامور ، حيث يريد الفقهاء : القوة والاحتياط ، ويريد الله سبحانه وتعالى : انّه يستحق العقاب ، لا انّ العقاب اولى والجنّة أيضا مستحقة له او المراد الأحسن التفضيلي؟.

(أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ...)) (٥) حيث وردت الآية في باب النساء في قوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ، وَبَناتُكُمْ ، وَأَخَواتُكُمْ ، وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ ، وَبَناتُ الْأَخِ ، وَبَناتُ الْأُخْتِ ، وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ، وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ، وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ، إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً

__________________

(١) ـ وهذه القاعدة تستفاد من قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) الاحزاب ٦.

(٢) ـ سورة النساء : الآية ٥.

(٣) ـ سورة الانعام : الآية ١٥٢.

(٤) ـ سورة القيامة : الآية ٣١.

(٥) ـ سورة النساء : الآية ٢٤.

٢٢٧

و (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ،) و (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ،)

______________________________________________________

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ، أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)(١) الآية.

فهل كلّ امرأة لم تذكر فى الآية محلّلة ، أم لا ، في غير موارد الروايات ، الّتي دلّت على حرمة أقسام أخر من النساء؟.

مثلا : لو لاط صبيّ بآخر ، وهما لم يبلغا الحلم ، فهل تحلّ اخت الملوط ، وأمّه ، وبنته للفاعل ، ، بأن يكون النصّ المحرّم خاصا بالكبار دون الصغار ، أو النّصّ أعمّ؟. أي انّ الآية ، هل تفيد الحليّة بالنسبة الى الطفلين ، أو لا تفيد؟.

(و) مثل : ((إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٢)) فان الآية دلّت ، على حجّيّة خبر العادل ، لكن هل المراد : الفسق مطلقا ، أو الفسق اللساني ، حتّى يكون الفاسق عملا المستقيم لسانا ، لا يحتاج خبره الى التبيّن؟ وهل المراد بالتبيّن : الى حد العلم بالدلالة ، أو يكفي التبين العرفي الموجب للظنّ؟.

وهل الفاسق أعمّ من غير العادل ، اذا قلنا : بأنّ بينهما واسطة ، أو خاص بالفاسق ، فالواسطة داخلة في المفهوم؟ الى غير ذلك من الفروع المتعدّدة.

(و) مثل : ((فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ)) (مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٣).

هل هذه الفرقة هي الثلاثة ، أو يشمل الاثنين ، أو يشمل حتّى الواحد؟ واذا قلنا

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآيات ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

(٣) ـ سورة التوبة : الآية ١٢٢.

٢٢٨

و (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ،) و (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ،) و (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)

______________________________________________________

بانّه يشمل الواحد أيضا ، فهل قوله حجّة على المستمعين ، أو ليس بحجّة ، وانّما يوجب قوله الفحص؟ وما اشبه.

(و) مثل : ((فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١).

فهل الآية تشمل التقليد أم لا؟ وكذلك بالنسبة الى القضاء ، وقول اهل الخبرة الذين ليسوا بعدول؟ بل وهل تشمل الاعتماد على أهل الخبرة ، كالاعتماد على سائقي السيارات ، والبواخر ، والطائرات ، وما اشبه؟ فهل هو من الاعتماد على أهل الذكر للملاك أم لا؟.

(و) مثل : ((عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ)) (٢).

فهل يشمل كلام العبد أيضا في إجرائه صيغة نكاح ، أو طلاق ، أو بيع ، أو ما اشبه حتّى يلزم ان يكون باجازة المولى؟.

وكذلك اذا استأجرناه لقراءة قرآن ، أو دعاء ، أو نحوهما ممّا لا يزاحم حقّ المولى ، فهل هذا يحتاج الى اجازة المولى ، أو لا يحتاج اليها لانّه ليس بشيء؟

(و) مثل : ((ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)) (٣).

فهل السبيل أعمّ من الضمانات ، أو خاص بالعقوبات الدنيويّة والاخرويّة؟ فاذا اضطر الى انقاذ غريق بالمرور في أرض مغصوبة ، أو الاستفادة من حبل مغصوب ، أو سفينة مغصوبة ، هل يضمن أم لا؟.

وكذلك اذا أراد انقاذ انسان من الحريق أو انسان يريد افتراسه حيوان ،

__________________

(١) ـ سورة النحل : الآية ٤٣.

(٢) ـ سورة النحل : الآية ٧٥.

(٣) ـ سورة التوبة : الآية ٩١.

٢٢٩

وغير ذلك ممّا لا يحصى.

بل وفي العبادات أيضا كثيرة ، مثل قوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ،) وآيات التيمّم ، والوضوء والغسل.

______________________________________________________

أو ما أشبه فحمله واخذ يركض به لانقاذه فسقط وانكسر رأس المحمول ، فهل يكون الحامل ضامنا أم لا؟.

(وغير ذلك ممّا لا يحصى) في هذه العجالة.

(بل وفي العبادات أيضا) آيات (كثيرة) لها ظواهر ، وليس في موردها خبر ، ولا اجماع ، ولا دليل عقلي يمكن الاعتماد عليه في استفادة الحكم (مثل قوله) تعالى : ((إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ)(بَعْدَ عامِهِمْ هذا)(١).

فهل الآية المباركة تفيد النجاسة الظاهرية أو المعنوية؟.

وهل تشمل أهل الكتاب أم لا؟.

وهل يراد بالمسجد الحرام خصوص المسجد الحرام ، أو يشمل سائر المساجد ، كمسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمسجد الاقصى ، ومسجد الكوفة ، وغيرها من المساجد بناء على استفادة الملاك من الآية المباركة؟.

(وآيات التيمّم ، والوضوء ، والغسل) مثل قوله سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ، وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ، أَوْ عَلى سَفَرٍ ، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ، فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)(٢).

__________________

(١) ـ سورة التوبة : الآية ٢٨.

(٢) ـ سورة المائدة : الآية ٦.

٢٣٠

وهذه العمومات ، وإن ورد فيها أخبار في الجملة ، الّا أنّه ليس كلّ فرع ممّا يتمسّك فيه بالآية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ ، فلاحظ وتتبّع.

______________________________________________________

ففي التيمّم : هل المقصود من الصعيد ، مطلق وجه الارض ، كي يشمل الحجارة ، والرمل ، واراضي النورة ، والجص ، ونحوها ، أو خاص بالتراب؟.

وفي الوضوء : اذا كان عضو عليه جبيرة ، هل عليه الوضوء أو التيمّم؟.

وفي الغسل : هل يشمل الاغتسال بالماء المبدّل من الهواء ، أو خاص بالماء الخارجي غير المبدّل؟ وهل يشمل مثل ماء الورد ونحوه أو لا يشمل مثل ذلك؟.

(وهذه العمومات) والظواهر ، والاطلاقات (وان ورد فيها) أي : في مواردها(اخبار في الجملة ، الّا انّه ليس كلّ فرع ممّا يتمسّك فيه بالآية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ) ليكون ظاهرا في مفاده ، غير مجمل (فلاحظ) الفقه لترى هذه المباحث مطروحة هناك كثيرا.

والذي يلاحظها ، يطّلع على انّ الآيات الكريمة التي تكون محل الابتلاء في فروع كثيرة وتعدّ بالآلاف (و) ذلك يظهر لمن (تتبع) تتبّعا كاملا.

هذا بالاضافة الى انّ القرآن كتاب أنزل لإخراج الناس من الظلمات الى النور ، في كلّ ابعاد الحياة العلمية والعملية ، فلو لم يكن له ظاهر أو كان له ظاهر لكنه ليس بحجّة ، لم يكن له هذه الخاصيّة ، حتّى مع الغضّ عن الاصول الاعتقادية والمسائل الفرعيّة.

ويستفاد ما ذكرناه ـ من انّ القرآن كذلك ـ من تصريح عشرات الروايات في باب القرآن الحكيم ، ذكرها المجلسي في البحار ، والمحدثان : العاملي والنوري في الوسائل والمستدرك.

٢٣١

الثاني : إنّه إذا اختلف القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدّى ، كما في قوله تعالى : «حتّى يطّهّرن» ، حيث قرء بالتشديد من التطهّر الظاهر في الاغتسال ، والتخفيف من الطهارة الظاهرة في النّقاء عن الحيض.

______________________________________________________

التنبيه : (الثاني) في اختلاف القراءات وسنتكلّم ان شاء الله تعالى ـ في التنبيه الثالث ، حول انّ القراءات لا ربط لها بالقرآن الحكيم ، بل هي اجتهادات شخصيّة لا تفيد علما ولا عملا بالنسبة الى ما في الكتاب ، من أوّله الى آخره.

(انّه اذا اختلف القراءة في الكتاب ، على وجهين مختلفين في المؤدّى) أي : في النتيجة بما كانت القراءتان تختلفان في الحكم الشرعي (كما في قوله تعالى) :

(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١) بالنسبة الى المرأة الحائض والنفساء ، حيث انّ النفساء أيضا كالحائض في الاحكام ـ كما قرر في محلّه ـ وذلك (حيث قرء بالتشديد من التطهّر) باب الافتعال ، من : تفعّل يتفعّل تفعّلا ، (الظاهر في) تحصيل الطهارة ، وهو : (الاغتسال) فاذا طهرت من الدّم ، ولم تغتسل ، يحرم مقاربتها ، وانّما يجوز المقاربة بعد الغسل.

(والتخفيف) من باب فعل يفعل : شرف يشرف ، أي : يطهرن (من الطهارة الظاهرة في) حصول (النقاء) والطهارة(عن الحيض) فبمجرّد نقائها عن الحيض يجوز مقاربتها ، لانّ الدّم قد انقطع ، فتكون قد طهرت من الدّم ، وان لم تغتسل.

أقول : الظاهر انّه لا فرق بين القراءتين من المفاد ، فانّ النقاء من الدّم ، أو الاغتسال أو غسل المحل بالماء حتّى لا يكون ملوّثا بالدّم كلّه طهارة ، وذلك لانّ

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٢٢.

٢٣٢

فلا يخلو : إمّا أن نقول بتواتر القراءات كلّها ،

______________________________________________________

التطهّر من باب التفعل ، يستعمل بمعنى الطهارة الخبثيّة أيضا ، كما ذكروا في وجه نزول قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(١) فيمن غسل نفسه بالماء من الغائط.

لا يقال : طهر ، ظاهر في كون الطهارة بنفسها ، فيكون المراد انقطاع الدّم ، بخلاف باب التفعل ، حيث الظهور في فعل المرأة شيئا.

لانّه يقال : أوّلا : فعل المرأة الغسل بالفتح ، أو الغسل بالضمّ ، هذا يبقى مجملا ، والأصل عدم الاحتياج الى الاغتسال ، منتهى الامر : يكون اللازم غسلها نفسها.

ثانيا : يطهرن بالتخفيف ايضا يحتمل الامرين ، لانّ حصول الطهارة قد يكون بنفسه ، وقد يكون بسبب انسان ، أو ما اشبه ، ولذا يقال لمن طهّر نفسه : انّه طاهر ، وحيث انّ البحث فقهي نكتفي بهذا القدر.

وعلى أي حال : (فلا يخلو امّا ان نقول : بتواتر القراءات) السبع أو العشر(كلّها) بمعنى : انّ القراءات قد تواترت عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرء بكلّ هذه الاوجه العشرة ، أو الأوجه السبعة.

فانّهم قد اختلفوا في انّ جميع القراءات متواترة ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ليس شيء منها متواترا ، بل كلّها باجتهاد القرّاء ، حسب القواعد العربية ، والوجوه الاستحسانية ، وانّما وصل القرآن اليهم بقراءة واحدة.

أمّا مسألة الاعراب والنقاط فأمر خارج عن هذا المبحث ، لانّه لا اشكال في انّ القرآن كان يؤخذ عن الشيوخ ، وهم عن شيوخهم ، وهكذا ، حتّى ينتهي الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى جبرائيل الى الله سبحانه وتعالى.

__________________

(١) ـ سورة البقرة الآية ٢٢٢.

٢٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال بعض : بتواتر سبع قراءات منها.

وقال بعض : بتواتر عشر منها.

أمّا القرّاء السبعة فهم : نافع ، وابو عمرو ، والكسائي ، وحمزة ، وابن عامر ، وابن كثير ، وعاصم.

وأمّا العشرة : فبزيادة أبي جعفر ، وابي يعقوب ، وأبيّ بن خلف.

وقال بعض : انّ المتواتر ليس كلّ العشرة ، بل في ضمن العشرة.

وقال بعض : انّ المتواتر في ضمن هذه السبعة لا كلّها.

ثمّ اختلفوا في انّ جميع جهات القراءة متواترة ، بمعنى جوهر الألفاظ ، مثل :

«مالك وملك» في سورة الحمد؟

أو انّ أدائها أيضا متواتر ، مثل : المدّ والادغام ونحوهما؟

أو انّ كلّ الخصوصيات متواترة ، من الحركات ، والسكنات ، والتنوين ، وغير ذلك؟

ثمّ اختلفوا في انّه هل يجوز في الصلاة ، القراءة بكلّ قراءة ، أو بالمتواتر من القراءات فقط ، ـ على الاقوال المتعدّدة ـ؟ كما يظهر ذلك لمن راجع الشاطبي وغيره ، ممّن كتبوا حول التجويد ، وقد ألمعنا الى بعض ذلك من شرح الجزري.

والذي يؤيّد عدم صحّة قولهم بتواتر القراءات عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ هؤلاء القرّاء ولدوا بعده بمدة. ووفياتهم كما ذكروا على النحو التالي :

نافع : مائة وتسعة وستين ١٦٩ ه‍.

ابو عمرو : مائة وسبعة وخمسين ، ١٥٧ ه‍.

كسائي : مائة وثلاثة وثمانين ، ١٨٣ ه‍.

٢٣٤

كما هو المشهور ، خصوصا في ما كان الاختلاف في المادّة ، وإمّا أن لا نقول ، كما هو مذهب جماعة.

فعلى الأوّل ، فهما بمنزلة آيتين تعارضتا ،

______________________________________________________

حمزة : مائة وستة وخمسين ، ١٥٦ ه‍.

ابن عامر : مائة وثمانية عشر ، ١١٨ ه‍.

ابن كثير : مائة وستة وعشرين ، ١٢٦ ه‍.

عاصم : مائة وسبعة وعشرين ، ١٢٧ ه‍.

فكيف كان المسلمون يقرءون القرآن في تلك المدّة في زمان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن بعده الى أزمنة هؤلاء؟.

ثمّ انّ آثار الاجتهاد ظاهرة في استدلالاتهم.

وعلى أي حال : فالقول بتواتر القراءات في غاية الضعف ، وقول المصنّف :

(كما هو المشهور ، خصوصا في ما كان الاختلاف فى المادة) محل تأمّل ، وقد عرفت الفرق بين : المادة ، والكيفية ، والأداء.

(وامّا أن لا نقول) : بتواتر شيء منها اطلاقا ، وانّما المتواتر هو : القرآن المتلوّ على الكيفية المعيّنة ، أكثر من عشرة قرون ـ على ما سيأتي ـ (كما هو مذهب جماعة) كبيرة ، بل هذا هو المشهور شهرة عظيمة ، حتّى انّ القول الاوّل ، يمكن ان يعدّ من النادر.

وكيف كان : (فعلى الاوّل ، فهما) أي القراءتان المتنافيتان في المؤدّى (بمنزلة آيتين تعارضتا).

فكما أنّه اذا تعارضت آيتان فرضا ، يجب الجمع بينهما ، كما في تعارض الروايتين الحجّتين ، كذلك اذا تعارضت قراءتان على فرض صحّة القراءتين

٢٣٥

لا بدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ أو على الأظهر ، ومع التكافؤ لا بدّ من الحكم بالتوقف والرجوع الى غيرهما.

______________________________________________________

وتواترهما ، فانّه (لا بدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ) اذا كان هناك نصّ وظاهر ، كالعام والخاص (أو) حمل الظاهر(على الاظهر) اذا كان بين الآيتين فرضا ظاهر واظهر ، ـ كما ذكروا ـ ذلك بالنسبة الى المفهوم والمنطوق وانّ المنطوق في مفاده اظهر من المفهوم.

وكذلك الحال اذا كان بينهما مجمل ومبيّن ، فانّ المجمل محمول على المبيّن.

وكذلك المطلق والمقيّد ، الى غير ذلك ممّا يكون وجه جمع بينهما.

(ومع التكافؤ) والتكافؤ يحصل بان يكون بينهما تباين ، أو عموم من وجه في مورد الجمع (لا بدّ من الحكم بالتوقّف) في الاستفادة من الآيتين ، وتقديم التخفيف على التشديد للاصل اللفظي ، أو العكس للاصل العملي ، لا وجه له.

اذ الاوّل : ليس من بناء العقلاء. والثاني عبارة عن الرجوع الى دليل خارجي ، لا الاستفادة من الآية.

نعم ، اذا كانت الرواية مطابقة لإحدى القراءتين قدّمت تلك بالمعونة الخارجيّة ، كما ان الدليل العقلي اذا كان مع احداهما ، قدمت أيضا.

(و) على اي حال : فاذا كان الامر هو : التوقّف ، يلزم (الرجوع الى غيرهما) أي غير الآيتين ، فامّا يرجع في الآية المتقدّمة الى عموم : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)(١) بالنسبة الى الجواز ، أو الى استصحاب التحريم ، بالنسبة الى المنع ، هذا بالنسبة الى المقاربة ، امّا بالنسبة الى الصلاة ، والصيام ، وما اشبه ذلك فلكلّ دليله من هذا الجانب ، أو من ذلك الجانب.

__________________

(١) ـ سورة البقرة الآية ٢٢٣.

٢٣٦

وعلى الثاني ، فان ثبت جواز الاستدلال بكلّ قراءة كما ثبت بالاجماع جواز القراءة بكلّ قراءة ، كان الحكم كما تقدّم ، وإلّا فلا بدّ من التوقف في محلّ التعارض والرجوع إلى القواعد ، مع عدم المرجّح

______________________________________________________

هذا كلّه على الاوّل ، وهو : تواتر القراءات (وعلى الثاني :) أي : بناء على عدم تواتر شيء من القراءات اطلاقا(فان ثبت جواز الاستدلال بكلّ قراءة ، كما ثبت بالاجماع) ـ ولعلّ المصنّف أراد : الاجماع المنقول ، والّا لم نظفر نحن بمثل هذا الاجماع محصلا ـ (جواز القراءة بكلّ قراءة).

بل مقتضى السيرة القطعيّة ، والرواية التي وردت بانّه : «لا يهيّج القرآن اليوم» (١) وغيرهما : عدم جواز القراءة ، الّا بالقراءة المتداولة المشهورة ، التي عليها المصاحف منذ أكثر من الف سنة على ما تقدّم رؤيتنا لامثال تلك المصاحف المباركة ، (كان الحكم كما تقدّم) اي : يجمع بين الآيتين ، لحمل الظاهر على الأظهر ، أو الظاهر على النصّ ، الى آخر ما ذكر في الاوّل.

(والّا) اي : ان لم نقل بتواتر القراءات ، وكذلك لم نقل بجواز التمسّك بكلّ قراءة ـ وان قلنا : بتواتر القراءات فرضا ـ بل قلنا : بانّه يلزم التمسّك بما هو قرآن متعارف عند المسلمين.(ف) اللازم العمل ، بما هو المتواتر : قراءة ، والمذكور في المصاحف : خطا.

أمّا قول المصنّف قدس‌سره : (لا بدّ من التوقف في محل التعارض والرجوع الى القواعد) فمحل تأمّل ، اذ لم يظهر وجه لذلك ، بناء على الاحتمال الثالث ، الذي ذكره بقوله : «والّا ، فلا بدّ من التوقّف» (مع عدم المرجّح) لإحدى القراءتين على الأخرى.

__________________

(١) ـ بحار الانوار : ج ٩٨ ص ١٠ ب ٢٣ وفيه «لا يغيّر القرآن اليوم».

٢٣٧

أو مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا ، فيحكم باستصحاب الحرمة قبل الاغتسال ، إذ لم يثبت تواتر التخفيف ،

______________________________________________________

(أو مطلقا) أي : سواء كان مرجّح أو لم يكن مرجّح (بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا) في الآيات القرآنية ، وانّما الترجيح ثابت في الروايات.

وحيث لم يثبت ترجيح في الآيات القرآنية ، فاللازم التوقف ، والرجوع الى القواعد الاوّليّة من الاصول ، او غيرها.

وان شئت قلت : انّ في المقام امورا :

الأوّل : ان نقول بتواتر القراءات ، فيجمع بين الآيتين.

الثاني : ان لا نقول بالتواتر ، لكن نقول بجواز الاستدلال بكلّ قراءة ، وهنا أيضا يجمع بين الآيتين.

الثالث : ان لا نقول بالتواتر ، ولا بجواز الاستدلال ، وعلى هذا يلزم العمل على القراءة المشهورة المتعارفة ، لانّ هذا هو القرآن ، وغيره ليس بقرآن.

وعلى أي حال : فاذا لم يتمسّك باحدى القراءتين للتعارض بينهما ، لزم الرجوع الى دليل خارجي.

(ف) في المثال المتقدّم في : يطهرنّ ويطّهرن (يحكم باستصحاب الحرمة) للمقاربة بعد النقاء(قبل الاغتسال) لانّه كان في حال الحيض محرما ، فيستصحب التحريم ، الى ان يقطع بالحليّة ، ومورد القطع بالحليّة هو : بعد الاغتسال.

لكن ربّما يقال : بعدم جواز الاستصحاب ، لانّه من تغير الموضوع عرفا.

وانّما يتمسّك بالاستصحاب ويحكم بالتحريم (اذ لم يثبت تواتر التخفيف) الذي يدل على الجواز قبل الاغتسال.

٢٣٨

او بالجواز بناء على عموم قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ،) من حيث الزمان ، خرج منه أيّام الحيض على الوجهين في كون المقام من استصحاب حكم المخصّص او العمل بالعموم الزمانيّ.

______________________________________________________

(أو) يتمسك (بالجواز) للمقارنة بين النقاء وقبل الاغتسال (بناء على عموم قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(١)) ، فانّه اذا كان له عموم زماني ، دخل هذا الفرد في هذا العموم ، ولم يعرف بخروجه منه ، فانّه قد اختلف في المراد من «انّى» هل انّه (من حيث الزّمان) أو من حيث المكان ، أو من الحيثين ، للاطلاق في «أنّى».

(وخرج منه) أي : من العموم ، بناء على كون «أنّى» زمانيا ، أو أعمّ (ايّام الحيض) فقط ، اما غير أيام الحيض ، فهو داخل في العموم.

وانّما قلنا : بانّ المورد من الاستصحاب ، او التمسّك بالعموم (على الوجهين) المذكورين في محله (في كون المقام) وامثاله ممّا كان هناك عموم وكان استصحاب :

(من : استصحاب حكم المخصّص) وهو قوله سبحانه : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ ...)(٢) فيكون الحكم : الحرمة.

(أو العمل بالعموم الزّماني) وهو قوله سبحانه : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(٣) الدال على الجواز ، فاذا قال المولى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٤).

وقال : للمغبون خيار ثمّ شككنا في انّ الخيار مستمر ، أو خاصّ بوقت العلم بالغبن فورا ، فانّه خلاف في انّ البيع بعد العلم بالغبن هل هو لازم ، تمسّكا بقوله

__________________

(١) ـ سورة البقرة الآية ٢٢٣.

(٢) ـ البقرة : الآية ٢٢٢.

(٣) ـ سورة البقرة : الآية ٢٢٣.

(٤) ـ سورة المائدة : الآية ١.

٢٣٩

الثالث :

______________________________________________________

تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) الّذي هو العامّ؟ أو جائز تمسّكا باستصحاب الخيار المخصّص لذلك العامّ؟ وتفصيل الكلام في موضعه.

لكنّك قد عرفت انّ هذا المبحث اقرب إلى كونه علميّا من كونه عمليّا.

التنبيه (الثالث :) ونقدّم لهذا التنبيه مقدّمة ، وهي : انّ القرآن الحكيم ، كما نستظهره من الأدلّة ، ومن الحسّ ، لم ينقص منه حرف ، ولم يزد عليه حرف ، ولم يغيّر منه حتّى فتح ، أو كسر ، أو تشديد ، أو تخفيف ، ولا فيه تقديم ولا تأخير ، بالنسبة إلى ما رتّبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وان كان فيه تقديم وتأخير حسب النزول ، فانّ القرآن الّذي هو بأيدي المسلمين اليوم هو نفسه القرآن الّذي كان في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقد عيّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، مواضع الآيات والسور ، حسب الّذي نجده الآن ، وهناك روايات تدلّ على ذلك : فقد روي متواترا ، انّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ، «من ختم القرآن كان له كذا» (٢) فلو لم يكن القرآن مجموعا كاملا في زمانه ، لم يكن معنى لختمه ، كما أن القرآن كان مكتوبا في زمانه بكامله ، وموضوعا في مسجده عند منبره ، يستنسخه من أراد ، هذا وكان الآلاف من المسلمين قد حفظوا القرآن كلّه ـ كما في التواريخ (٣).

وهكذا بقي القرآن الّذي كان في زمان الرسول إلى اليوم غضا سالما على ما كان عليه من الترتيب والتنظيم.

وامّا مسألة قرآن عليّ عليه‌السلام ـ الّذي جاء به فلم يقبلوه منه ـ فانّما يراد به ما فيه

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ١.

(٢) ـ اصول الكافي : ج ٢ ص ٦٠٤ ح ٥.

(٣) ـ للمزيد راجع كتاب متى جمع القرآن ، للشارح.

٢٤٠