الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-01-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

وتندفع هذه الشبهة : بأنّ المعلوم هو وجود مخالفات كثيرة في الواقع فيما بأيدينا بحيث تظهر تفصيلا بعد الفحص ، وأمّا وجود مخالفات في الواقع زائدا على ذلك فغير معلوم ، فحينئذ فلا يجوز العمل قبل الفحص ، لاحتمال وجود مخصّص يظهر بعد

______________________________________________________

العقلاء ، في العمل بعمومات المولى ومطلقاته.

وعن الاشكال الثاني : انّه لا اجمال من الأوّل ، وانّما يجب الفحص ، لانّه اذا كان طريقة المولى الاعتماد على المنفصلات ، لزم الفحص حتّى اليأس ، وبعد ذلك لا يتمكن المولى من العقاب ، لوجود العذر للعبد ، فيما اذا خالف الواقع ، الّذي لم يصل اليه ، وقد فحص حتّى يئس.

والمصنّف أجاب : بأنّ قبل الفحص : علم ، وبعد الفحص : احتمال ، والاحتمال لا يضرّ ، بخلاف العلم.

(وتندفع هذه الشبهة ، بأنّ المعلوم هو : وجود مخالفات) من المخصصات والمقيدات والصارفات للظواهر(كثيرة في الواقع فيما بايدينا) من المخصصات والمقيدات والصارفات (بحيث تظهر) تلك المخالفات (تفصيلا بعد الفحص) بحث يسقط العلم الاجمالي.

(وامّا وجود مخالفات) أخر ، غير هذه المخالفات ، التي ظفرنا عليها(في الواقع زائدا على ذلك) الّذي وجدناه (فغير معلوم) أي : انّ العلم يسقط ، وبسقوط العلم يجوز العمل ، وان بقي الاحتمال.

(فحينئذ) أي : اذا انحصر الأمر في الاحتمال بعد الفحص ، بينما كان علم قبل الفحص (فلا يجوز العمل) بالظواهر والعمومات والمطلقات (قبل الفحص ، لاحتمال وجود مخصص) بين الأخبار المخصصة والمقيدة والصارفة(يظهر بعد

٢٠١

الفحص ، ولا يمكن نفيه بالأصل لأجل العلم الاجماليّ ، وأمّا بعد الفحص فاحتمال وجود المخصّص في الواقع ينفى بالأصل السالم عن العلم الاجماليّ ، والحاصل : أنّ المصنّف لا يجد فرقا بين ظواهر الكتاب والسنّة ، لا قبل

______________________________________________________

الفحص).

لكن هذا الاحتمال ـ قبل الفحص ـ مقترن بالعلم الاجمالي (ولا يمكن نفيه) أي : الاحتمال المقترن بالعلم الاجمالي (بالأصل ، لاجل العلم الاجمالي) بالمخصص.

هذا قبل الفحص (وامّا بعد الفحص) فيزول العلم الاجمالي ويبقى مجرّد الاحتمال ، ومجرّد الاحتمال غير المقترن بالعلم الاجمالي لا يكون ضارا.

(فاحتمال وجود المخصّص في الواقع) في الاخبار التي لم تصل الينا ، اذا فحصنا فحصا عرفيّا(ينفى بالاصل ، السالم عن العلم الاجمالي).

فالفارق هو العلم الاجمالي فانّ احتمال وجود : المخصص ، والمقيد ، وما اشبه ، قبل الفحص ، لا يمكن نفيه بالاصل ، لأجل العلم الاجمالي ، اذ الاصل لا يجري في أطراف العلم الاجمالي ، كما حقق في موضعه.

وأمّا بعد الفحص بالقدر المقرر في موضعه ، فيزول العلم الاجمالي ، وان بقي الاحتمال ، لكن مثل هذا الاحتمال يجري في نفيه الاصل.

فاحتمال وجود المخصّص ، أو المقيد ، في الواقع ، بالنسبة إلى الاخبار التي لم تصل الينا ، والقرائن التي اختفت عنا ، ينفى بالاصل السالم عن العلم الاجمالي ، ويبقى الاحتمال المجرّد ، والاحتمال المجرّد لا يعتني به العقلاء ، وقد جرى الشارع على الطريقة العقلائية.

(والحاصل : انّ المصنّف لا يجد فرقا بين ظواهر الكتاب والسنّة ، لا قبل

٢٠٢

الفحص ولا بعده.

ثم إنك قد عرفت أنّ العمدة في منع الأخباريّين من العمل بظواهر الكتاب هي الأخبار المانعة عن تفسير القرآن ، إلّا أنّه يظهر من كلام السيّد الصدر شارح الوافية ، في آخر كلامه ، أنّ المنع عن العمل بظواهر الكتاب هو مقتضى الأصل ، والعمل بظواهر الأخبار خرج بالدليل ، حيث قال ـ بعد إثبات أنّ في القرآن محكمات

______________________________________________________

الفحص ولا بعده) فقبل الفحص لا يجوز العمل بكليهما ، وبعد الفحص يجوز العمل بكليهما.

(ثمّ انّك قد عرفت : انّ) ادلّة الاخباريين على عدم جواز العمل بظواهر القرآن متعدّدة لكن (العمدة في منع الاخباريّين من العمل بظواهر الكتاب ، هي الاخبار المانعة عن تفسير القرآن) بالرأي وانّ ذلك يشمل العمل بظواهر القرآن ، وقد أجبنا عنه سابقا.

(الّا انّه يظهر من كلام السيّد الصّدر ، شارح الوافية ، في آخر كلامه) الّذي سننقله عن قريب ان شاء الله تعالى : (انّ المنع عن العمل بظواهر الكتاب ، هو مقتضى الاصل) أي انّ اصالة حرمة العمل بالظنّ ، شامل لظواهر الكتاب أيضا.

(و) ان قلت : فما ذا يصنع الاخباريون في العمل بظواهر الاخبار ، مع انّها ايضا ظنون ، فاصالة حرمة العمل بالظنّ تشملها أيضا؟.

قلت : (العمل بظواهر الاخبار خرج بالدليل) فالاستثناء في هذا الجانب لا في ذلك الجانب (حيث قال) السيد الصدر : (بعد اثبات انّ في القرآن محكمات) كقوله سبحانه وتعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١) ، وقوله سبحانه وتعالى : (أَنَّ اللهَ بِكُلِ

__________________

(١) ـ سورة الاخلاص : الآية ١.

٢٠٣

وظواهر ، وأنّه ممّا لا يصحّ إنكاره ، وينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر وأنّ الحقّ مع الأخباريين ـ ما خلاصته : «إنّ التوضيح يظهر بعد مقدّمتين :

الاولى : انّ بقاء التكليف ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على الافهام،

______________________________________________________

شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١) ، وقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٢) ، إلى غيرها من الآيات المحكمات.

(وظواهر) والفرق بين المحكم والظاهر : انّ المحكم نصّ ، والظاهر ظاهر ، والظواهر أمثال : الاوامر ، والنواهي ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبيّن ، والعام والخاص ، وما اشبه من الالفاظ الّتي لها ظاهر باستقلال ، او ظاهر بضميمة.

كما انّه في القرآن أيضا قسم ثالث ، وهي الرموز ، كأوائل السور(وانّه ممّا لا يصحّ انكاره).

قال السيد : (وينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر) فقط ، أمّا المحكمات ، فلا اشكال في العمل بها ، كما انّ الرموز لا اشكال في عدم العمل بها(وانّ الحقّ مع الاخباريين).

قال : (ما خلاصته : انّ التوضيح يظهر بعد مقدمتين).

المقدمة(الاولى : انّ بقاء التكليف) بالواجبات ، والمحرّمات ، والمستحبّات ، والمكروهات ، والمباحات ، فانّه من الاحكام الخمسة أيضا ، ويسمّى المجموع : تكليفا ، ولو باعتبار ما ، (ممّا لا شك فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه) أي بمقتضى التكليف (موقوف على الافهام) فيجب على الشارع بيان أحكامه الخمسة ،

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٣١.

(٢) ـ سورة لقمان : الآية ٢٣.

٢٠٤

وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالته في الأكثر تكون ظنيّة ، إذ مدار الافهام على إلقاء الحقائق مجرّدة عن القرينة وعلى ما يفهمون وإن كان احتمال التجوّز وخفاء القرينة باقيا.

______________________________________________________

والاحكام الوضعية منها اذا قلنا انّ الاحكام الوضعية ليست مستقلّة ، لانّ هناك خلافا بين الأعلام في ذلك ، كما سيأتي في هذا الكتاب ان شاء الله تعالى : (وهو) أي : الافهام (يكون في الاكثر بالقول ، ودلالته) أي : دلالة القول (في الاكثر تكون ظنيّة ،

اذ مدار الأفهام على القاء الحقائق مجرّدة عن القرينة) فانّ العقلاء ، انّما يستعملون الالفاظ في مقام التفهيم والافهام ، ويريدون المعاني الظاهرة منها ، بدون نصب قرينة تدلّ على مرادهم ، وانّما يكتفون بالظاهر.

نعم ، اذا ارادوا خلاف الظاهر ، نصبوا القرائن ، الّتي تدلّ على ذاك المراد ، المخالف للظاهر.

والحاصل : انّه اذا اختلفت الارادة الجدّيّة ، والارادة الاستعماليّة ، نصبوا القرينة على الارادة الجدّية ، والّا بأن كانت الارادة الجدّية ، والارادة الاستعمالية متطابقتان ، اكتفوا باستعمال اللفظ(و) ذكروا الألفاظ(على ما يفهمون) أي يفهمه العقلاء.

هذا(وان كان احتمال التجوّز) أي : ارادة خلاف الظاهر مجازا(وخفاء القرينة باقيا) لوضوح انّ فهم مراد المتكلّم ، انّما يكون من ظاهر اللفظ ، وذلك لا ينافي احتمال ارادة الخلاف ، سواء في الخطابات المشافهة ، او في غير المشافهة ، بل احتمال ارادة الخلاف في الخطابات غير المشافهة أقرب لاحتمال وجود قرينة اختفت عن المخاطب.

وحاصل هذه المقدّمة ، اربعة أمور :

٢٠٥

الثانية : انّ المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح ، مثل أن يقول أحد : «أنا استعمل العمومات ، وكثيرا ما اريد

______________________________________________________

الأوّل : التكليف باق على عهدة المكلّفين.

الثاني : انّ العمل بالتكليف موقوف على التفهيم والتفهم.

الثالث : انّ التفهيم والتفهم غالبا يكون بسبب الالفاظ.

الرابع : دلالة الالفاظ غالبا ظنّيّة ، لاختفاء القرائن التي كانت بين المتكلّم والمخاطب.

المقدمة(الثانية) : انّ ظواهر القرآن كلّها من المتشابه ، والمتشابه لا يجوز العمل به.

أمّا الصغرى : وهي انّها متشابهة ، فلأن الشارع لم يعتمد على القرائن المتصلة في كلماته ، بل قال العام ، واراد الخاص ، أو قال المطلق ، واراد المقيد ، كما هو دأب الشارع في كلامه.

وأمّا الكبرى : وهي انّ المتشابه لا يجوز العمل به ، فلانّ الله نهى عن العمل بالمتشابه ، كما سيأتي في الآية الكريمة ، وكذلك النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نهى عن التفسير بالرأي ، وهكذا العقلاء لم يجوّزوا العمل بالظنّ ، إلّا ما خرج بالدليل ، والظواهر من المستثنى منه ، لا من المستثنى.

وهذا هو حاصل ما ذكره السيد الصدر في هذه المقدمة ، ف(انّ المتشابه كما يكون في اصل اللغة) كالألفاظ المشتركة ، والالفاظ التي لا يعلم معناها لاجمالها ، مثل العين ، والصعيد ، وآلة اللهو ، والاناء ، وما اشبه ، على ما ذكروا.

(كذلك يكون بحسب الاصطلاح) الخاص بمتكلم ، أو بجماعة ، أو ما اشبه.

(مثل ان يقول أحد : أنا استعمل العمومات ، وكثيرا ما اريد

٢٠٦

الخصوص من غير قرينة ، وربما اخاطب أحدا واريد غيره ، ونحو ذلك» فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ولا يحصل لنا الظنّ به ، والقرآن من هذا القبيل ، لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ ، لا أقول على وضع جديد ،

______________________________________________________

الخصوص من غير قرينة) واستعمل المطلقات ، واريد المقيّد من غير قرينة ، وأتكلّم بظاهر ، ولا أريد ذلك الظاهر ، وانّما اريد المعنى المجازي من ذلك الظاهر.(وربّما أخاطب أحدا ، وأريد غيره ، ونحو ذلك) كما قال بعض في قوله سبحانه : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)(١) ، انّ المراد به : ذنب الامّة ، إلى غير ذلك.(فحينئذ) أي حين اذ علمنا : بانّ عادة فلان جارية على اسلوب كذا ، يكون كلامه متشابها ، والشارع من هذا القبيل ، لأنّه يعتمد القرائن المنفصلة كثيرا ما ، ف(لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل لنا الظنّ به) فلا يجوز الاعتماد عليه ، والعمل به (والقرآن من هذا القبيل) أي : من قبيل المتشابه الاصطلاحي (لانّه نزل على اصطلاح خاص) واسلوب جديد ؛ وذلك لانّ الله سبحانه وتعالى ، كثيرا ما يريد خلاف الظاهر من كلامه.

فقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(٢) ، وقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(٣) ، وغيرهما لم يرد بها ظاهرها.

وكذلك قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ...)(٤) ، وقوله تعالى : (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ...)(٥) ، وقوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(٦) ، وغيرها من الآيات ، لم يرد بها عموماتها ، واطلاقاتها.

والمراد بالاصطلاح الخاص هو : اني (لا أقول) انّه نزل (على وضع جديد)

__________________

(١) ـ سورة الفتح : الآية ٢.

(٢) ـ سورة طه : الآية ٥.

(٣) ـ سورة الفتح : الآية ١٠.

(٤) ـ سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٥) ـ سورة النساء : الآية ٢٩.

(٦) ـ سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

٢٠٧

بل أعمّ من أن يكون ذلك او يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب ، ومع ذلك قد وجد فيه كلمات لا يعلم المراد منها ، كالمقطّعات ، ثم قال سبحانه : (آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ،) الآية ، ذمّ على اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن لهم المتشابهات : ما هي ، وكم هي ،

______________________________________________________

فانّ الله سبحانه وتعالى ، لم يضع ألفاظا جديدة.

(بل أعمّ من ان يكون ذلك) أي بوضع جديد ، (أو يكون فيه مجازات) فانّه سبحانه وتعالى ، كثيرا ما أراد غير الظاهر ، سواء كان غير الظاهر ، بسبب وضع جديد ، أو بسبب ارادة المجاز ، حيث يذكر قرينتها في الكلام ، ممّا(لا يعرفها العرب) فالشارع ـ مثلا ـ يستعمل : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والاعتكاف ، وما اشبه في معاني خاصّة مخترعة ، لم تكن لهذه الألفاظ هذه المعاني ، في اللغة العربية ، إلى غير ذلك.

(ومع ذلك) أي مضافا إلى ما ذكرناه : (قد وجد فيه) أي : في القرآن (كلمات لا يعلم المراد منها) اطلاقا ، (كالمقطعات) في أوائل السور ، فثبت انّ القرآن الحكيم على اسلوب جديد ، ولم يصدر للأفهام ، وانّما فيه اصطلاحات ، ومقطّعات ، ومجازات ، لا يظهر المراد منها.

هذا كلّه بالنسبة إلى الصغرى ، وانّ القرآن متشابه ، ثمّ نأتي إلى الكبرى ، واليها أشار بقوله : (ثمّ قال سبحانه : (آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) الآية) (١).

وقد(ذمّ) الله (على اتباع المتشابه ، ولم يبين لهم المتشابهات ما هي؟ وكم هي؟) أي ما هي حقيقة المتشابه؟ وكم من الآيات القرآنية آيات متشابهة؟.

__________________

(١) ـ سورة آل عمران : الآية ٧.

٢٠٨

بل لم يبيّن لهم المراد من هذا اللفظ ، وجعل البيان موكولا إلى خلفائه ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نهى الناس عن التفسير بالآراء ، وجعلوا الأصل عدم العمل بالظنّ إلّا ما أخرجه الدليل.

______________________________________________________

(بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ) أي : لفظ المتشابه ، فلفظ المتشابه بنفسه متشابه أيضا(وجعل البيان موكولا إلى خلفائه) والآية الكريمة ، هي قول سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ، آمَنَّا بِهِ ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)(١).

وفي رواية عن الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «المتشابه ما اشتبه على جاهلة» ، فكأنّه عليه‌السلام ، أراد انّه ليس متشابها على أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين خوطبوا بالقرآن.

وبالجملة : أراد السيد الصدر : انّ هذه الآية ، سبب سقوط ظواهر الآيات الأخر عن الاستدلال بها ، لاحتمال دخول كلّ الآيات القرآنيّة في المتشابه ، لانّا لا نعلم أيّة آية متشابهة؟ وأنّه ايّة آية غير متشابهة؟ كما اذا اختلط المجمل بالمبيّن ، ولم يعرف انّ أيّها مجمل وأيّها مبيّن؟.

(والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى الناس عن التفسير بالآراء) فقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، دليل ثان بعد الآية المباركة على انّ القرآن لم يصدر للافهام ، بل له تفسير ، والتفسير يجب أن يؤخذ منهم عليهم‌السلام.

(وجعلوا) أيّ العقلاء ، أو العلماء(الأصل عدم العمل بالظنّ ، إلّا ما اخرجه الدليل) ، وليس القرآن ممّا اخرجه الدليل فهو باق في المستثنى منه ، بحيث

__________________

(١) ـ سورة آل عمران : الآية ٧.

٢٠٩

إذا تمهد المقدّمتان ، فنقول : مقتضى الاولى العمل بالظواهر ومقتضى الثانية عدم العمل ، لأنّ ما صار متشابها لا يحصل الظنّ بالمراد منه وما بقي ظهوره مندرج في الأصل المذكور ، فنطالب بدليل جواز العمل ، لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة هو عدم جواز العمل بالظنّ إلّا ما أخرجه الدليل.

لا يقال : إنّ

______________________________________________________

لا يجوز العمل بظواهره.

وحاصل كلام السيد الصدر : انّ التكليف باق والقرآن لا يفهم منه ذلك التكليف.

(اذا تمهّدت المقدمتان ، فنقول : مقتضى) المقدمة(الاولى : العمل بالظواهر) فيما اذا لم يكن من المتشابه.

(ومقتضى) المقدمة(الثانية : عدم العمل) بظواهر القرآن الحكيم (لأنّ ما صار متشابها ، لا يحصل الظنّ بالمراد منه) لأنّ المتشابه لا يظنّ بالمراد من ظاهره (وما بقي ظهوره) أي : لم يحصل فيه تشابه ، فهو (مندرج في الأصل المذكور) أي : أصل انّه لا يجوز العمل بالظنّ.

وعليه : (فنطالب بدليل جواز العمل ، لانّ الأصل الثابث عند الخاصّة) وقال : الخاصة ، لأنّ العامّة يعملون بالظنّ القياسي ، والاستحساني ، والمصالح المرسلة ، واجتهاد الرأي ، لا بمعنى الاجتهاد الّذي هو عندنا ، بل بمعنى انّه يضغط على رأيه ليعرف الحكم (هو عدم جواز العمل بالظنّ الّا ما أخرجه الدليل)

وعلى هذا : فلا دليل على حجّيّة ظواهر الكتاب ، بينما العمل بظواهر الأخبار خرج بالدليل ، وبقي عدم العمل بظواهر القرآن على الأصل.

ثمّ قال السيد الصدر : (لا يقال : انّ) النهي عن اتباع المتشابه ، لا يوجب حرمة

٢١٠

الظاهر من المحكم ووجوب العمل بالمحكم اجماعيّ.

لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا ـ الى أن قال : لا يقال : إنّ ما ذكرتم لو تمّ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ،

______________________________________________________

العمل بالظاهر ، فانّ الظاهر ليس من المتشابه حتّى يدخل في النهي عن العمل بالمتشابه ، لانّ (الظاهر من) اقسام : (المحكم ، ووجوب العمل بالمحكم اجماعي) فهنا صغرى وكبرى :

الصغرى تقول : الظاهر من المحكم. والكبرى تقول : العمل بالمحكم واجب.

وانّما لا يقال : (لانّا) نقول : (نمنع الصّغرى) ومعنى ذلك : أنّا لا نسلم كون الظاهر داخلا في المحكم (اذ المعلوم عندنا : مساواة المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر ، فلا) ، اذ هناك بعض الاشياء ظاهر ، وبعض الاشياء نصّ ، فالظاهر يحتمل الانسان خلافه ، أمّا النصّ : فهو الّذي لا يحتمل خلافه ، والمحكم عبارة عن النصّ ، وليس المحكم شاملا للظاهر ، اذا الظاهر محتمل ، لكونه من المحكم ، ومحتمل كونه من المتشابه ، ومثل هذا لا يجوز العمل به ، كما لا يجوز العمل بالمتشابه.

(إلى ان قال) السيد الصدر : (لا يقال : انّ ما ذكرتم لو تمّ) أي لو كان الدليل الّذي ذكرتم ، دالّا على حرمة العمل بظواهر الكتاب (لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الاخبار أيضا) وذلك لانّ ظواهر الاخبار ، وظواهر القرآن مشتركان في هذا الأمر ، اذ الاخبار أيضا مخصصة ، ومقيدة واريد منها خلاف الظاهر ، كالقرآن الحكيم ، فلما ذا انتم ايّها الاخباريون ، تفرّقون بين ظاهر الاخبار ، فتعملون به ، وبين ظاهر القرآن فلا تعملون به؟.

٢١١

لما فيها من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والمخصّص ، والمطلق والمقيّد.

لأنّا نقول : إنّا لو خلّينا وأنفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة مع عدم نصب القرينة على خلافها ، ولكن منعنا من ذلك في القرآن للمنع من اتّباع المتشابه وعدم بيان حقيقته ، ومنعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تفسير القرآن ، ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى

______________________________________________________

وانّما نقول ذلك (لما فيها) أي في الاخبار (١) (من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والمخصّص ، والمطلق والمقيد) ، والحقيقة والمجاز.

(لأنّا نقول : انّا لو خلينا وانفسنا لعملنا) بسبب المقدمة الاولى ، التي ذكرناها :

من انّ الاصل العمل بالظواهر(بظواهر الكتاب والسنّة) معا(مع عدم نصب القرينة على خلافها) أي : خلاف الظواهر.

(ولكن منعنا من ذلك) أي : من العمل بالظواهر(في القرآن) الحكيم ، وذلك لما ذكرناه : من انّ القرآن له اسلوب جديد ، وليس كسائر كلام الموالي ، و (للمنع من اتباع المتشابه ، وعدم بيان حقيقته) أي حقيقة المتشابه.

هذا من ناحية(و) من ناحية أخرى : (منعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تفسير القرآن) الحكيم ، (ولا ريب في انّ غير النصّ) من آيات القرآن الحكيم ، لما تقدّم : من انّ بعض القرآن نص ، مثل قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٢) وبعضه ليس بنصّ مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ...)(٣) ، وغير النصّ (محتاج إلى

__________________

(١) ـ انظر الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٣ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٠٧ ب ١٤ ح ٣٣٦١٤.

(٢) ـ سورة الاخلاص : الآية ١.

(٣) ـ سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

٢١٢

التفسير وأيضا ذمّ الله تعالى من اتّباع الظنّ وكذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائه عليهم‌السلام ، ولم يستثنوا ظواهر القرآن ـ إلى أن قال ـ : وأمّا الأخبار ، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، كانوا عاملين

______________________________________________________

التفسير) ولهذا السبب لا نتمكن من العمل بظواهر القرآن ، ونتمكن من العمل بظواهر الاخبار.

(وأيضا) الاصل حرمة العمل بالظنّ ، بما هو هو ـ وانّما الخارج الاخبار ـ لانّه ، (ذمّ الله تعالى من اتباع الظنّ ، وكذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واوصيائه عليهم‌السلام ، ولم يستثنوا ظواهر القرآن) فقد قال سبحانه وتعالى في ذلك : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ)(١) ، وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النّار» (٢) ، إلى غير ذلك ممّا تقدّم من النهي عن التفسير في كلماتهم ، عليهم‌السلام.

فتحصّل : إنّ الفارق بين الاخبار والقرآن يكون كالتالي :

اولا : انّهم عليهم‌السلام ، أجازوا العمل بالاخبار ، فخرجت الاخبار عن حرمة العمل بالظنّ ، وبقي القرآن داخلا في حرمة العمل بالظنّ.

وثانيا : انّ الاخبار لها ظواهر لانّها غير مختلطة بالمتشابه منها ، بينما القرآن لا ظواهر له ، لأنّ المحكم والمتشابه منه ، قد اختلط احدهما بالآخر ، فلا نعلم أي الآيات محكم وأي الآيات متشابه؟ (إلى أن قال : وامّا الاخبار ف) يجوز العمل بها ، خروجا عن القاعدة ، لما(قد سبق : انّ أصحاب الائمّة عليهم‌السلام كانوا عاملين

__________________

(١) ـ سورة النجم : الآية ٢٣.

(٢) ـ غوالي اللئالي ح ٤ ص ١٠٤.

٢١٣

باخبار واحد من غير فحص عن مخصّص او معارض ناسخ ، او مقيّد ، ولو لا هذا لكنّا في العمل بظواهر الأخبار أيضا من المتوقفين ، انتهى.

______________________________________________________

باخبار واحد ، من غير فحص عن مخصّص ، أو معارض ناسخ ، أو مقيد) أو ما اشبه ذلك ، فانّهم ما كانوا يفحصون عن قرائن المجاز وما اشبه ، كانوا اذا القى الامام الصادق ، أو الامام الباقر ، او سائر الائمّة الطاهرين «صلوات الله عليهم اجمعين» على زرارة ، او محمد بن مسلم ، أو البزنطي ، أو غيرهم ، خبرا ذهب وعمل بذلك الخبر ، من دون أن يفحص عن مقيّده أو مخصّصه ، أو ما اشبه ذلك.

كما انّهم ما كانوا يسألون الامام عليه‌السلام عن التقييد ، والتخصيص ، وقرينة المجاز ، ونحوها.

وبهذا خرجت الاخبار عن قاعدة عدم العمل بالظنون ، التي من جملتها : الظواهر.

(ولو لا هذا) الاجماع من اصحاب الائمّة في عملهم بالاخبار(لكنّا في العمل بظواهر الاخبار) كما في ظواهر القرآن (أيضا من المتوقفين) (١) لانّ في الاخبار ، كما في القرآن : العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والناسخ والمنسوخ ، والحقيقة والمجاز ، إلى غير ذلك.

(انتهى) كلام السيد الصدر ، فتحصّل من كلامه : انّ العمل بالاخبار خارج عن القاعدة ، لا انّ العمل بظاهر القرآن خارج عن القاعدة ، بينما كلام غيره ، انّ العمل بالقرآن خارج عن القاعدة ، لا انّ العمل بالاخبار خارج عن القاعدة ، فهو رحمه‌الله يرى : حرمة العمل بالظواهر سواء الآيات والاخبار ، إلّا انّه يقول : بخروج الاخبار

__________________

(١) ـ شرح الوافية مخطوط.

٢١٤

أقول : وفيه مواقع للنظر ، سيّما في جعل العمل بظواهر الأخبار من جهة قيام الاجماع العمليّ ولولاه لتوقّف في العمل بها أيضا ، إذ لا يخفى أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليه‌السلام ، بظواهر الأخبار لم يكن لدليل خاصّ شرعيّ وصل إليهم من أئمتهم ؛ وإنّما كان أمرا مركوزا في أذهانهم بالنسبة الى مطلق الكلام الصادر من المتكلّم لأجل الافادة والاستفادة ، سواء كان من الشارع ام غيره ،

______________________________________________________

باجماع الاصحاب ، وبقاء القرآن داخلا في عدم الجواز.

(اقول : وفيه) أي في كلامه (مواقع للنظر) سنتكلم حول تلك المواقع مفصلا ان شاء الله (سيّما في جعل العمل بظواهر الاخبار من جهة قيام الاجماع العملي ، ولولاه) أي لو لا الاجماع العملي (لتوقّف في العمل بها) أي : بالأخبار(أيضا) لانّه يرى اسلوب الاخبار والقرآن ، جديدا ، فلا يجوز العمل بهما ، وانّهما ليسا مثل سائر كلام المتكلمين.

وانّما قلنا : سيّما(اذ لا يخفى انّ عمل أصحاب الائمّة عليهم‌السلام بظواهر الاخبار ، لم يكن لدليل خاص شرعي وصل اليهم من أئمّتهم) عليهم‌السلام. بل (وانّما كان) العمل بالظواهر(امرا مركوزا) عرفيّا(في اذهانهم بالنسبة إلى مطلق الكلام الصادر من المتكلم ، لاجل الافادة والاستفادة).

وعليه : فالعمل بالاخبار ، كان من صغريات هذه القاعدة المركوزة في أذهانهم (سواء كان من الشارع أم) من (غيره) فلا نسلّم اصالة حرمة العمل بالظاهر ـ المدّعى بانّه من الظنّ المنهي عنه ـ لأنّ الظاهر ممّا يعمل عليه العقلاء دائما ، إلّا اذا خرج بدليل.

وأمّا الظنّ المنهي عنه في الكتاب والسنّة ، فانّه يراد به غير هذا الظنّ المستفاد

٢١٥

وهذا المعنى جار في القرآن أيضا على تقدير كونه ملقى للافادة والاستفادة على ما هو الأصل في خطاب كلّ متكلّم.

نعم ، الأصل الأوّليّ هي حرمة العمل بالظنّ ، على ما عرفت مفصّلا ، لكنّ الخارج منه ليس خصوص ظواهر الأخبار حتّى يبقى الباقي ، بل الخارج منه هو مطلق الظهور الناشئ عن كلام كلّ متكلّم القي إلى غيره للافهام.

______________________________________________________

من الظاهر والّا لأشكلوا على صاحب الشرع : بأنّك كيف قلت : لا تعملوا بالظنّ ، مع انّك تأمر وتنهي ، ونحن نعمل بظواهر كلامك؟ لوضوح انّه ليس ذلك ظاهر في كلامهم عليهم‌السلام من النص.

(وهذا المعنى) الّذي هو عبارة عن : اتفاق أهل اللسان على العمل بالظواهر ، وانّ اصحاب الائمّة كانوا يطبّقون هذه الكبرى الكلّيّة على الروايات (جار في القرآن أيضا على تقدير كونه ملقى للافادة والاستفادة).

وانّما قلنا على تقدير ذلك و (على ما هو الأصل في خطاب كلّ متكلّم) لأنّ الاصل في كلام المتكلمين ، الذين يريدون تحريك الناس وتحركهم ، انّهم يتكلمون للإفادة والاستفادة.

(نعم) قد تقدّم في أوّل مبحث الظنّ : انّ (الأصل الأوّلي ، هي حرمة العمل بالظنّ على ما عرفت مفصلا) لانّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، وانّ بناء العقلاء على العمل على الاطمئنانيّات ، لا على الظنّيّات ، وكنّا قد أشكلنا ـ فيما سبق ـ على هذه الكلّيّة في كتاب «الاصول».

(لكن الخارج منه ، ليس خصوص ظواهر الاخبار ، حتّى يبقى الباقي) كالقرآن الحكيم على ما هو ادّعاء السيد الصدر ـ (بل الخارج منه ، هو مطلق الظهور ، الناشئ عن كلام كلّ متكلم ألقي إلى غيره للافهام) فالاصل الأولي ، وان كان

٢١٦

ثمّ إنّ ما ذكره ـ من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات واحتمال كونها من المتشابهات ـ ممنوع : أولا ، بأنّ المتشابه لا يصدق على الظواهر ، لا لغة ولا عرفا ،

______________________________________________________

المنع عن الظاهر ، لكن الاصل الثانوي حجّيّة الظواهر ببناء العقلاء ، وهو المركوز في أذهان المتشرعة أيضا ، بعد ان الشارع لم يحدث طريقة جديدة.

(ثمّ انّ ما ذكره) السيد الصدر : (من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات ، واحتمال كونها من المتشابهات ، ممنوع) لانّه استدل لذلك : بأنّ لفظ المتشابه ، متشابه ، فيحتمل شموله للظاهر ، فلا يقين بأنّ الظاهر من المحكم ، وانّما المتيقن من المحكم هو : النص.

هذا ، وانّما قلنا بانّه ممنوع لانّه :

(اولا : بأنّ المتشابه لا يصدق على الظواهر ، لا لغة ولا عرفا).

أمّا لغة : فلأنّ المتشابه من شبه ، اذا شابه شيء شيئا آخر ، لانّه من التفاعل كتضارب ، فاذا كان شيئان متماثلان ، سميّا : متشابهين ، ومن الواضح : انّ الظاهر ليس من هذا القبيل.

وأمّا عرفا ، فلأنّ المتشابه في العرف ، هو ما ليس له دلالة واضحة ، ومن الواضح : انّ الظاهر له دلالة واضحة ، فلا يصدق على الظاهر : المتماثل ، ولا غير الواضح.

وعليه : فاذا لم يكن الظاهر من المتشابه ، كان من المحكم ، لانّ المحكم مقابل المتشابه ، ولا واسطة بينهما ، وانّما الشق الثالث هو : الرمز ، وحيث انّ الظاهر ليس من الرمز قطعا ولم يصدق عليه : المتشابه لغة ولا عرفا ، فهو لا بدّ وان يكون من المحكم.

٢١٧

بل يصحّ سلبه عنه ، فالنهي الوارد عن اتّباع المتشابه لا يمنع ، كما اعترف به في المقدّمة الاولى ، من أنّ مقتضى القاعدة وجوب العمل بالظواهر.

وثانيا : بأنّ احتمال كونها من المتشابه لا ينفع في الخروج عن الأصل الذي اعترف به.

______________________________________________________

(بل يصح سلبه) : أي المتشابه (عنه) أي عن الظاهر ، وصحة السلب علامة عدم الحقيقة.

اذن : (فالنهي الوارد عن اتباع المتشابه ، لا يمنع) عن العمل بالظواهر ، بخروج الظواهر موضوعا عن المتشابه (كما اعترف) السيد الصدر(به) أي : بعدم المنع (في المقدّمة الاولى) من المقدّمتين اللتين ذكرهما(: من انّ مقتضى القاعدة : وجوب العمل بالظواهر) على الاصل الاوّلي.

(وثانيا : بانّ احتمال كونها) أي : ظواهر القرآن (من المتشابه ، لا ينفع في الخروج عن الاصل الّذي اعترف) السيد الصدر(به).

فلو احتملنا دخول ظواهر القرآن في المتشابه كان الواجب علينا مع ذلك ، العمل بتلك الظواهر ، لانّ هذا الاحتمال لا يسقط وجوب العمل بالظواهر ، كما اعترف السيد الصدر في المقدمة الاولى : بأنّ الأصل الثانوي : حجّيّة الظواهر مطلقا.

فاذا علمنا بأنّ ظواهر القرآن حسب الأصل الأولي ، الّذي اعترف به هو قدس‌سره يلزم العمل بها ، ثمّ احتملنا دخول تلك الظواهر في المتشابه ، كان اللازم التمسّك بالعام لا بالمخصص.

فهو كما اذا قال : اكرم كلّ عالم ، وعلمنا. خروج زيد ، وشككنا خروج عمرو ، فانّ اللازم اكرام عمرو ، لأنّا علمنا دخوله في العام وشككنا في تخصيصه ،

٢١٨

ودعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم هدم لما اعترف به من أصالة حجيّة الظواهر ، لأنّ مقتضى ذلك الأصل جواز العمل الّا أن يعلم كونه ممّا نهي الشارع عنه.

______________________________________________________

فاللازم اجراء اصالة عدم التخصيص ، وليس هذا من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، لانّ ذلك فيما اذا لم نعلم دخوله في العام ، وما نحن فيه ممّا علمنا دخوله في العام ، وانّما شككنا في خروجه.

(و) ان قلت ، يلزم ان نعلم : انّه داخل في المحكم حتّى نتبعه ، والحال انّه لا علم في المقام ، مع شكّنا في انّه من المحكم ، او المتشابه ، فلا يجوز اتباعه.

قلت (دعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم) حتّى يعمل به (هدم لما اعترف) السيد الصدر(به : من اصالة حجّيّة الظواهر) وانّ مقتضى القاعدة : العمل بالاصل ما لم نعلم الخروج منه.

وما نحن فيه كذلك ، فقد علمنا بانّه ظاهر ونشك في الخروج منه ، فلا يلزم العلم بكونه محكما ، حتّى نعمل به (لانّ مقتضى ذلك الاصل) أي : اصل حجّيّة الظواهر(جواز العمل الّا ان يعلم كونه) أي : العمل (ممّا نهى الشارع عنه) والحال انّا لا نعلم نهي الشارع عن الظواهر ، بل كما اعترف به هو يحتمل المنع ، واحتمال المنع لا يقاوم حجّيّة الظواهر ، التي اعترف بها.

فاذا قال المولى ـ مثلا ـ كلّ ماء طاهر ، وقال : كلّ خمر نجس ، فانّه اذا شككنا في خمريّة مائع ، نتمسّك بكلّ ماء طاهر ، لا انّه نتمسّك بالمخرج ، الّذي هو : كلّ خمر نجس ، فالحكم بالنجاسة محتاج إلى احراز الخمريّة ، لا الحكم بالطهارة ، لانّ الاصل : الطهارة إلّا ما خرج ، فاذا لم يعلم انّه مصداق ما خرج ، كان اللازم العمل بالاصل.

٢١٩

وبالجملة : فالحقّ ما اعترف به ، قدس‌سره ، من أنّه لو خلّينا وأنفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب. ولا بدّ للمانع من إثبات المنع.

______________________________________________________

(وبالجملة :) نقول في جواب السيد الصدر : (فالحقّ ما اعترف به قدس‌سره : من انّه لو خلّينا وانفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب) بمقتضى المقدمة الاولى.

(ولا بدّ للمانع ، من اثبات المنع) وقد عرفت : انّ المنع بسبب احتمال كونه من المتشابه ، غير نافع لانّ الاحتمال لا يقاوم الاصل ، والّا لجرى مثل ذلك في الاخبار أيضا ، مع انّ السيد الصدر لا يقول بالمنع في الاخبار.

اقول : بل يمكن أن يقال : انّ طريقة الشارع في القرآن وكذا في الاخبار أيضا هي طريقة العقلاء مطلقا ، فانّ كلامهم فيه : عام وخاص ، ومطلق ومقيّد ، ومجمل ومبين ، وظاهر ونص ، وحقيقة ومجاز ، ورمز ولغز ، وما اشبه ذلك.

ولهذا نرى انّ القوانين التي تجعل للبلاد ، يكون فيها كلّ ذلك ، ولهذا السبب ايضا يختلف المحامون والقضاة ومجالس الامّة في الخصوصيّات ، كما يختلف الفقهاء والمتدينون في خصوصيات القرآن والروايات ، فكما نحن الآن في القرآن والاخبار بحاجة إلى الفحص ، كذلك في كلمات العقلاء ، والسرّ في الجميع ما يلي :

اولا : اختلاف المدارك ، حيث انّ بعض الناس يرون شيئا على حالة خاصة ، وبعض آخر يرونه على خلاف تلك الحالة ، ومن ذلك يختلف الاجتهادات ، في استنباط المدارك الاوّليّة ، سواء كانت المدارك الأوليّة دينية أو دنيوية.

وثانيا : انّ الواقع يتطلّب التنوّع ، عموما وخصوصا ، وظهورا ونصا ، واجمالا وتوضيحا ، إلى غير ذلك. طبعا هذا بالنسبة إلى حال المشافهين ، فكيف بغيرهم الذين تختفي عنهم القرائن الحاليّة والمقاليّة وما اشبه؟.

٢٢٠