الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-01-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

حكم الله ، او التزم ولم يخالف مقتضى الاصول وقد لا يكون فيه عقاب اصلا ، كما إذا لم يلتزم بكونه حكم الله ولم يخالف أصلا.

وحينئذ :

______________________________________________________

حكم الله) بل عمل به احتياطا او تشهّيا.

وثالثا : (أو التزم) بالحكم المستند إلى الظنّ بانه حكم الله تعالى (و) لكن (لم يخالف مقتضى الاصول) اللفظيّة او العملية.

(و) رابعا : (قد لا يكون فيه) جهة(عقاب اصلا) لا من جهة الالتزام ولا من جهة المخالفة(كما اذا لم يلتزم : بكونه حكم الله) فلا يكون تشريعا(ولم يخالف اصلا) لفظيا ولا عمليّا ، فلا يكون مخالفا للدليل وتكون الاقسام على ذلك اربعة :

لا يقال : كيف حصرتم النسبة في الكلّيات الراجعة إلى العموم من وجه إلى ما يكون اقصاها ثلاثة صور ، ولم تذكروا شيئا منها ذات اربع صور مع ان في العموم من وجه اربع صور :

انسان وابيض.

وابيض بدون الانسان.

وانسان بدون الابيض.

وما ليس بانسان ولا ابيض؟.

لانه يقال : ان المنطقيّين ارادوا بيان : الايجاب لهما ، او لاحدهما ، لا السلب لكليهما ، فالقسم الرابع خارج عن محل كلامهم ، كما هو واضح.

(وحينئذ :) بان يعمل بالظنّ لكن لم يلتزم بكونه حكم الله ولم يكن فيه

١٢١

قد يستحقّ عليه الثواب ، كما إذا عمل به على وجه الاحتياط.

هذا ، و

______________________________________________________

ما يخالف الاصل فانه (قد يستحق عليه) أي على عمله هذا(الثواب ، كما اذا) ظنّ بالتكليف و (عمل به على وجه الاحتياط) ولم يعارضه احتياط آخر ، فيكون فيه الثواب لانه انقياد للمولى واطاعة لقوله :

«أخوك دينك ، فاحتط لدينك بما شئت» (١) ، وغيره من اوامر الاحتياط ، وانّما قال المصنّف قدس‌سره : «قد يستحق» لانه اذا لم يقصد الاحتياط ، لم يستحق ثوابا.

ثم ان (هذا) الّذي ذكرناه : من انّ التعبّد بالظنّ ، قد يكون حراما : اذا كان مع الاستناد ، او مخالفا لاصل او دليل ، وقد لا يكون حراما : اذا لم يكن مع الاستناد ، ولم يكن مخالفا لأصل ولا دليل ، غير دقيق ، وذلك لان التعبّد بالظنّ ، حرام مطلقا والحرمة امّا من جهة واحدة وهي : التشريع ، وامّا من جهتين : التشريع ، ومخالفة الاصل او الدليل ، لان ما لا يكون مع الاستناد لا يسمّى تعبّدا بالظنّ ، فليست الصور : اربع بل هي ثلاث : ـ

الاولى : ما كان حراما لانه تشريع فقط.

الثانية : ما كان حراما لانه مخالف للدليل.

الثالثة : ما كان حراما من جهة انه : تشريع ، ومخالف للدليل ، اما اذا لم يكن لا مخالفا ولا تشريعا ، فلا يسمّى تعبّدا بالظنّ ـ اصلا ـ لا انه من اقسام التّعبد وجائز.

(و) عليه : فما ذكرناه سابقا ليس الّا مجرّد اصطلاح ، حيث سمينا القسم

__________________

(١) ـ الأمالي للمفيد : ص ٢٨٣ ، الأمالي للطوسي : ص ١١٠ ح ١٦٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٩.

١٢٢

لكن حقيقة العمل بالظنّ هو الاستناد إليه في العمل والالتزام بكون مؤدّاه حكم الله في حقّه ، فالعمل على ما يطابقه بلا استناد إليه ليس عملا به.

فصحّ أن يقال : إنّ العمل بالظنّ والتعبّد به حرام مطلقا ، وافق الاصول او خالفها ، غاية الأمر أنّه إذا خالف الاصول يستحقّ العقاب من جهتين ، من جهة الالتزام والتشريع ، ومن جهة طرح الأصل المأمور بالعمل به حتّى يعلم بخلافه.

______________________________________________________

الرابع ، الّذي هو «ليس بتعبّدي» تعبّدا(لكن) هذا الاصطلاح غير دقيق ، اذ قد مرّ : ان (حقيقة العمل بالظنّ هو : الاستناد اليه في العمل ، والالتزام بكون مؤدّاه) كصلاة الجمعة الحرام واقعا ، المظنون وجوبها(حكم الله في حقّه) أي في حقّ الظانّ (فالعمل على ما يطابقه) أي يطابق الظنّ (بلا استناد اليه) بل احتياطا او تشهّيا(ليس عملا به) أي بالظنّ ، حتّى يقال : انه عمل بالظنّ ، لكنه ليس بمحرم.

(فصحّ ان يقال : ان العمل بالظنّ والتعبّد به) باستناده إلى الشارع ـ بالاضافة إلى الاستناد إلى نفس الظنّ في العمل ـ (حرام مطلقا) ومعنى مطلقا : انّه سواء(وافق الاصول) والادلّة(او خالفها) فهو حرام.

(غاية الامر) في الفرق بين الموافق وبين المخالف (انه اذا خالف الاصول ، يستحق العقاب من جهتين : من جهة : الالتزام والتشريع) والنسبة إلى المولى ما لا يعلم انه منه ، وهو حرام شرعا ، وقبيح عقلا ـ كما تقدّم ، (ومن جهة : طرح الاصل) أو الدليل (المأمور بالعمل به ، حتّى يعلم بخلافه).

ذلك ان الاصل او الدليل ، هو اللازم الاتباع ، الّا ان يقطع الانسان بخلافه ، فاذا قام شاهدان : على ان المال لزيد ، وقام الاصل : على انه ليس بمتطهّر ، وجب العمل بهما ، فلا يجوز اعطاء المال لعمرو للظن بانّه لعمرو ، ولا ان يدخل الصلاة

١٢٣

وقد اشير في الكتاب والسنّة الى الجهتين : فممّا اشير فيه إلى الاولى قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ،) بالتقريب المتقدم ، وقوله عليه‌السلام : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم».

وممّا اشير فيه إلى الثانية

______________________________________________________

للظنّ بانّه متطهّرا ، الّا ان يعلم بانّ المال لعمرو ، حيث العلم مقدّم على الشاهد ، وان يعلم بانّه متطهر ، حيث العمل مقدّم على الاستصحاب.

(و) اذا عرفت ذلك نقول : (قد اشير في الكتاب والسنة إلى الجهتين) المحرّمتين ، وهما : جهة التشريع ، وجهة مخالفة اصل او دليل ، بالاضافة إلى ما عرفت : من انّ العقل يدلّ على القبحين ، بل والاجماع قائم على ذلك ايضا ، فالادلّة الاربعة دالة على المطلب.

(فممّا اشير فيه إلى) الجهة(الاولى) أي حرمة التشريع (: قوله تعالى) : ـ

((قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ ، أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) بالتقريب المتقدّم) في الاستدلال بهذه الآية ، اذ الآية تدلّ : على ان الاستناد من دون إذن افتراء ، والافتراء : حرام نصّا واجماعا ، وعقلا.

(وقوله عليه‌السلام : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم») (٢) فمن لا يعلم شيئا يعاقب عليه اذا عمل به باسناده إلى المولى ، حكما كان ذلك الشيء كما في النصّ او عملا آخر ـ بالملاك ـ كما في ما نحن فيه ، والعقاب يلازم الحرمة.

(وممّا اشير فيه إلى) الجهة(الثانية) أي حرمة العمل بالظنّ مقابل الدليل الدّال

__________________

(١) ـ سورة يونس : الآية ٥٩.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٧ ص ٤٠٧ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٢ ب ٤ ح ٣٣١٠٥.

١٢٤

قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وقوله عليه‌السلام : «من افتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» ، ونفس أدلّة الاصول.

______________________________________________________

على خلافه : (قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)) (١).

فان الحقّ يكون في العلم ، وفيما دلّت عليه الادلّة والاصول ، ومن الواضح : انه اذا لم يكن حقّ ، كان باطلا ، لعدم الواسطة والعامل بالباطل فاعل للمحرم ، لان العمل بالظنّ وطرح الحقّ ، محرّم.

(وقوله عليه‌السلام : «من أفتى الناس بغير علم ، كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه») (٢) فالمفتي الّذي يفتي بالظنّ ، ويطرح الدليل المقابل له يكون مفسدا ، والمفسد معاقب بالنار ، وانّما قال عليه‌السلام : «اكثر» لانه قد يتطابق الظنّ مع الواقع ، فلا يكون فيه فسادا وفي قباله : غير المتطابق مع الواقع ، وان دلّ عليه دليل او اصل (و) يدلّ ايضا على الحرمة : (نفس ادلّة الاصول) والادلّة : كقوله عليه‌السلام ـ في باب الاستصحاب ـ : «لا تنقض اليقين بالشكّ» (٣).

فاذا عمل بالظنّ كان مشمولا لنهي «لا تنقض» وكقوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد من موالينا ، في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (٤) ، فاذا عمل بالظنّ ، وطرح رواية الثقة ، لم يكن له عذر في الآخرة ، وكان مستحقّا للنار.

__________________

(١) ـ سورة يونس : الآية ٣٦.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٢٥ ب ٤ ح ٣٣١١٢ (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج ١ ص ٢٠٨ ب ٥ ح ٧.

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

(٤) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٥٠ ب ١١ ح ٣٣٤٥٥ ، بحار الانوار : ج ١ ص ٣٨ ب ٢ ح ٦١ وج ٥٠ ص ٣١٨ ب ٤٠ ح ١٥ وفيه «يؤديه».

١٢٥

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الحرمة من الجهتين مبنيّ على ما هو التحقيق ، من أنّ اعتبار الاصول ، لفظيّة كانت او عمليّة ، غير مقيّد بصورة عدم الظنّ على خلافها.

وامّا إذا قلنا باشتراط عدم كون الظنّ على خلافها ،

______________________________________________________

(ثمّ) ان هناك خلافا بين الاصوليين وهو : انه هل العمل بالادلّة مشروط بعدم الظنّ على خلافها ، فاذا ظنّ بالخلاف لم يجز العمل بالخبر ، كما قال به بعض ، او اللازم : العمل بالخبر سواء ظنّ بخلافه أم لا؟.

وهذا الخلاف موجود ايضا في الاصول ، فهل الاستصحاب حجّة مطلقا ، او فيما اذا لم يظنّ على خلافه؟.

فالذي قلناه : من انه لا يعمل بالظنّ في خلاف الخبر والاصل ، انّما هو فيما اذا قلنا ـ كالمشهور ـ : بان الخبر والاصل حجّة مطلقا ، ظنّ المكلّف على خلافهما ، ام لا؟.

اما من يقول : بان الظنّ على الخلاف ، يسقط الخبر والاصل عن الحجّيّة ، فهو لا يقول : بان العمل بالظن المخالف للخبر والاصل ، يوجب العقاب.

وعليه : ف(ان ما ذكرنا) ه‍ (من الحرمة) لمن يعمل بالظنّ (من الجهتين) جهة التشريع ، وجهة طرح اصل او دليل (مبني على ما هو التحقيق : من ان اعتبار الاصول لفظيّة كانت) كحجّيّة الظاهر(او عمليّة) كالاستصحاب (غير مقيد) ذلك الاعتبار(بصورة عدم الظنّ على خلافها) أي خلاف تلك الاصول اللفظية والعمليّة.

(واما اذا قلنا ب) مقالة البعض : من (اشتراط) الحجّيّة في الاصول والادلّة ب(عدم كون الظنّ على خلافها) أي خلاف تلك الاصول اللفظيّة والعمليّة

١٢٦

فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقا ، لا على وجه الالتزام ولا على غيره.

أمّا مع عدم تيسّر العلم في المسألة ، فلدوران الأمر فيها بين العمل بالظنّ وبين الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة على خلاف الظنّ ، وكما لا دليل على التعبّد بالظنّ ، كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الأصل ، لأنّه المفروض ،

______________________________________________________

(فلقائل ان يمنع : اصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقا) والاطلاق بمعنى : انه (لا على وجه الالتزام) الشريعي ، (ولا على غيره) أي غير الالتزام.

وانّما المحرّم عند هذا القائل : الحرمة على وجه الالتزام فقط ، فان التزم حرّم للتشريع فقط ـ لا من جهتين ـ وان لم يلتزم ، لم يكن حراما اطلاقا سواء كان في قبال الظنّ اصل او دليل ام لا؟.

(امّا) وجه عدم حرمة العمل بالظنّ العامّ (مع عدم تيسر العلم) ولا الظنّ الخاصّ مع فرض انسداد باب العلم والعلمي (في المسألة) بأن لم يكن في المسألة المبتلى بها علم ولا علمي.

(فلدوران الامر فيها) أي في المسألة(بين العمل بالظنّ) العام (وبين الرجوع إلى الاصل الموجود في تلك المسألة) براءة ، او اشتغالا ، او احتياطا ، او تخييرا ، الاصل الّذي هو (على خلاف الظنّ) كأن ظنّ عدم وجوب الجمعة بينما الاستصحاب يقتضي وجوبها ، او كان الشكّ في المكلّف به ممّا يقتضي الاشتغال ، لكنّ الظنّ على البراءة ، إلى غير ذلك.

(وكما لا دليل على التعبّد بالظنّ) لفرض الانسداد(كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الاصل) المخالف للظنّ (لانّه المفروض) من دليل اعتبار ذلك الاصل ،

١٢٧

فغاية الأمر التخيير بينهما او تقديم الظنّ ، لكونه أقرب إلى الواقع ، فيتعيّن بحكم العقل.

وأمّا مع التمكّن من العلم في المسألة ، فلأنّ عدم جواز الاكتفاء فيها

______________________________________________________

بانه مختص بصورة الشكّ وعدم الظنّ بالخلاف.

(فغاية الامر) هنا في دوران الامر بين الظنّ والاصل هو : (التخيير بينهما ، او) يقال : ب(تقديم الظنّ) على الاصل (لكونه اقرب إلى الواقع) اذ الاصل : في محل الشكّ ، والظنّ مقدّم على الشكّ (فيتعيّن) الظنّ (بحكم العقل).

فان العقل يرى لزوم العلم التفصيلي ، ثم العلم الاجمالي ـ وربّما يقال : بالتساوي بينهما في الاطاعة ، اذا لم يكن محذور خارجي ـ ثم الظنّ ، فان من كان مريضا وعلم بالدواء : شربه ، ومن شكّ بين اثنين : شربهما ، ومن لم يكن له علم تفصيلي ولا علم اجمالي ، شرب ما يظنّ انه دواء ، وكذلك في سلوك الطريق الواجب عليه ، للوصول إلى بلد ما ، وإلى غير ذلك من موارد عمل العقلاء بالظنّ بعد فقد العلم.

وعلى هذا : فالعمل بالظنّ لا يحرم من جهة التشريع ، لان العقل حكم بحجّيّته تخييرا او تعيينا ، ولا من جهة طرح الاصل ، لفرض ان حجّيّة الاصل مقيّدة بعدم الظنّ على الخلاف.

(وامّا) وجه حرمة العمل بالظن (مع التمكن من العلم) او الظنّ الخاصّ ـ كالامارات والطرق ـ بالواقع (في المسألة) المبتلى بها(: فلان) العقل لا يلزم الانسان بالعلم او العلمي ، وإنّما يرى كفاية الظنّ بالنجاة في قبال الشكّ بها ، او الظنّ بعدمها ، ولذا فان العقلاء يكتفون بالظنّ في غالب معاملاتهم ، وان تمكنوا من العلم ف(عدم جواز الاكتفاء فيها) أي في

١٢٨

بتحصيل الظنّ ووجوب تحصيل اليقين مبنيّ على القول بوجوب تحصيل الواقع علما ، أمّا إذا أدعى أنّ العقل لا يحكم بأزيد من وجوب تحصيل الظنّ وأنّ الضرر الموهوم لا يجب دفعه ، فلا دليل على لزوم تحصيل العلم مع التمكّن.

______________________________________________________

المسألة(بتحصيل الظنّ) بالحكم (ووجوب تحصيل اليقين) او الظنّ الخاصّ ممّا يسمّى بالعلمي (مبني على القول : بوجوب تحصيل الواقع علما) او علميّا.

و (امّا اذا ادّعى) كما عن المحقق السبزواري قدس‌سره (ان العقل لا يحكم بازيد من وجوب تحصيل الظنّ) باحكام المولى (وان الضّرر الموهوم ، لا يجب دفعه) بل الضّرر المشكوك ، او المظنون او المقطوع به (فلا دليل على لزوم تحصيل العلم) او العلمي بالاحكام ، حتّى (مع التمكن).

وعليه : فالعمل بالظنّ لا يحرم ، لا من جهة ترك العلم ، ولا من جهة التشريع ، لان العقل قد استقل بكفاية تحصيل مطلق الاعتقاد ، الاعمّ من العلم والظنّ ، وكأن المحقق السبزواري قدس‌سره انّما قال بذلك ، لما شاهده من انّ بناء العرف في كلّ شئونهم ـ الّا النادر جدّا المحتاج إلى دليل الاستثناء ـ انّما هو بالعمل على الظنّ.

فمن يركب الطائرة ، او السيارة ، او الباخرة ، هل يعرف السائق؟ وهل يعلم انه يوصله بسلام؟.

ومن يراجع الطبيب في مطبّه لاجل علاج مرضه ، او اجراء عمليّة جراحيّة له ، هل يعرف الطبيب؟ وهل يعلم انه ينجح في معالجته واجراء عمليّته له؟.

ومن يأكل الطعام ، ويشرب المشروبات ، خصوصا في المطاعم ، هل يعلم بان اللحم وسائر المطعومات والمشروبات خالية عن السمّ ، وسالمة من الاقذار والجراثيم؟.

١٢٩

ثمّ إنّه ربما يستدلّ على أصالة حرمة العمل بالظنّ بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ ،

______________________________________________________

ومن يخرج من بيته للعمل ، او يذهب ابنه إلى المدرسة ، او ما اشبه ، هل يعلم بانه لا يصطدم بالسيارات العابرة؟ وهل يضمن عودة ابنه سالما؟.

ومن يسكن المناطق ، التي تحدث فيها الزلازل هل يأمن على نفسه من الزلزلة المدمّرة له؟.

ومن يرسل زوجته ، او بنته او اخته إلى السوق ، او المدرسة ، او بيوت الارحام ، او ما اشبه هل يأمن عليها عدم الاختطاف؟.

إلى غير ذلك ممّا يجده الانسان من شئون العرف في اكتفائهم بالظنّ ، والشرع ، حيث لم يحدث طريقا جديدا ، كان معناه الاكتفاء بالظنّ ، وعدم لزوم العلم.

لكن هذا القول ضعيف لأن الشارع منع عن العمل بالظنّ ، وقد ألمعنا إلى ذلك في «الاصول».

(ثم انه ربّما يستدلّ على اصالة حرمة العمل بالظنّ ، بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ) مثل قوله سبحانه :

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١).

وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢).

وقول سبحانه : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا ، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)(٣) إلى غيرها

__________________

(١) ـ سورة الاسراء : الآية ٣٦.

(٢) ـ سورة النجم : الآية ٢٨.

(٣) ـ سورة الجاثية : الآية ٣٢.

١٣٠

وقد أطالوا الكلام في النقض والابرام في هذا المقام بما لا ثمرة مهمّة في ذكره بعد ما عرفت.

لأنّه إن اريد الاستدلال بها على حرمه التعبّد والالتزام والتديّن بمؤدّى الظّن ، فقد عرفت أنّه من ضروريات العقل ، فضلا عن تطابق الأدلّة الثلاثة النقليّة عليه.

______________________________________________________

(وقد اطالوا) أي الاصوليون (الكلام في النقض والابرام ، في هذا المقام) فبعضهم نقض الادلّة المذكورة بادّعائه عدم دلالتها لانّها في اصول الدين ، ونحو ذلك ، وبعضهم ابرم دلالتها بانّها اعمّ ، ولو من جهة العلّة ، كما في :

«إنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا».

ونظرة إلى القوانين والفصول ، وما اشبههما من الكتب الاصولية المفصلة ، تعلم تفاصيل النقض والابرام (بما لا ثمرة مهمّة في ذكره ، بعد ما عرفت) من الكلام في العمل بالظنّ واحكامه.

ثم ان الاستدلال هذا على اقسام : (لانه ان اريد الاستدلال بها) أي بالآيات (على حرمة التعبّد ، والالتزام ، والتديّن بمؤدّى الظنّ) ونسبته إلى المولى عزوجل بان قال ـ فيما ظن بحرمة التبغ : المولى قال بحرمه التبغ ، او قال ـ فيما ظنّ بوجوب دعاء الهلال ـ : المولى قال بوجوب الدعاء عند الرؤية(فقد عرفت : انه) أي تحريم التعبّد(من ضروريات العقل) فان العقل يراه كذبا وافتراء(فضلا عن تطابق الادلة الثلاثة النقليّة) من الكتاب والسنّة والاجماع ، (عليه) أي على التحريم.

وحيث دلّ العقل على الحرمة ، فالآيات والروايات ارشاد إلى حكم العقل ، كما هو الشأن في كلّ ما دلّ عليه العقل ، ثم دلّت الادلّة الشرعيّة عليه ، والاجماع ليس

١٣١

وإن اريد دلالتها على حرمة العمل المطابق للظنّ وإن لم يكن عن استناد إليه : فان اريد حرمته إذا خالف الواقع مع التمكّن من العلم به ، فيكفي في ذلك الأدلّة الواقعية ؛ وإن اريد حرمته إذا خالف الاصول مع عدم التمكّن من العلم

______________________________________________________

الّا لكشفه عن قول المعصوم ، فهو كرواية من الروايات ـ على ما يراه بعض الاصوليّين من كون الاجماع حجّة من باب الكشف ـ.

(وان اريد :) من الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ (دلالتها) أي الآيات (على حرمة) مجرد(العمل المطابق للظنّ ، وان لم يكن) العمل (عن استناد اليه) أي إلى الشارع فاذا ظنّ بحرمة التبغ ، او وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ـ مثلا ـ ترك الأوّل ، وأتى بالثاني احتياطا او تشهّيا بلا نسبة منه إلى الشارع.

(فان اريد : حرمته) أي حرمة العمل بالظنّ (اذا خالف الواقع) بان لم يكن الدعاء واجبا ، ولا التبغ حراما عند الله سبحانه (مع التمكن من العلم به) أي بالواقع ، حيث كان الدعاء حراما ، او التدخين ـ مثلا ـ في الواقع ، وكان بامكانه ان يراجع الادلة ، حتّى يظهر له : حرمة الدعاء ، ووجوب التدخين ، فلم يراجع وترك التدخين وقرء الدعاء(فيكفي في ذلك) التحريم الموجب لعقابه (الادلة الواقعية) التي اذا رجع اليها ، علم بالواقع ، فان دليل الاحكام الواصل إلى المكلّف حجّة عليه اذا خالف ، والوصول لا يلزم فيه ـ عند العقلاء ـ : علمه الحالي ، بل يكفي فيه : انه يتمكن من الرجوع اليها ليعلم. وعلى هذا : فلا حاجة إلى الاستدلال بالآيات الناهية عن الظنّ ، في حرمة العمل بغير العلم.

(وان اريد : حرمته) أي حرمة العمل بالظنّ (اذا خالف) الظنّ : الادلة الاجتهادية ، او (الاصول) العمليّة(مع عدم التمكن من العلم) فاذا رجع اليها لا يعلم بالواقع ، لكن يصل إلى الدليل الاجتهادي ، أو الأصل العملي المقرّر في هذه المسألة التي

١٣٢

فيكفي فيه أيضا أدلّة الاصول ، بناء على ما هو التحقيق ، من أنّ مجاريها صور عدم العلم الشامل للظنّ ؛ وإن اريد حرمة العمل المطابق للظنّ من دون استناد إليه ، وتديّن به وعدم مخالفة العمل للواقع مع التمكّن منه و

______________________________________________________

هي محل ابتلائه (فيكفي فيه) أي في التحريم هنا(ايضا) كما كفى في الفرض الأوّل (ادلة) الأمارات و (الاصول) فان الدليل الّذي يقول بحجّيّة الخبر الواحد ، مثل : «صدق العادل» او بحجّيّة الاصل ، مثل : «لا تنقض اليقين بالشكّ» (١) يكفي في المنع عن العمل بالظنّ ، المخالف للخبر ، او للاستصحاب ، من دون حاجة إلى الآيات الناهية.

ان قلت : ان الادلة والاصول ، تجري فيما يشكّ الانسان فيه ، لا فيما يظنّ ، والمفروض في المقام : حصول الظنّ بالحكم ، فلا مجال للدليل والاصل فيه ، وانّما مجالهما الشكّ فقط.

قلت : كون الدليل والاصل مقدما على الظنّ (بناء على ما هو التحقيق من انّ مجاريها) أي الادلّة والاصول ليست عند الشكّ فقط ، بل مطلق (صور عدم العلم الشامل) للشك و (للظن) فالأدلة والأصول تجري وهي غير مقيدة بعدم الظنّ ، فسواء شكّ المكلّف ، او ظنّ بالحكم وجب عليه : اجراء الدليل او الاصل لكشف الحكم (وان اريد : حرمة العمل المطابق للظن ، من دون استناد اليه) إلى الشارع ليكون تشريعا(و) لا(تديّن به) ليكون بدعة ، (و) مع (عدم مخالفة العمل للواقع ، مع التمكن منه) أي من الواقع (و) على فرض التمكّن من الواقع ، أن

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٣.

١٣٣

لا لمقتضى الاصول مع العجز عن الواقع ، فلا دلالة فيها ولا في غيرها على حرمة ذلك ، ولا وجه لحرمته أيضا.

والظاهر أنّ مضمون الآيات هو التعبّد بالظنّ والتديّن به ،

______________________________________________________

(لا) يكون في العمل مخالفة(لمقتضى) الادلّة و (الاصول مع العجز عن الواقع) كي لا يكون العمل مخالفا لما هو تكليف العامل بالظنّ فعلا.

(فلا دلالة فيها) أي في الآيات الناهية عن العمل بالظنّ (ولا في غيرها) من سائر الآيات والروايات (على حرمة ذلك) العمل الّذي ليس فيه استناد ، ولا مخالفة للواقع ، ولا للطريق المنصوب شرعا ، فاذا دخن ـ مثلا ـ تشهّيا لا استنادا إلى الشارع ، وكان في الواقع حلالا ، ولم يكن خبر او اصل ، يدلّ على حرمته ، لم يكن وجه لحرمة مثل هذا التدخين.

(ولا وجه) آخر ، غير الآيات (لحرمته أيضا) فلما ذا يكون مثل هذا العمل حراما؟ بل ظاهر الادلة : حلّيته ، اذ هو ممّا : ـ «سكت الله عنه» (١) و : «كلّ شيء لك حلال» (٢) : و «كلّ شيء مطلق» (٣) إلى غير ذلك من ادلة البراءة : (والظاهر) لدى العرف حين يلقى الكلام اليه (: ان مضمون الآيات) المتقدمة ، الناهية عن اتباع غير العلم او عن اتباع الظنّ (هو) : حرمة(التعبّد بالظنّ والتديّن به) لا حرمة مجرّد العمل من دون اسناد إلى الشارع ، ولاجل هذا الظاهر نرى : لو ان انسانا

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٦٦ باب الحج.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

(٣) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ١٦٦ ح ٦٠ وص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

١٣٤

وقد عرفت أنّه ضروريّ التحريم ، فلا مهمّ في إطالة الكلام في دلالة الآيات وعدمها ، إنّما المهمّ الموضوع له هذه الرسالة بيان ما خرج او قيل بخروجه من هذا الأصل من الامور الغير العمليّة

______________________________________________________

عمل عملا يظنّ هو : بحسنه ، لا يقال له : لما ذا تشرّع؟ ولو قيل له ذلك اجاب : بأنّي لا اعمله تشريعا ، بل تشهّيا او احتياطا ، وكلا الامرين ، ليس من التشريع في شيء.

هذا(وقد عرفت : انه) أي التعبّد بالظنّ من دون دليل (ضروري التحريم) عقلا فلا حاجة إلى النهي الشرعي عنه ، ولو نهى الشارع كان ارشادا ، والامر الارشادي : هو الّذي ليس له ثواب ولا عقاب ، وانه لا مصلحة الّا في المأمور به من دون خصوصيّة للامر ، مثل أمر الطبيب بشرب الدواء ، فان المريض اذا لم يشرب الدواء اصابه ضرر عدم الشرب ، لا ان في امر الطبيب مصلحة اذا لم يطعه المريض ، اصابه ضرر مخالفة الامر بما هو امر.

وحيث قد عرفت : من عدم دلالة الآيات على النهي المولوي (فلا مهم في اطالة الكلام في دلالة الآيات) الناهية عن العمل بالظنّ (وعدمها) أي عدم الدلالة و (انّما المهمّ) عندنا(الموضوع له هذه الرسالة) من بيان أحوال الظنّ هو : (بيان ما خرج) عن حرمة العمل بالظنّ ، فانه وان كان في الغالب ظنّا نوعيّا او ان النوع يظن منه ، وان لم يحصل ظنّ شخصي للعامل ، واحيانا يكون قطعا الّا ان الشارع أخرجه عن حرمة العمل بالظنّ ، سواء قلنا : بان الحرمة مولوية ـ كما قاله غير واحد ـ أو ارشادية إلى حكم العقل ـ كما قاله الشيخ المصنّف ـ.

ثم ان الخارج من حرمة العمل بالظنّ : ظواهر الالفاظ ، وخبر الثقة ، بلا اشكال ولا خلاف غالبا(او قيل بخروجه من هذا الاصل) أي اصل حرمة العمل بالظنّ ، كالاجماع المنقول ، والشهرة ، والسيرة(من الامور غير العملية) ممّا يسمى بالظن

١٣٥

التي اقيم الدّليل على اعتبارها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الذي جعلوه موجبا للرجوع الى الظنّ مطلقا او في الجملة.

______________________________________________________

الخاص ، مقابل الظن الانسدادي ، الّذي يسمى بالظن العام (التي اقيم الدليل) الخاص (على اعتبارها) كالكتاب ، والروايات المتواترة ، وطريقة العقلاء الممضاة من قبل الشارع ، والسيرة القطعية من المتشرعة.

(مع قطع النظر عن انسداد باب العلم) لانها ظنون خاصة خارجة عن حرمة العمل ، وان لم نقل بانسداد باب العلم ، اما اذا قلنا بالانسداد ، فالظن مطلقا حجة ، ولا يراد بمطلق الظن ، الّا الظنون عن الادلة الاربعة ، فان الانسداديّين كصاحب القوانين ايضا ، يعملون بهذه الاربعة ، لكن من باب الظن المطلق ، لا الظن الخاص ـ كما يقول به المشهور ـ على ما سيأتي في بحث الانسداد مفصلا ان شاء تعالى ، فان كلامنا هذا ليس في الانسداد(الّذي جعلوه موجبا للرجوع إلى الظنّ مطلقا ، او في الجملة) فان الانسداديّين ربّما قالوا : بحجّيّة الظنّ مطلقا ، من أيّ سبب ، ولأيّ شخص ، وفي أيّة مرتبة ، وفي أيّ مورد.

وبعضهم لا يقولون بهذا الاطلاق ، بل يفرّقون بين الاسباب : كالظن من الكتاب والسنة ، وكالظن من المنام والرمل ، وبين الاشخاص : كظن الفقيه المطلع ، وظنّ طالب العلم الفاضل ، وبين المراتب : كالظن القوي ، والظن الضعيف ، وبين الموارد : كالظن في باب النكاح ، والدماء ، والاموال الكثيرة ، حيث اهتم بها الشارع اهتماما كبيرا ، وكالظن في سائر الاحكام ، التي ليست بتلك الاهمية ، فقالوا : بحجية بعض هذه الظنون دون بعض.

ثم لا يخفى ان الفقهاء على ثلاثة اقسام :

الأوّل : من يرى قطعية الاخبار الواردة في الكتب الاربعة ، ونحوها ، فعندهم

١٣٦

الظنون المعتبرة وهي امور :

منها : الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة

______________________________________________________

باب العلم منفتح في معظم الفقه ، وهؤلاء كانوا قبل العلامة قدس‌سره ـ كما قيل ـ وحجّتهم : ان قرب عصر مؤلّفي هذه الكتب ، بزمن الغيبة الصغرى ، وكونهم في بغداد محل النواب الاربعة ، وما اشبه ذلك ، أوجب العلم بصحة ما في كتبهم ، الّا ما خرج بالدليل.

الثاني : من يرى انسداد باب العلم والعلمي ، فيعمل بالظنّ المطلق.

الثالث : من يرى انسداد باب العلم في معظم الفقه ، وانفتاح باب العلمي ، من الظنون الخاصّة الّتي توجبها الاخبار ، وظواهر الكتاب.

والغالب بعد العلامة قدس‌سره يرون هذا الرأي ومنهم المصنّف قدس‌سره ولذلك اخذ يتكلم حول ما خرج من حرمة العمل بالظنّ ، الاعمّ من الواجب العمل فقال :

(وهي امور ، منها : الأمارات المعمولة) بها(في) مقام (استنباط الاحكام الشرعيّة) الاعمّ من الاحكام الوضعيّة كالجزئيّة ، والمانعيّة ، والشرطيّة ، ونحوها ، وتلك الأمارات هي : عبارة(من الفاظ الكتاب) العزيز(والسنّة) المطهرة ، وهي : قول المعصوم وفعله وتقريره.

ومن باب فذلكة القول نقول : ان الرواية التي وردت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تارة :

«انّي مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي» (١).

__________________

(١) ـ معاني الاخبار : ص ٩١ ، كمال الدين : ص ٢٤٧ ، المسائل الجارودية : ص ٤٢ ، ارشاد القلوب : ص ٣٤٠ ، الارشاد : ج ١ ص ١٨٠ ، كشف الغمّة : ج ١ ص ٤٣ ، متشابه القرآن : ج ٢ ص ٣٥٠ ، المناقب : ج ٢ ص ٤١.

١٣٧

وهي على قسمين :

القسم الأوّل ما

______________________________________________________

واخرى : «كتاب الله وسنّتي» (١).

قد يشكل عليها في الأوّل : بخروج اقواله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانّها ليست من الكتاب ، ولا من العترة ، وعلى الثاني : بخروج العترة ، لانها ليست من الكتاب ولا من السنة.

والجواب على الأوّل : ان اقواله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرح للكتاب ، فهي داخلة في الكتاب.

وقد قال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٢).

او يقال : ان المراد بالعترة ، اعمّ تغليبا مثل :

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً)(٣) ، أي داود وآله.

و : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)(٤) أي فرعون وآله.

وعلى الثاني : ان المراد من السنة ، اعمّ من العترة ، لان الالتزام بهم عليهم‌السلام من سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم ان الأمارات المعمولة ، ليست خاصّة بالكتاب والسنّة ، وانّما ذكرهما المصنّف من باب المثال ، بل تشمل مثل قول اللغوي ، واصالة الحقيقة ، وما اشبه ممّا سيأتي الكلام فيها ان شاء الله تعالى.

(وهي) أي الأمارات المعمولة بها(: على قسمين : القسم الأوّل : ما) أي أمارة

__________________

(١) ـ كمال الدين : ج ١ ص ٢٣٥ ح ٤٧ وقد روى هذا الحديث من طرف العامة الحاكم في المستدرك ج ١ ص ٩٣ ، ولكن هذا الحديث ضعيف من حيث السند والدلالة حتى عند الحاكم.

(٢) ـ سورة النجم : الآية ٣ ـ ٤.

(٣) ـ سورة سبأ : الآية ١٣.

(٤) ـ سورة غافر : الآية ٤٦.

١٣٨

يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك ، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز ، وأصالة العموم والاطلاق ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بارادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة ،

______________________________________________________

(يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال) الفقيه (ارادته) أي ارادة المتكلّم (خلاف ذلك) أي خلاف ظاهر الأمارة فان اللفظ ظاهر ، لكنّا نحتمل ان المتكلّم اراد خلاف هذا الظاهر.

وانّما نعمل بالظاهر ـ على خلاف احتمالنا ـ لوجود أمارة تقول بارادة المتكلّم الظاهر(كأصالة الحقيقة ، عند احتمال ارادة المجاز) واصالة التطابق بين الارادة الجدّية والارادة الاستعماليّة ، بأن يكون الظاهر : مراده جدا ، لا مراده هزلا(واصالة العموم) فلم يذكر العام وهو يريد الخاصّ (و) اصالة(الاطلاق) فلم يطلق الكلام وهو يريد المقيّد إلى غير ذلك.

والفرق بين العام والمطلق : ان في العام يكون اللفظ مرآة للافراد ، فاذا قال : اكرم كلّ عالم ، فكانّه قال : عالما عالما ، وفي المطلق يكون اللفظ مرآة للطبيعة ، فاذا قال : اكرم العالم ، فكانّه قال : اكرم طبيعة المتّصف بالعلم ، وحيث ان الطبيعة سارية في كلّ الافراد ، وجب اكرام كلّ فرد.

(ومرجع الكلّ) أي كلّ هذه الاصول اللفظية التي ذكرناها(إلى اصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى) الّذي يكون اللفظ ظاهرا فيه ، و (الّذي يقطع) السامع (بارادة المتكلم الحكيم له) أي لذلك المعنى (لو حصل القطع بعدم القرينة) فاذا قطعنا بعدم القرينة ، نقطع بارادة الحكيم ، لهذا المعنى ، اذ لو اراد الحكيم غيره من دون القرينة ، كان خلاف الحكمة ، فاذا لم نقطع بعدم القرينة ، بل

١٣٩

وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع ، بناء على عدم وصوله إلى حدّ الوضع ؛ وكالقرائن المقاميّة التي يعتمدها أهل اللسان في محاوراتهم ، كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر

______________________________________________________

ظننّا بعدم القرينة ، ظننّا بارادة المتكلم لذلك المعنى ، فاذا قال المولى : الاسد ، وقطعنا بانه لم ينصب قرينة صارفة عن الحيوان المفترس ، قطعنا بانه اراد الحيوان المفترس ، وانّما نقطع بذلك لانّه لو اراد غيره ، لم ينصب قرينة صارفة ، كان كلامه لغوا ـ فيما اذا كان اخبارا ـ وكان نقضا للغرض فيما اذا قال في مقام الانشاء جئني بأسد ؛ لان العبد في المقامين لا يفهم شيئا.

(وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع) اذا لم ينصب قرينة على ارادة الاعمّ ، او خصوص غير الفرد الشائع ، مثلا : العالم في لسان اهل العلم ، غالب في عالم الفقه والاصول ، فاذا ارادوا : الاعمّ من ذلك ومن عالم الطب والهندسة ، او ارادوا : خصوص عالم الطبّ والهندسة ، لزم نصب القرينة ، فاذا لم ينصب المتكلم القرينة ، كان المراد : عالم الفقه والاصول ، بحكم الغلبة المذكورة ، وهذه الغلبة ، تجعل اللفظ ظاهرا في المعنى الغالب.

وانّما تكون الغلبة دليلا(بناء على عدم وصوله) أي استعمال المطلق في الغالب (إلى حدّ الوضع) بحيث يخرج غير الغالب عن مصداقيّة المطلق ، والّا فان وصل إلى حدّ الوضع لم يكن استفادة المراد من اللفظ ، من باب التمسك باصالة الغلبة ، بل باصالة الحقيقة ، لان المقام يكون فردا من افراد اصالة الحقيقة ، التي تكلمنا عنها(وكالقرائن) العامة(المقاميّة) التي يفهم من المقام ، زمانا كان المقام او مكانا ، او خصوصيّة مكتنفة بالكلام ، من (التي يعتمدها اهل اللسان في محاوراتهم) سواء كان متكلما او سامعا(كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر

١٤٠