وقوله تعالى (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [الآية ١٦] فهذا على قول العرب : «خاب سعيك» وإنّما هو الذي خاب ، وإنّما يريد «فما ربحوا في تجارتهم» ومثله (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (١) (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [الآية ١٧٧] إنّما هو «ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله» (٢) وقال الشاعر (٣) [من المتقارب وهو الشاهد الخامس والعشرون] :
وكيف تواصل من أصبحت |
|
خلالته كأبي مرحب (٤) |
وقال الشاعر (٥) [من الطويل وهو الشاهد السادس والعشرون] :
وشرّ المنايا ميّت وسط أهله |
|
كهلك (٦) الفتاة أسلم الحيّ حاضره (٧) |
إنما يريد «وشر المنايا منية ميّت وسط أهله» ، ومثله : «أكثر شربي الماء» و «أكثر أكلي الخبز» وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء. ولكن تريد أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء. قال تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] يريد : «أهل القرية» ، (وَالْعِيرَ) [يوسف : ٨٢] أي : «واسأل اصحاب العير». وقال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) [الآية ١٧١] فكأنّه يريد ـ والله أعلم ـ «مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به». فحذف هذا الكلام ، ودلّ ما بقي على معناه. ومثل هذا في القرآن كثير. وقد قال بعضهم (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) يقول «مثلهم في دعائهم الالهة كمثل الذي ينعق بالغنم» لان ـ آلهتهم لا تسمع ولا تعقل ، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل.
وقوله تعالى (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
__________________
(١). سبأ ٣٤ : ٣٣. وفي إعراب القرآن ٢ : ٨٨٠ والجامع ١٤ : ٣٠٢ عن الأخفش «هذا مكر الليل والنهار».
(٢). عبارة الكتاب ١ : ١٠٨ نفسها.
(٣). هو النابغة الجعدي أبو ليلى عبد الله بن قيس.
(٤). شعر النابغة الجعدي ٢٦ ، وفي الكتاب ١ : ١١٠ للمعنى نفسه ، وفي مجالس ثعلب ٧٧ ب «يصاحب» بدل «تواصل» ، وفي الأمالي ١ : ١٩٢ ب «تصادق» وانظر اللسان «خلل» ، والصحاح «خلل» ، والإنصاف ١ : ٤٤.
(٥). هو الحطيئة جرول بن أوس العبسي.
(٦). في ديوان الحطيئة ٤٥ بلفظ «هالك» بدل «ميت» ، و «ايقظ» بدل «أسلم» ، وفي الكتاب ١ : ١٠٩ بلفظ «الفتى قد» بدل «الفتاة». وكذلك في الإنصاف ١ : ٤٤.
(٧). عبارة تكاد تطابق عبارة الكتاب ١ : ١٠٩.
ناراً) [الآية ١٧] فهو في معنى «أو قد» ، مثل قوله «فلم يستجبه» أي «فلم يجبه» وقال الشاعر (١) [من الطويل وهو الشاهد السابع والعشرون] :
وداع دعا يا من يجيب الى النّدى |
|
فلم يستجبه عند ذاك مجيب |
أي : «فلم يجبه».
قال تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) فكان (الذي) بمعنى جميعا فقال (وَتَرَكَهُمْ) لأن «الذي» في معنى الجميع ، كما يكون «الإنسان» في معنى «الناس».
وقال تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) فرفع على تأويل : «هم صمّ بكم عمي» رفعه على الابتداء ولو كان على أوّل الكلام لكان النصب فيه حسنا.
وأما (حَوْلَهُ) [الآية ١٧] فانتصب على الظرف ، وذلك أنّ الظرف منصوب. والظرف هو ما يكون فيه الشيء ، كما قال الشاعر (٢) [من الكامل وهو الشاهد الثامن والعشرون] :
هذا النهار بدا لها من همّها |
|
ما بالها بالليل زال زوالها |
نصب «النهار» على الظرف وإن شاء رفعه وأضمر فيه. وأما «زوالها» فإنه كأنه قال : «أزال الله الليل زوالها».
وأما (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) [الآية ٢٠] فمنهم من قرأ (يخطف) (٣) من «خطف» ، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف (٤). وقد رواها يونس (يخطّف) (٥) بكسر الخاء لاجتماع
__________________
(١). هو سعد بن كعب الغنويّ. والبيت في الأصمعيّات ٩٦ ، وفي المجاز ١ : ٦٧ و ١١٢ و ٢٤٥ و ٣٢٦ ، والصّحاح «جوب» ، والعجز في أدب الكاتب ٤١٩.
(٢). هو الأعشى ميمون ، وهو في الصبح المنير ٢٢ يضم زوالها ، واللسان «زول».
(٣). في الشواذ ٣ نسبت إلى ابن مالك ومجاهد. وفي المحتسب ٦٢ إلى مجاهد والحسن. وفي الجامع ١ : ٢٢٢ إلى يونس وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب وفي البحر ١ : ٨٩ إلى مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن زيد.
(٤). في الصحاح «خطف» بعبارة مقاربة ونقلها الجامع ١ : ٢٢٢.
(٥). في معاني القرآن ١ : ١٧ بلا نسبة ، وفي الشواذ ٣ ، والمحتسب ٥٩ ، كذلك وفي الجامع ١ : ٢٢٢ إلى الحسن ، وقتادة ، وعاصم الجحدري ، وأبي رجاء العطاردي.
الساكنين. ومنهم من قرأ (يخطف) (١) على «خطف يخطف» وهي الجيدة (٢) ، وهما لغتان. وقال بعضهم (يخطّف) (٣) وهو قول يونس من «يختطف» ، فأدغم التاء في الطاء ، لأنّ مخرجها قريب من مخرج الطاء. وقال بعضهم (يخطّف) فحوّل الفتحة على الذي كان قبلها (٤) ، والذي كسر ، كسر لاجتماع الساكنين ، فقال (يخطّف) (٥) ومنهم من قال (يخطّف) (٦) كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم كسر الياء ، أتبع الكسرة وهي قبلها وذلك في كلام العرب كثير ، فهم يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة ، يقولون «قتلوا» و «فتحوا» يريدون : «اقتلوا» و «افتحوا» (٧). وقال ابو النجم (٨) [من الرجز وهو الشاهد التاسع والعشرون] :
تدافع الشّيب ولم تقتّل (٩)
وسمعناه من العرب مكسورا كلّه ، فهذا مثل «يخطف» إذا كسرت ياؤها (لكسرة خائها) وهي بعدها فأتبع الاخر الاول.
وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [الآية ٢٠] فمنهم ، من يدغم
__________________
(١). في السبعة ١٤٦ هي اتفاق ، وحجّة الفارسي ٢٩٤ كذلك.
(٢). في الصحاح «خطف» بعبارة مقاربة ، وفي الجامع ١ : ٢٢٢ كذلك.
(٣). في معاني القرآن ١ : ١٨ ، والجامع ١ : ٢٢٢ بلا نسبة.
(٤). في معاني القرآن ١ : ١٨ بلا نسبة ، وفي الشواذ ٣ إلى الأعمش ، وفي البحر ١ : ٩٠ إلى الحسن والجحدري وابن أبي إسحاق ، وفي الجامع ١ : ٢٢٢ إلى الحسن وحده ، وفي اللسان (خطف) اليه ايضا.
(٥). وفي الشواذ ٣ بلا نسبة ، وفي الجامع ١ : ٢٢٢ إلى الحسن أيضا وقتادة وعاصم الجحدري وأبي رجاء العطاردي ، وفي البحر ١ : ٩٠ كذلك.
(٦). في معاني القرآن ١ : ١٧ بلا نسبة ، وفي الشواذ ٣ إلى الأعمش ، وفي المحتسب ٥٩ بلا نسبة ، وفي الجامع ١ : ٢٢٢ بلا نسبة ، وفي البحر ١ : ٩٠ إلى الحسن والأعمش ، وفي إعراب القرآن ١ : ٢٥ بلا نسبة. وفي اللسان «خطف» إلى الحسن.
(٧). قياسا على الشاهد الشعري اللاحق يبدو أنّ هذه لغة عجلية أو نجديّة كما يوحي هامش ٣ / ه ٨٢٠ من الكامل للمبرّد.
(٨). هو أبو النجم الفضل بن قدامة العجلي. طبقات الشعراء ٢ : ٧٣٧ ، الشعر والشعراء ٦٠٣ ، ومعجم المرزباني ١٨٠ ، والكامل للمبرّد ٣ : ٨١٩ ، والأغاني (بولاق) ٩ : ٧٧.
(٩). في اللسان (فلل) ب «تدافع الشيب ولم تقتل» وفي «فلن» تدافع الشّيب ولم تقتّل. وفي المقاصد النحوية ٤ : ٢٢٨ بلا شكل. والخزانة ١ : ٤٠١ كذلك.
ويسكن الباء الاولى لأنهما حرفان مثلان (١). ومنهم ، من يحرّك فيقول (لذهب بّسمعهم) (٢) وجعل «السمع» في لفظ واحد ، وهو جماعة ، لأنّ «السمع» قد يكون جماعة و «قد يكون واحدا ، ومثله قوله تعالى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) [الآية ٧] ومثله قوله تعالى (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [ابراهيم : ٤٣] وقوله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [القمر : ٤٥] ومثله (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [النساء : ٤].
وقوله (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [الآية ٢٢] فقطع الألف ، لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير ، فإذا صغّرت قلت : «أنيدادا». وواحد «الأنداد» : ندّ. و «الندّ» : المثل.
وقوله تعالى (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [الآية ٢٤] ف «الوقود» : الحطب. و «الوقود» الاتّقاد وهو الفعل. يقرأ (الْوَقُودِ) (٣) و (الوقود) (٤) ويكون أن يعني بها الحطب ، ويكون أن يعني بها الفعل. ومثل ذلك «الوضوء» وهو : الماء ، و «الوضوء» وهو الفعل ، وزعموا أنهما لغتان في معنى واحد (٥).
وقوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الآية ٢٥] فجرّ «جنات» وقد وقعت عليها «أنّ» ، لأنّ كلّ جماعة في آخرها تاء زائدة ، تذهب في الواحد ، وفي تصغيره ، فنصبها جرّ ، ألا ترى أنّك تقول : «جنّة» فتذهب التاء. وقال أيضا (خَلْقِ السَّماواتِ) [الأنعام : ١] (٦) و «السماوات» جرّ ،
__________________
(١). في السبعة ١١٦ أنّه مذهب أبي عمرو.
(٢). في السبعة ١١٣ أنّه مذهب نافع ، و ١١٥ مذهب ابن كثير ، و ١١٦ مذهب عاصم ، و ١٢٢ مذهب حمزة ، و ١٢٣ مذهب الكسائي وابن عامر.
(٣). قراءة الفتح في الجامع ١ : ٢٣٦ بلا نسبة ، وفي الإملاء ١ : ٢٥ إلى الجمهور ، وفي البحر ١ : ١٠٧ إلى الجمهور
(٤). قراءة الضّمّ في الشواذ ٤ إلى مجاهد وطلحة ، وفي الجامع ١ : ٢٣٦ أضاف الحسن ، وفي البحر ١ : ١٠٧ زاد الحسن باختلاف ، ثم أبا حياة ، وعيسى بن عمر الهمداني.
(٥). في إعراب القرآن ١ : ٣٠ نقل السراي ، وأشار إلى اللغتين أيضا ولم يعز هما ، وفي الصّحاح «ووضئ» نقل عبارة الأخفش بنصّها تقريبا ، وذكره ، ويقرب من ذلك ما في الجامع ١ : ٢٣٦ ، ولم نعثر على معاد كلّ من اللغتين ، وإن كان ما في اللهجات العربية ١٩١ ـ ١٩٦ يشير إلى أنّ الضّمّ سمة من سمات لهجة البدو وتميم ، وأن الفتح سمة لهجة الحضر وأهل الحجاز.
(٦). ورد هذا التعبير في القرآن الكريم مرات كثيرة ، أوّلها الانعام ٦ : ١ ؛ انظر المعجم المفهرس «الأرض».
و «الأرض» نصب ، لأنّ التاء زائدة. ألا ترى أنك تقول : «سماء» ، و (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) [الأحزاب : ٦٧] (١) لان هذه ، ليست تاء ، إنّما هي هاء ، صارت تاء بالاتصال ، وإنّما تكون تلك في السكوت ، ألا ترى أنّك تقول : «رأيت ساده» فلا يكون فيها تاء. ومن قرأ (أطعنا ساداتنا) (٢) جرّ لأنّك إذا قلت : «ساده» ذهبت التاء. وتكون في السكت فيها تاء ، تقول : «رأيت سادات» ، وإنّما جرّوا هذا في النصب ، ليجعل جرّه ونصبه واحدا ، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا ، تقول : «مسلمين و «صالحين» نصبه وجره بالياء. وقوله تعالى (بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٢٧] و (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) [الحجرات : ٢] فإن التاء من اصل الكلمة تقول «صوت» و «صويت» فلا تذهب التاء ، و «بيت» و «بويت» فلا تذهب التاء. وتقول : «رأيت بويتات العرب» فتجرّ ، لأن التاء الاخرة زائدة ، لأنّك تقول : «بيوت» ، فتسقط التاء الاخرة. وتقول : «رأيت ذوات مال» لأن التاء زائدة ، وذلك لأنك لو سكتّ على الواحدة لقلت : «ذاه» ولكنها وصلت بالمال فصارت تاء لا يتكلّم بها إلا مع المضاف اليه.
وقوله تعالى (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [الآية ٢٥] لأنه في معنى «جيئوا به» ، وليس في معنى «أعطوه». فأمّا قوله : (مُتَشابِهاً) فليس أنّه أشبه بعضه بعضا ، ولكنّه متشابه في الفضل.
أي : كل واحد له من الفضل في نحوه ، مثل الذي للآخر في نحوه.
وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ) [الآية ٢٦] ف «يستحيي» لغة أهل الحجاز (٣) بياءين وبنو تميم يقولون
__________________
(١). الأحزاب ٣٣ : ٦٧ ؛ وفي الطبري ٢٢ : ٥٠ إلى عامّة قرّاء الأمصار ، وهي الراجحة ؛ وفي السّبعة ٥٢٣ إلى غير ابن عامر ، وفي حجّة ابن خالويه ٢٦٥ بلا نسبة ، وفي الكشف ٢ : ١٩٩ مثل السبعة ، وكذلك في التيسير ١٧٩ ، وفي البحر ٧ : ٢٥٢ إلى الجمهور ، وفي الكشاف ٣ : ٥٦٢ بلا نسبة.
(٢). في معاني القرآن ٢ : ٣٥٠ إلى الحسن ، وكذلك في الطبري ٢٢ : ٥٠ ، وهي المرجوحة ، وفي السبعة ٥٢٣ إلى ابن عامر وحده ، وفي حجة ابن خالويه ٢٦٥ بلا نسبة ، وفي الكشف ٢ : ١٩٩ إلى ابن عامر ، وكذلك في التيسير ١٧٩ ، وفي الجامع ١٤ : ٢٤٩ إلى الحسن ، وفي الكشّاف ٣ : ٥٦٢ بلا نسبة ، وفي البحر ٧ : ٢٥٢ إلى الحسن وأبي رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر ، والعامة في الجامع في البصرة.
(٣). البحر ١ : ١٢٠ لغة الحجاز وهي قراءة الجمهور. وانظر اللهجات العربية ١٥١ و ٥٤٥ ، والقراآت واللهجات ٣٧ ولهجة تميم ٥٦.
«يستحي» بياء واحدة (١) ، والأولى هي الأصل ، لأنّ ما كان من موضع لامه معتلا ، لم يعلّوا عينه. ألا ترى أنّهم قالوا : «حييت» و «جويت» فلم تعلّ العين. ويقولون : «قلت» و «بعت» فيعلّون العين ، لمّا لم تعتلّ اللام ، وإنّما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة ، كما قالوا «لم يك» و «لم يكن» و «لا أدر» و «لا أدري».
وقال تعالى (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) [الآية ٢٦] (٢) لأن «ما» زائدة في الكلام ، وإنّما هو «إنّ الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا». وناس من بني تميم يقولون (مثلا مّا بعوضة) (٣) يجعلون (ما) بمنزلة «الذي» ويضمرون «هو» كأنهم قالوا : «لا يستحيي أن يضرب مثلا ، الذي هو بعوضة» يقول : «لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضة ، مثلا».
وقوله تعالى (فَما فَوْقَها) [الآية ٢٦] قال بعضهم : «أعظم منها» وقال بعضهم : كما تقول : «فلان صغير» فيقول : «وفوق ذلك» يريد : «أصغر من ذلك».
وقوله تعالى (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [الآية ٢٦] فيكون «ذا» بمنزلة «الذي». ويكون «ما ذا» اسما واحدا ، إن شئت بمنزلة «ما» ، كما قال تعالى : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠] فلو كانت «ذا» بمنزلة «الذي» ، لقالوا «خير» ، ولكان الرفع وجه الكلام. وقد يجوز فيه النصب ، لأنّه لو قال : «ما الذي قلت» ، فقلت «خيرا» أي : «قلت خيرا» ، لجاز. ولو قلت : «ما قلت» :
__________________
(١). في الشواذ ٤ قراءة ابن محيصن وابن كثير ، بخلاف ؛ وفي الجامع ١ : ٢٤٢ أضاف أنّها لغة تميم وبكر بن وائل ، ولم يذكر الخلاف. وفي البحر ١ : ١٢١ قراءة ابن كثير في رواية شبل وابن محيصن ويعقوب ، وهي لغة بن تميم ، وفي الكشاف ١ : ١١٤ اقتصر على قراءة ابن كثير في رواية شبل ، وذكر اللغتين ولم ينسبهما. وفي الإملاء ١ : ٢٦ عدّها شذوذا ولم ينسبها. وانظر اللهجات العربية ١٥١ و ٥٤٥ ، والقراآت واللهجات ٣٧ ، ولهجة تميم ٥٦. وفي الصحاح «حيا» نقلت عبارة الأخفش بنصّها تقريبا.
(٢). في معاني القرآن ١ : ٢١ و ٢٢ لم تنسب قراءة ، وكذلك المشكل ٢٤ ، وفي البحر ١ : ٢٢ قراءة الجمهور.
(٣). في معاني القرآن ١ : ٢٢ ، علّل الرفع ولم ينسبه قراءة وفي المجاز ١ : ٣٥ أنّها قراءة رؤبة وأنّها لغة تميمية ، وفي الشواذ ٤ نسب الرفع قراءة إلى رؤبة بن العجاج ، وفي المحتسب ١ : ٦٤ كذلك. وفي المشكل ٢٤ ، لم ينسب قراءة ، وفي الجامع ١ : ٢٤٣ نسب قراءة إلى الضّحّاك وابراهيم بن أبي عبلة ورؤبة ، وقال إنها لغة تميم ، وفي البحر ١ : ١٢٣ أضيف قطرب أيضا. وفي الكشاف ١ : ١١٥ إلى رؤبة قراءة وفي الإملاء ١ : ٢٦ عدّت شذوذا بلا عزو.
«فقلت» : «خير» أي : «الذي قلت خير» ، لجاز ؛ غير أنّه ليس على اللفظ الأول ، كما يقول بعض العرب ، إذا قيل له : «كيف أصبحت»؟ قال : «صالح» أي : «أنا صالح». ويدلّك على أنّ «ما ذا» اسم واحد ، قول الشاعر (١) [من الوافر وهو الشاهد الثلاثون] :
دعي ما ذا عملت ، سأتّقيه |
|
ولكن بالمغيّب نبّئيني |
فلو كانت «ذا» ها هنا بمعنى (الذي) لم يكن كلاما.
وأمّا قوله تعالى (عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) [الآية ٢٧] ف «أن يوصل» بدل من الهاء ، في «به» كقولك «مررت بالقوم بعضهم».
وأمّا «ميثاقه» ، فصار مكان «التوثّق» ، كما قال تعالى (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) [نوح] والأصل «إنباتا» ، وكما قال «العطاء» في مكان «الإعطاء».
وقوله تعالى (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الآية ٢٨] فإنّما يقول كنتم ترابا ونطفا فذلك ميّت. وهو سائغ في كلام العرب ، تقول للثوب : «قد كان هذا قطنا» و «كان هذا الرّطب بسرا». ومثل ذلك ، قولك للرجل : «اعمل هذا الثوب» إنّما معك غزل.
هذا باب من المجاز
وأمّا قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَ) [الآية ٢٩] وهو إنما ذكر سماء واحدة ، فهذا لأنّ ذكر «السماء» ، قد دلّ عليهنّ كلّهنّ. وقد زعم بعض المفسّرين ، أنّ «السماء» جميع ، مثل «اللبن». فما كان لفظه لفظ الواحد ، ومعناه الجماعة ، جاز أن يجمع ، فقال (فَسَوَّاهُنَ) فزعم
__________________
(١). في الكتاب ١ : ٤٠٥ بلا عزو ، ولم يعزه الأعلم في الهامش ؛ وفي المقاصد النحوية ١ : ١٩١ معزوّا إلى سحيم بن وثيل الرياحي ، وروي عن الأصمعي أنّه لأبي زبيد الطائي ، والى المثقّب العبدي عائذ بن محصن بن ثعلبة ، وفي ١ : ٤٨٨ معزوا إلى سحيم بن وثيل الرّياحي. وفي الخزانة ٢ : ٥٥٤ ش ٤٤٤ ، أنّه مجهول القائل ، وأنكر ما زعمه العيني في المقاصد عن عزوه الى المثقب ؛ وفي شرح شواهد المغني «ما» بلا عزو. وفي «أما» معزوّا إلى المثقّب العبدي ؛ وفي الدر ١ : ٦٠ إنكار نسبته إلى المثقّب ، ولا وجود له في شعر المثقب العبدي. وفي اللسان (أبي) منسوبا إلى أبي حية النميري ، وقبله :
أبا لموت الذي لا بدّ أنّي |
|
ملاق ، لا أباك تخوّفيني |
وورد صدره في التمام ٥٢ ، وشذور الذهب ٣٢٨ بلا عزو.
بعضهم ، أنّ قوله (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزّمّل : ١٨] جمع مذكر ك «اللّبن». ولم نسمع هذا من العرب ، والتفسير الأول جيد.
وقال يونس (١) : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ذكر كما يذكر بعض المؤنث ، كما قال الشاعر (٢) [من المتقارب وهو الشاهد الحادي والثلاثون] :
فلا مزنة ودقت ودقها |
|
ولا أرض أبقل إبقالها |
وقوله (٣) [من المتقارب وهو الشاهد الثاني والثلاثون] :
فإمّا تري لمّتي بدّلت |
|
فإنّ الحوادث أودى بها |
وقد تكون «السماء» ، يريد به الجماعة ، كما تقول : «هلك الشاة والبعير» ، يعني كل بعير ، وكل شاة.
وكما قال تعالى (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] أي : من الأرضين.
وأمّا قوله جل جلاله (اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [الآية ٢٩] ، فإنّ ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحوّل ، ولكنه يعني فعله ، كما تقول : «كان الخليفة في أهل العراق يوليهم ثم تحوّل الى أهل الشام» انما تريد (٤) تحوّل فعله.
وأمّا قوله سبحانه ، حكاية على لسان الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [الآية ٣٠] ، فلم يكن ذلك إنكارا منهم ، على ربّهم ، إنّما سألوا ليعلموا ، وأخبروا عن أنفسهم ، أنّهم يسبّحون ويقدّسون. أو قالوا ذلك ، لأنّهم كرهوا أن يعصى الله ، لأنّ الجنّ ، قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وأما قوله تعالى (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
__________________
(١). هو يونس بن حبيب وقد مرت ترجمته قبلها.
(٢). هو عامر بن الجوين الطائي ، الكتاب ١ : ٤٢٠ ، ومجاز القرآن ٢ : ٦٧ ، والمذكّر والمؤنث للمبرّد ١١٢ ، وجاء برواية «أبقلت» ووصف همزة «إبقالها» في المقاصد ٢ : ٤٦٤ ، وجاء منسوبا إلى الخنساء في شواهد العامليّ ١٥٠.
(٣). هو الأعشى ميمون بن قيس ، والبيت في الصبح المنير ١٢٠ بلفظ «فإمّا تريني ولي لمّة» و «ألوى» بدل «أودى».
وهو في الكتاب ١ : ٣٣٩ بلفظ رواية الأخفش ، وفي مجاز القرآن ١ : ٢٦٧ بلفظ «فإن تعهديني ولي لمة» ، وفي معاني القرآن ١ : ١٢٨ بلفظ : «فإن تعهدي لامرئ لمة» و «أزري» بدل «ألوى». وفي المذكّر والمؤنّث للمبرّد ١١٢ بلفظ «فإن تبصريني» ، وفي شرح القصائد السبع الطوال ٤٠٥ ، بلفظ معاني القرآن.
(٤). في الأصل : يريد بالياء.
وَنُقَدِّسُ لَكَ) [الآية ٣٠] ، وقال (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى : ٥] وقال أيضا (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ٣] فذلك لان الذكر كلّه ، تسبيح وصلاة. تقول : «قضيت سبحتي من الذكر والصلاة» فقال «سبّح بالحمد». أي : «لتكن سبحتك بالحمد لله». وقوله تعالى (أَتَجْعَلُ فِيها) جاء على وجه الإقرار كما قال الشاعر (١) [من الوافر وهو الشاهد الثالث والثلاثون] :
ألستم خير من ركب المطايا |
|
وأندى العالمين بطون راح |
أي : أنتم كذلك.
وقوله جلّ شأنه (الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ) [الآية ٣١] ، فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء ، ويدلّك على ذلك قوله (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) [الآية ٣١] ، فلم يكن ذلك ، لأنّ الملائكة ادّعوا شيئا ، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب ، وعلمه بذلك ، وفعله ، فقال تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣١) أي كما يقول الرجل للرجل : «أنبئني بهذا إن كنت تعلم» ، وهو يعلم أنه لا يعلم ، يريد أنه جاهل.
فأعظموه عند ذلك ، فقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) [الآية ٣٢] بالغيب على ذلك. ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب» ، إخبارا عن أنفسهم ، بنحو ما خبّر الله عنهم. وقوله سبحانه (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) فنصب «سبحانك» لأنه أراد «نسبّحك» ، جعله بدلا من اللفظ بالفعل ، كأنه قال : «نسبّحك بسبحانك» ، ولكن «سبحان» مصدر لا ينصرف. و «سبحان» في التفسير : براءة وتنزيه قال الشاعر (٢) [من السريع وهو الشاهد الرابع والثلاثون] :
أقول لمّا جاءني فخره |
|
سبحان من علقمة الفاخر |
يقول : براءة منه.
هذا باب الاستثناء
وقوله تعالى (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [الآية ٣٤] ، فانتصب ، لأنّك شغلت
__________________
(١). هو جرير بن عبد الله بن الخطفي ، والبيت في ديوانه ١ : ٨٩ ، ومجاز القرآن ١ : ٣٥ و ١٨٤ و ٢ : ١١٨ و ١٥٠.
(٢). هو الأعشى ميمون بن قيس ؛ والبيت في الصبح المنير ١٠٦ بلفظ «فجره» ، و «الفاجر» في الكتاب ١ : ١٦٣ كما في رواية الأخفش ، وفي مجاز القرآن ١ : ٣٦ و ١٣٢ كذلك.
الفعل بهم عنه ، فأخرجته من الفعل من بينهم. كما تقول : جاء القوم إلّا زيدا» ، لأنّك لمّا جعلت لهم الفعل ، وشغلته بهم ، وجاء غيرهم ، شبّهته بالمفعول به بعد الفاعل ، وقد شغلت به الفعل.
هذا باب الدعاء
وهو قوله تعالى (يا آدَمُ اسْكُنْ) [الآية ٣٥] و (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) [الآية ٣٣] و (يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ) [الأعراف : ١٠٤] فكلّ هذا إنّما ارتفع ، لأنّه اسم مفرد ، والاسم المفرد مضموم في الدعاء ، وهو في موضع نصب ، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكّنة. فإذا كان مضافا انتصب لأنه الأصل. وإنّما يريد «أعني فلانا» و «أدعو» ، وذلك مثل قوله تعالى (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) [يوسف : ١١] و (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] ، إنّما يريد : «يا ربّنا ظلمنا أنفسنا» وقوله (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [الآية ١٢٧].
هذا باب الفاء
قوله سبحانه (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [الآية ٣٥] فهذا الذي يسميه النحويون «جواب الفاء». وهو ما كان جوابا للأمر والنهي ، والاستفهام ، والتمنّي ، والنفي ، والجحود. ونصب ذلك كلّه ، على ضمير (١) «أن» ، وكذلك الواو. وإن لم يكن معناها مثل معنى الفاء.
وإنما نصب هذا ، لأنّ الفاء والواو من حروف العطف ، فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما ، حتى كأنه قال «لا يكن منكما قرب الشجرة» ، ثم أراد أن يعطف الفعل اسما ، على اسم ، وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء. ومثل ذلك قوله جلّ شأنه (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه : ٦١] (٢) ، هذا جواب النهي و (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
__________________
(١). أي على إضمار «أن» ، وكثيرا ما استعمل الأخفش هذه الكلمة بهذا المعنى.
(٢). وكتابتها في المصحف كما أثبت ، ولكنّها جاءت في الأصل والكتاب ١ : ٤٢١ بفتح الياء والحاء. وقد استشهد بها لجواز الجزم والنصب ، وفي الجامع ١١ : ٢١٥ أنّ ضم الياء وكسر الحاء قراءة الكوفيّين ، وهي لغة تميم ؛ وأنّ فتح الياء والحاء قراءة سائر الآخرين ، وهي لغة أهل الحجاز.
فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٦] جواب النفي. والتفسير ما ذكرت لك.
وقد يجوز ، إذا حسن ، أن تجري الاخر على الأوّل ، أن تجعله مثله ، نحو قوله تعالى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩) [القلم] أي : «ودّوا لو يدهنون». ونحو قوله تعالى (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) [النساء : ١٠٢] جعل الأول فعلا ، ولم ينو به الاسم ، فعطف الفعل على الفعل ، وهو التمني ، كأنه قال «ودّوا لو تغفلون ولو يميلون» وقال تعالى : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) [المرسلات] أي «ولا يؤذن لهم ولا» يعتذرون». وما كان بعد هذا ، جواب المجازاة بالفاء والواو ، فإن شئت أيضا نصبته على ضمير «أن» ، إذا نويت بالأوّل ، أن تجعله اسما ، كما قال أيضا : (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) [الشورى : ٣٣](أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ) [الشورى] فنصب (١) ، ولو جزمه على العطف كان جائزا (٢) ، ولو رفعه على الابتداء ، جاز أيضا (٣). وقال تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) [الآية ٢٨٤] فتجزم (فَيَغْفِرُ) ، إذا أردت العطف (٤) ، وتنصب إذا أضمرت «إن» ، ونويت أن يكون الأوّل اسما (٥) ، وترفع
__________________
(١). في الطبري ٢٥ : ١٣٥ ، قرّاء الكوفة والبصرة ، وفي السبعة ٥٨١ الى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ، وفي الكشف ٢ : ٢٥١ ، والتيسير ١٩٥ والجامع ١٦ : ٣٤ ، إلى غير نافع وابن عامر ، وفي البحر ٧ : ٥٢١ إلى الجمهور ، وفي معاني القرآن ٣ : ٢٤ ، وحجّة ابن خالويه ٢٩٣ بلا نسبة.
(٢). في معاني القرآن ٣ : ٢٤ ، والكشّاف ٤ : ٢٢٧ ، والبحر ٧ : ٥٢١ بلا عزو.
(٣). نسبت قراءة الرفع إلى عامّة قراء المدينة. الطبري ٢٥ : ٣٥ ، وفي السبعة ٥٨١ ، والكشف ٢ : ٢٥١ ، والتيسير ١٩٥ ، والجامع ١٦ : ٣٣ ، إلى نافع وابن عامر وفي البحر ٧ : ٥٢١ زاد الأعرج ، وأبا جعفر ، وشيبة وزيد بن علي ؛ ولم ينسبه في معاني القرآن ٣ : ٢٤ ، ولا حجّة ابن خالويه ٢٩٣.
(٤). في السبعة ١٩٥ نسبت إلى ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وفي الكشف ١ : ٣٢٣ إلى غير ابن عامر وعاصم ؛ وفي التيسير ٨٥ كالسبعة ؛ والجامع ٣ : ٤٢٤ كذلك ؛ وفي البحر ٢ : ٣٦٠ إلى غير ابن عامر وعاصم ويزيد ويعقوب وسهل ؛ وفي حجّة ابن خالويه ٨٠ بلا عزو.
(٥). في الجامع ٣ : ٤٢٤ نسبت إلى ابن عباس ، والأعرج ، وأبي العالية ، وعاصم الجحدري ، في رواية ؛ وفي البحر ٣٦٠ إلى ابن عباس والأعرج وابن حياة. وفي حجّة ابن خالويه ٨٠ ، بلا نسبة.
على الابتداء (١) وكلّ ذلك من كلام العرب وقال تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٤] ثم قال (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) [التوبة : ١٥] فرفع (وَيَتُوبُ) لأنّه كلام مستأنف ليس على معنى الاول. ولا يريد «قاتلوهم : «يتب الله عليهم» ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت ؛ وقال الشاعر (٢) [من الوافر وهو الشاهد الخامس والثلاثون] :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك |
|
ربيع الناس والشّهر الحرام |
ونمسك بعده بذناب عيش |
|
أجبّ الظهر ليس له سنام |
فنصب «ونمسك» على ضمير «أن» ، ونرى أن يجعل الأوّل اسما ، ويكون فيه الجزم أيضا على العطف ، والرفع على الابتداء. قال الشاعر (٣) [من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون] :
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى |
|
مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا (٤) |
ومن يغترب عن قومه لا يجد له |
|
على من له رهط حواليه مغضبا (٥) |
وتدفن منه المحسنات وإن يسئ |
|
يكن ما أساء النار في رأس كبكبا (٦) |
ف «تدفن» يجوز فيه الوجوه كلها.
قال الشاعر (٧) [من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون] :
__________________
(١). في السّبعة ١٩٥ إلى عاصم وابن عامر ، وفي الكشف ١ : ٣٢٣ ، والتيسير ٨٥ والجامع ٣ : ٤٢٤ كذلك ، وزاد في البحر ٢ : ٣٦٠ يزيدا ويعقوب وسهلا.
(٢). هو النابغة الذبياني وهما في ديوانه ٢٣١ و ٢٣٢ ، بلفظ الأخفش عينه.
(٣). الأعشى ميمون بن قيس.
(٤). الأبيات في الصبح المنير ٨٥ ، وقد جاءت مرتّبة بتوسّط هذا البيت لا بتقدمه. وبلفظ «ويحطم بظلم لا يزال يرى له» ، وانظر الصحاح «كبكب» ، واللسان «زيب» و «كبكب» ، وتاج العروس «زيب».
(٥). بلفظ «متى» بدل «ومن». وفي الكتاب ١ : ٤٤٩ كما عند الأخفش وفي إعراب الزجّاج ٣ : ٩٠٦ كذلك.
(٦). بلفظ «المحسنات» بدل «الصالحات» ، وكذلك في الكتاب ١ : ٤٤٩ ، ومعاني القرآن ٢ : ٢٩٠ ، وإعراب الزجّاج ٣ : ٩٠٦.
(٧). هو النابغة الذبياني.
فإن يرجع النّعمان نفرح ونبتهج |
|
ويأت معدّا ملكها وربيعها (١) |
وإن يهلك النّعمان تعر مطيّة |
|
وتخبأ في جوف العياب قطوعها (٢) |
وقال تبارك وتعالى (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] فهذا لا يكون إلّا رفعا ، لأنّه الجواب الذي لا يستغنى عنه.
والفاء إذا كانت جواب المجازاة ، كان ما بعدها أبدا مبتدأ ، وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف. ألا ترى أنك تقول «ان تأتني فأمرك عندي على ما تحبّ». فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكون ، حتى تجيء لما بعد «إن» بجواب. ومثلها (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) [الآية ١٢٦] وقرأ بعضهم (فأمتعه ثم اضطرّه) (٣) ف (أَضْطَرُّهُ) إذا وصل الألف ، جعله أمرا. وهذا الوجه ، إذا أراد به الأمر ، يجوز فيه الضم والفتح. غير أنّ الألف ألف وصل ، وإنّما قطعتها ، «ثمّ» في الوجه الاخر ، لأنّ كل ما يكون معناه «أفعل» ، فإنه مقطوع ، من الوصل كان أو من القطع ، قال تعالى : (أَنَا آتِيكَ بِهِ) [النمل : ٣٩ ـ ٤٠] وهو من «أتى» «يأتي» وقال أيضا بقراءة من قرأ قوله سبحانه من الآية ٢٣ من سورة يس : (أتّخذ من دونه آلهة) فترك ألف التي بعد ألف الاستفهام ، لأنّها ألف «أفعل». وقال الله تبارك وتعالى فيما يحكي عن الكفّار : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠) [المنافقون] فقوله تعالى (فَأَصَّدَّقَ) جواب للاستفهام ، لأنّ (لَوْ لا) ها هنا بمنزلة «هلّا» وعطف (وَأَكُنْ) على موضع (فَأَصَّدَّقَ) ، لأنّ جواب الاستفهام ، إذا ما لم يكن فيه فاء ، جزم. وقد قرأ بعضهم (فأصدق وأكون) (٤) عطفها على ما بعد
__________________
(١). في الديوان ب «أن» بلا فاء. وبعده بيت آخر هو :
ويرجع الى غسان ملك وسؤدد |
|
وتلك المعنى لو أننا نستطيعها |
(٢). في الديوان : «يخبأ» بالياء المثنّاة من تحت. وفي معاني القرآن ١ : ٨٧ كما في رواية الأخفش.
(٣). في معاني القرآن ١ : ٧٨ نسبت إلى ابن عبّاس ، وفي الطّبري ٣ : ٥٤ كذلك ، وزاد في الجامع ٢ : ١١٩ قتادة ومجاهدا ، وفي البحر ١ : ٣٨٤ أغفل قتادة وزاد «غير هما».
(٤). في معاني القرآن ٣ : ١٦٠ أنّها لعبد الله بن مسعود ، وفي تأويل مشكل القرآن ١ : ٥٦ إلى أبي عمرو بن العلاء ، وفي الطّبري ٢٨ : ١١٨ بزيادة محيصن ، وفي السبعة ٦٣٧ إلى أبي عمرو ، وحده وفي الشواذ ١٥٧ الى ابن عبّاس ـ
الفاء ، وذلك خلاف الكتاب. وقد قرئ قوله تعالى من الآية ١٨٦ من سورة الأعراف : (ومن يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) بالجزم (١). فجزم (يذرهم) ، على أنّه عطف على موضع الفاء ، لأنّ موضعها يجزم ، إذا كانت جواب المجازاة ، ومن رفعها على أن يعطفها على ما بعد الفاء ، فهو أجود ، وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف (٢). وقال تعالى (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) [الآية ٢٧١] جزم (٣) ورفع (٤) على ما فسّرت. وقد يجوز في هذا ، وفي الحرف الذي قبله النصب (٥) لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة ، مثل (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) [الشورى : ٣٥](وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) [آل عمران] فانتصب
__________________
ـ وابن جبير وفي الكشف ١ : ٣٢٢ الى أبي عمرو ، وفي التيسير ٢١١ كذلك ، وفي الجامع ١٨ : ١٣١ زاد ابن محيصن ، وفي البحر ٨ : ٢٧٥ إلى الحسن وابن جبير وأبي رجاء وابن ابي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبي عمرو ، وكذا في مصحف عبد الله وأبيّ.
(١). هي في السبعة ٢٩٩ إلى حمزة والكسائي ، وعامّ في رواية ، وفي الكشف ١ : ٤٨٥ ، والتيسير ١١٥ ، بإسقاط عاصم ، وفي البحر ٤ : ٤٣٣ إلى ابن مصرف ، والأعمش ، والخويي ، وأبي عمرو فيما ذكر أبو حاتم ، وفي حجّة ابن خالويه ١٤٣ ، والجامع ٧ : ٣٣٤ بلا نسبة.
(٢). هي في السبعة ٢٩٨ إلى ابن مجاهد ، وأبي عمرو في رواية ؛ وابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ؛ واقتصر في التيسير ١١٥ على عاصم وأبي عمرو ؛ وفي البحر ٤ : ٤٣٣ كذلك. وفي حجّة ابن خالويه ١٤٣ ، والجامع ٧ : ٢٣٤ بلا نسبة.
(٣). في الطّبري ٥ : ٥٨٥ إلى عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة. وفي السبعة ١٩١ ، إلى عاصم في رواية ، ونافع وحمزة والكسائي ، وفي الكشف ١ : ٣١٧ أسقط عاصما ؛ والجامع ٣ : ٣٣٥ كذلك ؛ وفي البحر ٢ : ٣٢٥ باختلاف بين النون والياء والتاء في «نكفر» ، زاد الأعمش وابن عباس وعكرمة. وفي حجّة ابن خالويه ٧٩ بلا نسبة.
(٤). في الطبري ٥ : ٥٨٤ بالتاء في (تكفر) إلى ابن عباس ، وبالياء بلا نسبة ؛ وفي السبعة كالسّابق ، إلى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ، ونافع في رواية أبي خليد ؛ وفي حجّة ابن خالويه ٧٩ بلا نسبة ، وفي الكشف ١ : ٣١٧ إلى غير نافع وحمزة والكسائي ؛ وفي المشكل ٧٩ بالياء في (يكفر) بلا نسبة وفي الجامع ٣ : ٣٣٥ إلى أبي عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وفي البحر ٢ : ٣٢٥ إلى ابن عامر وابن هرمز وابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر باختلاف بين الياء والتاء والنون في (تكفر).
(٥). في البحر ٢ : ٣٢٥ إلى الأعمش في رواية ، وعكرمة أيضا ، وشهر بن حوشب باختلاف بين الياء والتاء في (الكفر).
الاخر ، لأنّ الأوّل نوى أن يكون بمنزلة الاسم ، وفي الثاني الواو (١). وإن شئت جزمت على العطف ، كأنّك قلت «ولمّا يعلم الصابرين» (٢). فإن قال قائل : «ولمّا يعلم الله الصابرين» (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) فهو لم يعلمهم؟ قلت بل قد علم ، ولكنّ هذا ، فيما يذكر أهل التأويل ، ليبيّن للناس ، كأنّه قال «ليعلمه الناس» كما قال جلّ جلاله (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢) [الكهف] وهو قد علم ، ولكن ليبيّن ذلك. قد قرأ أقوام ، أشباه هذا ، في القرآن (ليعلم أيّ الحزبين) (٣) ولا أراهم قرءوه ، إلّا لجهلهم بالوجه الاخر.
وممّا جاء بالواو (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [الآية ٤٢] إن شئت ، جعلت (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) نصبا ، إذا نويت أن تجعل الأول اسما ، فتضمر مع (تَكْتُمُوا) «أن» ، حتّى تكون اسما. وإن شئت عطفتها ، فجعلتها جزما على الفعل الذي قبلها. قال تعالى (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما) [الأعراف : ٢٢] فعطف القول على الفعل المجزوم ، فجزمه. وزعموا أنّه في قراءة ابن مسعود (وأقول لكما) (٤) على ضمير «أن» ، ونوى أن يجعل الأوّل اسما ، وقال الشاعر (٥) [من الطويل وهو الشاهد الثامن والثلاثون] :
لقد كان في حول ثواء ثويته |
|
تقضّي لبانات ويسأم سائم (٦) |
ـ ثواء وثواء أو ثواء رفع نصب وخفض ـ فنصب على ضمير «أن» لأنّ
__________________
(١). في معاني القرآن ١ : ٢٣٥ إلى غير الحسن ، وفي الطّبري ٧ : ٢٤٧ أنّ القراءة على هذا الحرف ، وفي الجامع ٤ : ٢٢٠ إلى الحسن ويحيى بن يعمر ، وفي البحر ٣ : ٦٦ إلى ابن وثاب النخعي.
(٢). في معاني القرآن ١ : ٢٣٥ إلى الحسن ، والطّبري ٧ : ٢٤٧ كذلك ، وفي الشواذ ٢٢ إلى الحسن ، وفي البحر ٣ : ٦٦ إلى الجمهور وإلى الحسن وابن يعمر وابن حياة وعمرو بن عبيد. وقد نقله في الإملاء ١ : ١٥٠ ، مع وجه ثالث هو الرفع.
(٣). يبدو أنّ الأخفش أوّل من أشار إلى هذه القراءة ، لأنّها تروى عنه في الشواذ ٧٨ ، والبحر ٦ : ١٠٣ ، وهي قراءة الزهري ، كما في الجامع ١٠ : ٣٤٠ ، والبحر كما سبق.
(٤). تفرّد الأخفش برواية هذه القراءة.
(٥). هو الأعشى ميمون بن قيس.
(٦). البيت في الصبح المنير ٥٦ ، بلفظ رواية الأخفش نفسه ، وفي مجاز القرآن ١ : ٧٢ بلفظ «تقضي» ، وفي الكتاب ١ : ٤٢٣ بلفظ «تقضي لبانات ويسأم».
التقضّي اسم ، ومن قال «فتقضى» رفع «ويسأم» ، لأنه قد عطف على فعل. وهذا واجب ، وقال الشاعر (١) [من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون] :
فإن لم أصدق ظنّكم بتيقّن |
|
فلا سقت الأوصال منّي الرّواعد |
ويعلم أكفائي من الناس أنّني |
|
أنّا الفارس الحامي الذمار المذاود (٢) |
وقال الشاعر (٣) [من الوافر وهو الشاهد الأربعون] :
فإن يقدر عليك أبو قبيس |
|
نمطّ بك المنيّة في هوان (٤) |
وتخضب لحية غدرت وخانت |
|
بأحمر من نجيع الجوف آن (٥) |
فنصب هذا كلّه ، لأنّه نوى أن يكون الأوّل اسما ، فأضمر بعد الواو «أن» ، حتى يكون اسما مثل الأوّل ، فتعطفه عليه. وأمّا قوله تعالى (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) [الآية ١٦٧] و (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٢) [الشعراء] فهذا على جواب التمني ، لأن معناه «ليت لنا كرّة». وقال الشاعر : [من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون] :
فلست بمدرك ما فات منّي |
|
ب «لهف» ولا ب «ليت» ولا «لو أني» (٦) |
فأنزل «لو أني» ، بمنزلة «ليت» ، لأنّ الرجل إذا قال : «لو أنّي كنت فعلت كذا وكذا» ، فإنما تريد «وددت لو كنت فعلت». وإنما جاز ضمير «أن» في غير الواجب ، لأنّ غير الواجب يجيء ما بعده ، على خلاف ما قبله ناقضا له.
فلمّا حدث فيه خلاف لأوّله ، جاز هذا الضمير. والواجب يكون آخره على أوّله ، نحو قول الله عزوجل(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
__________________
(١). هو حسّان بن ثابت الأنصاري.
(٢). البيت في ديوانه : ١٩٥ ب يعلم والمناجد.
(٣). هو النابغة الذبياني.
(٤). البيت في ديوانه ١٤٩ ب «تحط بك المنية في رهان» ، وفي الصحاح (قبس) ب «يحط» بدل «نمط» و «المعيشة» بدل «المنية» وفي اللسان «قبس» كما في الصحاح.
(٥). البيت في ديوانه ٤٩ ب «تخضب» ، وفي الجامع ١٧ : ١٧٥ ب «تخضب» كذلك.
(٦). في الصحاح واللسان «لهف» ، وفي الخصائص ٣ : ١٣٥ وشرح القطر ٢٠٥ ، ب «راجع» بدل «مدرك».
ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] فالمعنى : «اسمعوا أنزل الله من السماء ماء» فهذا خبر واجب و (أَلَمْ تَرَ) تنبيه. وقد تنصب الواجب في الشعر. قال الشاعر (١) [من الوافر وهو الشاهد الثاني والأربعون] :
سأترك منزلي لبني تميم |
|
وألحق بالحجاز فأستريحا (٢) |
وهذا لا يكاد يعرف. وهو في الشعر جائز. وقال طرفة (٣) [من الطويل وهو الشاهد الثالث والأربعون] :
لها هضبة لا يدخل الذلّ وسطها |
|
ويأوي إليها المستجير فيعصما (٤) |
واعلم أنّ إظهار ضمير «أن» ، في كلّ موضع أضمر فيه من الفاء ، لا يجوز ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «لا تأته فيضربك» ، لم يجز أن تقول : «لا تأته فأن يضربك» وإنّما على «أن» فلا يحسن إظهاره ، كما لا يجوز في قولك «عسى أن تفعل» : «عسى الفعل» ولا في قولك : «ما كان ليفعل» : «ما كان لأن يفعل» ، ولا إظهار الاسم الذي في قولك «نعم رجلا» فرب ضمير لا يظهر ، لأنّ الكلام إنّما وضع على أن يضمر ، فإذا ظهر ، كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ ، فيدخله اللبس.
وأمّا قوله تعالى (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) [الآية ٣٦] ، فإنّما يعني «الزّلل» ، تقول : «زلّ فلان» و «أزللته» و : «زال فلان» و «أزاله فلان» ، والتضعيف القراءة الجيّدة ، وبها نقرأ (٥). وقال بعضهم : (فأزالهما) أخذها من «زال».
__________________
(١). هو المضيرة بن حبناء بن عمرو الحنظلي. شرح الشواهد للسيوطي ١٦٩ ، وقيل بل هو المغيرة بن حنين بن عمرو التميمي الحنظلي «المقاصد النحوية ٤ : ٣٩٠ ، وشرح الشواهد للعاملي ٣٨٦ ، ولم يجد البغدادي الشاهد في شعر المغيرة بن حبناء ، الخزانة ٤ : ٦٠١.
(٢). البيت في الكتاب ١ : ٤٢٣ وعجز في ١ : ٤٤٨ ، والعجز أيضا في شرح الأبيات للفارقي ١١٠ ، وبرواية أخرى فيه بلفظ «لأستريحا».
(٣). هو طرفة بن العبد البكري ، ترجمته في الشعر والشعراء ١ : ١٨٥ وطبقات الشعراء ١ : ١٣٨ والخزانة ١ : ٤١٤ وأسماء المغتالين ٢ : ٢١٢.
(٤). ديوان طرفة ١٩٤ بلفظ «لنا» بدل «لها» ، و «ينزل» بدل «يدخل» ؛ وفي شرح الأبيات للفارقي ١١١ ب «ليعصما» بدل «فيعصما».
(٥). في الطبري ١ : ٥٢٤ إلى عامة القرّاء ، والجامع ١ : ٣١١ إلى الجماعة ، والكشف ١ : ٢٣٥ والتيسير ٧٣ إلى غير حمزة ، وفي حجّة ابن خالويه ٥١ ، والإملاء ١ : ٣١ بلا نسبة.
تقول : «زال الرجل» و «أزاله فلان» (١).
وقال سبحانه (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الآية ٣٦] (٢) فإنّما قال (اهْبِطُوا) والله أعلم ، لأنّ إبليس كان ثالثهم ، فلذلك جمع.
وقال تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [الآية ٣٧] فجعل آدم المتلقّي (٣). وقد قرأ بعضهم (آدم) نصبا ورفع الكلمات ، جعلهن المتلقّيات (٤).
وقال تعالى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) [الآية ٣٨] وذلك ، أن «إمّا» في موضع المجازاة ، وهي «إمّا» لا تكون «أمّا» وهي «إن» زيدت معها «ما» (٥) ، وصار الفعل الذي بعدها بالنون الخفيفة ، او الثقيلة ، وقد يكون بغير نون. وإنّما حسنت فيه النون ، لمّا دخلته «ما» ، لأنّ «ما» نفي ، وهو ما ليس بواجب ، وهي من الحروف التي تنفي الواجب ، فحسنت فيه النون ، نحو قولهم «بعين مّا أرينّك» (٦) حين أدخلت فيها «ما» ، حسنت النون. ومثل «إمّا» ها هنا قوله تعالى (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) (٢٦) [مريم] ، وقوله (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) [المؤمنون] فالجواب في قوله (فَلا تَجْعَلْنِي). وأشباه هذا ، في القرآن والكلام ، كثير. وأمّا «إمّا» في غير هذا
__________________
(١). وفي السبعة ١٥٣ ، والكشف ١ : ٢٣٥ ، والتيسير ٧٣ ، والجامع ١ : ٣١١ ، إلى حمزة ؛ وفي الشواذ ٤ إليه بإماله ؛ وفي البحر ١ : ١٦١ كذلك ، وأضاف إليه أبا عبيدة ونسبها بلا إمالة إلى الحسن وأبي رجاء وفي الطبري ١ : ٥٢٤ ، وحجّة ابن خالويه ٥١ ، والكشّاف ١ : ١٢٨ ، والإملاء ١ : ٣١ بلا نسبة.
(٢). في الأصل (اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) وهي الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من السورة العشرين (طه). وفي الآية الثامنة والثلاثين من سورة البقرة ، أي الآية التي ستأتي بعد آيتين (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) [الآية ٣٨] وهذا يدل على أنّ الأخفش كان يقتضب الكلام ولم يكن يقرأ في نسخة من الكتاب الكريم.
(٣). في الطبري ١ : ٥٤٢ هي قراءة الحجّة من القراء وأهل التأويل ومن علماء السلف والخلف ؛ وفي الكشف ١ : ٢٣٦ ، والتيسير ٧٣ ، والبحر ١ : ١٦٥ ، إلى غير ابن كثير وفي حجّة ابن خالويه ٥١ بلا نسبة.
(٤). في السبعة ١٥٣ ، والكشف ١ : ٢٣٦ ، والتيسير ٧٣ ، والجامع ١ : ٣٢٦ ، والبحر ١ : ١٦٥ ، إلى ابن كثير وفي معاني القرآن ١ : ٢٨ ، والطّبري ١ : ٥٤٢ ، إلى بعض القرّاء بلا تعيين ؛ وفي حجّة ابن خالويه ٥١ بلا نسبة.
(٥). هذا الرأي لسيبويه المغني ١ : ٥٩.
(٦). هو مثل معناه «اعمل كأنّي أنظر إليك» ، يضرب في الحثّ على ترك البطء ؛ وما صلة دخلت للتأكيد ، ولأجلها دخلت النون في الفعل ، ومثله : ومن عضة ما ينبتنّ شكيرها. مجمع الأمثال ١ : ١٠٠.
الموضع ، الذي يكون للمجازاة ، فلا تستغني حتّى ترد «إمّا» مرتين ، نحو قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) [الإنسان] ونحو قوله (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) [مريم : ٧٥] وإنّما نصب ، لأنّ «إمّا» هي بمنزلة «أو» ، ولا تعمل شيئا ، كأنّه قال «هديناه السبيل شاكرا أو كفورا» ، فنصبه على الحال و «حتّى رأوا ما يوعدون العذاب أو الساعة» ، فنصبه على البدل.
وقد يجوز الرفع بعد «إمّا» ، في كلّ شيء يجوز فيه الابتداء ، ولو قلت : «مررت برجل إمّا قاعد وإمّا قائم» جاز ، وهذا الذي في القرآن ، جائز أيضا ، ويكون رفعا ، إلا أنّه لم يقرأ.
وأمّا التي تستغني عن التثنية ، فتلك تكون مفتوحة الألف أبدا نحو قولك «أمّا عبد الله فمنطلق» ، وقوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) [الضحى] و (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصّلت : ١٧] فكلّ ما لم يحتج فيه الى تثنية «أمّا» ، فألفها مفتوحة ، إلّا تلك التي في المجازاة.
و «أمّا» أيضا لا تعمل شيئا ، ألا ترى أنّك تقرأ (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) فتنصبه ب «تنهر» ، ولم تغيّر «أمّا» شيئا منه.
باب الاضافة
أمّا في قوله تعالى (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) [الآية ٣٨] فانفتحت هذه الياء على كل حال ، لأنّ الحرف الذي قبلها ساكن. وهي الألف التي في «هدى». فلمّا احتجت الى حركة الياء ، حرّكتها بالفتحة ، لأنّها لا تحرّك إلّا بالفتح. ومثل ذلك قوله جل شأنه (عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) [طه : ١٨] ولغة للعرب يقولون «عصيّ يا فتى» (١) ، و (هديّ فلا خوف عليهم) (٢) لما كان
__________________
(١). هي لغة هذيل الكشاف ١ : ١٣٠ ، و ٣ : ٥٧ ، والجامع ١ : ٣٢٨ ، والبحر ١ : ١٦٩ ، واللهجات العربية ١٥٣ و ٤٢٥.
(٢). في المحتسب ١ : ٧٦ إلى النبي (ص) وأبي الطفيل وعبد الله بن أبي إسحاق وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي ، وفي البحر ١ : ١٦٩ اقتصر على عبد الله بن أبي إسحاق وعاصم وعيسى بن أبي عمر (كذا) ، وفي الجامع ١ : ٣٢٨ اقتصر على الجحدري ، وفي الكشّاف ١ : ١٣٠ ، والكشف ١ : ١٨٤ ، بلا نسبة ، وفي البيان ١ : ٧٦ إلى النبي (ص) ، والإملاء ١ : ٣٢ بلا نسبة.
قبلها حرف ساكن ، وكان ألفا ، قلبته الى الياء ، حتّى تدغمه في الحرف الذي بعده ، فيجرونها مجرّى واحدا وهو أخفّ عليهم. وأمّا قوله تعالى (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣) [ق] و (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) [الحجر : ٤١] و (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) [آل عمران : ٥٥ ولقمان : ١٥]. فإنّما حركت بالإضافة ، لسكون ما قبلها ، وجعل الحرف الذي قبلها ياء ولم يقل «علاي» (١) ولا «لداي» كما تقول «على زيد» ، و «لدى زيد» ، ليفرّقوا بينه وبين الأسماء ، لأن هذه ليست بأسماء. و «عصاي» ، و «هداي» ، و «قفاي» ، أسماء. وكذلك (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) [يوسف : ٤٣] و (يا بشراي هذا غلام) (٢) لأنّ آخر «بشرى» ساكن.
وقرأ آخرون قوله تعالى ، من الآية ١٩ من سورة يوسف : (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) (٣) ، لا يريد الاضافة ، وبه نقرأ.
فإذا لم يكن الحرف ساكنا ، كنت في الياء بالخيار ، إن شئت أسكنتها وإن شئت فتحتها ، نحو : (إنّي أنا الله) (٤) و (إِنِّي أَنَا اللهُ) (٥) ، و (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) [نوح : ٢٨] (٦)
__________________
(١). لغة بلحارث بن كعب «اللسان «علا» ، وقيل لغة طيء ، اللهجات العربيّة ٥٨٥.
(٢). يوسف ١٢ : ١٩. نسبت في الطبري ١٦ : ٣ إلى عامة قرّاء أهل المدينة مع إدغام الألف في الياء ؛ وفي السبعة ٣٤٧ بإسكان الياء إلى نافع ، وفتحها إلى ابن كثير ، ونافع أيضا وأبي عمرو وابن عامر ، وفي الكشف ٢ : ٧ والتيسير ١٢٨ إلى غير الكوفيّين ؛ وفي الجامع ٩ : ١٥٣ إلى أهل المدينة وأهل البصرة ، وبإدغام الالف في الياء إلى ابن إسحاق ، وفي البحر ٥ : ٢٩٠ إلى ورش عن نافع ، مع سكون ياء الإضافة وإلى أبي الطفيل والحسن بن أبي إسحاق والجحدري ، بقلب الألف ياء وإدغامها وأنها لغة هذيل وناس غيرهم ، وفي معاني القرآن ٢ : ٣٩ ، وحجّة ابن خالويه ١٦٩ بلا نسبة.
(٣). في الطبري ١٦ : ٤ إلى عامة قراء الكوفيين ، وفي السبعة ٣٤٧ إلى عاصم وحمزة والكسائي ، وفي الكشف ٢ : ٧ ، والتيسير ١٢٨ ، والجامع ٦ : ١٥٣ ، والبحر ٥ : ٢٩٠ ، إلى الكوفيين ، وفي معاني القرآن ٢ : ٣٩ ، وحجّة ابن خالويه ، ١٦٩ ، بلا نسبة.
(٤). القصص ٢٨ : ٣٠ ، وهي في السبعة ٤٩٦ قراءة عاصم وأبي بكر ، وفي الكشف ١ : ٣٢٧ إلى ابن كثير ، و ٣٢٨ إلى الكسائي. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف.
(٥). في السبعة ٤٩٦ الى نافع وابن كثير وأبي عمرو ، وفي الكشف ١ : ٣٢٥ إلى نافع برواية ، ورش وإلى قالون ، ٢ : ١٧٦ إلى الحرميين وأبي عمرو ، وفي التيسير ٦٣ كذلك.
(٦). في السبعة ٦٥٤ إلى عاصم وهشام برواية حفص ، وإلى نافع برواية ابي قرة ، وفي الحجّة ٣٢٥ بلا نسبة ؛ وفي الكشف ١ : ٣٢٥ إلى نافع برواية ورش ، وإلى قالون ، و ٣٢٩ إلى ابن عامر في رواية هاشم ، و ٢ : ٣٣٨ إلى حفص وهشام ؛ وفي التيسير ٦٩ إلى هشام. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف.