الحرج فيه في عصر الجاهلية إذ هكذا كانوا يعاملون أزواج الأدعياء وكما يعاملون أزواج الأبناء الحقيقيين ومن المصالح ما ذكر أيضا في الشريفة من قوله تعالى :
٣٨ ـ (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) ... أي ضيق (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي أوجبه وقسم له من التزويج بامرأة الابن المتبنّى ، بل أوجبه عليه ليبطل حكم الجاهلية (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي هذا الحكم وهذه السنّة أي نفي الحرج أو تعدد الأزواج ليست من خصائصه بل كانت سنّة جارية في الذين خلوا من قبل أي سنّها الله في السّابقين من الأنبياء والرّسل (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي حتما مقضيّا وقضاء قطعيّا ، سبق أن قضينا به وحتمناه وجعلنا سنّة للرّسل.
٣٩ ـ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) ... وصف الله تعالى الأنبياء الماضين المنوّه عنهم في الآية السابقة وأثنى عليهم فقال : هم الذين يؤدّون رسالات الله من الأصول والفروع وغيرهما مما اشتملت عليه كتبهم المنزلة إلى الأمم ولا يكتمونها (وَيَخْشَوْنَهُ) يخافونه ، أي خشية منهم له تعالى (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) فيما يتعلق بالأداء والتبليغ. ومن هذا يستفاد أن الأنبياء لا يجوز عليهم التقيّة في تبليغ الرّسالة وأدائها. وربّما يتوهّم أن يقال فكيف قال الله تعالى لنبيّنا (وَتَخْشَى النَّاسَ) الآية فالجواب أن خشيته لم تكن فيما يتعلق بالتّبليغ وإنما خشي المقالة السيئة القبيحة التي قد تقال فيه حين يتزوج مطلّقة رجل كان قد تبنّاه ، والعاقل كما يحترز ويتحفّظ عن الكلب العقور وسائر المضار يتحرّز عن إساءة الظنون به وعن القول البذيء (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي كافيا ومحافظا ومحاسبا لأعمال العباد ومجازيا عليها. فلا بدّ من أن يخاف منه تعالى. فلمّا تزوّج رسول الله بزينب ابتلي بما يخاف منه من مقالاتهم البذيئة وكلماتهم الدنيئة وتعييراتهم المؤذية إذ قالوا : إن محمدا تزوّج امرأة ابنه ، وهو ينهانا عن ذلك فردّهم سبحانه بالآية التالية ، قائلا :
٤٠ ـ (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) ... أي ليس محمد أبا حقيقيّا للرّجال الذين لم يلدهم حتى تتحقّق حرمة المصاهرة فتحرم نساؤكم عليه إذا طلّقتموهن ، فليس بأب لزيد بمحض التبنيّ حتى تحرم عليه زوجته ، فإن الحرمة ثابتة بثبوت بنوّة التسبّبية لا الادّعائية ، فمن لا نسب له مع شخص لا حرمة لامرأته عليه (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) بل الرسول أبو الأمة في وجوب تعظيمها له أو نصحه لها ، وليس بينه وبين الآخرين نسب غير النسب الحقيقي ولا تربطه بزيد صلة نسب بالولادة ، وزيد من الأمّة (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي ختمت النبوّة به فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه كذلك ، وشرعه ناسخ لجميع الشرائع. وفي المناقب عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : أنا خاتم الأنبياء ، وأنت يا علي خاتم الأوصياء. وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : ختم محمد صلىاللهعليهوآله ألف نبيّ وإني ختمت ألف وصيّ ، وإنّي كلّفت ما لم يكلّفوا (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي يعلم من يليق أن تختم به النبوّة ومن له الأهليّة لختم الوصاية ، وكيف ينبغي أن يكون شأنهما وهذه فضيلة له ولوصيّه صلّى الله عليهما وآلهما اختصّا بها من بين سائر المرسلين والأوصياء فهنيئا لهما.
* * *
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))
٤١ و ٤٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ...) أي على كلّ
حال وبكلّ ما هو أهله. واختلفوا في الذكر أيّ شيء هو؟ فقيل هو التسبيحات الأربع : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ، وقيل هو قول : لا إله إلّا الله ، وقيل غير ذلك من الأقوال ، ولكن ظاهر الآية الشريفة يأبى التخصص ، فالأحسن أن يقال إن المراد به مطلق الذكر (وَسَبِّحُوهُ) قدّسوه ونزّهوه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي أول النهار وآخره. وفي الكافي عن الإمام الصادق عليهالسلام أنه قال : ما من شيء إلّا وله حدّ ينتهي إليه ، إلى أن يقول : فإن الله عزوجل لم يرض منه بالقليل ، ولذا لم يحدّه كما فرض الصلاة والصوم والحج بحدود خاصة وأوقات معنيّة فهي حدّها. وقال عليهالسلام : تسبيح فاطمة الزهراء عليهاالسلام من الذكر الكثير ، الحديث ...
٤٣ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ...) والصلاة من الله تعالى هي الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار. فهو يرحمكم ، والملائكة يستغفرون لكم (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان ، ومن الجهالة إلى المعرفة. وهذا علّة لصلاته سبحانه وصلوات ملائكته على المؤمنين الذين يرحمهم ويرأف بهم. وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام ، قال : من صلّى على محمد وآل محمد عشرا صلّى الله عليه وملائكته مائة مرة ، ومن صلّى على محمد وآل محمد مائة مرة صلّى الله عليه وملائكته ألفا. أمّا تسمع قول الله : هو الذي يصلّي عليكم وملائكته؟ ...
٤٤ ـ (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ...) في التوحيد عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام : اللقاء هو البعث ، فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنه يعني بذلك البعث. والمعنى : تحيّة الله للمؤمنين عند الموت ، أو عند البعث كما في الرواية ، أو يوم القيامة وحين الدخول في الجنّة هو السلام المبشّر بالسلامة من كل المخاوف والأهوال. وهذا من باب إضافة المصدر
إلى المفعول (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) هيّأ لهم ثوابا عظيما على طاعاتهم وأعمالهم الصالحة.
* * *
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩))
٤٥ و ٤٦ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ...) أي شاهدا على أمّتك بطاعتهم ومعصيتهم ، ومبشّرا للمطيع بالجنّة ونذيرا للعاصي بالنّار (وَداعِياً إِلَى اللهِ) إلى توحيده وطاعته ومعرفته (بِإِذْنِهِ) أي بأمره الصّادر عن علمه بالمصالح وعن حكمته (وَسِراجاً مُنِيراً) أي مصباحا تنجلي به ظلمات الضّلال ، ويستضاء به من حيرة الجهالة إلى طريق المعارف والهداية وإلى التوحيد وقبول الرسالة. وقيل عنى بالسّراج القرآن ، أي بعثناك ذا سراج منير يعني حال كونك صاحب سراج منير ، فحذف المضاف أي القرآن الذي تقتبس نوره من أنوار البصائر.
٤٧ ـ (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً ...) أي زيادة على ما يستحقّونه من الثواب والأجر على أعمالهم ، أو فضلا على سائر الأمم.
٤٨ ـ (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ...) أي كن ثابتا على عدم الاعتناء بشأنهم. وهذا تهييج له (ص) على ما كان من مخالفتهم (وَدَعْ أَذاهُمْ) أي أعرض عن إيذائهم إياك ، أو ايذائك إيّاهم بقتل أو ضرر إلى أن تؤمر به (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فهو كافيك في دفع ضررهم عنك (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) في تفويض أمرك إليه في جميع الأحوال.
٤٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ... (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ...) أي من قبل أن تجامعوهنّ (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) تستوفون عددها ، فإنّ الله سبحانه أسقط العدّة عن المطلّقة قبل المسس لبراءة رحمها فإن شاءت تزوجت من يومها (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَ) المراد بالمتعة ها هنا ما وصلت به وأعطيت بعد الطّلاق من نحو القميص والإزار والملحفة ، وهي متعة الطّلاق. وهذا إذا لم يفرض لها مهرا إذ مع فرضه لا يجبب لها المتعة (المتعة بكسر الميم وضمّها) بل يجبب لها نصف مهرها كما بينّ في محلّه ، فسرّحوهن حينئذ (سَراحاً جَمِيلاً) أي خلّوا سبيلهن من غير إضرار ولا منع حقّهن. وفي التهذيب عن الباقر عليهالسلام في هذه الشريفة قال : متّعوهن أي احملوهن بما قدرتم عليه من معروف ، فإنّهن يرجعن بكآبة ووحشة وهمّ عظيم وشماتة من أعدائهن ، فإن الله كريم يستحيي ويحبّ أهل الحياء ، إنّ أكرمكم أشدّكم إكراما لحلائلهم. وعن الصّادق عليهالسلام في حديث يقول فيه : ... وإن لم يكن فرض لها شيئا فليمتّعها على نحو ما يتمتّع به مثلها من النّساء.
* * *
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ
وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))
٥٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُ ... اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ...) ثم إنّه تعالى أخذ في بيان تعيين الحلائل من النّساء فخاطب نبيّه الأكرم صلىاللهعليهوآله بذلك وقال : يا محمد (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أي دفعت مهورهنّ التي جعلتها لهن. والتعبير بالأجر لأنّ المهر أجر على البضع (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) أي المسبيّات من الإماء كصفيّة التي هي من غنائم خيبر ، وريحانة من غنائم بني قريظة ومارية القبطية وجويرية وأمثالهنّ. والتخصيص لأفضلتهنّ على المملوكات المشتريات حيث أن بدء أمرهنّ غير ثابت وغير معلوم على المشتري سبب تملّك البائع وأنه بأيّ كيفية
تملّكها بخلاف المسبيّات فإن ملكيّتها متحققة معلومة فهنّ أحلّ وأطيب من هذه الحيثيّة ولكنّ الجميع متساويات من حيث الحليّة. وكذلك لما كان نكاح المهاجرات أفضل قيّد القرائب بهنّ وقال (وَبَناتِ عَمِّكَ) إلى أن يقول (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) وهذا قيد للأفضلية لا للحلّية فإنهنّ حلائل مطلقا. نعم قيل : يحتمل أن يكون قيدا لإحلال المذكورات في حقّه صلىاللهعليهوآله خاصّة ، وكان من خصائصه صلوات الله عليه ولهذا القول يذكر شاهد وهو قول أمّ هاني فإنها قالت : خطبني رسول الله صلىاللهعليهوآله وأجبته لذلك ولكن ما عقد عليّ. فلمّا نزلت الآية قال صلوات الله عليه وآله : أنت حرام عليّ حيث لم تهاجري معي ، ولكنّ صحة الحديث غير معلومة. وقيل كان الإحلال مقيّدا بذلك لكنّه نسخ بهذه الآية (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) أي أحللنا لك امرأة مؤمنة إذا اتفق أنها وهبت نفسها بلا مهر. لكنّها بمجرّد هذا لا تصير زوجة له صلوات الله عليه ، ولا يجب على النبيّ قبولها. نعم لو أراد نكاحها فهي زوجته بلا عقد ولا مهر ، فإرادته (ص) بمنزلة قبوله إيّاها أي الهبة. والمراد بالاستنكاح هو طلبه ، أي الرغبة في النكاح (خالِصَةً لَكَ) هذا إيذان بأن الحكم ممّا خصّ به (ص) لنبوّته واستحقاقه هذه الكرامة لشرافة النبوّة (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) حاصل معنى الكريمة أنّنا قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم من حيث العدد والحصر والمهر لكنّه وضعناه عنك تخفيفا عنك وتشريفا لك وكذلك في ملك اليمين للمؤمنين بأن لا يقع الملك لهم إلّا بوجوه معلومة محصورة من الشراء والهبة والإرث ، وأبحنا لك أزيد من هذه الأسباب كالصفيّة الذي تصطفيها لنفسك من السّبي ، وانما خصّصناك به ووسعنا عليك على علم منّا بالمصلحة التي اقتضت ذلك (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي ضيق في باب النّكاح. وهذه الجملة متّصلة ب (خالِصَةً) وبينهما اعتراض لبيان أن المصلحة اقتضت مخالفة حكمه لحكمهم في ذلك ، وهي رفع الحرج بالتوسعة له صلوات الله عليه
في باب النكاح بخلاف الأمّة على ما يشير إليه قوله تعالى (لِكَيْ لا يَكُونَ) الآية (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما يشاء (رَحِيماً) بالتوسعة لعباده في مظانّ العسر والحرج.
٥١ ـ (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ...) أي تؤخّرها وتترك مضاجعتها. أو المراد تطلّقها (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تضمّ إليك وتمسك من تشاء وتنكحها. وقد مرّ قريبا أنه لما اقترحت نساء النبيّ (ص) عليه أشياء ، وطلبن منه أشياء ، لم تكن ميسورا له فهجرهنّ واعتزل عنهنّ بأمر منه تعالى فنزلت آية التخيير بين الدنيا والآخرة ، فمن أرادت منهن الدنيا سرّحها سراحا جميلا ومن أرادت الآخرة فأمسكها. وهذه الآية من متّممات آية التخيير ، وكذلك الآية اللّاحقة بها (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) أي طلبت ، وتريد أن تؤوي وتضمّ إليك (مِمَّنْ عَزَلْتَ) من النساء اللواتي هجرتهنّ وتركتهنّ (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في ذلك كلّه (ذلِكَ) أي التفويض إلى مشيئتك و (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) أي أقرب إلى أن تبرّر أعينهنّ ، كناية عن سرورهن لرؤية ما كنّ متشوّقات إليه ، وهو ايواؤه لهنّ صلوات الله عليه وضمّهنّ إليه بعد العزل (وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) لأن الحكم فيهنّ كلّهنّ سواء ، فإن سوّيت بينهنّ فوجدن ذلك تفضّلا منك وإن رجّحت بعضهنّ علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئنّ نفوسهنّ ويرضين بذلك الترجيح (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي من الرضا والسّخط والمليل إلى بعض النساء دون بعض (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما في الصّدور (حَلِيماً) رؤفا لا يعجل بالعقوبة مع كمال قدرته ، فهو الحقيق بأن يتّقى.
٥٢ ـ (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ...) أي بعد النساء اللواتي أحللناهنّ لك بقولنا (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ) ، الآية وهنّ ستّة أصناف من النّساء على ما عدّهنّ الله تعالى في الكريمة السّابقة (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) أي ولا يحلّ لك أن تبدّل من هؤلاء التسع بغيرهنّ بأن تطلق واحدة منهنّ وتأخذ بدلها من غيرهنّ. وقيل أن تبدّل المسلمات
بالكتابيّات لأنهنّ ما كان ينبغي أن يكنّ أمّهات للمؤمنين ، أو أنّه سبحانه منع عن فعل الجاهلية إذ كان الرّجلان منهم : يتبادلان فينزل كلّ منهما عن زوجته للآخر (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) أي حسن المحرّمات عليك ووقع في قلبك حسنهنّ مكافأة لهن على اختيارهنّ الله ورسوله (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي : لكن ما ملكت يمينك فيحل لك من الكتابيّات وغيرهنّ. وقيل لا يحلّ لك النساء بعد التسع وهنّ في حقه (ص) كالأربع في حق غيره صلوات الله عليه ، وكان الله (رَقِيباً) أي حفيظا وعن الصادق عليهالسلام : إنما عنى اللاتي حرمن عليه في آية النساء ، أي حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم ، الآية. ولو كان الأمر كما يقولون لكان قد حلّ لكم ما لم يحلّ له (ص).
* * *
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ
تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦))
٥٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ ...) أي تدعون إلى أكل الطعام (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أي حال كونكم لا تنتظرون وقت الطعام أو بلوغه فإنّ (إناء) مصدر جاء بمعنى الوقت والبلوغ (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) أي بالخروج من بيت النبيّ (ص) ولا تمكثوا عنده صلوات الله عليه وآله (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولا تدخلوا فتقعدوا بعد الأكل متحدّثين يحدّث بعضكم بعضا لتؤنسوه (إِنَّ ذلِكُمْ) الفعل منكم (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لضيق المنزل عليه وعلى أهله واشتغالكم بما لا يعنيه فيستحيي (مِنْكُمْ) أي من إخراجكم (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي من كلام الحق فيأمركم بالخروج بعد الطعام (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) أي ممّا يحتاج إليه وينتفع به (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي من وراء الستر وذلك أنهم كانوا يدخلون بلا إذن وذلك أطهر لقلوبكم (وَقُلُوبِهِنَ) من الرّيب والخواطر الشيطانية وليس لكم (أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أي بنكاح أزواجه أو بطول الجلوس عنده في بيته أو بالتكلم مع نسائه من غير وراء الستر ، أو الدخول عليه بلا استئذان منه صلوات الله عليه وآله. وعن أبي حمزة الثمالي رحمهالله : أن رجلين من الصّحابة قالا : إنّ محمدا ينكح
نسواننا ولا ننكح نساءه؟ والله لئن مات لنكحنا نساءه. وواحد منهما أراد عائشة ، والآخر أراد أمّ سلمة أعلى الله مقامها فنزلت الكريمة. فما كان لكم أيها المسلمون أن تؤذوا رسول الله (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) إلى أن يقول : (عَظِيماً) أي ذنبا عظيما لأن تعظيمه وتبجيله واجب على الأمّة حيّا وميّتا حيث إنه في الدنيا مقلّد بالنبوّة وفي العقبى بالشفاعة.
هذا مضافا إلى أنّ أزواجه صلوات الله عليه كنّ أمّهات الأمّة لقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ..) وعلى قولنا إنّ الحرمة ثابتة لكلّ امرأة فارقها ولو بالطلاق أو الفسخ سواء دخل بها أو لم يدخل خلافا لبعض المذاهب في غير المدخول بها كالشافعيّة والمدرك ضعيف.
٥٤ ـ (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ ...) أي تظهرونه بألسنتكم أو تخفوه في صدوركم. والمراد بالشيء لعلّه مطلق ما يؤذي النبيّ صلىاللهعليهوآله لا خصوص نكاح أزواجه كما قيل فإن الله سبحانه كان بكلّ ذلك (عَلِيماً) يعلم ما تبيّنونه أو تضمرونه في صدوركم فيحاسبكم عليه ويجازيكم. وفي الشريفة تهديد بليغ يكشف عن عظمة نكاح أزواج النبيّ (ص) وأنّ مطلق أذاه ذنب.
وروي أن آية الحجاب لمّا نزلت تحجّبت النساء حتّى عن آبائهنّ وأبنائهنّ وصرن لا يتكلّمن إلّا من وراء الستور ، فجاء المحارم وتكلّموا مع النبيّ (ص) بأننا أيضا ممنوعين من التكلم إلّا من وراء الستر؟ فنزلت الكريمة التالية :
٥٥ ـ (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ ...) أي لا بأس لهؤلاء أن يسألوهنّ من دون حجاب ولا عليهنّ أن يجبن من غير ستر ولا تستّر (وَاتَّقِينَ اللهَ) في ما كلّفكنّ من الاحتجاب عن ما سواهم ، ولا تكشفن عمّا حرّم الله كشفه لغير المحارم ، وكان الله (شَهِيداً) أي لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية.
٥٦ ـ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...) في ثواب الأعمال عن
الكاظم عليهالسلام أنّه سئل : ما معنى صلاة الله وصلاة ملائكته وصلاة المؤمنين؟ قال عليهالسلام : صلاة الله رحمة من الله ، وصلاة الملائكة تزكية منهم له ، وصلاة المؤمنين دعاء منهم له (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) لعلّ المراد من التسليم هو الذي يتبادر عند عرف العرب بالفهم من صيغة السّلم ، أي : السّلم عليك أيها النبيّ ، أو بزيادة : وبرحمة الله وبركاته. وقيل المراد منه هو التسليم والانقياد لأمره لكنّ الأول أنسب وأظهر لمكان حرف العطف. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليهالسلام في رواية قال : قوله وسلّموا تسليما ، أي سلّموا لمن وصّاه واستخلفه عليكم وفضّله ، وما عهد به إليه تسليما.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))
٥٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ... لَعَنَهُمُ اللهُ ...) أي يبعدهم الله في الدّنيا والآخرة من رحمته ويحلّ بهم وبال نقمته بحرمان الهداية (فِي الدُّنْيا) والخلود في النّار في (الْآخِرَةِ) لأنه هيّأ لهم فيها عذابا (مُهِيناً) ذا إهانة وهو النّار.
٥٨ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ...) أي بلا ذنب يوجب إيذاءهم وبغير جناية وجرم استحقّوا الإيذاء بهما (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) فقد فعلوا ما هو أعظم الإثم مع البهتان وهو الكذب على الغير يواجهه به فجعل إيذاء المؤمنين والمؤمنات مثل البهتان. وقيل يعني
بذلك أذيّة اللسان فإنها يتحقّق فيها البهتان. وفي الكافي عن الصّادق عليهالسلام قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين المؤذون لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم. فيقال : هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنّفوهم في دينهم ، ثم يؤمر بهم إلى جهنّم. وإنّما سقط لحم وجوههم لأنهم كاشفوهم وجوههم الشديدة عليهم في الدنيا من غير استحياء وعبّسوا بوجوههم حين النظر إلى المؤمنين.
* * *
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))
٥٩ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ) ... (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ...) أي يرخين على وجوههن وأبدانهن بعض ملاحفهنّ ويتلفّعن بالفاضل منها حين يخرجن من بيوتهن لقضاء حوائجهنّ (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) أي تغطية الرأس والوجه أقرب إلى معرفتهن بأنّهن حرائر من ذوات العفاف والصّلاح فلا يتعرّض لهنّ الفسّاق من الشباب كما كان من عادة الجاهلية التّعرض للإماء (فَلا يُؤْذَيْنَ) اي لا يؤذيهنّ أهل الرّيبة بالتعرّض لهنّ كتعرّضهم للإماء.
٦٠ و ٦١ ـ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ...) أي عن نفاقهم. والنّفاق هو إظهار الإيمان مع كونهم كافرين (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي فجور وفسوق من تعرّضهم للنّساء المؤمنات (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) هم أناس من المنافقين كانوا يشيعون أخبارا كاذبة سيئة عن سرايا رسول الله صلىاللهعليهوآله. وأصله من الرّجفة وهي الزلزلة ، وسمّيت به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي لنأمرنّك بقتالهم وإجلائهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) إلّا مجاورة قليلة لأنّهم يستأصلون في أيّام قلائل وعمّا قريب تقع بينكم وبينهم الحرب ويصبحون (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) أي أينما وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) فقضي عليهم.
٦٢ ـ (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ...) أي سنّ الله ذلك في الأمم الماضية وفي منافقيهم المرجفين بالمؤمنين (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) يعني هذه السنّة جارية في أمّتك يا محمد نعلا بالنعل وحذوا بالحذو ، ولا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها ، والسنّة هنا هي الطريقة في تدبير أمر على وجه المصلحة والحكمة ، وفي اللغة جاءت بمعنى الطريقة الجارية. ثم إنه مرويّ عن أصحاب التواريخ أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلوات الله عليه وآله : متى القيامة التي تخبرنا بها وتوعدنا؟ وهذا السّؤال أوردوه على سبيل الاستهزاء. وكذا اليهود جاءوه وسألوه عن وقتها حيث إنهم رأوا في التوراة أن القيامة لا يعلم وقت مجيئها إلّا الله فلذا سألوه اختبارا فنزلت الشريفة الآتية :
* * *
(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ
اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))
٦٣ ـ (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ...) أعني المذكورين آنفا سألوه (عَنِ السَّاعَةِ) أي عن وقت قيامها بأن قالوا : متى تقوم استهزاء ، أي كفّار مكة ، وامتحانا أي أحبار اليهود (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) واستأثر به ولم يطلع عليها ملكا ولا نبيّا (وَما يُدْرِيكَ) أي أنت لا تعرف متى تقوم فكيف بغيرك (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي قد توجد في وقت يكون قريبا.
٦٤ و ٦٥ ـ (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ ... وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ...) أي نارا شديدة الإيقاد أو نارا تلهب هيّأها لهم ليكونوا (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي مقدار لبثهم فيها أبديّ لا يخلّصهم منها أحد.
٦٦ ـ (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ...) أي تتحوّل من هيئة إلى هيئة ومن حالة إلى حالة فيقولون (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فكانوا يتمنّون أمرا محالا كقول الشاعر : فيا ليت الشّباب يعود يوما إلى آخره. والألف في (الرَّسُولَا) ونحوه للإطلاق.
٦٧ و ٦٨ ـ (وَقالُوا رَبَّنا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ...) أي مثلي ما آتيتنا من العذاب لأنّهم ضلّوا وأضلّونا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أشدّ وأعظم من كلّ لعن أو عدده.
* * *
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))
٦٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا ...) أي لا تكونوا مع نبيّكم مثل الذين آذوا نبيّهم موسى عليهالسلام برميهم إيّاه بالبرص فأظهر الله لهم براءته واتّهامهم له بقتل هارون فبرّأه الله من مقالتهم الكاذبة. وفي المجمع عن عليّ عليهالسلام أنّ موسى وهارون عليهماالسلام صعدا الجبل فمات هارون فقال بنو إسرائيل : أنت قتلته. فأمر الله الملائكة فحملته حتى مرّوا به على بني إسرائيل وتكلّمت الملائكة بموته حتّى عرفوا أنّه قد مات ، وبرّأ الله موسى (ع) من ذلك ، وروي أن موسى كان حبيئا ستّيرا يغتسل وحده ، فقالوا ما يتستّر منّا إلّا لعيب بجلده كالبرص ، فذهب مرّة يغتسل فوضع ثوبه على حجر فمرّ الحجر بثوبه فطلبه موسى عليهالسلام فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا فبرّأه الله.
٧٠ و ٧١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ...) أي قولا
صادقا قاصدا إلى الحق ، صوابا موافقا ظاهره لباطنه. وبعبارة أخرى قولا مرضيّا لله ولرسوله (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي هو تعالى يصلح أعمالكم ويوفقكم لصدور الأعمال الصّالحة عنكم ، أو يقبل أعمالكم على ما هي عليه ويثيبكم بذلك ويعطيكم أجرا جزيلا. وهذا بيان لنتيجة القول السّديد (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وهذا نتيجة إصلاحه لأعمال عباده ، فإن الأعمال إذا صارت مصلحة فالذّنوب تصير مغفورة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) فهذه الشريفة بمنزلة قاعدة كلّية حيث إنّ جميع ما ذكر في الآيات السّابقة مترتّب على الإطاعة لأن الإنسان المطيع هو الذي لا يقول إلّا قولا سديدا وهو الذي يصلح الله أمره ويغفر ذنوبه ويفوز فوزا عظيما ، ويظفر ببغيته وينجو من المكاره بحوله وقوّته تعالى وتوفيقه إيّاه. فالإطاعة هي منشأ كلّ خير ومصدر كلّ رفعة ومفاض كلّ فوز عظيم.
٧٢ ـ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ...) المراد بعرضها عليهنّ قيل إنه النظر إلى استعدادهنّ له وإبائهنّ الإباء الطبيعيّ الذي هو عدم اللّياقة والاستعداد ، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوّة الغضبيّة والشّهويّة ، وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب. ويحتمل أن يكون المراد العرض على أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وعرضها عليهم تعريفها إيّاهم ، أي في تضييع الأمانة الإثم العظيم. وقد بيّن تعالى جرأة الإنسان على المعاصي وإشفاق الملائكة من ذلك. فيكون المعنى : إنّا عرضنا الأمانة على أهل السّموات والأرض والجبال والملائكة والجنّ فأبين أن يحملنها ، أي فأبى أهلها أن يحملوا تركها وعقابها والمأثم فيها ، وأشفقوا منها. والحاصل أن آباءهم لها كان إباء استصغار لا إباء استكبار مثل إباء إبليس حيث لم يؤدّها أو لم يعمل بها كما هو حقها (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي مال إليها بقبولها (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) بارتكاب المعاصي (جَهُولاً) بشأن الأمانة وموضعها في استحقاق العقاب على الخيانة فيها. وأمّا الأمانة فقيل هي الطاعة ، وقيل هي الصّلاة وروي أنّ
عليّا عليهالسلام إذا حضر وقت الصّلاة كان يتململ ويتزلزل ويتلوّن فيقال له مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول جاء وقت الصلاة ، وقت الأمانة. وقيل هي مطلق الفرائض فإنّها واجبة الأداء كالأمانة ، وقيل المراد بها الولاية ويدل عليه أخبار كثيرة.
٧٣ ـ (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ ...) هذا علّة لعرض الأمانة ، ليميّز الله الخبيث من الطيّب ، وليعذب المنافقين (وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي الخائنين للأمانة (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي المؤدّين للأمانة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) للمؤمنين المطيعين له ولرسوله صلوات الله عليه وعلى أهل بيته.
سورة سبأ
مكيّة إلّا الآية ٦ فمدنية وآياتها ٥٤ نزلت بعد لقمان.
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))
١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) السّور المفتتحة بالحمد خمس ، وهي : الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ ، وفاطر. وقد منّ الله تعالى على عباده بهذه الكلمة المباركة لتعريفهم وجوب حمده على نعمه : ولتعليمهم كيفيّته على ما ينبغي لشأنه السامي جلّ وعلا ، يعني أن الثّناء والشكر الجميل مختصّان بذاته المقدّسة على جهة التعظيم والاعتراف بجميل صنعه للعباد ، فهو (الَّذِي لَهُ) لا لغيره (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من مخلوقات وكائنات ونعم وغيرها ، فإنّه المصدر لجميع النّعم والمبدع لمجموع العوالم (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لأن النّعم ـ دنيويّة وأخرويّة ـ مختصة به
سبحانه ، ولكنّ الآخرة خصّت تفضيلا لها على الدنيا الزائلة ، ولأنها تصل إلى العباد بلا واسطة بخلاف النّعم الدنيويّة التي تتقدّم على الأخرويّة حيث إنّ الدّنيا مقدّمة على العقبى. وتقديم الصلة في الثاني لما قلناه من اختصاصه تعالى في الإيصال بخلاف الأول (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في تدابيره (الْخَبِيرُ) بخلقه بجميع جهاتهم وشؤونهم.
٢ ـ (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ...) أي يعرف ما يدخل فيها مثل المطر والحشرات والكنوز والأموات (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من المياه والفلزّات والنباتات (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالأمطار والأرزاق والحوادث والكتب السماوية والصواعق والثلوج وغيرها من النوازل (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي وما يصعد إليها مع الملائكة وأعمال العباد ودعواتهم وأرواحهم الطيّبة والأبخرة ونحوها (وَهُوَ الرَّحِيمُ) في إعطاء النّعم الشّفوق على العباد بإتمامها عليهم (الْغَفُورُ) للمقصّرين والمذنبين ولمن لم يؤدّوا شكر النعمة وقصّروا في الوظيفة.
* * *
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))