دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

بربع القرآن.

وأمّا جمع أبي بكر فعبارة عن جمعه من الأوراق والأخشاب والجلود في القرطاس ، كما يشهد له بعض روايات العامّة بأنّ أوّل من جمع القرآن في القرطاس هو أبو بكر (١).

وأمّا جمع عثمان فعبارة عن جمع الناس على قراءة واحدة ، فإنّ في عصره بسبب انتشار القرآن بين قبائل العرب واختلافهم في الألسنة اختلفت قراءتهم ، ولذا أمر بإحراق المصاحف المكتوبة بسائر القراءات ، فيستفاد من هذا انحصار طريق إثبات القرآن بالتواتر فقط.

ولا بدّ في كلّ آية من إثبات امور ثلاثة فيها بالتواتر : الأوّل : كونها جزء من القرآن ، والثاني : كونها جزء من سورة كذا ، والثالث : كونها قبل آية كذا وبعد آية كذا. فكيفيّة إيصال القرآن إلينا مثل كيفيّة إيصاله إلى سائر المسلمين ، وهذا هو التواتر لا نقل الأئمّةعليهم‌السلام.

وأمّا ما قال به صاحب المحاضرات تبعا للمحقّق النائيني قدس‌سره فلا يخلو من مناقشة ، فإنّه إن كان المراد من الفرض الثاني ـ أي قوله : «نعم ، لو فرض كلام وصل إلينا من النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا واسطة الأئمّة عليهم‌السلام فيمكن أن تظهر الثمرة فيه إذا فرض الشكّ في مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله منه ، إلّا أنّه فرض في فرض» ـ عدم وجدان مورد نشكّ فيه ، قلنا : عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

وإن كان مراده عدم الوجود بحسب الواقع قلنا : إنّ هذا الادّعاء متوقّف على التتبّع والإحاطة بجميع الكتب الروائيّة من المسلمين جميعا ، وهو مشكل جدّا مع تعدّدها وتنوّعها. فقبول هذا الادّعاء بعيد.

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن : ٧٨.

٢٤١

وأمّا على الفرض الأوّل ـ أي نقل السنّة من النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطة الأئمّة عليهم‌السلام ـ فقد يكون نقل الأئمّة عليهم‌السلام نقلا بالمعنى.

ولا شكّ في حمل الألفاظ على المعاني المتعارفة لا بدّ من مراجعة العرف والحقيقة المتشرّعة ، كما أنّه لا شكّ في حملها عليها إن فسّرت السنّة بواسطة الأئمّة عليهم‌السلام ، وكما أنّه لا شكّ في حملها عليها إذا نقل عن الأئمّة عليهم‌السلام مسألة ثمّ استشهد بكلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد يكون نقلهم عليهم‌السلام بلا دخل وتصرّف في اللفظ ، بل كان لهم عنوان «الرواة المعلوم صدقهم» كرواية سائر الصحابة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل قول محمّد بن مسلم ، قال الصادق عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلّ عند رؤية الهلال (١).

ومعلوم أنّا نشكّ فيه ، فهل مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله عبارة عن المعنى المتعارف عند المتشرّعة ، أو المعنى الحقيقي اللغوي؟ وتظهر ثمرة بحث الحقيقة الشرعيّة في هذا المورد ، فإنّه على القول بالثبوت وتأخّر الاستعمال يحمل على المعنى الحادث ، وعلى القول بعدم الثبوت أو عدم العلم بتأخّر الاستعمال يحمل على المعنى الحقيقي اللغوي ، فلا يكون ترتّب الثمرة قابلا للإنكار ، مع أنّ موارد الشكّ لا تكون كثيرة ، بل هي قليلة جدّا.

فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ لنا من البحث في هذه المسألة مختصرا ، مع قطع النظر عن الجهات الثلاثة المذكورة في السابق ، فقد مرّت إشارتنا إلى قول المحقّق الخراساني قدس‌سره وأنّه ذكر طريقا آخر لإثبات الحقيقة الشرعيّة ، وهو : أنّه لما كانت دعوى الوضع التعييني في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غاية الإشكال ؛ إذ لو كان لنقل إلينا ، فادّعى إمكانه بقوله : إنّ الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح

__________________

(١) هذه الجملة مضمون حديث.

٢٤٢

بإنشائه ـ كأن يقول : إنّي وضعت لفظ كذا لمعنى كذا ـ كذلك يتحقّق بنفس استعمال اللفظ في معنى يقصد الوضع له والحكاية عنه ، لا بالقرينة المجازيّة ، وإن كان لا بدّ حينئذ من نصب القرينة ، إلّا أنّه للدلالة على ذلك لا على إرادة المعنى كما في المجاز ، مثل قول الأب الذي لم يوضع لولده اسما بعد : «جئني بولدي عليّ» قاصدا به تسمية ولده ب «عليّ» ، فيصير بنفس الاستعمال معنى حقيقيّا للّفظ.

ولكن أشكل عليه المحقّق النائيني قدس‌سره (١) بدعوى أنّ حقيقة الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى في الخارج ، بحيث تكون الألفاظ مغفولا عنها ، فالاستعمال يقتضي أن يكون النظر إلى الألفاظ آليّا ، والوضع يستدعي أن يكون النظر إلى الألفاظ استقلاليّا ، فالجمع بين الوضع والاستعمال في شيء يلازم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، وهو غير معقول ، بل محال.

وأجاب عنه الشيخ ضياء الدين العراقي قدس‌سره (٢) على ما في مقالات الاصول : بأنّ توهّم اجتماع اللحاظين غلط ؛ إذ النظر الآلي والمرآتي متوجّه إلى شخص اللفظ المستعمل في مقام الاستعمال ، وأمّا النظر الاستقلالي فمتوجّه إلى طبيعة اللفظ ونوعه في مقام الوضع ، فإنّ الواضع إذا قال : وضعت لفظ «عليّ» اسما لهذا المولود لا يكون مراده شخص هذا اللفظ الخارج من فمه ، بل يكون مراده طبيعة هذا اللفظ من أي مستعمل في أيّ مكان يتحقّق ، فلا يجتمع اللحاظان في شيء واحد ، فإنّ متعلّق اللحاظ الآلي عبارة عن شخص اللفظ ، ومتعلّق اللحاظ الاستقلالي عبارة عن طبيعة اللفظ كما لا يخفى. ثمّ قال في آخر كلامه :

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) مقالات الاصول : ٦٧ ـ ٦٨.

٢٤٣

«والعجب صدور هذا الإشكال من بعض أعاظم المعاصرين على ما في تقرير بعض تلامذته».

والتحقيق : أنّ هذا الجواب ليس بتامّ ، فإنّه سلّمنا توجّه اللحاظ الآلي إلى اللفظ حال الاستعمال ، وتوجّه اللحاظ الاستقلالي إليه في مقام الوضع ، والمراد منه في الأوّل شخصه ، وفي الثاني نوعه. ولكن تحقّق ثلاث لحاظات في استعمال واحد غير معقول ، مع أنّ لازم كلامه قدس‌سره تعلّق اللحاظ الآلي بشخص اللفظ ، وتعلّق اللحاظ الاستقلالي بنوعه ، وتعلّق اللحاظ الاستقلالي الآخر بالمعنى في استعمال واحد ، فكيف يمكن ذلك مع كون المستعمل واحدا وهو شخص اللفظ أو نوعه؟!

نعم ، يمكن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه بحيث كان شخص اللفظ مستعملا ونوعه مستعملا فيه ، ولكن لم يكن فيه ثلاث لحاظات كما مرّ ، فلا يمكن باستعمال واحد تحقّق الوضع والاستعمال معا.

ولكن يرد على المحقّق النائيني قدس‌سره إشكال آخر وهو : أنّه لا يوجد دليل على تعلّق اللحاظ الآلي بالألفاظ في جميع الاستعمالات ، بل تختلف الموارد باختلاف الأغراض ؛ إذ سلّمنا تعلّق اللحاظ التبعي باللفظ في أكثر الاستعمالات ، إلّا أنّ تعلّق اللحاظ الاستقلالي به في بعض الموارد لا يكون قابلا للإنكار ، مثل : مقام أداء الخطابة وكتابة المقالة الأدبيّة ؛ إذ الغرض في هذين المقامين يتعلّق بإفادة المقصود في ضمن الألفاظ الحسنة الجميلة ، وهكذا ، فإنّ توجّه اللحاظ الآلي أو الاستقلالي إلى اللفظ تابعا لاقتضاء المناسبة لأحد منهما ، فليس هنا قاعدة كلّيّة بأنّ اللفظ لا بدّ فيه من اللحاظ الآلي في جميع الاستعمالات.

٢٤٤

وحينئذ نقول : إنّ من الموارد المناسبة التي تقتضي النظر الاستقلالي إلى اللفظ هو الاستعمال المحقّق للوضع ، فلا يجمع بين اللّحاظين الآلي والاستقلالي ، فلا يرد هذا الإشكال على المحقّق الخراساني قدس‌سره وكلامه في محلّه ؛ إذ لا شبهة في وقوع الوضع التعييني على النحو الذي ذكره خارجا ، بل لعلّه كثير بين العرف والعقلاء في وضع الأعلام الشخصيّة والمعاني المستحدثة.

إنّما الكلام في نفس الاستعمال المحقّق للوضع ، هل هو استعمال حقيقي أو مجازي أو لا هذا ولا ذاك؟ فيه وجهان ، بل قولان ، فقد اختار المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) الاحتمال الأخير ، وملخّص كلامه : أنّه لا يكون من الاستعمال الحقيقي ؛ لأنّ الاستعمال الحقيقي استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له ، والمفروض أنّه لا وضع قبل هذا الاستعمال ليكون الاستعمال استعمالا فيه ، وأمّا أنّه لا يكون من الاستعمال المجازي ، فلأجل أنّ الاستعمال المجازي استعمال اللفظ في المعنى المناسب للمعنى الموضوع له ، والمفروض أنّه لا وضع قبل هذا الاستعمال ، ومعه لا يعقل المجاز ، فلا يكون ذلك الاستعمال حقيقيّا ولا مجازيّا ، وقد ذكرنا أنّ صحّة الاستعمال لا تدور مدار كونه حقيقيّا أو مجازيّا ، بل صحّ الاستعمال بدون أن يكون متّصفا بأحدهما إذا كان حسنا عند الطبع ، وقد عرفت أنّ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله من هذا القبيل.

ولكن لقائل أن يقول : إنّ بين الإطلاقات المذكورة وما نحن فيه فرقا واضحا ، وقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق ، بأنّ الاستعمال المحقّق للوضع لا يكون استعمالا في غير ما وضع له ؛ إذ لا يعتبر في كون الاستعمال الحقيقي تقدّم الوضع على الاستعمال ، بل غاية ما يقتضيه ذلك هو ألّا يكون

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٢.

٢٤٥

الوضع متأخّرا عن الاستعمال ، فيكفي في كون الاستعمال حقيقيّا مقارنة الوضع له زمانا ، والمفروض أنّ الوضع والاستعمال في هذا المقام كذلك ، بخلاف الإطلاقات المذكورة فإنّها ليست من قبيل الاستعمال فضلا من كونها الاستعمالات الحقيقيّة ؛ إذ المفروض إطلاق اللفظ وإرادة نوعه مثلا ، ومعلوم أنّه لا سنخيّة بين المعنى ونوع اللفظ ، بل هما متباينان كما لا يخفى.

هذا كلّه في الوضع التعييني ، وإن قلنا : بعدم تحقّقه أصلا ولو بالطريق الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره فإنّه وإن كان ممكنا ولكنّه ليس لكلّ ممكن وقوع وثبوت ، فتصل النوبة إلى الوضع التعيّني الذي منشؤه كثرة الاستعمال ، لا الجعل والمواضعة ، فقد ذكرنا أنّه لا يصحّ إطلاق كلمة الوضع عليه ؛ لأنّ هذا المنشأ يوجب صيرورة المعنى معنى حقيقيّا ، والحقيقة أعمّ مطلقا من الوضع ، ولكن نعبّر عنه بالوضع تبعا لصاحب الكفاية قدس‌سره.

ولا شكّ ولا شبهة في تحقّق الوضع التعيّني ، فإنّ ثبوته في زمن الصادقين عليهما‌السلام معلوم ، بل الإنصاف يحكم حتّى بثبوته في زمن أمير المؤمنين عليه‌السلام ولا سيّما في زمن خلافته عليه‌السلام ، بل ولا يبعد ثبوته في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بلسانه ولسان تابعيه ؛ لكثرة استعمالات هذه الألفاظ في هذه المعاني وكثرة الأسئلة التي ترد من السائلين ، وجوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها ، ونقلهم الجواب بينهم ، وإخبارهم بالآخرين.

نعم ، ثبوته في خصوص لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله مشكل جدّا ؛ لعدم العلم بكثرة استعمالاته صلى‌الله‌عليه‌وآله على حدّ يوجب التعيّن ، كما أشار إليه في الكفاية. ولكنّه لا يضرّ بالمقصود ؛ إذ الملاك في الوضع التعيّني ، وما يوجب حمل الألفاظ على المعاني المستحدثة بلا قرينة هو كثرة الاستعمال في المجتمع الإسلامي في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٤٦

لا كثرة الاستعمال في خصوص لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا نحتاج في تحقّق الوضع التعييني إلى كثرة الاستعمال في خصوص لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله بل يكفي كثرة الاستعمال في النظام الإسلامي ، ومعلوم أنّه في هذا المقام كذلك ، فهو الملاك لقاطبة المسلمين ، ولا فرق فيه بين الشارع وغيره ، فتترتّب الثمرة المذكورة لبحث الحقيقة الشرعيّة على الوضع التعيّني أيضا.

بقي الكلام في مورد تحقّق الثمرة ومورد ترتّبها على هذا البحث ، فقد مرّ عن المحقّق الخراساني قدس‌سره قوله : «وأمّا الثمرة بين القولين فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغويّة مع عدم الثبوت ، وعلى معانيها الشرعيّة على الثبوت فيما إذا علم تأخّر الاستعمال ، وفيما إذا جهل التأريخ ففيه إشكال ...» الخ.

ولا يخفى أنّ في صورة إحراز تأخّر الاستعمال عن الوضع لا إشكال في ترتّب الثمرة عليها ـ كما مرّ ـ وإنّما الكلام في صورة الجهل بتاريخهما أو أحدهما ، فهل يحمل اللفظ الصادر عن الشارع كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثلا : «صلّ عند رؤية الهلال» على المعنى اللغوي أو الشرعي؟ وهنا قولان ، ولكلّ منهما دليل لا يكون قابلا للمساعدة عليه ، بل مردود كما سيأتي :

أحدهما : أنّه يحمل على المعنى الشرعي ؛ لأصالة تأخّر الاستعمال عن الوضع.

وثانيهما : أنّه يحمل على المعنى اللغوي ؛ لأصالة عدم النقل عن المعنى اللغوي.

أمّا الاستناد إلى أصالة تأخّر الاستعمال إن كان من حيث كونه أصلا عقلائيّا باسم أصالة تأخّر الحادث ـ بمعنى أنّ أصل تحقّق الحادث مثل مجيء

٢٤٧

«زيد» من السفر معلوم ، ولكن لا نعلم تحقّقه في يوم الخميس أو الجمعة ، فأصالة تأخّر الحادث حاكم بتحقّقه في يوم الجمعة ـ فجوابه إنّا من العقلاء ولا نرى عندهم من هذا الأصل أثرا ولا خبرا حتّى يزيل به الشكّ ، بل العقلاء يحكمون بالتبيّن في المثال المذكور.

وأمّا إذا كان الاستناد إليه من حيث كونه أصلا شرعيّا بدليل «لا تنقض اليقين بالشكّ» (١) فهو أيضا مردود ؛ إذ لا بدّ في الاستصحاب أوّلا : من حالة متيقّنة سابقة ، وثانيا : من كون المستصحب حكما شرعيّا ـ مثل : استصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ـ أو موضوعا للحكم الشرعي ـ مثل : استصحاب عدالة «زيد» لجواز الاقتداء به ـ وإلّا فلا معنى لجريانه ، ولو كان المستصحب ملازما لشيء يكون هذا الشيء موضوعا للحكم الشرعي.

وحينئذ إذا كان في المثال المذكور نفس عنوان التأخّر مجرى الاستصحاب فلا يتحقّق فيه الشرط الأوّل ؛ إذ ليس له حالة سابقة متيقّنة. وأمّا إذا كان المستصحب عدم مجيء «زيد» يوم الخميس ـ كما في المثال المذكور ـ فلا يتحقّق فيه الشرط الثاني ، فإنّا نتيقّن بعدم صدور «صلّ عند رؤية الهلال» في أوائل ظهور الإسلام ـ مثلا ـ لأنّه فرضنا أنّ الوضع تحقّق في السنة الخامسة من البعثة ، ونشكّ في صدور هذه الجملة في السنة الرابعة أو السادسة ، فيستصحب عدم صدورها قبل السنة السادسة ، فيكون المستصحب أمرا عدميّا ، ولا يكون حكما شرعيّا ولا موضوعا للحكم الشرعي.

نعم ، هو ملازم لتأخّر الصدور عن الوضع ، فيحمل على المعنى الشرعي ، ولكنّه ملازم عقليّ ، وهو كما ترى.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

٢٤٨

مع أنّه لو سلّمنا ثبوت تأخّر الصدور عن الوضع بالاستصحاب فلا يترتّب عليه أثر شرعي ؛ إذ لا يكون في لسان الدليل الشرعي موضوع له ، بأنّه إذا كان الاستعمال متأخّرا عن الوضع فيجب أن يحمل على المعنى الشرعي ، بل هو حكم عقليّ.

على أنّه لو قلنا بصحّة جريانه فهي منحصرة بصورة العلم بتأريخ الوضع والشكّ في تأريخ الاستعمال ، وأمّا إذا كان كلاهما مجهول التأريخ فيكون كلاهما أمرا حادثا ، ويجري الأصل المذكور فيهما معا ، فلا يكون هذا الأصل قابلا للتمسّك أصلا.

وأمّا القول الثاني ـ وهو الحمل على المعنى اللّغوي ؛ لأصالة عدم النقل ـ فقد ذكرنا فيما تقدّم أنّها أصل عقلائي ، إلّا أنّ مورده عبارة عن الشكّ في أصل النقل إلى المعنى الحادث ، وأمّا إذا كان أصل النقل متيقّنا وتقدّمه على الاستعمال كان مشكوكا فنعلم بعدم جريان أصالة عدم النقل فيه ، ولا أقل من الشكّ في جريانه ، فيحتاج جريان أصل مشكوك الاعتبار إلى دليل ، ومعلوم أنّه لا دليل على جريانه.

والحاصل : أنّه ولو كان أصل ترتّب الثمرة على هذا البحث ـ مع قطع النظر عن الجهات المذكورة في ابتداء البحث ـ قابلا للمساعدة عليه إلّا أنّ شرطه إحراز تأخّر الاستعمال عن الوضع ، وهو يتّفق نادرا لا دائما كما هو المعلوم. هذا تمام الكلام في البحث عن الحقيقة الشرعيّة.

٢٤٩
٢٥٠

الأمر العاشر

الصحيح والأعمّ

إنّ الأصل في استعمالات الشارع لألفاظ العبادات هو الصحيح أو الأعمّ ، ولا يخفى أنّه بحث مستقلّ في مقابل بحث الحقيقة الشرعيّة ولازمه أنّ جميع الأقوال والآراء في البحث السابق تأتي في هذا البحث أيضا ، وإلّا لم يكن له استقلال ، فقد تحقّق في البحث السابق بعد التتبع أنّ الأقوال أربعة : أحدها : القول بالوضع التعييني لألفاظ العبادات للمعاني المستحدثة ، وثانيها : القول بالوضع التعيّني الذي نسمّيه باسم «الحقيقة التعيّنيّة» ثالثها : استعمال الألفاظ في المعاني المستحدثة دائما بصورة المجاز بدون الوضع التعيّني والتعييني ، رابعها : القول بأنّ ألفاظ العبادات استعملت في لسان الشارع في معانيها اللغويّة ولكنّه أراد المعاني الشرعيّة من جهة نصب القرينة الدالّة على ذلك بنحو تعدّد الدال والمدلول ، وهو المنسوب إلى الباقلّاني (١).

إذا عرفت هذا فنقول : لا بدّ لنا في هذا البحث من عنوان جامع للآراء المذكورة ، فإنّه بحث مستقلّ كما هو المفروض ، ولكنّ التعبير الدائر بين الاصوليّين في عنوان هذا البحث عبارة عن أنّ ألفاظ العبادات هل هي

__________________

(١) انظر : كفاية الاصول ١ : ٣٥ ، شرح العضدي على مختصر الاصول ١ : ٥١ ـ ٥٢.

٢٥١

موضوعة للصحيح أو الأعمّ؟ وهذا التعبير يشمل القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فقط ، فإنّ منكريها منكرون لأصل الوضع ، فلا معنى للوضع للصحيح أو الأعمّ عندهم ، وهذا التعبير ليس بجامع للأقوال والآراء.

وأمّا المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) فقد عبّر بأنّ ألفاظ العبادات أسامي لخصوص الصحيحة أو الأعمّ منها.

لكن لا يندفع به تمام الإشكال ؛ لأنّه يشمل القولين : القول بالوضع التعييني كما هو المعلوم ، وهكذا القول بالوضع التعيّني ، فإنّ بعد كثرة استعمال لفظ «الصلاة» في الأركان المخصوصة على حدّ لا يحتاج في الدلالة عليها إلى قرينة يصدق أنّ لفظ «الصلاة» صار اسما لها ، كما أنّ في كلمة «الأسد» بعد الاستعمال في الرجل الشجاع بهذا الحدّ يصدق أنّ «الأسد» صار اسما للرجل الشجاع ، بخلاف القول بالمجاز فإنّ الاستعمال على هذا القول يحتاج إلى قرينة دائما ، وعليه لا يصدق أنّ «الصلاة» صارت اسما للأركان المخصوصة ، فهذا التعبير أيضا لا يكون جامعا للآراء والأقوال.

والأولى في التعبير ما ذكرناه في عنوان البحث ، فيدخل فيه الجميع حتّى قول الباقلّاني على توجيه ، أمّا شموله للقول بالوضع التعييني وكذا القول بالحقيقة التعيّنيّة فمعلوم لا كلام فيه.

وأمّا على القول بالمجاز ـ سواء استعملت الألفاظ في الصحيح أو الفاسد ـ فلأنّ الأصل في هذه الألفاظ المستعملة في كلام الشارع مجازا هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعمّ ، بمعنى أنّ أيّهما كان فقد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغويّة ابتداء ، واستعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ، كي ينزّل

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٤.

٢٥٢

كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغويّة ، وعدم قرينة اخرى معيّنة للآخر ، فيكون أحدهما مجازيّا في طول الآخر لا في عرضه ، كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره. ويعبّر عنه في العلوم الأدبيّة بسبك المجاز عن المجاز ، وكان له أثر في مقام العمل ، فإنّ الشارع إذا أراد من اللفظ معناه المجازي الأوّل فلا بدّ له من نصب قرينة صارفة عن المعنى اللّغوي بدون نصب قرينة معيّنة اخرى ، وأمّا إذا أراد منه معناه المجازي الثاني فلينصب قرينتين : صارفة ومعيّنة ، فيمكن أن يقول البعض بالأصالة للصحيح والتبعيّة للأعمّ ، والبعض الآخر بالعكس.

وأمّا على قول الباقلّاني فبأنّ الألفاظ مستعملة في معانيها اللغويّة ، ولكن الخصوصيّات من الأجزاء والشرائط مستفادة من القرينة ، وهي قد تكون بألفاظ مفصّلة خاصّة ، مثل : أن يقال : «صلّ» و «اسجد» و «اركع» إلى غير ذلك ، وحينئذ لم يكن أي نزاع.

وقد تكون باللفظ الجامع العامّ بأن يقال : «صلّ» ويضمّ إليه لفظ جامع لشتاتها ، وحينئذ أمكن النزاع بأنّ المراد من هذه القرينة الجامعة هل يكون جميع ما يعتبر من الأجزاء والشرائط أو في الجملة؟ فيعبّر عن الأوّل بالصحيح وعن الثاني بالأعمّ.

ولا بدّ لنا قبل الخوض في أصل البحث من ذكر امور :

الأوّل : تعريف الصحّة والفساد ومعناهما ، فقد صرّح المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في مواضع متعدّدة بأنّ الصحّة عند الكلّ بمعنى واحد وهي التماميّة ، ولا محالة يكون الفساد بمعنى النقصان.

ويستفاد من كلامه أنّ الصحّة والتماميّة كانتا مترادفتين ، كما أنّ الفساد

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٤ ـ ٣٥.

٢٥٣

والنقصان كانا من المترادفين ، وأنّ اختلاف التعبيرات عن الصحّة لا يرجع إلى اختلاف في مفهومها ، بل لمّا كانت الأغراض مختلفة عبّر كلّ عن الصحّة بلازمها الموافق لغرضه ، فإنّ غرض الفقيه ـ مثلا ـ البحث عن حال فعل المكلّف الذي هو موضوع علمه ، ولذا عرّف الصحّة بإسقاط القضاء أو الإعادة ، ولما كان غرض المتكلّم البحث عمّا يرجع إلى المبدأ وصفاته وأفعاله التي منها أوامره ونواهيه وموافقتها الموجبة لاستحقاق المثوبة ومخالفتها الموجبة لاستحقاق العقوبة ، عرّف الصحّة بموافقة الشريعة ، وكذا الطبيب كان غرضه البحث عمّا يرتبط بسلامة بدن الإنسان ـ مثلا ـ عرّف الصحّة باعتدال المزاج ، وهكذا عرّفها كلّ بما يوافق غرضه ، وهذا لا يوجب تعدّد المعنى.

ثمّ قال (١) في آخر كلامه : إنّ الصحّة والفساد أمران إضافيّان ، فيختلف شيء واحد صحّة وفسادا بحسب الحالات ، فيكون تامّا بحسب حالة وفاسدا بحسب اخرى ، فإنّ الصلاة من جلوس صحيحة للعاجز عن القيام ، وفاسدة للقادر عليه.

وفيه : أوّلا : أنّ تقابل التمام والنقص كان تقابل للعدم والملكة ؛ إذ الناقص عبارة عن الشيء الذي من شأنه أن يكون تامّا ولكنّه بالفعل غير تامّ ، مثلا : يقال : للإنسان الذي لم يكن له رجل أنّ هذا الإنسان ناقص ؛ لأنّ من شأنه أن يكون له رجلان ، وأمّا الجدار ـ مثلا ـ إذا كان كذلك فلا يقال له : إنّه ناقص ؛ لأنّ الجدار ليس من شأنه أن يكون له رجل ، فيكون أحدهما أمرا وجوديّا والآخر أمرا عدميّا خاصّا.

وأمّا الصحّة والفساد فهما عبارة عن أمرين وجوديّين متضادّين ؛ إذ الفساد

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٥٤

أمر وجودي ملموس كما هو المعلوم ، وهكذا الصحّة.

وثانيا : أنّ لازم الترادف جواز استعمال كلّ واحد من الألفاظ المترادفة في محلّ الآخر ، مع أنّا نرى أنّ إطلاق كلمة الناقص على الإنسان الفاقد للبصر صحيح ، بخلاف إطلاق كلمة الفاسد عليه ، ولا يصحّ القول بأنّ هذا الإنسان فاسد. وهكذا إطلاق كلمة الفاسد على البطّيخ إذا كان كذلك صحيح ، بخلاف إطلاق كلمة الناقص عليه ، ولا يصحّ القول بأنّه ناقص.

فالملاك في إطلاق كلمتي الناقص والتمام أنّهما يطلقان على المركّبات بلحاظ فاقديّتها لبعض الأجزاء وواجديّتها لجميعها ، كما في المولود الذي كان واجدا لجميع الأعضاء والجوارح فيقال : إنّه تامّ الخلقة ، وأمّا إذا كان فاقدا لبعضها فيقال له : إنّه ناقص الخلقة.

وأضاف استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ موردا آخر لإطلاقهما وهو : أنّهما يطلقان على البسائط بلحاظ المراتب التشكيكيّة والدرجات الشديدة والضعيفة ، فيقال للوجود الشديد ولمبدأ المبادئ : إنّه وجود تامّ ، وللضعيف مثل الممكن : إنّه ناقص ، ولا يصحّ القول : بأنّ الممكن له وجود فاسد ، أو للباري أنّه وجود صحيح.

وأمّا الملاك في إطلاق كلمتي الصحيح والفاسد فهو أنّ الشيء إذا تترتّب عليه الآثار المترقّبة من نوعه يطلق عليه كلمة الصحيح ، كاللون والطعم الخاصّين في البطّيخ ـ مثلا ـ وإذا لم يترتّب عليه ذلك يطلق عليه كلمة الفاسد ، فإطلاقهما عليه ليس لكونه مركّبا ذي أجزاء قد يكون واجدها ، وقد يكون فاقدا لبعضها ، وليس لكونه أمرا بسيطا ذات مراتب متفاوتة ، فتكون موارد استعمال الصحّة والفساد غير موارد استعمال التام والناقص ، كما لا يخفى.

٢٥٥

واستشكل بأنّ الصلاة مركّبة اعتباريّة من الأجزاء والشرائط ، بل من المقولات المتباينة والمختلفة ، فلازم هذا البيان عدم صحّة إطلاق كلمتي الصحيح والفاسد عليها ، مع أنّه متداول بلحاظ واجديّتها للأجزاء والشرائط ، وفاقديّتها لبعضها.

وأمّا جوابه فأنّ الصلاة مع كونها من المركّبات الاعتباريّة كانت لها بنظر الشارع الوحدة الاعتباريّة أيضا ، ويؤيّدها تسمية الشارع عدّة من الامور باسم قواطعها كالضحك والتكلّم وأمثالهما ، ومعلوم أنّ مورد إطلاق كلمة القطع عبارة عن الشيء الذي كانت له وحدة اتّصاليّة.

ولا يتوهّم أنّ هذا الإطلاق يكون بلحاظ كون الصلاة من الأقلّ والأكثر الارتباطي ، كما إذا أمر الطبيب المريض بأكل المعجون المركّب من الأجزاء العشرة ـ مثلا ـ ويشترط بأنّه إذا فقد بعض الأجزاء لم يكن للباقي شيء من الأثر أصلا ، وكذلك في الصلاة ؛ لأنّ المفروض في الصلاة تحقّق جميع الأجزاء ، ومعه تحقّق أمر آخر باسم القاطع كالضحك مثلا ، وهذا مؤيّد لاعتبار الشارع لها وحدة اعتباريّة.

ويؤيّدها أيضا فرض بعض الروايات الصلاة بمنزلة الإحرام الصغيرة التي شروعها بتكبيرة الإحرام وختمها بالتسليم ، مثل إحرام الحجّ التي شروعها بالتلبية وختمها بالتقصير أو الحلق.

فيكون إطلاق الفاسد والصحيح عليها بلحاظ ترتّب الأثر المترقّب منها عليها وعدمه ، فإنّ الصلاة الفاقدة لبعض الأجزاء لا تكون معراجا للمؤمن وقربانا لكلّ تقي ، ولذا يطلق عليها كلمة الفاسد ، لا بلحاظ تركّبها من الأجزاء وفقدان بعضها.

٢٥٦

والحاصل : أنّ تفسير الصحّة بالتمام والفاسد بالناقص ليس بصحيح أصلا.

الأمر الثاني : أنّ الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامّين كأسماء الأجناس إن قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، أو يكون سنخ استعمالها من هذا النسخ إن لم نقل بثبوتها.

ويدلّ عليه : أوّلا : أنّ ما يتبادر إلى الذهن من سماع هذه الألفاظ هو المعنى العامّ ، مثل تبادر المعنى العامّ من لفظ الإنسان مثلا.

وثانيا : أنّ استعمالها في لسان الأدلّة بمعنى العامّ ، مثل : «الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» ، و «الصلاة معراج المؤمن» ، و «عمود الدين» ، و «الصوم جنّة من النار» ، وأمثال ذلك. ولا شكّ في أنّ الموضوع له في هذه الألفاظ هو المعنى العامّ ، ودلالتها على المعاني الكلّيّة غير قابلة للإنكار ، ولا يحتمل أن يكون استعمالها في هذه الموارد استعمالا في غير ما وضع له ، فإنّه بديهي البطلان.

واعلم أنّ هذا الأمر أساس للأمر الآتي ، فلا بدّ من ذكره ابتداء ، وتفريع البحث الآتي عليه ، ولكنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره لم يراع هذا الترتيب ، وذكره بعد البحث الآتي.

إذا عرفت هذا فنقول في مقام تصوير محلّ النزاع : إنّه إن قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة في البحث السابق وبوضع ألفاظ العبادات للصحيح هنا ، فكيف يتصوّر وضع لفظ الصلاة ـ مثلا ـ للمعنى الصحيح بنحو الوضع العامّ والموضوع له العامّ؟!

توضيح ذلك : أنّ الشارع حين وضع لفظ «الصلاة» لاحظ معنى كلّيّا ثمّ وضعه لهذا المعنى الكلّي ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه : أنّ المعنى الكلّي

٢٥٧

الصحيح الذي توجّه لحاظ الشارع إليه حين الوضع ما هو؟ هل هو عبارة عن «الصلاة» الجامعة للأجزاء والشرائط والمركّبة من أربع ركعات؟ وقلنا : إنّ الصحّة والفساد أمران إضافيّان ، فهي في حالة صحيحة وفي حالة فاسدة ، وهكذا «الصلاة» المركّبة من ركعتين صحيحة للصبح وفاسدة للظهر ـ مثلا ـ أو كانت صحيحة للظهرين للمسافر وفاسدة للحاضر.

ويمكن أن يقال : إنّ الشارع حين الوضع لاحظ مفهوم الصحيح فوضع هذا اللفظ للأركان المخصوصة الصحيحة ، فأخذ مفهوم العامّ الصحيح بعنوان الجزء أو القيد في المعنى.

ولكنّه مردود ، بأنّه إن كان المراد من الصحيح هو الصحيح بالحمل الأوّلي الذاتي الذي ملاكه الاتّحاد في المفهوم فلا دخل له في معنى «الصلاة» ؛ إذ لا ينتقل الذهن من سماع كلمة الصحيح إلى «الصلاة» وبالعكس ، مع أنّ لازم القيديّة انسباقه إلى الذهن من سماع كلمة الصلاة ، مثل : انسباق كلمة «الناطق» إلى الذهن من سماع لفظ الإنسان.

وإن كان المراد منه الصحيح بالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتّحاد في الوجود فهو مستلزم لكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا في لفظ «الصلاة» ، والمهمّ في الإشكال أنّه لا يمكن أخذ كلمة الصحيح في معنى «الصلاة» أصلا ، فإنّ الصحّة والفساد تكونان من عوارض الوجود الخارجي ؛ إذ «الصلاة» الموجودة في الخارج قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة ، ولا يمكن اتّصاف الماهيّة بهما ، فلا تكون الماهيّة الكلّيّة المتّصفة بصفة الصحّة موضوعا له للفظ «الصلاة» ، فإذا كانت الصحّة من عوارض الوجود لا يكون هذا المعنى قابلا للتصوّر في مقام الثبوت ، فضلا عن إثباته ، حتّى لو سلّمنا ما قال به المحقّق

٢٥٨

الخراساني قدس‌سره في مقام تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة ، من أنّه لا إشكال في وجوده وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره ، مثل الناهية عن الفحشاء ، والمعراجيّة للمؤمن ، فإنّ النهي عن الفحشاء والمعراجيّة للمؤمن أيضا تكونان من عوارض وجود الصلاة ؛ إذ الصلاة الموجودة في الخارج تكون ناهية عن الفحشاء ، بخلاف الماهيّة فإنّها إذا كانت في مرحلة الوجود الذهني لم تكن ناهية عن الفحشاء والمنكر.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد من الصحّة هاهنا هي الصحّة التعليقيّة لا الصحّة الفعليّة ، ولا منافاة بينها وبين الفساد ؛ إذ يمكن أن تكون الصلاة فاسدة بالفعل لفقدان بعض الأجزاء وكانت لها الصحّة التعليقيّة باعتبار أنّه لو انضمّت إليها ركعة اخرى ـ مثلا ـ كانت الصلاة صحيحة.

وفيه : أوّلا : أنّ الصحّة التعليقيّة لا تناسب العنوان المذكور في محلّ النزاع ، فإنّها ذكرت هنا في مقابل الفساد ، ويستفاد منه أنّ المراد منها هي الصحّة الفعليّة.

وثانيا : أنّ القائل بالصحيح لا يقول به ، ويشهد له كلام صاحب الكفاية بأنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة ما هو الناهي عن الفحشاء والمنكر ، ومعلوم أنّ الصحّة التعليقيّة لا تكون ناهية ، بل الناهي هي الصلاة الصحيحة بالفعل ، كما لا يخفى.

وثالثا : أنّ الصحّة التعليقيّة كالصحّة الفعليّة ، والفساد يكون من عوارض الوجود الخارجي ، فإنّ الصلاة بعد تحقّقها في الخارج تتّصف بأحدهما ، لا قبله.

والحاصل : أنّه لو كان المراد من الصحّة هي الصحّة التعليقيّة لا يندفع الإشكال.

٢٥٩

ويمكن أن يقال : إنّ الصحّة وصف من الأوصاف فلا بدّ من لحاظ موصوفها قبل الاتّصاف بها ، فلا بدّ للشارع في مقام وضع لفظ الصلاة للأركان المخصوصة الصحيحة من لحاظ الأركان المخصوصة ابتداء ، فهي تصير بسبب التصوّر موجودة ، فلا مانع بعد الوجود من وقوعها معروضة للصحّة.

وفيه : أنّ الصلاة الموجودة في الذهن لا تتّصف بالصحّة ـ كما مرّ آنفا ـ إنّما المعروض للصحّة عبارة عن الموجود الخارجي فقط ، ولكنّ المفروض فيما نحن فيه أنّ الواضع لاحظ ماهيّة كلّيّة ووضع لفظ الصلاة لها ، إلّا أنّه لا نعلم أنّ الملحوظ حين الوضع ما هو؟ هل هو عبارة عن الأركان المخصوصة أو الأركان المخصوصة الصحيحة؟ والثاني منفي بعدم اتّصاف الصلاة بالصحّة في مرتبة الماهيّة قبل تحقّقها في الخارج ، والأوّل خلاف الفرض.

فلعلّ تفسير المحقّق الخراساني قدس‌سره الصحّة بالتماميّة والفساد بالنقصان كان ناظرا إليه وتفصّيا عنه ؛ إذ التماميّة والنقصان يعرضان للماهيّة أيضا ، ولذا يصحّ القول بأنّ الماهيّة التامّة للإنسان عبارة عن الحيوان الناطق ، وأنّ الحيوان ماهيّة ناقصة له ، كالقول بأنّ الحيوان بعض ماهيّة الإنسان. فهذا المعنى مقرّب لتفسيره قدس‌سره الصحّة بالتماميّة والفساد بالنقصان ، فلا بدّ لنا من تبديل لفظي الصحيح والأعمّ في عنوان البحث بلفظي التامّ والناقص ، أو تفسيرهما بالتمام والنقصان.

الأمر الثالث : ما ذكره صاحب الكفاية في آخر البحث وكان المناسب أن يذكره هنا ، وهو : أنّ للعبادات امورا يعبّر عنها بالأجزاء والشرائط والموانع أو القواطع ، وهل الصحيح في محلّ النزاع عند القائل به عبارة عن الواجد لجميع الأجزاء والشرائط والفاقد لجميع الموانع أو القواطع ، أم يكون للصحيح في

٢٦٠