هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

إذا تعلّق التكليف بالمجمل بأنّ متعلّق التكليف هناك إنّما هو مؤدّى اللفظ ومدلوله بحسب الوضع مثلا.

ومن البيّن : عدم جريان الأصل في تعلّق الوضع بالأقلّ فكيف يحكم بأنّه الواجب.

والحاصل : انّ الحكم بكون الواجب هو الأقلّ متلازم مع الحكم بالوضع له ، إذ المفروض القطع بكون المكلّف به هو موضوع اللفظ لا غيره ، فإذا لم يثبت ذلك بالأصل لم يثبت الآخر أيضا ، لما عرفت من أنّ الحكم بوجوب الأقلّ قد يكون من جهة الحكم بكونه المراد من اللفظ ، وقد يكون من جهة أنّه المتيقّن إرادته مع الشكّ في إرادة الزائد عنه ، وما لا يجري فيه الأصل هو الأوّل ، وهو متلازم مع الوضع في المقام. وأمّا الثاني فلا دلالة فيه على ما هو المراد من اللفظ بحسب الواقع ، وإنّما يستفاد منه ما هو التكليف في ظاهر الشريعة ، ولا ربط لذلك بما وضع له اللفظ أو استعمل فيه كما لا يخفى.

وما قد يقال : من أنّه بعد ثبوت اشتغال الذمّة وحصول الإجمال في متعلّق التكليف يجب مراعاة الاحتياط لاقتضاء اليقين بالشغل اليقين بالفراغ مدفوع ، بأنّ الشغل اليقيني إنّما يحتاج إلى اليقين بالفراغ على مقدار اليقين بالاشتغال ، ولا يقين هنا بالاشتغال بما يزيد على الأقلّ حتّى يستدعي اليقين بالفراغ.

وما قد يتوهّم : من عدم جريان البيان المذكور في الوجه الأخير ، لحصول الاشتغال هناك بمؤدّى اللفظ ، ولا يقين هناك بالفراغ إلّا بالإتيان بجميع المحتملات بل ولا في الوجه الأوّل ، لدوران التكليف هناك بين أحد الوجهين ولا يحصل اليقين بالفراغ بأداء الأقلّ. غاية الأمر جريانه في الوجه الثاني ، إذ القدر المتيقّن هناك من الاشتغال بذلك الكلّي هو الأقلّ ، فينفى الزائد بالأصل ، ولا حاجة معه إلى اليقين بالفراغ مردود ، بأنّه لما كان مؤدّى اللفظ في الوجه الأخير وأحد الوجهين أو الوجوه في الوجه الثاني مبهما غير معلوم لم يحصل من العلم بتعلّق التكليف بهما إلّا اليقين بالاشتغال بالأقلّ ، إذ هو القدر الثابت من الاشتغال ،

٥٦١

والاشتغال بما يزيد عليه غير معلوم ، فيدور الأمر بين حصول الشغل وعدمه ، وقد تقدّم تقديم البراءة حتّى يتبيّن الاشتغال.

وبالجملة : ليس المقصود بيان أنّ المراد من ذلك المجمل هو الأقلّ بالخصوص ، بل المراد أنّه لا يتحصّل من التكليف بذلك المجمل علم باشتغال الذمّة بما يزيد على الأقلّ ، فينفى الزائد بالأصل ، فيكون الواجب علينا بعد دفع الزائد بالأصل هو خصوص الأقلّ فليتأمّل جيّدا. هذا بالنسبة إلى إجراء الأصل في الأجزاء.

وأمّا بالنسبة إلى الشرائط فإن قام هناك إطلاق صحّ نفي الاشتراط إذن من جهته ، ويصحّ التمسّك هناك بأصالة عدم التقييد ، ومع حصول الإجمال فلا يصحّ الاستناد في نفيه إلى أصالة البراءة ، بل لابدّ من مراعاة الاحتياط حسب ما يأتي بيانه في المقام الثاني. والقائل بجريانه هناك يقول به في المقام أيضا ، وسيأتي تفصيل القول فيه.

المقام الثاني :

فيما إذا كانت الصحّة منوطة بالاجتماع وكان انضمام كلّ جزء إلى الآخر معتبرا في تعلّق الحكم ، وحينئذ ففي الاقتصار على المتيقّن ودفع المشكوك بالأصل وعدمه وجهان.

ومن هنا وقع النزاع المعروف بين المتأخّرين في إجراء الأصل في أجزاء العبادات المجملة وشرائطها المشكوكة. فذهب جماعة منهم إلى جريان الأصل في ذلك وجعلوا إجراءه فيها كإجرائه في التكاليف المستقلّة من غير فرق. ومنعه آخرون حيث أوجبوا مراعاة الاحتياط في ذلك وحكموا بأنّ ما شكّ في جزئيّته أو شرطيّته فهو جزء وشرط ، يعنون به أنّه في حكم الجزء والشرط في توقّف الحكم بالصحّة على الإتيان به ، لا أنّه جزء أو شرط بحسب الواقع ، كما قد يتوهّم.

ولمّا لم تكن المسألة في كتب الأصحاب ما عدا جماعة من متأخّري المتأخّرين ، اختلف النسبة إليهم في المقام ، فقد عزى بعض من القائلين بالأوّل

٥٦٢

ذلك إلى ظاهر كلمات الأوائل والأواخر واستظهر نفي الخلاف فيه ، وبعض من يقول بالثاني عزاه إلى أكثر الأصحاب ، لما يرون في كلماتهم من الاستناد في ذلك إلى أصالة البراءة تارة والاحتياط اخرى. وكيف كان فالأقوى هو الثاني.

ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : أنّه إذا تعلّق الأمر بطبيعة العبادة المفروضة فقد ارتفعت به البراءة السابقة وثبت اشتغال الذمّة بها قطعا ، إلّا أنّه يدور الأمر بين الاشتغال بالطبيعة المشتملة على الأقلّ ، أو المشتملة على الأكثر ، وليست المشتملة على الأقلّ مندرجة في الحاصلة بالأكثر ، كما في مسألة الدين ، فإنّ اشتغال الذمّة هناك بالأكثر قاض باشتغالها بالأقلّ ، لعدم ارتباط هناك بين الأجزاء بخلاف المقام ، إذ المفروض ارتباط بعض الأجزاء بالبعض ، وقضاء زوال كلّ جزء منها بزوال الكلّ وكونها في حكم العدم الصرف. والقول بأنّ التكليف بالكلّ قاض بالتكليف بالجزء قطعا بخلاف العكس لا يثمر في المقام ، إذ القدر المعلوم من ذلك تعلّق التكليف التبعي بالجزء في ضمن الكلّ ، إلّا أن يتعلّق به تكليف على الإطلاق ولو انفصل عن بقيّة الأجزاء.

نعم لو قام الدليل على عدم ارتباط بين الأجزاء في التكليف وعدم اعتبار الماهيّة المجموعيّة فيه صحّ ذلك ، والمفروض في محلّ البحث قيام الدليل على العكس ، فضلا عن عدم قيامه على إطلاق التكليف. فحينئذ نقول : إنّ التكليف بالطبيعة المشتملة على الأكثر لا يقضي باشتغال الذمّة بالمشتملة على الأقلّ ، حتّى أنّه إذا أتى بالأقلّ حصل به الفراغ على حسبه ، ليدور الأمر في الباقي بين حصول التكليف به وعدمه ، ليرجّح الحكم بالبراءة وعدم التكليف بعد دوران الأمر في الباقي بين اشتغال الذمّة وبراءته ، وحصول التكليف به وعدمه، كما يقرّر ذلك فيما إذا دار التكليف بين الأقلّ والأكثر في غير المرتبط الأجزاء كما مرّ ، إذ قد عرفت أنّ التكليف بالأكثر لا يقضي باشتغال الذمّة بالأقلّ كذلك بوجه من الوجوه ، بل الإتيان به حينئذ كعدمه. فاشتغال الذمّة حينئذ دائر بين طبيعتين وجوديّتين

٥٦٣

لا يندرج أحدهما في الآخر وإن اشتمل الأكثر على أجزاء الأقلّ ، لما عرفت من عدم الملازمة بين الأمرين. فحينئذ لا وجه في إجراء أصل البراءة أو العدم في تعيين أحد الوجهين ، إذ مورد ذينك الأصلين دوران الأمر بين البراءة والشغل ووجود الشيء وعدمه ، لا ما إذا دار الأمر بين الاشتغال بأحد الأمرين أو وجود أحد الشيئين كما هو المفروض في المقام.

فإن قلت : إنّ التكليف بالأكثر في المقام قاض بالتكليف بالأقلّ في الجملة ، فيصدق ثبوت الاشتغال به على طريق اللابشرط ، وحينئذ فيدور الأمر في الزائد بين البراءة أو الشغل وحصول التكليف وعدمه فينفى بالأصل.

قلت : ليس التكليف بالأقلّ ثابتا على طريق اللابشرط ليكون ثبوت التكليف به على نحو الإطلاق ، بل ثبوته هناك على سبيل الإجمال والدوران بين كونه مطلوبا بذاته أو تبعا للكلّ في ضمنه ، فعلى الأوّل لا حاجة إلى إعمال الأصل ، وعلى الثاني لا يعقل إجراؤه فيه.

والقول بأنّ المقصود بالأصل نفي الحكم في الظاهر بعد دوران الأمر بين الثبوت وعدمه ـ وإلّا فهو في الواقع إمّا ثابت لا مسرح فيه للأصل أو منفيّ لا حاجة إليه ، فلو كان ذلك مانعا عن جريانه لما جرى في سائر المقامات ـ مدفوع ، بأنّه بعد العلم باشتغال الذمّة بمقدار مخصوص بحيث يعلم إرادته على كلّ حال لا تأمّل في إجراء الأصل فيما زاد عليه بعد عدم قيام دليل يمكن الركون إليه ، من غير فرق بين ما إذا تعلّق التكليف بمجمل وكان ذلك هو القدر المتيقّن منه ، أو بمبيّن وشكّ في تعلّق التكليف أيضا بما يزيد عليه.

وأمّا إذا لم يتعيّن القدر المذكور لتعلّق التكليف ودار الأمر بين تعلّق التكليف به بخصوصه أو بما يزيد عليه بحيث لا يكون القدر المذكور مطلوبا بنفسه أصلا بل مطلوبا بطلب الكلّ في ضمنه فلا ، لدوران التكليف إذن بين طبيعتين مختلفتين.

غاية الأمر أن يكون أحدهما أقلّ جزء من الآخر ، فإنّ ذلك بمجرّده لا يقضى بترجيح الأقلّ كما لا يخفى ، ومداخلة أجزاء أحدهما في الآخر غير مجد فيه بعد

٥٦٤

فرض عدم قضاء الأمر بالكلّ بمطلوبيّة الجزء إلّا في ضمنه ، فلا يقين إذن بإرادة الأقلّ لو اتي به على انفراده كما في غير المشاركين في الجزء.

والحاصل : أنّ الأصل إنّما يقضي بنفي التكليف لا ثبوته ، وليس في الفرض المذكور دليل على ثبوت التكليف بالأقلّ حتّى ينفى ما عداه بالأصل ، لما عرفت من الإجمال. وبملاحظة ما قرّرنا يظهر ضعف ما يتخيّل في المقام : من أنّ كلّا من إثبات الأجزاء ونفيها إنّما حصل بدليل شرعي ، لقضاء الأمر بالمجمل بوجوب ما علم من الأجزاء ، واقتضاء الأصل نفي الباقي ، فيتعيّن القدر المتيقّن للاشتغال.

الثاني : أنّه لا شكّ في اشتغال ذمّة المكلّف بتلك العبادة المعيّنة ، وحصول البراءة بفعل الأقلّ غير معلوم ، لاحتمال الاشتغال بالأكثر ، فيستصحب الشغل إلى أن يتبيّن الفراغ.

فإن قلت : إنّ المعلوم إنّما هو اشتغال الذمّة في الجملة وكونه بما يزيد على الأقلّ غير معلوم ، فيؤخذ به وينفى الباقي بالأصل.

قلت : إنّما يتمّ ذلك إذا كان اشتغال الذمّة بالأقلّ معلوما وليس كذلك ، بل هو أيضا غير معلوم ، إذ المفروض ارتباط الأجزاء بعضها بالبعض ، فالقدر المعلوم هو اشتغال الذمّة بالأقلّ إمّا استقلالا أو حال كونه في ضمن الأكثر تبعا له ، وذلك لا يقضي بالقطع بالاشتغال به مع انفصاله عن الأجزاء المشكوكة لما عرفت من إجمال التكليف لا إطلاقه.

والحاصل : أنّ حصول الامتثال بالإتيان بالأقلّ غير معلوم مطلقا لا إجمالا ولا تفصيلا ولا بعضا ولا كلّا ، فكيف يمكن العلم بحصول البراءة من التكليف المفروض بأدائه.

وبذلك يظهر ضعف ما يقال : من أنّ استصحاب الشغل إنّما ينهض حجّة إلى أن يقوم دليل شرعي على خلافه ، إذ الحكم بالاستصحاب مغيّا بقيام الدليل ، فلو قام هناك دليل ولو من أضعف الأدلّة كان حاكما على الاستصحاب ، إذ على ذلك لا معارضة في الحقيقة بين الدليلين ، فحينئذ نقول : إنّ الاشتغال بالأقلّ معلوم بالنصّ

٥٦٥

والإجماع ـ مثلا ـ وتعلّق التكليف بالزائد غير معلوم ، فينفى بأصل البراءة وأصالة العدم ، فيكون المكلّف به في ظاهر الشريعة بملاحظة الأدلّة المذكورة هو الأقلّ ، فيكون ذلك رافعا لحكم الاستصحاب. والوجه في تضعيفه ما عرفت من إجمال التكليف ، فلا علم بإرادة الأقلّ على الجهة الجامعة بين الوجهين إلّا حال انضمامه إلى الأكثر ، إذ لو كان التكليف متعلّقا بالأقلّ كان مرادا بالخصوص ، ولو كان متعلّقا بالأكثر كان مرادا في ضمنه ، فهو حينئذ مراد قطعا ، وأمّا إذا انفرد من الباقي فلا علم بإرادته أصلا حتّى ينفى الباقي بالأصل.

والعلم بالاشتغال بالقدر المشترك بين الانفراد والانضمام إلى الباقي غير نافع في المقام، إذ المعلوم في الفرض المذكور أمر مبهم اعتباري لا يقضي بوجوبه على الانفراد ولا الانضمام ، إذ المفروض انتفاء العلم بتعلّقه بالبعض أو الكلّ من حيث هو كلّ.

غاية الأمر : أن يدلّ على وجوبه حال الانضمام لثبوت أحد الوجوبين لمرّة (١) قطعا كما بيّنا ، فظهر أنّه لا يثبت هناك التكليف بالأقلّ حتّى ينفى الزائد بالأصل.

ومن البيّن : أنّ كلّا من أصالة البراءة والعدم إنّما ينفي التكليف خاصّة وليس من شأنه الإثبات ، فإجراء الأصل في المقام نظير إجرائه فيما إذا كانت (٢) الإتيان غير متشاركين في الجزء مع زيادة التركيب في أحدهما ، أو كانت القيود الوجوديّة في أحدهما أكثر من الآخر ، كما إذا علم تكليفه بشراء شيء ودار بين أن يكون حيوانا أو جمادا فقال : إنّ اعتبار الجسميّة في الواجب معلوم ، واعتبار ما يزيد عليه ـ من الحساسيّة والتحرّك بالإرادة ـ غير معلوم فينفى بالأصل ، ومن الواضح فساده.

الثالث : أنّه بعد الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة في الصورة المفروضة يتوقّف العلم بأداء الواجب على الإتيان بالمشكوك فيه ، فهو مقدّمة للعلم بفعل الواجب.

وقد تقرّر في محلّه وجوب مقدّمة الواجب مطلقا ، سواء كان من مقدّمات

__________________

(١) كذا وجدت الكلمة ولم نحقّقها.

(٢) الظاهر كان الأمران.

٥٦٦

العلم ، أو الوجود ، وقد جرى عليه الأصحاب في عدّة من المقامات ، كوجوب الصلاة في الثوبين المشتبهين ، ولزوم تكرار الوضوء في المشتبه بالمضاف ، والصلاة إلى الجوانب الأربع عند اشتباه القبلة ، ووجوب ترك الوطء عند اشتباه الزوجة بالأجنبيّة ، ولزوم التحرّز عن الحلال المشتبه بالحرام ، إلى غير ذلك من المقامات.

وبتقرير آخر : إذا توقّف العلم بأداء التكليف على الإتيان بما شكّ فيه حكم العقل بلزوم الإتيان به وقبح تركه ، دفعا للخوف من الضرر المترتّب على ترك الواجب ، فهو وإن لم يكن في الواقع جزء من أجزاء الصلاة أو شرطا من شروطه إلّا أنّ هذه الجهة والملاحظة المذكورة قد قضت بحسنه ووجوب الإتيان به.

ألا ترى : أنّ المولى إذا أمر عبده بشيء ، وأوعده على تركه ، وحذّره عن مخالفته ، ثمّ اشتبه المطلوب على العبد ، ودار بين شيئين ، ولم يكن له سبيل إلى التعيين ، ولا جهة مانعة عن الإتيان بالأمرين ، حكم العقلاء بوجوب الإتيان بهما ليحصل له القطع بأداء ما أراده المولى ، ولم يكتفوا به بمجرّد احتمال الامتثال الحاصل بفعل أحدهما ، حتّى أنّه إذا قصّر في ذلك كان مذموما عندهم ، وصحّ للمولى عقوبته مع مصادفته للواقع وعدمها ، إلّا أنّ الفرق بينهما أنّه مع انتفاء المصادفة يعاقب على ترك الواجب ، ومع حصولها على التجرّي على الترك الحاصل من الاكتفاء بأحدهما. ولا فرق في ذلك بين دوران الواجب في نفسه بين الأمرين أو تعيّنه عنده وحصول الترديد المفروض في الموضوع ، لجريان المقدّمة المذكورة في المقامين ، واتّحاد الجهة القاضية بوجوب الإتيان بالأمرين في الصورتين.

ومن غريب ما وقع في المقام ما صدر عن بعض الأعلام من ادّعاء الفرق والبناء على التفصيل حيث قال ـ بعد منع وجوب مقدّمة العلم مطلقا ـ فإنّا وإن قلنا بوجوب المقدّمة فقد نتوقّف في إيجاب هذا القسم ، وذلك لأنّ أقصى ما استنهضناه هناك للوجوب هو أنّا نعلم من حال من أمر بشيء الأمر بجميع ما يتوقّف عليه

٥٦٧

ذلك الشيء ورجعنا في ذلك إلى العرف ، ولمّا رجعنا في مقدّمة العلم إلى حال الشارع في التكاليف لم نقطع بأنّه ممّا يوجب في الأمر الإتيان بكلّ ما وقع فيه الاشتباه ، ولا في النهي تركه ، بل نجيز أن يقنع هنا بأحد الأمرين ، فإنّا نفرق بين الشاهد والغائب من حيث إنّ المصلحة في الشاهد تعود إليه بخلاف الغائب ، فإنّها تعود إلى المأمور ، فلا يبعد أن يقنع منه عند الاشتباه بالتكليف بأحد الأمرين ، ولا أقلّ من الجواز. وحينئذ فنمنع وجوب ما وقع فيه الاشتباه متعلّقين بأصل البراءة ، وهذا بخلاف ما إذا كان المكلّف به معلوما ثمّ عرض الاشتباه ولا يتمّ إلّا بالضميمة ، كما في غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين وستر العورة ونحو ذلك ، فإنّه ممّا علم فيه الشغل بشيء بعينه ولم يقع الاشتباه في التكليف انتهى. وضعفه ظاهر من وجوه :

أحدها : أنّه كما يعقل من حال الأمر وجوب الإتيان بجميع ما يتوقّف عليه ذلك الفعل كذا يعقل منه وجوب العلم والاطمئنان بأداء ما هو الواجب ، إذ الاكتفاء بمجرّد احتمال الأداء تفويت للمصلحة المترتّبة عليه ، إذ الاحتمال قد يطابق الواقع وقد لا يطابقه، من غير فرق بين ما يكون المصلحة عائدة إلى الآمر أو المأمور ، كيف وقد أقرّ به في الصورة الثانية وقد مثّله بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس وستر العورة ، مع أنّه ليس ممّا يتوقّف عليه أداء الواجب.

ثانيها : أنّ الدليل على وجوب المقدّمة ليس منحصرا في المذكور فلو سلّم عدم جريانه في المقام كان ما ذكرناه من حكم العقل بلزوم التحرّز عند خوف الضرر كافيا في المقام ، ومجرّد تجويز اكتفاء الشارع بأحد الأمرين لا يوجب زوال الخوف وهو ظاهر.

ثالثها : أنّه مع الغضّ عمّا ذكرناه أيّ فارق بين ما إذا دار نفس التكليف بين شيئين أو وقع هناك شكّ في الموضوع؟ إذ كما يحتمل اكتفاء الشرع هناك بأحد الأمرين يحتمل في المقام ، وتعيّن نفس المكلّف به في الثاني لا يقضي بوجوب الجميع ، إذ الاكتفاء المذكور إنّما هو بحسب ظاهر التكليف في المقامين ، فلا يمكن

٥٦٨

الحكم في الأوّل بكون أحد الأمرين هو عين الواجب بحسب الواقع ، فغاية ما يقضي به الاحتمال المذكور هو الاكتفاء به في الظاهر ، وهو جار في المقامين. ولو تمسّك فيه باستصحاب الشغل جرى في الأوّل أيضا ، إذ مع الإتيان بأحد الأمرين لا يحصل اليقين بالفراغ.

رابعها : أنّ ما ذكره من الفرق بين الشاهد والغائب غير واضح ، إذ من الواضح أنّ الغرض من ذلك عدم ثبوت المصلحة سواء كانت عائدة إلى المكلّف أو المكلّف بل ربما كان الثاني أقبح ، إذ ملاحظة حال النفس في ذلك آكد.

حجّة القائل بإجراء الأصل في المجملات وجوه :

الأوّل : أنّ المناط في حجّية أصالة البراءة وجواز الرجوع إليه في نفي التكاليف الشرعيّة حاصل في ذلك من غير تفاوت ، فما قضى بحجّيتها في التكاليف المستقلّة قاض بها في المقام ، وذلك لأنّ المجوّز في العمل بالأصل المذكور في سائر المقامات هو انسداد باب العلم مع بقاء التكليف بالضرورة وقبح التكليف بما لا يطاق ، فإنّ المقدّمات المذكورة قد جوّزت لنا العمل بالظنّ في الأحكام الشرعية بعد التفحّص والتجسّس من الأدلّة ، وحصول الظنّ بسبب رجحان الدليل على المعارضات ، أو بسبب أصالة عدم معارض آخر.

ومن البيّن : أنّ ذلك كما يجري في نفس الأحكام الشرعيّة كذلك يجري في ماهيّة العبادات المجملة. وكما أنّه لا يجوز الأخذ بالظنّ في نفس الأحكام الشرعيّة قبل بذل الوسع في ملاحظة الأدلّة والتفحّص والتفتيش عن كيفيّات الدلالة وتحصيل ما هو أقوى الظنون الممكنة كذلك الحال في المقام. وكما أنّه يجوز الأخذ بالأصل هناك بعد الملاحظة المذكورة فكذا في المقام من غير تفاوت أصلا.

وما قد يقال : من أنّ العلم باشتغال الذمّة بالعبادة المجملة في المقام قاطع لأصالة البراءة وأصل العدم السابق ـ فيكون الأصل فيه بقاء الشغل حتّى يثبت الفراغ ـ فهو منقوض بالأحكام المستقلّة ، فإنّ اشتغال الذمّة بتحصيل حقيقة كلّ

٥٦٩

واحد من الأحكام الّذي علم إجمالا بالضرورة من الدين قاطع لذلك ، وثبوت حكم إجمالي بخصوص كلّ مسألة من تلك المسائل رافع لحكم الأصل ، للعلم بثبوت ذلك الحكم. وكما أنّه بعد التفحّص عن الأدلّة وبذل الوسع في ملاحظة الضوابط الشرعيّة يرجع في الثاني إلى أصالة البراءة ، لما عرفت من قضاء المقدّمات المذكورة بالرجوع إلى الظنّ بعد انسداد طريق العلم فكذا في الأوّل ، لجريان المقدّمات المذكورة فيها بعينها. فإذا حصل لنا من جهة الأخبار أو الإجماعات المنقولة أو المحصّلة ـ الحاصلة من ملاحظة حال السلف ـ أنّ ماهيّة الصلاة لابدّ فيها من النيّة والتكبير والقراءة والركوع والسجود وغيرها من الأجزاء المعلومة ، وشككنا في وجوب السورة وتعارضت فيه الأدلّة وتعادلت ، أو لم يقم هناك دليل على الوجوب بعد بذل الوسع ، وبقي عندنا احتمال الوجوب خاليا عن الدليل بحسب الظاهر ، متوقّفا على قيام دليل غير واصل إلينا ، فحينئذ يصحّ لنا نفيه بأصل البراءة وأصالة عدم الوجوب ، فإنّه يفيد وجوب الظنّ بالعدم ، ويحصل من مجموع المذكورات الظنّ بأنّ ماهيّة العبادة هو ما ذكرنا لا غيرها.

الثاني : أنّ من الأدلّة على حجّية أصالة البراءة هو استصحاب البراءة القديمة ، وهو بعينه جار في المقام ، إذ من البيّن أنّ التكليف بشيء ذي أجزاء تكليف في الحقيقة بأجزائه وإيجاب لها ، فإذا قال : «صلّ» وكانت الصلاة مركّبة من عشرين جزء كان ذلك تكليفا وإيجابا للإتيان بتلك الأجزاء ، وإلزاما للمكلّف بفعلها. فنقول : إذا تعلّق التكليف بمجمل وحصّلنا بعد الفحص عن أجزائه وشرائطه عدّة امور ولم نجد في الأدلّة ما يفيد اعتبار غيرها فإنّ لنا أن نقول : إنّه قد تعلّق التكليف بتلك الأجزاء يقينا وقد حصل الشكّ في تعلّقه بما يزيد عليها ، وقضيّة استصحاب البراءة السابقة البقاء على البراءة بالنسبة إلى تلك الزيادة ، فلا نخرج عن مقتضى البراءة القديمة إلّا بمقدار ما حصل من العلم بالتكليف ، فالاستصحاب المذكور دليل شرعي على نفي غيرها من الأجزاء والشرائط ، فيكون إثبات كلّ من الأجزاء والشرائط ونفيه حاصلا من دليل شرعي.

٥٧٠

والقول بأنّه مع تعلّق التكليف بالمجمل والشكّ في حصوله يستصحب الشغل حتّى يتبيّن الفراغ مدفوع ، بأنّه لا يقين بالاشتغال بما يزيد على الأجزاء والشرائط المعلومة.

وما يقال : من أنّ ذلك إنّما يتمّ مع عدم ارتباط بعض الأجزاء بالبعض وأمّا معه فلا يقين بالاشتغال بخصوص المعلوم ـ لاحتمال تعلّقه بالمجموع المركّب منها ومن غيرها ، وبعبارة اخرى العلم بحصول التكليف بها بشرط شيء لا يقضي بالعلم بالتكليف بها بشرط لا كما هو المفروض ـ مدفوع ، بأنّه إذا تعلّق التكليف بالمجموع المركّب فقد تعلّق بالأجزاء المذكورة ، ضرورة أنّ التكليف بالمركّب تكليف بأجزائه ، فإذا اندفع التكليف بالزائد من جهة الأصل تعيّن المعلوم لتعلّق التكليف به.

وما يتوهّم : من أنّ تعلّق التكليف بالخصوصيّة مخالف للأصل أيضا بيّن الاندفاع ، للعلم بتعلّق التكليف به في الجملة قطعا.

غاية الأمر حصول الشكّ في انضمام الغير إليه وعدمه ، فبعد نفي الغير بالأصل ينحصر الأمر في التكليف به ، وهو من لوازم النفي المذكور ومرجعه إلى أمر عدمي.

ومع الغضّ عنه فنقول : إنّ وجوب الإتيان بالأجزاء والشرائط المعلومة ممّا لا خلاف فيه بين الفريقين ، إنّما الكلام في وجوب الإتيان بالمشكوك فيه وعدمه ، والقائل بوجوب الاحتياط يقول به ونحن ننفيه بالأصل المذكور.

الثالث : قد بيّنا أنّ الأصل فراغ الذمّة والحكم ببرائتها حتّى يتبيّن الاشتغال ، فما لم يحصل العلم أو الظنّ المعتبر بحصول الشغل لم يحكم به ، وكذا بعد حصول العلم بالشغل لا يحكم بالبراءة ما لم يتبيّن الفراغ.

فنقول في المقام : إنّ القدر الثابت عندنا في التكاليف المتعلّقة بالمجملات هو تكليفنا بما ظهر أنّه صلاة أو صوم ـ مثلا ـ إمّا بالعلم أو الظنّ الاجتهادي ، ولم يثبت اشتغالنا بما هو صلاة في نفس الأمر والواقع.

٥٧١

والقول بأنّ الألفاظ موضوعة بإزاء الامور الواقعيّة فقضيّة تعلّق التكليف بها تعلّقه بالامور الواقعيّة ، مدفوع.

أوّلا : بأنّ تلك الخطابات غير متوجّهة إلينا حتّى نرجع فيها إلى ظواهر الألفاظ لو سلّمنا ظهورها فيها ، وإنّما المرجع في المقام هو الإجماع على الاشتراك ولم يثبت إلّا بمقدار ما أمكننا معرفته علما أو ظنّا ، لاستحالة التكليف بالمحال في بعضها ولزوم العسر والحرج المنفي في أكثرها.

وثانيا : بأنّ الألفاظ وإن كانت موضوعة بإزاء الامور الواقعيّة إلّا أنّ الخطابات الشرعيّة واردة على طريق المكالمات العرفيّة ، ومن الظاهر أنّهم يكتفون بظاهر أفهام المخاطبين ، فلا يجب على الشارع أن يتفحّص عن المخاطب أنّه هل فهم المراد الواقعي أو لا ، فإنّه مع عدم إمكانه واقعا لأدائه إلى التسلسل لم يكن بناء الشرع عليه ، مع ما يرون من اشتباه المخاطبين في الفهم كما يظهر من ملاحظة الأخبار.

فظهر أنّهم كانوا يكتفون بمجرّد ظهور المراد والظنّ به ، فلم يعلم من الخطابات المتوجّهة إلى المشافهين إلّا تكليفهم بما بيّنوه لهم وأعلموهم أنّه الصلاة ، أو أمكنهم معرفة أنّه الصلاة ، ولم يظهر أنّ الخطابات المتوجّهة إليهم كان خطابا بما في نفس الأمر مع عدم علم المخاطبين ، حتّى يلزمنا ذلك من جهة الإجماع على الاشتراك. فمحصّل الكلام : أنّه لم يثبت حصول الاشتغال ووقوع التكليف إلّا بمقدار ما دلّ عليه الدليل عندنا إمّا بطريق العلم أو الظنّ المعتبر ، وما زاد عليه منفيّ بالأصل. فالقول بأنّه بعد حصول الاشتغال لابدّ من اليقين بالفراغ مدفوع ، بأنّ المتيقّن من الاشتغال ليس إلّا مقدار ما قام الدليل عليه ، فينفى غيره بالأصل ، فإنّ اعتبار كلّ جزء أو شرط تكليف زائد ، ولذا يعبّر عنها بالأوامر والنواهي في الغالب كسائر التكاليف.

الرابع : الأخبار الواردة في المقام الدالّة على رفع التكليف بغير المعلوم وأن لا تكليف إلّا بعد البيان ممّا تقدّمت الإشارة إلى جملة منها ، فإنّها شاملة لمحلّ

٥٧٢

الكلام ، وبعد دلالتها على ارتفاع التكليف بها يتعيّن التكليف بالباقي ، فيكون المستند في حصر الأجزاء والشرائط والمعرفة بها إثباتا ونفيا هو التوقيف من الشرع ، أمّا إثباتا فظاهر ، وأمّا نفيا فلما عرفت من الاحتجاج عليه بالأخبار المذكورة ، فتكون تلك الأدلّة بعد انضمامها إلى هذه الأخبار مبيّنا لحقيقة تلك المجملات.

غاية الأمر أن يكون ذلك بيانا ظاهريّا كاشفا عمّا تعلّق به التكليف في ظاهر الشريعة وإن لم يكن كذلك بحسب الواقع ، كما هو قضيّة أصالة البراءة في سائر المقامات.

فإن قلت : بعد فرض تعلّق الأمر بالمجمل وعدم انكشاف حقيقته من الأخبار المبيّنة لها يكون المأمور به مجهولا ، لأداء جهالة الجزء إلى جهالة الكلّ ، وقضيّة الأخبار المذكورة سقوط التكليف بالمجهول.

قلت : قد قام الإجماع من الكلّ على عدم سقوط الواجب من أصله ووجوب الإتيان بالأجزاء المعلومة قطعا ، وإنّما الخلاف في لزوم الإتيان بالمحتملات وعدمه ، وقد عرفت أنّ قضيّة تلك الروايات السقوط.

الخامس : أنّ أصل العدم حجّة كافية في المقام مع قطع النظر عن أصالة البراءة ، فإنّ الأصل في المركّب عدم تركّبه من الأجزاء الزائدة وعدم اعتبار الشروط الزائدة فيه ، وأصل العدم حجّة معروفة جروا عليه في كثير من المقامات.

السادس : القاعدة المعروفة عندهم من الأخذ بالأقلّ عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر ، وهي جارية في المقام ، وقد جروا عليها في مواضع كثيرة.

السابع : أنّه كيف يصحّ الحكم بوجوب ما احتمل جزئيّته أو شرطيّته وقد قامت الأدلّة على لزوم استنباط الأحكام الشرعيّة من مداركها المعيّنة ، وعدم جواز الأخذ بمجرّد الاحتمالات القائمة من دون استناد فيه إلى الأدلّة الشرعيّة ، من ظنون مخصوصة ، أو مطلق ما أفاد الظنّ على القول بحجّيته ، ومع البناء على الجزئيّة أو الشرطيّة فيما احتمل جزئيّته أو شرطيّته يرجع الأمر إلى الاكتفاء في

٥٧٣

إثبات مثل ذلك بمجرّد الاحتمال ، وهو خلاف ما قضت به الأدلّة ، ودلّت عليه النصوص القاطعة ، بل وما هو المعلوم ضرورة من الشريعة المطهّرة.

ثمّ إنّ هاهنا مسلكا آخر في الاحتجاج مبنيّا على ادّعاء نفي الإجمال في تلك الماهيّات وورود التكليف بها على حسب البيان ، وهذه الطريقة وإن كانت خارجة عن محلّ الكلام ، إذ المقصود هنا إجراء الأصل مع الإجمال ليكون الأصل المذكور من جملة ما يوجب بيان ذلك الإجمال بحسب الظاهر ، إلّا أنّه مشارك لما ذكرنا في الثمرة ، ولذا ذكرناه في طيّ أدلّة المسألة.

وقد احتجّوا لذلك بوجوه :

الأوّل : أنّ التكليف بالمجمل وإن اقتضى بحسب اللغة التكليف بما عليه ذلك المجمل في نفس الأمر فيجب الإتيان بجميع أجزائه الواقعيّة ، إذ المفروض تعلّق الأمر بتمام تلك الماهيّة ، إلّا أنّ أهل العرف لا يفهمون من ذلك إلّا التكليف بما وصل إلى المكلّف وظهر لديه وقامت الأدلّة عليه ، لا بكلّ ما يتوهّم دخوله فيه واندراجه فيما تعلّق الأمر به. ألا ترى أنّه لو قال «أكرم كلّ عالم في البلد ، وتصدّق على كلّ مسكين فيه ، وأهن كلّ فاسق منهم» لم يفهم من ذلك عرفا إلّا تعلّق الأحكام المذكورة بمن علم اتّصافه بإحدى تلك الصفات المذكورة بعد بذل الوسع في الاستعلام وتبيّن الحال ، فلا يجب إيقاعها بالنسبة إلى كلّ من يحتمل اندراجه في أحد المذكورات لما يتوهم من لزوم الأخذ بيقين البراءة بعد اليقين بالشغل فلا تكليف بها إلّا على النحو المذكور ، والمفروض الإتيان بها كذلك وهو قاض بحصول الأجزاء والامتثال ، ولا يلزم من ذلك دخول العلم في مدلول الألفاظ ، بل لا يوافقه أيضا في الثمرة ، لوضوح وجوب الاستعلام في المقام بخلاف ما لو تعلّق الحكم بالمعلوم ، وإنّما ذلك رجوع إلى العرف في تقييد ذلك الإطلاق حسب ما ذكر.

الثاني : أنّ قضيّة القاعدة في تلك الألفاظ المجملة هو الحمل على المعاني الشرعيّة ، إذ لو قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة فلا كلام ، وعلى القول بعدمه

٥٧٤

فالمفروض قيام الدليل على إرادة المعاني الشرعيّة وإلّا فلا إجمال في معانيها اللغويّة ، والمعاني الشرعيّة ليست إلّا ما صار اللفظ حقيقة فيها عند المتشرّعة كما هو معلوم من ملاحظة موضع النزاع في الحقيقة الشرعيّة ، وحينئذ فالمرجع في تعيين المعاني الشرعيّة إلى عرف المتشرّعة، ولا إجمال في فهم العرف من تلك الألفاظ ، لوضوح اشتهار المعاني الشرعيّة وبلوغها إلى حدّ الحقيقة.

ومن الواضح : ظهور المعاني الحقيقيّة ونفيها عند أرباب الاصطلاح ، فما ينصرف إلى أذهانهم من الأجزاء والشرائط هو المعنى الشرعي الموضوع بإزائه على الأوّل ، أو المراد منه بعد قيام القرينة الصارفة على الثاني ، فإذا شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته يرجع فيه إلى عرف المتشرّعة ، كما هو القاعدة في معرفة سائر الأوضاع الخاصّة والعامّة.

الثالث : أنّ البيان حاصل بما تلقّيناه من حملة الشريعة ورواة الأحكام الشرعيّة بعد بذل وسعهم ووسعنا فيه ، فإنّ العادة قاضية في ذلك بعد البحث والتفتيش على الأدلّة بالعثور على الحقيقة ، كيف ولو كان هناك شيء آخر غير ما ثبت وظهر من الأجزاء والشرائط لبيّنه النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم ، إذ ليس بعث الأنبياء ونصب الأوصياء إلّا لتعليم الأحكام وإرشاد الأنام ، وليس ذلك حاصلا بمجرّد إلقاء المجملات ، وحكم الناس بالرجوع إلى الاحتياط ، فإنّ ذلك معلوم من ملاحظة حال السلف ، ولو ورد هناك شيء من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام لذكره الحملة ، وأشاروا إليه ، وبيّنوا الأدلّة القائمة عليه ، مع ما هو معلوم من حرصهم على بيان الأحكام وبذل وسعهم في إرشاد الأنام ، فلو كان هناك بيان من الشرع لما بقي في الخفاء ولاتضحّ كمال الوضوح والجلاء ، لما فيه من عموم البلوى ، فلا عبرة إذن بما قد يطرء من الاحتمالات وما قد يتخيّل هناك من الإشكالات. كيف والأمر في تعرّف معاني الألفاظ موكول إلى الظنّ ، كما هو معلوم من الطريقة الجارية في تعريف الحقائق اللغويّة والعرفيّة وحمل الألفاظ على معانيها الظاهرة ، ومن البيّن حصول الظنّ بعد ملاحظة ما قرّرناه سيّما في معظم العبادات ، فإنّها تعمّ بها البليّة ويعمّ الحكم فيها معظم الامّة كما ذكرنا.

٥٧٥

الرابع : انّ الألفاظ الدالة على العبادات المفروضة (١) أسامي للأعمّ من الصحيحة والفاسدة كما قرّر في محلّه ، فبعد تحصيل المعيار في التسمية ينفى غيره بالأصل حتّى يقوم دليل على اعتباره ، ولا ريب أنّ الواجبات الإجماعيّة وما قام عليها الأدلّة الشرعيّة من الأجزاء والشروط المرعيّة كافية في حصول التسمية ، فيمكن إجراء الأصل في جميع ما تعلّق الشكّ به.

الخامس : أنّ التكاليف الشرعيّة من بدو الشريعة ما كانت موضوعة إلّا على حسب البيان ، ألا ترى أنّهم لو كلّفوا بالصلاة وبيّن لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة من أجزائه وشرائطه من غير تصريح منه بالحصر في المذكور ، وقام هناك احتمال أن يكون جزء آخر وشرط آخر ، وحضر وقت الحاجة ما كانوا ليحكموا بوجوب الاحتياط ، بل كان منفيّا بحكم الأصل ، إذ لو كان هناك جزء أو شرط آخر لبيّنه الشرع وإذ لا بيان فلا تكليف ، لوضوح أنّ وضع الشريعة وبعث الرسل والحجج إلى الخليقة ليس إلّا بيان التكاليف الشرعيّة ، وإتمام الحجّة على الرعيّة ، ولم يجعل البناء على الاحتياط من وجوه البيان ليترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان الواجبات ويحيل الناس إلى الاحتياط كما هو واضح من ملاحظة الطريقة الجارية عند الصحابة. وحيث عرفت أنّ بناء الشرع على كون التكليف مبنيّا على البيان دون البناء على الاحتياط يجري الحكم بالنسبة إلى سائر الأعصار والأمصار ، لاتّحاد المناط في الكلّ ، بل عليه جرت الطريقة في الجميع.

قال بعض القائلين بإجراء الأصل في المقام : ليت شعري كيف كان في مبادئ التكليف ولا سيّما بالنسبة إلى النائين؟ أو ليس إنّما كان يرد عليهم شيئا فشيئا ، امروا بركعتين فكان التكليف بهما ، ثمّ امروا بآخرين فكان بأربع ، وهكذا ، لا يعرفون إلّا ما يرد عليهم ، وإن أجازوا أن يكون قد اوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء آخر ، أو ورد أمر ولم تأتهم بها الرسل أتراك توجب عليهم الإتيان بكلّ ما أوحاه أو توهّموه لمّا قيل لهم أوّلا أقيموا الصلاة إنّ هذا لهو التشريع انتهى.

__________________

(١) المعروفة ، خ ل.

٥٧٦

فهذه جملة ما يتخيّل من الوجوه لإجراء الأصل في ماهيّة العبادة ، وهي بضميمة الوجوه المتقدّمة على هذه ترتقى إلى اثنى عشر وجها ، ولا يذهب عليك وهن الجميع.

أمّا الأوّل : فبأنّ حجّية أصالة البراءة ليست مبنيّة على الظنّ ، فضلا عن البناء على أصالة الحجّية فيه ، بل الغالب في موارد الاحتجاج به عدم حصول الظنّ منها. ولو فرض حصول ظنّ منها في بعض المقامات فذلك من المقارنات الاتّفاقية لم يقم دليل على حجّيته ، ولذا لا يكون قابلا لمعارضة شيء من الأدلّة. ولو كانت حجّيتها من جهة الظنّ كانت كباقي الأدلّة يراعى في الترجيح بينها جانب القوّة مع أنّها ليست كذلك.

والحاصل : أنّ أصالة البراءة قاعدة مستفادة من العقل والنقل كما مرّ القول فيه في نفي الحكم ، والحكم ببراءة الذمّة مع عدم قيام شيء من الأدلّة على ثبوت شيء من التكاليف الشرعيّة ، فعلى القول باعتبار الظنون المخصوصة إنّما تنهض حجّة مع عدم حصول شيء من تلك الظنون على ثبوت التكليف ، ومع البناء على أصالة حجّية الظنّ إنّما يصحّ الاستناد إليها مع انتفاء مطلق الظنّ بثبوت الحكم ، فهي نافية للحكم إلّا فيما دلّ الدليل فيه على الثبوت ، وليست حجّيتها مبنيّة على الظنّ بالنفي كما عرفت في وجوه الاحتجاج عليها ، ويدلّ عليه ملاحظة إجرائها في سائر مواردها ، فهي قاعدة في مقابلة قاعدة الظنّ فيما إذا لم يقم هناك دليل ظنّي على النقل مطلقا على القول بأصالة حجّية الظنّ ، أو ظنّ مخصوص على القول الآخر ، وإنّما لم يجروا عليه أوّلا من جهة لزوم الخروج عن الدين حسب ما قرّر في الاحتجاج على أصالة الظنّ.

إذا عرفت ذلك ظهر ضعف الاحتجاج المذكور ، لظهور فساد ابتنائه على أصالة حجّية الظنّ وإذا بطل كونه المناط في حجّية الأصل المذكور لم يصحّ الحكم بالحجّية في المقام من جهة جريان المناط المذكور فيه ، بل الأمر فيه بالعكس ، إذ بعد فرض اشتغال الذمّة بالمجمل ينبغي استصحاب ذلك الشغل حسب ما مرّ.

٥٧٧

نعم على القول بأصالة حجّية الظنّ لو فرض حصول ظنّ من الأصل المذكور في المقام أمكن القول بحجّيته ، ويراعى فيه حينئذ قوّة الظنّ الحاصل منه بالنسبة إلى ما عرفت من الاستصحاب ، فإن رجّحت عليه صحّ الاستناد إليه. وهو كما ترى وجه جديد لم يعلم ذهاب أحد إليه ، بل ظاهرهم الإطباق على خلافه.

ثمّ ما ذكر في دفع ما اورد عليه ـ بانقطاع أصالة البراءة بحصول اليقين بالاشتغال فيستصحب الشغل حتّى نعلم بالفراغ ـ من النقض بسائر التكاليف المتعلّقة إذا شكّ فيها نظرا إلى حصول العلم إجمالا بثبوت حكم خاصّ بالنسبة إلى خصوص كلّ مقام واشتغال الذمّة بتحصيل حقيقة تلك الأحكام بيّن الاندفاع ، لوضوح الفرق بين المقامين ، مع ما في الكلام المذكور من الإبهام.

فإنّه لو اريد به اشتغال الذمّة بمعرفة كلّ حكم حكم وتعلّق التكليف بالعلم بها ولا يحصل بمجرّد الأصل المذكور فهو بيّن الفساد ، إذ لسنا مكلّفين في معرفة الأحكام إلّا بما دلّت عليه الأدلّة ونهضت عليه الشواهد الشرعيّة ، ومع عدمها يبنى على الاحتياط أو أصالة البراءة ، حسب ما ظهر من حكم العقل والشرع به ، وكيف يعقل تكليفنا بتحصيل حقائق الأحكام الواقعيّة مع انسداد الطريق إليها في الغالب ، ولا يمكن الوصول إليها ، لا من أصالة البراءة ولا من البناء على الاحتياط ، إذ ليس شيء منهما طريقا لمعرفة ما هو الواقع. وغاية ما يحصل من الاحتياط العلم بفراغ الذمّة ، إمّا لفراغها من أصلها ، أو للإتيان بما اشتغلت به ، وأين ذلك من معرفة حقائق الأحكام المتعلّقة.

وإن اريد به اشتغال الذمّة هناك بأداء التكليف فهو أيضا واضح البطلان ، إذ المفروض عدم قيام دليل على الاشتغال مع دوران الواقع بين حصول التكليف وعدمه ، فأيّ علم قضى هناك بالاشتغال؟

ولو اعتبر العلم الاجمالي باشتغال الذمّة بأداء تكاليف الشرع جملة من الضرورة والآيات والأخبار الدالّة على وجوب الطاعة الّتي هي موافقة الأمر والنهي فيجعل ذلك قاضيا باعتبار العلم بالفراغ ، كما قد يستفاد من كلمات بعض

٥٧٨

المتأخّرين أيضا ، حيث حكم بعدم الفرق بين أن يكلّف أوّلا على الإجمال ثمّ يأمر وينهى على التفصيل ، أو يكلّف بالتفصيل ثمّ يأمر بالمجمل تأكيدا ، كما يقول : امتثلوا ما أمرتم به.

وتوضيح المقام : أنّ الأوامر المتعلّقة بوجوب الامتثال لتكاليف الشرع ولزوم الطاعة قد أفادت وجوب طاعته في جميع أوامره ونواهيه ، ولا ريب في إجمال هذا المأمور به وعدم وضوحه عندنا ، للشكّ في كثير من الأوامر والنواهي الشرعيّة ، فإن كان الإجمال المفروض باعثا على لزوم الاحتياط في تفريغ الذمّة جرى في المقامين ، وإن بنى على الاقتصار على القدر المعلوم ونفي ما عداه بالأصل جرى فيهما أيضا.

فيدفعه : أنّ التكليف المذكور ليس زائدا على التكاليف الخاصّة المتعلّقة بمواردها المخصوصة حتّى يكون هناك واجبان ، أحدهما من جهة الأمر المتعلق بالفعل ، والآخر من جهة الضرورة القاضية بوجوب الطاعة ، أو الأوامر الدالّة عليه.

وحينئذ نقول : إنّ العلم الإجمالي بحصول تلك التكاليف المتفرّقة لا يفيد العلم بحصول تكليف زائد على القدر المعلوم من التكاليف ، والامتثال بذلك القدر المعلوم لا يتوقّف على غيره قطعا ، فبعد تحقّق الامتثال بالنسبة إليها ، وعدم العلم بتعلّق الطلب بغيرها لم يتحقّق علم بالاشتغال رأسا حتّى يتوقّف على العلم بالفراغ ، بخلاف المقام ، لتحقّق التكليف بالمجمل ، وعدم العلم بالامتثال أصلا ، مع الاقتصار على القدر المعلوم. ولو سلّم حصول تكليف آخر على جهة الإجمال متعلّق بوجوب الامتثال فليس امتثاله بحسب متعلّقاته ممّا يتوقّف بعضها على بعض فيقتصر إذن على القدر المعلوم وينفى الباقي بالأصل ، للعلم بحصول الامتثال بالنسبة إلى المعلوم ، وعدم تحقّق الاشتغال من أصله بالنسبة إلى غيره حسب ما مرّ تفصيل القول فيه. وهذا بخلاف المقام ، إذ المفروض حصول العلم بالاشتغال مع انتفاء العلم بحصول الامتثال رأسا.

وأمّا الثاني : فبأنّ متعلّق التكليف مجمل في المقام ، وليس التكليف بالأقلّ

٥٧٩

متحقّقا على الحالين ليؤخذ به وينفى الباقي بالأصل ، على ما مرّ تفصيل القول فيه عند الاحتجاج على المختار.

وأمّا الثالث : فبأنّ من البيّن وضع الألفاظ للامور النفس الأمريّة من غير مدخليّة في وضعها للعلم والجهل بالمرّة ، وقضيّة الأصل والطريقة الجارية في المخاطبات البناء على استعمالها في معانيها الموضوعة حتّى تقوم قرينة صارفة عنها. فالقول باستعمالها في خصوص ما يفهمه المخاطب من ذلك الخطاب ـ كما يتخلّص من ملاحظة الاحتجاج المذكور وعليه يدور صحّة الاحتجاج به ـ غير وجيه ، بل غير معقول ، لرجوع ذلك إلى عدم قصد شيء مخصوص من العبادة ، واستعماله في معنى مجهول هو ما يفهمه المخاطب كائنا ما كان. وأعجب منه ما حكم به من جريان طريقة التخاطب عليه. وأمّا ما ذكر من جريان الطريقة على الأفهام بحسب ظاهر الحال فهو لا يدلّ على ذلك بوجه ، أفذاك إنّما يكون وجها لعدم تنصيص الشارع على المقصود بحيث لا يحتمل الخلاف بأن يقال : إنّما جرى في المخاطبات على ظواهر الألفاظ كما هو قانون أصحاب اللسان في البيان ، لا أنّ مقصوده من العبارة هو ما يفهمه المخاطب وإن غلط في الفهم وفهم خلاف ما هو الظاهر من اللفظ بحسب الواقع ، فالقدر اللازم حينئذ هو تكليفهم بظواهر الألفاظ ما لم يقم هناك صارف عنها.

ومن البيّن : كشف ذلك حينئذ عمّا هو مقصوده في الواقع ، إذ لو أراد حينئذ غيره لزم الإغراء بالجهل والتكليف بالمحال ، وأين ذلك من كون المراد بتلك الخطابات ما يعتقده المخاطب ويفهمه من تلك العبارات.

نعم ما يفهمه المخاطب من تلك الخطابات مع عدم التقصير في الفهم يكون مكلّفا به في ظاهر الشرع إلى أن يتبيّن له الخطأ في الفهم. وكذا الكلام فيما يثبت عند المجتهد من الأحكام بعد بذل الوسع في تحصيله ، فإنّه مكلّف [بما يعمل (١)] بما أدّاه إليه الأدلّة الشرعيّة وإن فرض مخالفته لما هو الواقع ، وذلك لا يستلزم أن

__________________

(١) «ق ٢» و «ف ٢».

٥٨٠