هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

حكم العقل والشرع برجحان الاحتياط ومطلوبيّته لا يبقى مجال لاحتمال الحرمة في المقام من جهة البدعة ، لرجحان الفعل إذن من جهة الاحتياط ، وإن فرض عدم رجحانه في نفسه بالمرّة فلا وجه إذن لاحتمال تحريم قصد القربة مع حصول الجهة المقرّبة. وما لعلّه يتوهّم من أنّه لا كلام في حسن الاحتياط ورجحانه والاكتفاء به في قصد القربة ـ إنّما الكلام في تحقّقه في المقام ، فالبحث هنا في موضوع الاحتياط فلا يرتبط ثبوته بإثبات حكمه من جهة العقل والنقل ، فإنّ ذلك إنّما يدلّ على حسن الاحتياط في العمل لا على كون العمل على وفق الاحتياط وقضيّة الإيراد المذكور عدم اندراج ذلك في الاحتياط نظرا إلى قيام احتمال التحريم ـ مدفوع بأنّ احتمال التحريم في المقام إنّما يقوم في بادئ الرأي من جهة الغفلة عن رجحان الاحتياط ، فإنّه إذا احتمل عدم الحسن في الاحتياط قام احتمال البدعة.

وأمّا بعد العلم بحسنه ورجحانه عقلا وشرعا فلا ريب في كون الإتيان بالأمر الدائر بين الإباحة والوجوب ـ مثلا ـ أحوط ، إذ لو كان مباحا لم يكن مانع من الإتيان به وإن كان واجبا كان تركه قاضيا بالعقاب ، وحينئذ فيصحّ التقرّب به من جهة رجحانه.

فإن قلت : إن كان الفعل المفروض ممّا لا يتوقّف الإتيان به (١).

* * *

__________________

(١) هكذا في النسخ.

٤٨١

المطلب السابع في النسخ

النسخ في اللغة يطلق على أمرين :

أحدهما : الإزالة يقال : نسخت الشمس الظل أي أزالته ، ونسخت الريح آثار القدم يعني أزالتها.

ثانيهما : النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث أي نقلها وتحويلها من وارث إلى آخر مع قيام المال ، وتناسخ الأرواح أي نقلها من أبدان إلى أبدان اخر ، ونسخ الكتاب واستنساخه أي نقله إلى كتاب آخر ، وهو المراد بقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١) يعني به نقله إلى الصحف.

وقد اختلف في معناه الحقيقي ، فقيل : إنّه حقيقة فيهما ، واختاره الشيخ والغزالي ، وحكي عن القاضي أبي بكر.

وقيل : إنّه حقيقة في الأوّل مجاز في الثاني ، واختاره العلّامة في النهاية والسيّد العميدي في المنية ، وحكي القول به عن أبي هاشم وأبي الحسين البصري.

وقيل بالعكس ، وحكي عن القفّال.

وكان الأظهر الأوّل ، فإنّهما إطلاقان شائعان ، ولا مناسبة ظاهرة بينهما ، ليكون علاقة في مثله ، فظاهر الاستعمالات في الحقيقة ، والمعنيان مكرّران في كلام أهل اللغة من غير إقامة دلالة على تعيين الحقيقة فقد يفيد ذلك كونهما حقيقتين :

__________________

(١) الجاثية : ٢٩.

٤٨٢

حجّة القول الثاني امور :

منها : أنّ المجاز أولى من الاشتراك ، فيدور الأمر بين كونه حقيقة في الأوّل أو الثاني ، والأوّل أولى ، لمشابهة الثاني له في الاشتمال على الزوال عن الحالة الاولى بخلاف العكس.

وفيه : أنّ مشابهة الأوّل للثاني حاصلة أيضا ، لما في إزالة الشيء من تحويله من الوجود إلى العدم ، وقد يجعل التجوّز في المقام من قبيل المجاز المرسل ، فإنّ الإزالة لازم للنقل حيث إنّ نقل الشيء عن محلّ قاض بإزالته عنه. فإن قيل بكونه حقيقة في النقل يكون استعماله في الإزالة من قبيل استعمال الملزوم في اللازم ، ولو قيل بالعكس كان استعماله في النقل من قبيل استعمال اللازم في الملزوم ، كذا يظهر من التفتازاني ، ونصّ عليه الفاضل الصالح ، وحكي عن بعض نسخ شرح العضدي عكس ذلك. وكيف كان ، فدعوى حصول العلاقة من أحد الجانبين دون الآخر فاسدة.

ومنها : أنّ إطلاق اسم النسخ على الازالة ثابت والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فيكون مجازا في النقل ، لأنّ المجاز خير من الاشتراك.

وضعفه ظاهر ، فإنّه مقلوب عليه ، لأنّ إطلاقه على النقل ثابت أيضا ، فالأصل فيه الحقيقة ، فيكون مجازا في الآخر.

ومنها : أنّ إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم نسخت الكتاب مجاز ، لأنّ ما في الكتاب لم ينقل حقيقة ، وإذا كان مجازا في النقل كان حقيقة في الإزالة ، لعدم استعماله في ما سواهما.

ووهنه ظاهر ، فإنّ كونه مجازا في المثال المفروض لعدم استعماله في النقل حقيقة لا يقضي بكونه مجازا فيه إذا استعمل في حقيقته. ولو اريد بذلك المنع من استعماله في النقل بمعناه الحقيقي فهو فاسد ، لاستعماله فيه في أمثلة اخرى ، والظاهر أنّه غير قابل للإنكار ، على أنّ عدم استعماله في المثال في حقيقة النقل غير ظاهر ، فإنّه إن اريد به نقل خصوص المكتوب كان الأمر على ما ذكر ، وأمّا إن

٤٨٣

اريد به نقل كلّي المكتوب الحاصل بذلك الحصول إلى حصول آخر فلا مانع منه ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال : انقل الحساب وحوّله من هذا الدفتر إلى دفتر آخر ، من دون ظهور تجوّز فيه؟!

ومع الغضّ عن ذلك فكون النقل في مثله مجازا لا يستلزم كون النسخ أيضا مجازا ، إذ قد يقال بكونه حقيقة في النقل مطلقا ، سواء كان بمعناه الحقيقي أو المجازي. وقد يقال أيضا : بأنّ استعمال النسخ في المقام إن كان مجازا فلا يصحّ أن يكون مجازا عن النسخ بمعنى الإزالة ، إذ لا مناسبة بينهما ، فهو مجاز عن النسخ بمعنى النقل فيفيد كونه حقيقة فيه ، لوضوح عدم جواز سبك المجاز عن المجاز ، هذا.

وربّما يظهر من القاموس أنّ المراد بنسخ الكتاب معنى آخر غير النقل ، حيث فسّره بالكتابة عن معارضة.

ولم يذكروا حجّة للقول الثالث.

وربّما يستدلّ له ببعض الوجوه المذكورة ، والكلام في المقام طويل ، وحيث إنّه لا يتفرّع عليه ثمرة اصوليّة فلنقتصر على ذلك.

وفي العرف رفع حكم شرعي بدليل شرعي ، وزاد في التهذيب قوله : متأخّر عنه على وجه لولاه لكان ثابتا. فقولنا : «حكم» يعمّ الأحكام الخمسة الشرعيّة والوضعيّة. والتقييد بالشرعيّ ، لإخراج الحكم العقلي من الإباحة أو الحظر العقليّين ، فإنّ رفعه لا يعدّ نسخا ، بل لو حكم الشارع بالإباحة أو الحظر قبل ورود البيان من الشرع لم يعدّ بيان خلافه نسخا ، إذ ليس فيه رفعا للحكم الأوّل ، بل تغيير لموضوعه وربّما يجري ذلك في الأوّل أيضا.

نعم لو حكم الشرع بإباحته مطلقا ثمّ رفعه اندرج في النسخ قطعا ، ويجري ما قلناه في الحظر الحاصل بسبب البدعة ، لعدم تشريع الحكم وإن حكم به الشارع أيضا ، فإنّ رفعه بتشريعه لا يعدّ نسخا ، وقولنا : «بدليل شرعي» يراد به أن يكون الرافع للحكم هو الدليل الشرعي القائم عليه لا أمر آخر من عارض يقضي به

٤٨٤

ويتعيّن (١) الطهارة إلى التيمّم الرافع لحكم المائيّة ، وإن كان ثبوت الحكم الثاني لقيام الدليل الشرعي عليه ، ومن ذلك طروّ العجز عن أداء المأمور به والنوم والجنون ونحوها الرافع للتكليف الثابت على المكلّف ، وإن دلّ الشرع عليه ، إذ ليس الدليل الدالّ على ذلك رافعا للحكم الأوّل ، بل يثبت به حكم ذلك العارض وهو ثابت مع ثبوت أصل الحكم ، ورفع الحكم حينئذ إنّما يتسبّب عن ذلك العارض فاعتبر في الحدّ كون الرافع نفس الدليل القاضي بالرفع لا أمر آخر ليخرج عنه ارتفاع الحكم بالمذكورات ، فإنّه لا يعدّ نسخا ، وجعل في النهاية إخراج رفع الحكم بالنوم والغفلة نحوهما من جهة التقييد بالشرعي ، حيث إنّ رفع الحكم هناك بالدليل العقلي ، وفيه ما لا يخفى.

وأورد عليه في المنية : بأنّ رفع الحكم بالعجز لا يجب إخراجه عن حدّ النسخ إلّا إذا لم يكن نسخا ، وهو ممنوع. وقد اعترف المصنّف في ما تقدّم بجواز النسخ والتخصيص بالعقل. سلّمنا ، لكن لا يخرج بالقيد المذكور ، لأنّ دلالة العقل عليه لا يمنع من دلالة الشرع ، وهو ظاهر من قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٢).

وفيه : أنّ القول بكون رفع الحكم بالعجز نسخا بيّن الفساد ، ضرورة أنّ كون العجز رافعا أمر ظاهر حين صدور الخطاب فأصل التكليف بالفعل مغيّا ببقاء القدرة عليه ، ومثل ذلك كيف يمكن عدّه نسخا؟

غاية الأمر أن يورد على المصنّف أنّ حمله الدليل الشرعي على ما يقابل العقلي يقضي بعدم كون العقل ناسخا ، وهو ينافي ما قرّره أوّلا من جواز كون العقل ناسخا. ثمّ إنّ قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ليس ناسخا للخطابات المطلقة ، وإنّما هو مبيّن لعدم شمولها حال العجز.

__________________

(١) قد سقط هنا بعض الكلام في الأصل ، والمقصود التمثيل للعارض المذكور بالأمر الموجب لانتقال الفرض في الطهارة المائيّة إلى التيمّم. (من هامش المطبوع)

(٢) البقرة : ٢٨٦.

٤٨٥

والتحقيق : أنّ العقل أو النقل القاضي بكون التكاليف مشروطة بالعقل والقدرة والشعور ونحو ذلك أدلّة مبيّنة للواقع وليست رافعة لشيء من التكاليف ، والرفع هناك إنّما يستند إلى طروّ تلك الحالات بعد ثبوت التكليف على المكلّف ، فإنّه الّذي يرفع عنه التكليف الثابت عليه ، فالأدلّة الدالّة على اشتراط التكليف بانتفاء تلك الامور ليست رافعة لأمر ثابت ، وما يرفع الأمر الثابت من طروّ تلك الحالات بعد تعلّق التكليف ليس دليلا حسب ما قرّرناه ، سواء كان الدليل على بعثها على الرفع العقل أو النقل ، والتقييد بقوله : «متأخّر عنه» للاحتراز عمّا يقضي بارتفاع الحكم ، وممّا يعادل الدليل على الثبوت من استثناء وشرط وصفة ونحوها ، فإنّه لا يعدّ ذلك نسخا.

وفيه : أنّ تلك القيود امور مبيّنة للمقصود ، وليست رافعة للحكم الثابت ، ففيها رفع للدلالة لا رفع للمدلول ، فهي إذن خارجة عن الجنس ، كيف! ولو بنى على شمول الرفع لمثل ذلك فالقيد المذكور غير كاف في إفادة المقصود لاندراج التخصيص بالمنفصل إذن في النسخ ، فلا يكون الحدّ مانعا ، فلو دفع ذلك بكونه بيانا ودفعا لا رفعا ، فهو جار في المتّصل بالأولى.

واورد عليه أيضا : بأنّ قيد التأخّر لا يخرج شيئا من المذكورات فإنّها تقع متأخّرة ، غاية الأمر أن لا تقع متراخية عن الأوّل ، ولا دلالة في التأخّر على التراخي.

ويدفعه : أنّها مع الاتّصال تعدّ مقارنة للخطاب حسب ما نصّوا عليه في بحث العامّ والخاصّ المتعارضين ، والتقييد بالأخير لإخراج ما لا يكون الحكم الأوّل مقتضيا للبقاء ، كما إذا أمره بفعل فأتى به ثمّ نهاه عن ذلك الفعل ، فإنّه لا مقتضى لبقاء ذلك التكليف بعد أدائه ، إذ لا دلالة في الأمر على التكرار فلا يكون الحكم بخلافه نسخا للأمر المفروض. وبعضهم جعل هذا القيد مخرجا للموقّت إذا ورد الحكم بخلافه عند مضيّ وقته ، فإنّه لا يعدّ نسخا ، لعدم شمول الحكم الأوّل لما بعد الوقت.

٤٨٦

وضعف الوجهين ظاهر ، أمّا الأوّل : فلظهور أنّه مع عدم دلالة الأمر على التكرار لا يشمل الحكم المذكور ما بعد الفعل ، ويسقط بالإتيان به ، فلا أمر حتّى يرتفع بالنهي المتأخّر، إذ لا يعقل ارتفاع غير الثابت.

وأمّا الثاني : فالحال فيه أوضح ضرورة ارتفاع الحكم بمضيّ وقته ، فلا يكون النهي المتأخّر ناسخا.

نعم لو قيل ببقاء التكليف بعد فوات الوقت ـ على ما ذهب إليه شاذّ ـ صحّ القول بارتفاعه ، إلّا أنّه حينئذ لا يخرج بالقيد المذكور.

ثمّ إنّ أخذ الرفع جنسا في الحدّ المذكور مبنيّ على كون النسخ رفعا للحكم كما هو المختار عند جماعة وحكي القول به عن القاضي أبي بكر ، والمختار عند بعضهم عدم كونه رفعا ، وإنّما هو بيان لانتهاء هذا الحكم ، والحكم إنّما ينتهي بنفسه ، وحكي القول به عن الاستاذ أبي إسحاق ، وأسنده في المستصفى إلى الفقهاء. فإطلاق الرفع عليه ـ حينئذ ـ على سبيل المجاز.

ويدلّ على الأوّل : أنّ الظاهر من لفظ النسخ الإزالة فلابدّ من حمله على ظاهره ، وكذا الظاهر من الحكم الأوّل الدوام والاستمرار ، فيكون الحكم بخلافه مزيلا له رافعا لمقتضاه، إلّا أن يقوم دليل على خلاف ذلك.

ويمكن الإيراد في المقام : بأنّه إن اريد كونه مزيلا له بحسب الواقع بأن يكون الحكم ثابتا في الواقع أوّلا على وجه الدوام ، ثمّ يرفعه طريان الناسخ فهو ممّا لا وجه له ، لأنّه إمّا أن يكون حكم الشارع به على وجه الدوام على وفق المصلحة المقتضية لذلك فلا يمكن إذن رفع ذلك الحكم بخلافه ، وإن لم يقتض المصلحة ذلك على الوجه المذكور لم يمكن تشريعه على وجه الدوام بحسب الواقع وإن لم يكن مانع من إبرازه على صورة الدوام لبعض المصالح.

نعم يمكن في حقّ غيره تعالى ممّن يتصوّر في شأنه الجهل بالواقع أن يرى المصلحة في الحكم به في وجه الدوام ، ثمّ يتبيّن له بعد ذلك خلافه فيزيل ذلك الحكم ، وهو محال في شأنه تعالى.

٤٨٧

وإن اريد به كونه مزيلا له في الظاهر بيانا لانتهاء الحكم بحسب الواقع فيتبيّن بملاحظة الناسخ أنّ ما حكم به كان معيّنا في الواقع بالغاية المفروضة غير متجاوز عن تلك النهاية ، وإن أبرز الحكم أوّلا في صورة الدوام لبعض المصالح ، فهو كالتخصيص بالمنفصل الوارد على العموم ، حيث إنّ ظاهر اللفظ عموم الحكم فيتبيّن بملاحظة المخصّص كون ذلك الظاهر غير مراد وأنّ المراد بالعامّ بحسب الحقيقة هو الباقي ، فيكون النسخ إذن قرينة منفصلة دالّة على أنّ المراد بما دلّ على استمرار المنسوخ خلاف ظاهره مبيّنة لما هو المقصود منه ، كما أنّ التخصيص كذلك ، ولذا قيل : إنّ النسخ نحو من التخصيص ، فإنّه تخصيص في الأزمان كما أنّ التخصيص المعروف تخصيص في الأعيان.

ففيه : أنّ الظاهر أنّ ذلك غير قابل للإنكار ، وليس ممّا يقع فيه الخلاف ، فيعود النزاع إذن لفظيّا ، إلّا أنّ ذلك خلاف الظاهر من كلام القائل بكونه رافعا في مقابلة من يقول بكونه بيانا ، وحينئذ يكون الرفع المذكور في الحدّ مجازا لا يناسب استعماله في الحدود.

قلت : ويمكن رفع ذلك باختيار كون المراد هو الرفع بحسب الواقع ، والمقصود أنّه قد وقع أوّلا تشريع الحكم على وجه الدوام مع اختصاص المصلحة المرجّحة لذلك ببعض الوقت ، ثمّ رفع ذلك الحكم عند انتهاء ما يقتضيه المصلحة المفروضة ، فهو رفع للمدلول لا رفع للدلالة ، ليكون تصرّفا في اللفظ الدالّ على الحكم ، وقرينة على كون المراد به خلاف ظاهره على ما هو الحال في المخصّص ، والقرائن الدالّة على التجوّز في اللفظ وتشريع الحكم على وجه الدوام مع اختصاص المصلحة ببعض الوقت ممّا لا مانع منه إذا كان هناك مصلحة قاضية بتشريعه كذلك ثمّ نسخه بعد ذلك ، وهذا مبنيّ على القول بكون الطلب المراد من الأمر هو إنشاء اقتضاء الفعل ، سواء وافق الإرادة القلبيّة من الأمر لوقوع الفعل أو لا ، نظرا إلى اختيار مغايرة الطلب للإرادة بالمعنى المذكور ، كما هو المختار حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، فإنّه حينئذ يصحّ إنشاء طلب الفعل واقتضاؤه من المكلّف وإن لم يكن له مصلحة فيه إذا كان هناك مصلحة في الاقتضاء المذكور.

٤٨٨

ولا فرق بينه وبين ما فيه مصلحة للمكلّف بالنسبة إلى حصول التكليف في الاقتضاء، فغاية الأمر أنّه يرفع ذلك التكليف وينسخه عند زوال المصلحة ، وهذا بخلاف ما إذا قيل بكون الطلب عين إرادة الفعل على الوجه المفروض ، أو بعدم حصول حقيقة الطلب من دونه ، فلا يتصوّر إذن حصول حقيقة الطلب على وجه الدوام مع عدم إرادته وقوع الفعل في الزمان اللاحق وعلمه بنسخ ذلك الفعل ، فليس الطلب المتعلّق بالفعل بالنسبة إلى ذلك الزمان إلّا صوريّا خارجا عن حقيقة الطلب على القول المذكور ، فلا يتحقّق هناك تكليف بحسب الواقع إلّا بالنسبة إلى ما قبل ورود الناسخ دون ما بعده ، وإن أبرز الجميع أوّلا بصورة واحدة ، فيكون النسخ إذن كاشفا عن ذلك مبيّنا لحقيقة الحال.

فمع البناء على الوجه المذكور كما هو ظاهر المعروف عن الأصحاب لا يمكن أن يكون النسخ رافعا للحكم إلّا بالنظر إلى الظاهر من دون أن يكون هناك رفع لحكم ثابت بحسب الواقع لو لا حصول الرفع المفروض ، فهو في الحقيقة قرينة مبيّنة للمقصود قاضية بالخروج عن ظاهر اللفظ بخلاف البناء على الوجه الأوّل الّذي اخترناه ، فإنّه يجوز أن يكون رفعا إذا حصل التكليف على الوجه الّذي قرّرناه ، وأن يكون بيانا لما هو الواقع رفعا بالنسبة إلى ما أفاده الظاهر قبل ظهور الناسخ إذا وقع التكليف على الوجه الثاني ، فعلى المختار يجوز وقوع التكليف على كلّ من الوجهين المذكورين ويتفرّع على كلّ حكمه من حصول النسخ بالبيان أو الرفع ، ويكون إذن تعيين كلّ من الوجهين بملاحظة الدليل الدالّ على ذلك نصّا أو ظاهرا ، هذا كلّه بالنسبة إلى أوامر الشرع كما هو محلّ الكلام. وأمّا بالنظر إلى غيره فلا إشكال في صحّة وقوع النسخ على كلّ من الوجهين مطلقا هذا ما يقتضيه التدبّر في المقام.

وقد احتجّ القائل بكونه بيانا لا رفعا بوجوه موهونة لا بأس بالاشارة إليها :

أحدها : أنّ المرفوع إمّا الحكم الموجود أو غيره ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل فللزوم سلب الشيء عن نفسه نظرا إلى رفع الوجود عنه حين كونه موجودا.

٤٨٩

وأمّا الثاني فللزوم تحصيل الحاصل ، فتعيّن أن يكون بيانا لا رفعا.

ثانيها : أنّ طروّ الطارئ إن كان حال كون الأوّل معدوما لم يكن رافعا لوجوده كما هو المدّعى ، وإن كان حال كونه موجودا فقد اجتمعا في الوجود فلا يتباينان حتّى يكون رافعا له.

ثالثها : أنّ الحكم هو الخطاب فهو قسم من الكلام ، ومع قدم الكلام لا يتصور رفعه.

رابعها : أنّ الحكم الطارئ ضدّ للسابق ، لامتناع اجتماعهما فالقول برفع اللاحق للسابق ليس بأولى من رفع اللاحق بالسابق ، إذ لا وجه لقوّة اللاحق على السابق ، أقصى الأمر أن يتساويا.

خامسها : أنّ طريان الطارئ مشروط بزوال السابق لامتناع اجتماع الضدّين فيشترط في وجوده انتفاء ضدّه ، لكونه مانعا من حصوله ، وانتفاء المانع من جملة الشرائط ، وأيضا طريان الطارئ مشروط بمحلّ يطرأ عليه ، وليس كلّ محلّ قابلا لحلول كلّ عرض ، بل لابدّ من محلّ خاصّ قابل لعروضه وإنّما يكون قابلا إذا خلا عن ضدّه ، فإذا ثبت توقّف طروّ الطارئ على زوال الباقي فلو كان زوال الباقي موقوفا بطريان الطارئ لزم الدور.

سادسها : أنّه يستلزم البداء ، فإنّه إذا نهى عن الشيء بعد أن أمر به فقد بدا له حتّى عدل الأمر إلى النهي.

سابعها : أنّ علمه تعالى إن تعلّق باستمرار الحكم استحال رفعه ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وإن تعلّق باستمراره إلى الوقت المعيّن بطل القول بالرفع ، إذ لا بقاء له إلى ذلك الوقت ، بل يستحيل وجوده فيه للزوم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وإن كان ممتنع الوجود لذاته امتنع أن يكون ممتنعا لغيره.

ويدفع الأوّل : أنّها شبهة مصادمة للضرورة قاضية بعدم إمكان رفع شيء من الأشياء ، لجريان الكلام المذكور بعينه في كلّ منها ، مثلا يقال : «إنّ الحياة الزائلة بالقتل إمّا الموجودة حين وجود السبب المفروض أو المعدومة ... إلى آخره»

٤٩٠

ويقال : «إنّ الزائل بسبب كسر الآنية إمّا الشكل حين وجوده أو حين عدمه ... إلى آخره» والحلّ أنّه ليس المراد رفعه بالنسبة إلى حال وجوده بالنسبة إلى الحالة الثانية ، لكن لمّا كان مقتضى وجوده في الحالة الثانية حاصلا لو لا الطارئ المذكور كان العدم الحاصل بسببه مع وجود مقتضيه رفعا ، بخلاف ما إذا لم يكن هناك مقتض للبقاء في الحالة الثانية.

والثاني : أنّ طروّ الطارئ مقارن للعدم المسبّب عنه نظرا إلى لزوم مقارنة السبب للمسبّب بحسب الزمان فهو سبب لانتفاء استمرار وجوده مع قيام المقتضي للاستمرار ، وهو مفاد الرفع.

والثالث : مع فساده في نفسه لابتنائه على الأصل الفاسد أنّه ليس معنى النسخ رفع الكلام القديم ، بل مفاده قطع تعلّقه بالمخاطب على نحو سائر الطوارئ القاطعة لتعلّقه كالموت والإغماء والجنون ونحوها.

واورد عليه : بأنّ التعلّق إن كان عدميّا استحال رفعه ، إذ ليس شيئا يرتفع وإن كان وجوديّا ، فإن كان قديما استحال رفعه كالكلام ، وإن كان حادثا لزم كونه تعالى محلّا للحوادث ، فإنّ التعلّق صفة للخطاب ، والخطاب صفة له تعالى قائمة به ، والقائم بالقائم بالشيء قائم به ، وهو ما ذكر من اللازم. وفيه كلام ليس هنا موضع ذكره.

والرابع : بأنّها شبهة مصادمة للضرورة فإنّها لو تمّت لزم أن لا ينعدم موجود ولا يوجد معدوم ، فإنّ المعدوم إنّما يكون عدمه عن علّة ، وكذا الموجود ، فعلّة العدم تنافي الوجود كما أنّ علّة الوجود تنافي العدم ، فإذا لم تكن إحدى العلّتين أقوى من الاخرى لزم ما ذكرناه ، بل لزم أن لا يكون موجودا ولا معدوما ، إذ بعد تعادل العلّتين لا يمكن ترجيح أحدهما على الاخرى من دون مرجّح ، فيلزم انتفاء الأمرين ، وهو رفع للنقيضين.

والحلّ أنّه لا معارضة بين العلّتين أمّا على القول باستغناء الباقي عن المؤثّر فظاهر ، إذ البقاء لا يستند إذن إلى علّة فيكون علّة العدم أو الوجود هو الطارئ عليه من دون مزاحم.

٤٩١

وأمّا على القول بالاحتياج فطروّ الثاني إنّما يكون برفع علّة الأوّل وجودا كان أو عدما ولو برفع جزء من أجزاء تلك العلّة ، لوضوح عدم إمكان اجتماع العلّتين التامّتين ، لوجود الشيء وعدمه ، وإلّا لزم المفسدة المذكورة وهو ظاهر.

الخامس : أنّ مجرّد المنافاة بين الحكمين لا يستلزم أن يكون وجود الطارئ مشروطا بزوال السابق ، كيف؟ والمنافاة بين وجود العلّة وعدم المعلول ظاهرة مع وضوح عدم اشتراط وجود العلّة بانتفاء عدم المعلول يعني وجوده.

وفيه : أنّه ليس بناء الاحتجاج على إثبات الاشتراط بمجرّد ثبوت المنافاة ، بل لما ذكر من الدليل القاضي بثبوت الاشتراط ، وحينئذ فالحقّ في الجواب أنّه ليس المراد كون الحكم الطارئ بنفسه رافعا للحكم الأوّل ، إذ قد لا يخلف الحكم المنسوخ حكم آخر من الشرع ، بل المقصود رفعه بالدليل الطارئ القاضي برفعه. ومن البيّن عدم قيام الدليل بمحلّ الحكم (١) وورود المفسدة المذكورة.

وحينئذ فالدليل المفروض وإن قضى بثبوت حكم آخر بدل المنسوخ فذلك الدليل هو الرافع للحكم الأوّل.

وعن السادس : أنّه إن اريد به لزوم انكشاف شيء لم يتبيّن له أوّلا فهو فاسد ، إذ لا يلزم من القول بالرفع عدم علمه بوجوه المفاسد والمصالح ، ولا يلزم من علمه بها عدم تشريعه الحكم على وجه الدوام حسب ما عرفت.

وإن اريد به لزوم نفيه شيئا بعد إثباته له أوّلا فهذا ممّا لا مفسدة فيه ولا دليل على فساده.

وعن السابع : أنّه منقوض بسائر الممكنات فإنّها من جهة تعلّق علمه تعالى بوجودها أو عدمها يستحيل وقوع خلافه نظرا إلى ما ذكر ، فتكون إذن واجبة أو ممتنعة بالذات ، وهذا خلف. والحلّ أنّ أقصى ما يلزم من ذلك ـ على فرض صحّته ـ استحالة وجود ذلك الحكم في الزمان اللاحق ، وهو لا يقضي باستحالته بالذات ، لكونها أعمّ من الذاتي والعرضي ، فأيّ مانع من أن يكون محالا من جهة وقوع

__________________

(١) في الأصل هنا بياض يسير لم يكتب فيه شيء.

٤٩٢

الرفع بالناسخ ، وعلمه بذلك؟ فقوله «امتنع ان يكون ممتنعا بغيره» بيّن الفساد.

والحاصل : أنّه تعالى كما يعلم انتفاء الحكم في الزمان اللاحق كذا يعلم كون ذلك الانتقاض من جهة رفعه الحكم بالناسخ ، هذا.

وقد ذكروا حدودا اخر للنسخ قد اخذ الإزالة في عدّة منها جنسا ، وهو بمعنى الرفع ، وفي عدّة منها اخذ اللفظ وما بمعناه كالنصّ والخطاب جنسا ، فحدّه الغزالي بأنّه الخطاب المتقدّم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه ، والآمدي بأنّه خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعي سابق ، وعن المعتزلة أنّه اللفظ الدالّ على أنّ الحكم الثابت بالنصّ المتقدّم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا.

وعن الجويني أنّه اللفظ الدالّ على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأوّل ، وعن الفقهاء أنّه النصّ الدالّ على انتهاء مدّة الحكم الشرعي مع التأخّر عن مورده ، وعنهم أيضا أنّه الخطاب الثاني الكاشف عن مدّة العبادة أو عن انقطاع زمان العبادة.

وأنت خبير بأنّ أخذ اللفظ وما بمعناه جنسا في المقام غير مناسب ، لوضوح كون النسخ فعلا حاصلا باللفظ المفروض. وإن قلنا بكون الناسخ هو الله سبحانه فإنّ النسخ فعله لا مجرّد قوله ، فهو بقوله الدالّ على الرفع قد رفع الحكم المتقدّم ، وليس نفس قوله رفعا. ولذا لا يصحّ حمله عليه وإن قلنا بكون الناسخ هو القول المفروض ـ كما حكي عن المعتزلة ـ فالأمر ظاهر. فما يستفاد من الآمدي من بناء ذلك على كون الناسخ حقيقة هو الله سبحانه أو الخطاب الصادر منه فعلى القول بكون الناسخ هو الله يكون النسخ هو خطابه الصادر عنه وإن قلنا بكون الناسخ هو الخطاب كما أنّ المنسوخ هو الخطاب لا يكون نفس الخطاب نسخا بل النسخ الأثر الحاصل من الخطاب المفروض ليس على ما ينبغي ، كيف؟ ولا يتحقّق النسخ عنهم إلّا بالنسبة إلى تعلّق الخطاب ، وأمّا نفس الخطاب فهو قديم عندهم فلا يكون ناسخا ولا منسوخا ، فالمرتفع هو تعلّق الخطاب والنسخ رفع ذلك التعلّق.

٤٩٣

فكيف يصح القول بكون الخطاب الثاني أو تعلّقه عين رفع الأوّل؟! وكان ما ذكروه من كون الخطاب الأوّل منسوخا والثاني نسخا ـ لو سلّم ـ مبنيّ على التسامح في التعبير ، هذا.

وقد ظهر بما قرّرنا في تفسير النسخ الفرق بينه وبين التخصيص ، إذ ليس التخصيص إلّا بيانا لمفاد العامّ ورافعا لدلالته على العموم بحمله على إرادة الخاصّ بخلاف النسخ ، فإنّه رافع لمدلول المنسوخ من دون بعث على خروج اللفظ عن ظاهره ، واستعماله في غير ما وضع له حسب ما أشرنا إليه ، هذا إن جعلنا النسخ رفعا للحكم على سبيل الحقيقة.

وأمّا إن جعلناه رافعا له في الظاهر نظرا إلى ما ظهر من قيام المنسوخ ، فبعد ظهور النسخ يكون كاشفا مبيّنا عن انتهاء مدّة الحكم ، وأنّ غايته في الواقع بلوغ ذلك الزمان ، فلا فرق بينه وبين التخصيص في ذلك ، إنّما الفرق بينهما إذن في كون النسخ تخصيصا للحكم ببعض الأزمان ، والتخصيص بالنسبة إلى الأحوال والأفراد فهو إذا بحسب الحقيقة نوع من التخصيص وإن فارقه في بعض الأحكام ، بل يندرج في التخصيص المعروف وإن كان هناك عموم لغوي يفيد شمول الحكم للأزمان ، وإلّا كان تقييد الإطلاق ما دلّ على شمول الحكم كذلك ، ولذا جاز اتّصاله إذن بالخطاب الأوّل كأن يقول : افعل هذا إلى الزمان الفلاني ، وانفصاله عنه كأن يقول بعد مضيّ مدّة زمن (١) الخطاب الأوّل : إنّ ما ذكر من استمرار الحكم إنّما اريد به استمراره إلى هذا الزمان ، فهذا بالنسبة إلى ما دلّ على شمول الحكم للأزمان تخصيص لا رفع فيه ، وبالنسبة إلى نفيه (٢) الحكم الثابت نسخ حيث رفع الثابت ، هذا مع تراخيه.

وأمّا مع الاتّصال فليس إلّا تخصيصا ، إذ لا ثبوت للحكم إذن على وجه الدوام حتّى يكون ذلك المخصّص رافعا له وكيف كان ، فالفرق بينه وبين التخصيص حينئذ كون النسخ رفعا للحكم الثابت بحسب الظاهر بخلاف

__________________

(١) في «ق» ومن.

(٢) نفس ، خ ل.

٤٩٤

التخصيص إذ هو بيان صرف. ولذا لا يجوز اقتران النسخ بالخطاب وإن جاز اقترانه به على جهة الإجمال بأن يقول : إنّ هذا الحكم سينسخ عنكم ، أو يقول : افعلوا كذا إلى أن أرفعه عنكم ، ونحو ذلك.

وقد اعتبروا في مفهومه أيضا كون الحكم الأوّل شرعيّا وكون الرافع له شرعيّا أيضا ، فلو ارتفع بالعقل كزوال القدرة لم يكن نسخا ، فإذا تحقّق الامور الثلاثة ثبت مفهوم النسخ ، والافتراق بينه وبين التخصيص حاصل من الوجوه الثلاثة ، بل الأربعة.

وهناك وجوه اخر للفرق بينهما مذكورة في كلماتهم :

منها : عدم جواز نسخ القطعي بالظنّي ، كنسخ الكتاب بالخبر الواحد.

ومنها : أنّ النسخ يخرج المنسوخ عن الحجّية بخلاف التخصيص فإنّه يبقى حجّة في الباقي.

ومنها : أنّ النسخ يجوز أن يزيل مدلول ما يرد عليه من الحكم بالمرّة بخلاف التخصيص ، فإنّه لابدّ من بقاء بعض من مدلوله ، لبطلان التخصيص المستوعب.

ومنها : أنّ التخصيص لابدّ أن يكون قبل حضور وقت العمل به ، لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولابدّ أن يكون النسخ بعد حضور وقت العمل به على القول به كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

قوله : (لا ريب في جواز النسخ ووقوعه ... الخ.)

قد وقع هنا خلاف ضعيف في المقامين وقد اتّفق عليهما أهل الشرائع سوى ما يحكى عن طائفة من اليهود.

* * *

٤٩٥

[الأدلّة العقليّة]

قوله رحمه‌الله : (المطلب الثامن ... الخ.)

قد تقرّر أنّ أدلّة الأحكام عندنا أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، وقد مرّ تفصيل القول في ثلاثة منها بقي الكلام في الأدلّة العقليّة ، والمصنّف رحمه‌الله لم يتعرّض إلّا لبعض المسائل المعدودة منها ونحن بعون الله سبحانه وحسن توفيقه نفصّل الكلام في أقسامها ونميّز الصحيح من المزيف منها ، ونوضح القول في وجوهها وشعبها إن شاء الله.

فنقول : المراد بالدليل العقلي كلّ حكم عقلي يستنبط منه حكم شرعي ، سواء حكم به العقل استقلالا من دون ترتّبه على حكم الشرع ، أو كان حكم العقل به مترتّبا على ثبوت حكم آخر ولو من جهة الشرع ثمّ يترتّب على ذلك الحكم العقلي حكم شرعي آخر.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون ما حكم به العقل أمرا ثابتا لموضوعه في نفسه بحسب الواقع ، أو يكون ثابتا له بالنظر إلى ظاهر التكليف وإن لم يكن كذلك بحسب الواقع ونفس الأمر. فهذه أقسام ثلاثة :

والأوّل : مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، والملازمة بين حكمي العقل والشرع.

والثاني : مسائل الملازمات كاستلزام وجوب الشيء وجوب مقدّمته ،

٤٩٦

واستلزام وجوب الشيء حرمة أضداده ، فإنّ العقل أوّلا لا يحكم بوجوب المقدّمة ولا بحرمة الضدّ ، وإنّما يحكم بهما بعد الحكم بوجوب الشيء ولو من جهة حكم الشرع به ، فهو إذن حكم عقلي تابع لحكم الشرع ، والظاهر أنّ ما كان اللزوم فيها بيّنا بالمعنى الأخصّ خارج عن الأدلّة العقليّة ، لاندراجه إذن في المداليل اللفظيّة فيندرج في مداليل الكتاب والسنّة. وعلى هذا فدرج بعضهم مباحث المفاهيم في هذا القسم ليس على ما ينبغي.

ومن الثالث أصالة البراءة والإباحة عند عدم قيام دليل على الوجوب والحرمة فان مقتضاهما جواز الترك والفعل في ظاهر الشرع ، وإن كان الفعل واجبا أو محرّما بحسب الواقع كما سيجيء تفصيل القول فيهما إن شاء الله.

وقد يورد في المقام : أنّ القسم الأوّل ـ وهو ما يستقلّ العقل بإدراكه ـ لا يصحّ عدّه من أدلّة الأحكام ، فإنّ الدليل ما يستدلّ به العقل على الحكم في ما يحتاج إلى الاستدلال ، والعقل في المقام هو الحاكم والمدرك للحكم كما أنّ الشارع حاكم به ، فكما لا يعدّ الشارع دليلا على الحكم بحسب الاصطلاح فكذا العقل.

واجيب عنه : بأنّه ليس المقصود من ذلك كون نفس العقل دليلا ، بل المدّعى كون حكم العقل دليلا على ما حكم به ، فالدليل هو تحسين العقل وتقبيحه وحكمه باستحقاق المدح والذمّ والثواب والعقاب ، ومدلوله من الأحكام الشرعيّة من الوجوب والتحريم وغيرهما ممّا دلّ العقل عليه ، وهذا المدلول هو ما حكم به ودلّ العقل عليه.

وفيه : أنّ حكم العقل وإدراكه ليس دليلا على المحكوم به ، بل الدليل هو الأمر الموصل إلى الإدراك المفروض من المقدّميتن أو الحدّ الأوسط.

فالحقّ في الجواب أن يقال : إنّ الدليل في المقام هو حكم العقل بحسن الفعل أو قبحه عقلا ، فإنّه دالّ على حكم الشارع به أيضا ، نظرا إلى ما دلّ على الملازمة بين حكمي العقل والشرع. نعم قد يجعل متعلّق ادراك العقل نفس حكم الشرع حيث يدرك العقل أوّلا كون ذلك ممّا حكم به الشرع ، وحينئذ لا يصحّ عدّ الحكم

٤٩٧

المذكور دليلا على حكم الشرع ، لكن إمكان الفرض المذكور لا يخلو عن نظر ، إذ لا مجال ظاهرا في إدراك ذلك إلّا بتوسّط حكمه بالتحسين والتقبيح وحكمه بانطباق الحكم الشرعي على ما حكم به حسب ما يقتضيه القواعد العقليّة ، فإنّ ما يدرك حكم الشرع حينئذ بالملازمة المذكورة ، ويكون الدليل على حكم الشرع حينئذ هو ما حكم به من التحسين والتقبيح على ما قرّرنا.

وكيف كان ، فعلى فرض وقوع ما ذكر من الفرض يكون الدليل العقلي هو ما يوصل العقل إلى الحكم المفروض لا نفس حكمه ، هذا إذا كان حكمه نظريّا ، وإن كان ضروريّا لم يمكن عدّه إذن من الأدلّة بحسب الاصطلاح ، وكان عدّ العقل بالنسبة إليه دليلا مبنيّا على معناه اللغوي ، حيث إنّه الهادي إليه لكن دعوى حصول الضرورة في الإدراك المفروض غير ظاهر ، حسب ما يأتي الإشارة إليه ، هذا.

وقد ظهر بما قرّرنا أنّ هنا أمرين :

أحدهما : إثبات حكم العقل بالنسبة إلى التحسين والتقبيح.

ثانيهما : كون حكمه به دليلا على حكم الشرع والثاني من مسائل الاصول ، إذ مفاده إثبات حكومة العقل وليس بحثا عن الأدلّة ، بل إثبات لما يدّعى دلالته على حكم الشرع ، والثاني من مباحث اصول الفقه نظير إثبات حجّية الكتاب وخبر الواحد وغيرهما من الأدلّة ، فالأوّل مبادئ للثاني ، حيث إنّه يتحقّق موضوع البحث فيه وحيث كان مقصودهم في المبادئ الأحكاميّة إثبات حكومة العقل جرت الطريقة على بيان مسألة التحسين والتقبيح العقليين في المبادئ الأحكاميّة دون الأدلّة الشرعيّة ، نظرا إلى ملاحظة الجهة المذكورة ، واكتفوا بذكرها هناك من بيانها في مباحث الأدلّة حذرا من التكرار ، وربّما يجعل الوجه فيه ندور المسائل المتفرّعة عليها ، لكون ما يستقلّ العقل بإدراكه من المسائل على الوجه المذكور من الامور الواضحة في الشريعة ، بل الضروريّات الخارجة من عدد المسائل الفقهيّة ، فلذا لم يذكروها في طيّ الأدلّة وأدرجوها في المبادئ الأحكاميّة ، وهو كما ترى ، هذا.

٤٩٨

ولنورد الكلام في تلك الأقسام في فصول :

الفصل الأوّل (١) : في بيان استقلال العقل بادراك حكم الفعل بحسب الواقع وأنّه من الأدلّة على حكم الشرع مع قطع النظر عن توقيفه وبيانه له على لسان حججه ، وهو الّذي ذهب إليه علماؤنا الإماميّة ، بل وأطبقت عليه العدليّة ، بل قال به أكثر العقلاء من الحكماء والبراهمة والملاحدة وكثير من الفرق المثبتة للشرائع والنافية.

وقد أنكر ذلك الأشاعرة وطائفة من متأخّري علمائنا الأخباريّة في الجملة وبعض من يحذو حذوهم إلّا أنّ الأشاعرة قد أنكروا ثبوت المحكوم به رأسا فلزمهم إنكار إدراك العقل له وكونه دليلا على حكم الشرع ، فليس عندهم بحسب الواقع ما يتعلّق به إدراك العقل ، إذ لا حسن ولا قبح عندهم للأفعال مع قطع النظر عن حكم الشرع فلا حكم للعقل في التحسين والتقبيح أصلا ، ولا حسن ولا قبح عندهم مع قطع النظر عن حكم الشرع ، بل كلّ الأفعال عندهم ساذجة قابلة لكلّ من الأمرين بواسطة أمر الشارع ونهيه ، فهي في نفسها مع قطع النظر عن تعلّق الأمر والنهي بها خالية عن الصفتين فاقدة للأمرين.

وأمّا الجماعة المذكورة فلا يظهر منهم إنكار الحسن والقبح الواقعيّين على ما يقوله الأشاعرة ، بل الظاهر منهم اعترافهم به كما هو مذهب العدليّة ، ودلّت عليه النصوص المستفيضة ، بل المتواترة في الجملة ، وإنّما ينكر جماعة منهم صحّة إدراك العقل في غير ضروريّات الدين والمذهب ، وبعضهم ينكر المطابقة بين حكم العقل وما حكم به الشرع ، وإن كان العقل مطابقا لما هو الواقع فلا يعدّ الحكم شرعيّا ويحكم بوجوب الأخذ به ما لم يرد الحكم به من الشرع حسب ما يأتي تفصيل القول في نقل أقوالهم وأدلّتهم إن شاء الله.

وتوضيح المقام : أنّ الكلام في المرام يقع في مقامات :

أحدها : أنّه هل يثبت للأشياء مع قطع النظر عن حكم الشرع وتعلّق خطابه بها

__________________

(١) لا يوجد فيما يأتي الفصل الثاني والثالث و...

٤٩٩

أحكام عقليّة ـ من حسنها وقبحها ليكون حكم الشرع على وفق مقتضياتها كاشفة عن تلك الصفات الواقعيّة الحاصلة لها ، فيكون تشريعه للشرائع من جهة إرشاده العباد إلى ما فيه صلاحهم وتحذيرهم عمّا يترتّب عليه فسادهم ، لقصور عقولهم عن إدراك ما فيه هلاكهم ونجاتهم ـ أو أنّها لا حكم لها بملاحظة أنفسها مع قطع النظر عن أمر الشارع بها أو نهيه عنها ، فهي حسنة بأمره قبيحة بنهيه ، خالية عن الأمرين مع انتفاء الخطابين ، وهذا هو الّذي ذهب إليه الأشاعرة والظاهر ممّا حكي إنكارهم للحسن والقبح بالمعنى الأوّل بعد خطاب الشرع أيضا ، وإنّما حسنها وقبحها عندهم هو مجرّد كونها متعلّقا لأمر الشارع ونهيه من غير استحقاق مدح عقلا على الامتثال ، أو ترتّب ذمّ على تركه ، وهذا هو الظاهر من مذهبهم ، لأنّهم يعزلون العقل من منصب الحكومة بالمرّة ، فلا فرق عندهم في نفي العقل باستحقاق المدح والذمّ بين ما إذا كان قبل تعلّق أمر الشارع ونهيه وبعده ، إذ كونه متعلّقا لذلك وجه من الوجوه واعتبار من الاعتبارات المحسّنة والمقبّحة عند العقل على مذهب العدليّة ، ضرورة أنّ طاعة المولى والمنعم الحقيقي من أعظم الجهات المحسّنة ، وكذا عصيانه ومخالفته من أعظم الوجوه المقبّحة.

وقضيّة أدلّتهم الآتية نفي الحكومة عن العقل ، كيف؟ ولو جوّزوا حكمه في المقام لجرى في غيره أيضا ، فالظاهر أنّهم يجوّزون أن يجعل الشارع من أطاع أوامره موردا للذمّ ومن عصاه موردا للمدح كما يقتضيه بعض أدلّتهم ، فينعكس الأمر. فما في شرح المواقف وشرح القوشجي من تفريع استحقاق المدح والذمّ على تعلّق الأمر والنهي عندهم وأنّ استحقاق المدح والذمّ إنّما كان بسبب أمر الشارع بالفعل ونهيه عنه ليس على ما ينبغي ، فليس الحسن والقبح عندهم إلّا مجرّد كونه متعلّق حكم الشارع باستحقاق المدح على فعله وحكمه باستحقاق الذمّ عليه كما نصّوا عليه ، ومنهم الرازي في الأربعين ، وغيره.

ثمّ إنّ الكلام في هذا المقام في الإيجاب والسلب الكلّيين ، فكلّ من المثبتين والنافين يقول به كلّيا وينفيه كذلك ، والقول بالتفصيل وإن أمكن إلّا أنّه حكي الاتّفاق على خلافه وإن كان للمناقشة فيه مجال كما سيأتي.

٥٠٠