هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

الوجوه ، ويحرم على آخر. فحينئذ إن قام عندنا دليل علمي على تميّز الواجب منه عن الحرام فلا كلام في تعيّن الأخذ به ووجوب الإفتاء بذلك الطريق المعلوم وحرمة الإفتاء على الوجه الآخر ، وإن انسدّ سبيل العلم بذلك أيضا تعيّن الرجوع في التمييز إلى الظنّ ، ضرورة بقاء التكليف المذكور وكون الظنّ هو الأقرب إلى الواقع. فإذا دار أمره بين الإفتاء بمقتضى مطلق الظنّ أو بمقتضى الظنّيات الخاصّة دون مطلق الظنّ لم يجز له ترك الفتوى مع حصول الأوّل ولا الإقدام عليه بمجرّد قيام الثاني ، إذ هو ترك الظنّ وتنزّل إلى الوهم من دون باعث عليه.

فإن قلت : إنّ الظنّ بثبوت الحكم في الواقع في معنى الظنّ بثبوت الحكم في شأننا وهو مفاد الظنّ بتعلّق التكليف ينافي الظاهر فكيف يقال بالانفكاك بين الظنّ بالحكم والظنّ بتعلّق التكليف في الظاهر المرجّح للحكم والإفتاء؟

قلت : إنّ أقصى ما يفيده الظنّ بالحكم هو الظنّ بثبوت الحكم في نفس الأمر ، وهو لا يستلزم الظنّ بجواز الإفتاء أو وجوبه بمجرّد ذلك ، ضرورة جواز الانفكاك بين الأمرين حسب ما مرّ بيانه في الوجوه السابقة ، ألا ترى أنّه يجوز قيام الدليل القاطع أو المفيد للظنّ على عدم جواز الإفتاء حينئذ من دون العارض (١) ذلك الظنّ المتعلّق بنفس الحكم ، ولذا يبقى الظنّ بالواقع مع حصول القطع أو الظنّ بعدم جواز الإفتاء بمقتضاه.

ودعوى : أنّ قضيّة الظنّ بثبوت الحكم في الواقع هو حصول الظنّ بتعلّق التكليف ينافي الظاهر والظنّ بجواز الإفتاء بمقتضاه ، إلّا أن يقوم دليل قاطع أو مفيد للظنّ بخلافه عريّة عن البيان ، كيف! وضرورة الوجدان قاضية بانتفاء الملازمة بين الأمرين ولو مع انتفاء الدليل المفروض نظرا إلى احتمال أن يكون الشارع قد منع من الأخذ به.

نعم لو لم يقم هذا الاحتمال كان الظنّ بالحكم مستلزما للظنّ بتعلّق التكليف في الظاهر.

__________________

(١) في «ق» : أن يعارض.

٣٨١

فإن قلت : إنّ مجرّد قيام الاحتمال لا ينافي حصول الظنّ سيّما بعد انسداد سبيل العلم بالواقع وحكم العقل حينئذ بالرجوع إلى الظنّ.

قلت : الكلام حينئذ في مقتضى حكم العقل ، فإنّ ما يقتضيه العقل يتوقّف الإفتاء على قيام الدليل القاطع على جوازه وبعد انسداد سبيله ينتقل إلى الظنّ به ، ومجرّد الظنّ بالواقع لا يقتضيه مع عدم (١) قيام الدليل الظنّي على جواز الإفتاء بمجرّد حصوله ، فإذا قام الدليل الظنّي على جواز الإفتاء بقيام ظنّيات مخصوصة لزم الأخذ بمقتضاه ، وإذا لم يقم على جواز الإفتاء بحصول الظنّ (٢) لم يجز الإفتاء بها.

نعم إن لم يقم دليل ظنّي على الرجوع إلى بعض الطرق ممّا يكتفى به في استنباط القدر اللازم من الأحكام أو على جواز الرجوع إلى بعضها وكانت الظنون متساوية من حيث المدرك في نظر العقل كان مقتضى الدليل المذكور القطع بوجوب العمل بالجميع ، وجواز الإفتاء بكلّ منها ، لوجوب الإفتاء حينئذ وانتفاء المرجّح بينها. وأمّا مع قيام الدليل الظنّي على أحد الأمرين المذكورين أو كليهما فلا ريب في عدم جواز الرجوع إلى مطلق الظنّ بالواقع.

والحاصل : أنّ الواجب أوّلا بعد انسداد سبيل العلم بالطريق المجوّز للإفتاء هو الأخذ بمقتضى الدليل القاضي بالظنّ بجواز الإفتاء ، سواء أفاد الظنّ بالواقع أو لا ، ومع انسداد سبيل الظنّ به يؤخذ بمقتضى الظنّ بالواقع ويتساوى الظنون حينئذ في الحجّية ، ويكون ما قرّرناه دليلا قاطعا على جواز الإفتاء بمقتضاها.

ثمّ إنّه لا يذهب عليك أنّ ما قرّرناه بالنسبة إلى جواز الإفتاء وعدمه يجري بعينه لو قرّر بالنسبة إلى العمل بالظنّ بالواقع وتركه ، فيقال : إنّ الأخذ بالظنّ والعمل به حين انسداد سبيل العلم بالواقع يتوقّف على قيام الدليل القاطع عليه ، فإن قام دليل قاطع عليه من أوّل الأمر فذاك ، ومع انسداد سبيله يتنزّل بحكم العقل إلى الدليل الظنّي القاضي بالعمل به والجري على مقتضاه ، ومع انسداد سبيله يؤخذ بما

__________________

(١) ليس في «ف».

(٢) في «ف» و «ق» : ظنون اخرى.

٣٨٢

يظنّ منه ثبوت الحكم في الواقع فيتساوى الظنون بأجمعها من حيث المدرك حينئذ لا قبل ذلك ، ولا ريب إذن في حجّية الجميع وأين ذلك من القول به قبل حصول الانسداد المذكور؟ فالخلط الواقع من الجماعة القائلين بأصالة حجّية الظنّ بعد انسداد سبيل العلم بالواقع إنّما وقع من جهة عدم التمييز بين المرتبتين المذكورتين وعدم إعطاء التأمّل حقّه في ما يقتضيه العقل من الأمرين المفروضين ولا ريب في حصول الترتّب بين الصورتين ، وذلك بحمد الله تعالى واضح لا سترة عليه.

الثامن :

إنّ الدليل القاطع قائم على حجّية الظنون الخاصّة والمدارك المخصوصة ، وقد دلّ على أنّ هناك طريقا خاصّا مقرّرا من صاحب الشريعة لاستنباط الأحكام الشرعيّة لا يجوز التعدّي عنه في الحكم والإفتاء ما دام التمكّن منه حاصلا ، وما ذكروه من اعتبار القطع في الاصول لابدّ من حمله على إرادة هذه المسائل ونحوها من مسائل الاصول إن أرادوا بذلك ما يعمّ اصول الفقه فكيف يلتزم بانسداد سبيل العلم فيها؟ والطريق عندنا هو الرجوع إلى الكتاب والسنّة حسب ما دلّت النصوص المستفيضة بل المتواترة على أخذ الأحكام منهما والرجوع إليهما والتمسّك بهما ، وهناك أخبار كثيرة متجاوزة عن حدّ التواتر دالّة على حجّية الكتاب، وكذلك أخبار اخر دالّة على حجّية الأخبار المأثورة على حسب ما فصّل القول فيه في محلّه.

ويدلّ عليه أيضا جريان الطريقة المألوفة من لدن زمان الأئمّة عليهم‌السلام على العمل بالأمرين بين الشيعة وأخذ الأحكام منهما دون سائر الوجوه حسب ما تراه العامّة الضالّة. والأمر في رجوعهم إلى الأخبار أوضح من الشمس في رائعة النهار ، فإنّ عليها مدار المذهب، ولا زالت عمل الشيعة من أزمنة الأئمّة عليهم‌السلام على الأخبار المأثورة بتوسّط من يوثق به من الروايات ، أو مع قيام القرينة الباعثة على الاعتماد عليها والظنّ بصدقها وإن كان راويها مخالفا لأهل الحقّ كالسكوني

٣٨٣

وأضرابه حسب ما نشاهده من طريقتهم. ويؤيّده حكاية الشيخ اتّفاق العصابة على العمل بأخبار جماعة هذا شأنهم كالسكوني وابن الدرّاج والطاطريين وبني فضّال وأضرابهم ، ويشير إليه الإجماع المحكيّ عن الجماعة المخصوصين ، وفيهم فاسد العقيدة.

ومن البيّن أنّ الصحيح في اصطلاح القدماء هو المعمول به عندهم ، وقد ذكر الصدوق أنّ كلّ ما صحّحه شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد فهو صحيح ، وظاهر في العادة أنّ مجرّد تصحيحه لا يقتضي القطع بصدق الرواية ، فلا يزيد على حصول الاعتماد عليها من أجله ، فبملاحظة ذلك وغيره ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الرجال وغيرها ممّا ليس هنا موضع ذكره لا يبقى ريب وشبهة في كون الطريقة المستقيمة الجارية بينهم الكاشفة عن تقرير الأئمّة عليهم‌السلام أو قولهم على كون المدار في حجّية الأخبار على حصول الوثوق والاعتماد بصدق قائله وحصول الظنّ الغالب بصدوره عنهم عليهم‌السلام ، ويأتي إن شاء الله تفصيل القول فيه في محلّه.

فظهر أنّ الظنّ الخاصّ الّذي نقول بالعمل به وجعله الشارع طريقا إلى معرفة أحكامه هو الظنّ الحاصل من الرجوع إلى الكتاب والسنّة ولا نقول بحجّية ظنّ سوى ذلك.

نعم هناك قواعد مستنبطة من السنّة واصول مقرّرة في الأخبار المأثورة يستفاد منها الأحكام حسب ما نصّوا عليهم‌السلام عليه في الروايات من أنّ علينا إلقاء الاصول وعليكم بالتفريع ، فتلك إذن مندرجة في السنّة ، وأمّا العقل والإجماع فهما يفيدان القطع وليستا من الأدلّة الظنّية ، والمنقول بخبر الواحد إنّما نقول بحجّيته ، لما دلّ من السنّة على حجّية قول الثقة والاعتماد عليه في الشريعة ، فهو أيضا مستفاد من السنّة مأخوذ منها.

فإن قلت ، إنّ حجّية الكتاب قد وقع الخلاف فيها عن جماعة من الأخباريّة مطلقا ومن آخرين منهم بالنسبة إلى ظواهره ، فغاية الأمر تحصيل الظنّ الاجتهادي بحجّيته مطلقا. ولا وجه لدعوى القطع فيها مع شيوع خلافهم والخلاف

٣٨٤

في حجّية أخبار الآحاد معروف حتّى أنّ السيد رحمه‌الله ادّعى إجماعنا على عدم حجّيتها ، بل ربّما يدّعى كونه من ضروريّات مذهبنا كالمنع من العمل بالقياس عندنا.

ومع الغضّ عنه فالخلاف في تفاصيلها متداول بين الأصحاب حتّى المتأخّرين منهم ، فإنّ منهم من يقتصر على العمل بالصحيح ومنهم من يقول بحجّية الحسان أيضا ، ومنهم من يقول بحجّية الموثّق أيضا ، إلى غير ذلك من الآراء المتفرّقة ، ومع هذه المعركة العظمى من فحول العلماء كيف يعقل دعوى القطع فيها؟ هذا بالنسبة إلى أصل الحجّية.

وأمّا بالنسبة إلى الدلالة فالأمر أظهر ، لوضوح ابتناء الأمر فيها على الظنّ تارة من جهة ثبوت مفاد ألفاظها وتحصيل الأوضاع الحاصلة لها حين صدور الخطابات كوضع ألفاظ العموم للعموم ، ووضع الأمر للوجوب والنهي للتحريم مثلا ، إلى غير ذلك من المباحث الخلافيّة المتعلّقة بالأوضاع سواء كانت شخصيّة أو نوعيّة ، وكثير من أوضاع الألفاظ مأخوذ من نقل الآحاد تارة من جهة عدم التصرّف في استعمال تلك الألفاظ بإرادة خلاف حقائقها ، أو طروّ الإضمار ، أو التخصيص ، أو التقييد عليها ، إلى غير ذلك.

وما يتخيّل من قيام الإجماع على حجّية الظنون المتعلّقة بمباحث الألفاظ ممنوع على إطلاقه ، وإنّما المسلّم منه ما تعلّق باستعمال المستعمل بإرادة ظواهرها وعدم الخروج عن مقتضى أوضاعها بعد ثبوت الوضع إلى أن يقوم القرينة على خلافه ، وليس ذلك أيضا على إطلاقه ، بل إنّما المسلّم منه خصوص صورتين لا يتعدّاهما ، لاختصاص الدليل بهما :

أحدهما : بالنسبة إلى المخاطب بذلك الخطاب عليه بناء اللغات ، وعليه تجري المخاطبات والمحاورات الدائرة بين الناس في جميع الألسنة من لدن زمان آدم عليه‌السلام إلى يومنا هذا ، كيف! ولو لا ذلك لكان تقرير اللغات لغوا ، إذ ليس مفادها غالبا إلّا الظنّ ، وأمّا غير من ألقى إليه ذلك الكلام سواء كان في ذلك العصر

٣٨٥

أو الأعصار المتأخّرة فلا يفيد الوجه المذكور حجّية ظنّه في فهم مراد ذلك المتكلّم ، لعدم وقوع المخاطبة إيّاه وعدم كونه مقصودا بالإفادة من العبارة ، فلابدّ له تحصيل فهم المخاطب، فإن أمكن تحصيله على وجه اليقين فلا كلام ، وإلّا كان الاعتماد على الظنّ به موقوفا على أصالة حجّية الظنّ ، إذ لا دليل عليه بالخصوص يفيد القطع بحجّيته والدليل المتقدّم لا يجري بالنسبة إليه فينحصر الأمر في الاعتماد عليه في الاندراج تحت ذلك الأصل.

ثانيهما : أن يكون الكلام موضوعا لإفهام من يصل إليه مطلقا أو لإفهام من يصل إليه من صنف خاصّ فيكون مقصود المتكلّم بقاءه والاستفادة منه ، وحينئذ فلا فرق بين من وقعت المخاطبة معه من الحاضرين الّذين القي إليهم الكلام والغائبين والمعدومين ممّن يأتي في الأعصار اللاحقة الّذين قصد استفادتهم من ذلك الكلام وإن لم يكونوا مخاطبين بذلك الخطاب على وجه الحقيقة ، وذلك كتصنيفات المصنّفين ، فإنّ الظنّ الحاصل لهم من ذلك الكلام حجّة بالنسبة إلى الجميع في الوقوف على مراد المتكلّم والطريقة المستمرّة من أهل العرف قاضية بذلك بحيث لا مجال أيضا ولا ريب فيه ، وعليه يبتنى في العادة فهم الكتب المصنّفة والرسائل الواردة ونحوها ، وشيء من الأمرين المذكورين لا ينفعنا في المقام.

أمّا الأوّل : فظاهر ، لعدم وقوع المخاطبة معنا في شيء من الخطابات الواردة في الشريعة. نعم لو قيل بعموم الخطاب الشفاهي لربّما أمكن القول به إلّا أنّ القول المذكور ضعيف حسب ما بيّن في محلّه.

وأمّا الثاني : فلعدم قيام دليل عليه ، كيف! والمقصود في المقام حصول القطع بالحجّية ، ولا يتمّ ذلك إلّا مع قيام الدليل القاطع على كون تلك الخطابات من هذا القبيل، بل من الظاهر خلافه بالنسبة إلى الأخبار ، فإنّ الظاهر أنّ خطاب الصادق عليه‌السلام لزرارة ومحمّد بن مسلم مثلا لا يشمل غيره ، ولا يريد بحسب ظاهر المخاطبة إلّا تفهيمه وإن كان غيره مشاركا للحكم معه ، فإنّ مجرّد المشاركة

٣٨٦

لا يقتضي إرادة تفهيمه بذلك الخطاب حتّى يكون الكلام الوارد منه عليه‌السلام بمنزلة كلام المصنّفين وخطابهم المقصود منه إفهام الجميع.

وهذا الوجه وإن لم يكن بعيدا بالنسبة إلى الكتاب ـ فإنّ الظاهر كونه موضوعا لإفهام الامّة واستفادتهم منه بالتدبّر فيه والتأمّل في معانيه إلى يوم القيامة على ما هو الظاهر من وضع الكتب ويستفاد من بعض الأخبار أيضا ـ إلّا أنّه لم يقم عليه دليل قاطع ، فلا يخرج أيضا من دائرة الظنّ المطلق ، ولا دليل على حجّية ذلك الظنّ المخصوص ، فلا فائدة في ادراج خطاباته تحت القسم المذكور (١) إلّا مع إقامة الدليل القاطع عليه لا بدونه ، كما هو الواقع.

فظهر بما ذكرنا أنّه ليس شيء من الظنون الحاصلة عندنا ممّا قام الدليل على حجّيته(٢) على سبيل السلب الكلّي ، ولا يتمّ القول بحجّية شيء منها إلّا بالدليل العامّ القاضي بحجّية ظنّ المجتهد مطلقا. هذا كلّه بالنسبة إلى السند والدلالة.

ثمّ يأتي بعد ذلك ملاحظة التعارض الحاصل بينهما ، فإنّه لا يحصل دليل ظنّي خال عن المعارض بالمرّة وعلاج التعارض بين الأدلّة من الامور الظنّية في الأغلب ، والأخبار الواردة فيه مع كونها ظنّية معارضة أيضا ، ولا يستفاد المقصود منها إلّا بالظنّ ، فهو ظنّ في ظنّ.

قلت : أمّا المناقشة في قطعيّة حجّية الكتاب من جهة وقوع الخلاف فيها فهو أوهن شيء ، لوضوح أنّ مجرّد وقوع الخلاف في مسألة لا يقضي بكونها ظنّية كيف! وأغلب المطالب الكلاميّة ممّا وقع الخلاف فيها من جماعة من العقلاء ، ومع ذلك فالحكم فيها من القطعيّات ، وليس المدرك لحجّية الكتاب منحصرا في الإجماع حتّى يناقش من جهة وجود الخلاف ، وعلى فرض انحصار دليله القطعي فيه ووجود الخلاف فيه من الجماعة مسبوق بالإجماع ، بل قد يدّعى قيام الضرورة عليه ، وقد بلغت تلك المسألة في الوضوح مبلغا لا يلتفت معه إلى الخلاف المذكور ولا إلى الشبهة الواردة فيها.

__________________

(١) في «ق» : الأول.

(٢) كذا ، والظاهر أنّ في العبارة سقط.

٣٨٧

وأمّا السنّة المرويّة والأخبار الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام وإن أمكن المناقشة في بادى الرأي في كون حجّيتها إجماعية نظرا إلى شيوع الخلاف فيها بيننا من قديم الزمان ، إلّا أنّ الطريقة التي قرّرناها في الرجوع إليها والأخذ بها هي الّتي استقامت عليه الشيعة من لدن زمان الأئمّة عليهم‌السلام بحيث يحصل القطع من التأمّل فيها كون ذلك ناشئا عن إجماع وإن خالف فيه من خالف ، فإنّ مجرّد وجود الخلاف من جهة بعض الشبهات والتباس الأمر على المخالف لا يقضي بكون المسألة ظنّية ، حتّى أنّ الأخباريّين توهّموا من ملاحظة ذلك كون الأخبار المأثورة عن الأئمّة عليهم‌السلام قطعي الصدور معلوم الورود عنهم عليهم‌السلام بحسب الواقع ، وهو خطأ في مقابلة التوهّم المذكور ، إلّا أنّهم خلطوا بين معلوم الحجّية ومعلوم الصدور ، والّذي ثبت من ملاحظة طريقة السلف وعملهم ـ الكاشف عن تقرير الأئمّة أو تصريحهم ـ هو القطع بالحجّية وتقرير صاحب الشرع ذلك طريقا موصلا إلى الأحكام كما قرّروا لإثبات الموضوعات لا العلم بالصدور ، إذ ليس شيء من الوجوه المذكورة مقيّدا له ، وقد فصّل القول فيه في محلّه.

وأمّا ما ذكر من المناقشة في حجّية الظنّ المتعلّق بالألفاظ فأوهن شيء ، إذ جريان السيرة المستمرّة من أهل اللغات على ذلك ظاهر أيضا ، فكما أنّ المخاطب يحمل الكلام على ظاهره حتّى يتبيّن المخرج عنه كذا غيره حسب ما هو ظاهر من ملاحظة طريقة الناس في فهم ما يسمعونه من الأقوال المحكيّة والخطابات المنقولة ، وقد ملئت منه كتب التواريخ وغيرها ، ولا يتوقّف أحد في فهمها وحملها على ظواهرها.

حجّة القول بحجّية مطلق الظنّ وجوه :

ـ أحدها ـ

وهو أقواها وأظهرها ما أشار إليه جماعة منهم ، تقريره على ما ذكره بعض المحقّقين منهم : أنّ باب العلم بالأحكام الشرعيّة منسدّ في أمثال زماننا إلّا في نادر

٣٨٨

من الأحكام ممّا قضت به الضرورة ، أو قام عليه إجماع الامّة أو الفرقة ، أو ثبت بالتواتر المعنوي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمّة عليهم‌السلام وليس ذلك إلّا في قليل من الأحكام ، ومع ذلك فلا يثبت بها في الغالب إلّا الامور الإجماليّة فلابدّ في معرفة التفصيل من الرجوع إلى سائر الأدلّة. وشيء منها لا يفيد العلم غالبا ، لعدم خلوّها عن الظنّ من جهة أو جهات ، وحينئذ فيتعيّن العمل بالظنّ لقيام الإجماع ، بل الضرورة على مشاركتنا مع الحاضرين في التكاليف وكونه أقرب إلى العلم.

قلت : وتوضيح ذلك أنّ هناك مقدّمات يتفرّع عليها حجّية مطلق الظنّ :

أحدها : أنّ التكاليف الشرعيّة ثابتة بالنسبة إلينا ولم يسقط العمل بالأحكام الشرعيّة عنّا ، فنحن مكلّفون بالأحكام مشاركون للموجودين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، وهذه المقدّمة قد قام عليها إجماع الامّة ، بل قضت به الضرورة الدينيّة.

ثانيها : أنّ الطريق إلى معرفة تلك الأحكام هو العلم مع إمكان تحصيله ، ولا يجوز الأخذ بمجرّد الظنّ والتخمين وسائر الوجوه ما عدا اليقين كما عرفت أوّلا من أنّه مقتضى العقل والنقل.

ثالثها : أنّ طريق العلم بالأحكام الشرعيّة منسدّ في أمثال هذه الأزمنة إلّا في نادر منها ، لوضوح أنّ معظم أدلّة الأحكام ظنّية ، وما يفيد القطع منها إنّما يدلّ غالبا على امور إجماليّة يفتقر تفاصيلها إلى إعمال الأدلّة الظنّية ، وقد فرضنا أصل المسألة في هذه الصورة.

رابعها : أنّه لا ترجيح عند العقل بين الظنون من حيث المدرك والمستند ولو بعد الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة ، إذ لم يقم دليل قاطع على حجّية شيء منها بالخصوص. ولو سلّم قيام الدليل القاطع على حجّية البعض كنصوص الكتاب وبعض أقسام أخبار الآحاد فليس ذلك ممّا يكتفى به في معرفة الأحكام بحيث لا يلزم مع الاقتصار عليه الخروج عن الدين ، فلابدّ إذن من الرجوع إلى غيرها ، وليس هناك دليل قاطع على حجّية ظنّ بالخصوص فيتساوى بقيّة الظنون في ذلك.

٣٨٩

إذا تمهّدت هذه المقدّمات فنقول : قضيّة المقدّمة الاولى والثالثة انتقال التكليف إلى العمل بغير العلم وإلّا لزم التكليف بغير المقدور ، وقضيّة المقدّمة الثانية كون المرجع حينئذ هو الظنّ ، إذ هو الأقرب إلى العلم في تحصيل الواقع ، بل نقول : إنّه بمنزلة بعض منه ، إذ الاعتقاد يتكامل إلى أن ينتهي إلى حدّ اليقين ، فإذا تعذّر القدر الزائد وجب مراعاة ما دونه وهكذا. ولذا يجب مراعاة أقوى الظنون ، فالأقوى من غير فرق بين الظنون المخصوصة وغيرها ، إذ تخصيص بعض بالحجّية دون الباقي ترجيح من غير مرجّح ، فيتساوى الجميع إلّا أن يقوم دليل على المنع من العمل ببعضها.

فإن قلت : إنّ قضيّة الدليل المذكور حجّية أقوى الظنون ممّا يمكن تحصيل أكثر الأحكام به بحيث لا يلزم من الاقتصار عليه الخروج عن الدين لكونه الأقرب إلى العلم ، فلا يثبت به حجّية ما دونه من مراتب الظنون ، فإنّ نسبتها إلى ذلك الظنّ كنسبة الظنّ إلى العلم ، فالقائم مقام العلم هو تلك المرتبة من الظنّ دون ما دونه من المراتب ، وعدم حصول تلك المرتبة في خصوص بعض المسائل لا يقضي بحجّية ما دونها ، إذ ليس في ترك العمل بها إذن خروج عن الدين ، وأيضا بعد بطلان احتمال الترجيح بين الظنون نظرا إلى انتفاء المرجّح لا يتعيّن الأخذ بالجميع ، لاحتمال البناء على التخيير ، وأيضا الأخذ بالجميع أيضا ترجيح لأحد المحتملات من غير مرجّح ، إذ كما يحتمل حجّية البعض دون البعض كذا يحتمل حجّية الجميع ، فكما أنّه لا مرجّح لحجّية البعض كذا لا مرجّح لحجّية الكلّ.

قلت : أمّا الأوّل فمدفوع بوضوح بطلان الاحتمال المذكور ، لإطباق العلماء على خلافه ، فلذا لم يؤخذ بطلانه في الاحتجاج ، لكونه مفروغا عنه في المقام ومع ملاحظة ذلك يتمّ ما ذكر من التفريع.

وأمّا الثاني فبأنّ احتمال التخيير بين الظنون مدفوع باستحالته ، فإنّ تعارض الظنّين كتعارض العلمين غير ممكن ، إذ مع رجحان أحد الجانبين يكون الآخر وهما. وإنّما يعقل التعارض بين الظنّين ، وهو غير محلّ الكلام.

٣٩٠

ومع الغضّ عن ذلك فالبناء على التخيير بين الظنون ممّا لم يقل به أحد في المقام ، فهو مدفوع أيضا بالإجماع. ولو اريد به التخيير في القول بحجّية أنواع الظنون المتعلّقة بالمسائل المختلفة بأن يكتفى ببعضها ممّا يتمّ به نظام الأحكام بحيث لا يلزم معه الخروج عن الدين فيتخيّر حينئذ في تعيين ذلك البعض وترك غيره ، فهو وإن أمكن تصوره في الخارج إلّا أنّه بيّن الفساد أيضا بالإجماع ، بل الضرورة.

وأمّا الثالث فبأنّ الثابت من الدليل المذكور مع قطع النظر عن المقدّمة الأخيرة هو حجّية الظنّ في الجملة ، وحيث لا دليل على اعتبار خصوص بعض الظنون دون غيره وكانت الطرق الظنّية متساوية في نظر العقل مع قيام الضرورة على الأخذ بالظنّ لزم مراعاة نفس المظنّة من غير اعتبار لخصوص مأخذه ، لعدم إمكان اعتباره من جهة بطلان الترجيح من غير مرجّح ، فلزم اعتبار كلّ ظنّ حسب ما أوردنا ، وليس ذلك ترجيحا لحجّية الجميع عند دوران الأمر بينها وبين حجّية البعض من غير مرجّح ، بل قول به من جهة قيام الدليل عليه ، كما عرفت.

هذا ، ويمكن الإيراد على الدليل المذكور بوجوه :

أحدها : منع المقدّمة الاولى ، بأن يقال : المراد ببقاء التكليف والمشاركة مع الحاضرين في التكليف إمّا التكاليف الواقعيّة الأوّليّة أو التكاليف الظاهريّة المتعلّقة بالمكلّفين بالفعل في ظاهر الشريعة بأن يكونوا مخاطبين فعلا على نحو خطابهم ، والأوّل مسلّم ، الّا أنّه لا يفيد كوننا مكلّفين بها فعلا وإنّما يفيد تعلّقها بناء على فرض اطّلاعنا عليها وعلمنا بها ، إذ ليست التكاليف الواقعيّة إلّا خطابات شأنيّة وإنّما يتعلّق بالمكلّفين فعلا إذا استجمعوا شرائط التكليف حسب ما فصّل في محلّه. والثاني ممنوع ، بل فاسد ، ضرورة اختلاف تلك التكاليف باختلاف الآراء ، ألا ترى أنّ كلّ مجتهد ومقلّديه مكلّف بما أدّى إليه اجتهاده مع ما بين المجتهدين من الاختلافات الشديدة في المسائل؟! فلسنا مكلّفين فعلا بجميع ما كلّفوا به كذلك قطعا.

٣٩١

والحاصل : أنّ المشاركة في التكاليف الواقعيّة الأوّلية لا يفيد تكليفنا بها فعلا حتّى نتدرّج بعد انسداد باب العلم بها إلى الظنّ ، والمشاركة في التكاليف الظاهريّة الفعلية ممنوعة ، بل باطلة ، فكونهم مكلّفين ظاهرا بالتكاليف الواقعيّة لتمكّنهم من تحصيل العلم لا يقضي بكوننا مكلّفين بتلك الأحكام حتّى يتنزّل بعد انسداد باب العلم بها إلى ظنّها ، إذ قد يكون تكليفنا الظاهري حينئذ أمرا آخر.

وفيه : أنّ الحكم الظاهري التكليفي هو الحكم الواقعي في نظر المكلّف وبحسب اعتقاده ، وليس حكما آخر متعلّقا بالمكلّف مع قطع النظر عن انطباقه مع الواقعي ليقابل سقوط الأوّل ثبوت (١) الثاني ، بل إنّما يثبت الحكم الظاهري من جهة ثبوت التكليف بالواقع وعدم سقوطه عن المكلّف فيضطرّ إلى تحصيل الواقع ، فيكون ما حصّله حكما ظاهريّا متعلّقا به فعلا ، فإن طابق الواقع بحسب الواقع كان واقعيّا أيضا ، وإلّا كان ظاهريّا محضا قائما مقام الواقع ، وبه يسقط تكليفه بالواقع بالنظر إلى الواقع وإن كان مكلّفا به في الظاهر معتقدا كون ما يأتي به هو الواقع فليس الحكم الظاهري أمرا ثابتا مستقلّا مع قطع النظر عن ثبوت التكليف بالواقع وكونه هو الواقع ، وإلّا لكان ذلك أيضا حكما واقعيّا مستقلّا.

نعم قد يكون الحكم الظاهري بالنسبة إلى المكلّف أمرا مخالفا للواقع مع العلم بمخالفته ، كما إذا لم يتمكّن من استعلام المجمل ولم يكن له طريق في الخروج عن عهدة التكليف به ، فإنّه يرتفع عنه ذلك التكليف في الظاهر ، ويحكم ببراءة ذمّته مع علمه بخلافه ، وقد يكون مع الظنّ أو الشكّ في المخالفة كما إذا دار العمل بين الوجوب والندب وظنّ كونه واجبا من غير طريق شرعي أو شكّ فيه ، فإنّه ينفى الوجوب بالأصل ويحكم بالاستحباب مع عدم الظنّ بكونه واقعيّا ، لكنّ ذلك كلّه في مقام رفع الحكم والتكليف لا في مقام إثبات الحكم ، وإن لزمه (٢) ثبوت حكم شرعي ظاهرا في الأخيرين ، وذلك في الحقيقة طريق شرعي للحكم بكونه الواقع بالنسبة إلى ذلك المكلّف وإن لم يثبت به الواقع لا علما ولا ظنّا ، فإنّ الطريق

__________________

(١) في «ق» : ذهاب.

(٢) في «ف» : لزم.

٣٩٢

إلى الحكم بالشيء شرعا غير الطريق إلى نفس ذلك الشيء ، يعرف ذلك بملاحظة الطرق المقرّرة للموضوعات ، فإنّه إنّما يستفاد منها الحكم شرعا بثبوتها إلّا أنّه يحصل هناك اعتقاد بحصولها في الواقع ، والمقصود هو الأوّل ، وهو المراد بكون شيء طريقا إلى الواقع ، وإنّما يتفرّع عليه الحكم المنوط بالواقع من جهة الحكم بثبوت ذلك في الواقع.

إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّه لمّا كانت التكاليف الواقعيّة ثابتة على المكلفين بالنظر إلى الواقع ولم يمكن القول بسقوطها عنّا بالمرّة كان الواجب حصول طريق لنا إليها ، ولمّا لم يكن هناك طريق قطعي ثابت عن الشارع وجب الأخذ بالظنّ بمقتضى العقل إلى آخر ما ذكرنا. فإن كان المظنون مطابقا للواقع فلا كلام ، وإلّا كان التكليف بالواقع ساقطا عنّا بحسب الواقع ، وكان ذلك حكما ثانويّا قائما مقام الأوّل بالنظر إلى الواقع أيضا وإن كان مكلّفا به في الظاهر من حيث إنّه الواقع.

فالقول بأنّ الاشتراك في التكاليف الواقعيّة لا يقتضي ثبوتها بالنسبة إلينا وتعلّقها بنا إن اريد به عدم اقتضائه لحكمنا باشتغال ذمّتنا بالواقع ولزوم تفريغها عنه فهو بيّن الفساد ، كيف؟ والمفروض قضاء الإجماع والضرورة به ، وإن اريد به عدم اقتضائه تعيّن تلك التكاليف علينا بحسب الواقع مع عدم ايصال الطريق المقرّر في الظاهر للإيصال إليها بالنظر إلى الواقع فمسلّم ، ولا منافاة فيه لما نحن بصدده.

وربّما يورد في المقام بأنّ الانتقال من العلم إلى غيره من جهة انسداد سبيل العلم إنّما يلزم في حكم العقل إذا سلّم بقاء تلك التكاليف بعد فرض انسداد سبيل العلم بها ، وهو في محلّ المنع ، لاحتمال القول بسقوطها مع عدم التمكّن من العلم بها لانتفاء الطريق إلى الوصول إليها ، وعدم ثبوت كون الطريق طريقا شرعيّا قاضيا بثبوتها وهو بمكان من الوهن والسقوط ، إذ المقدمة القائلة ببقاء التكاليف الشرعيّة في الجملة وعدم سقوطها عن المكلّفين بالمرّة قد دلّ عليها إجماع الامّة بل الضرورة ، والاقتصار على القدر المعلوم من التكاليف يوجب هدم الشريعة وسقوط معظم التكاليف عن الامّة.

ويمكن أن يقرّر المقدمة المذكورة ببيان أوضح لا مجال فيها للمنع المذكور

٣٩٣

ويقوم مقام المقدّمتين المفروضتين بأن يقال : إنّه قد دلّ إجماع الفرقة بل الامّة ، بل الضرورة الدينيّة على ثبوت أحكام بالنسبة إلينا يزيد تفصيلها عمّا قامت عليها الأدلّة القطعيّة التفصيليّة على خصوصها بحيث لو اقتصرنا على مقدار المقطوع به من التفاصيل وتركنا العمل بالباقي لتركنا كثيرا ممّا كلّفنا به قطعا ، إذ ليس المقطوع به من الأحكام على سبيل التفصيل إلّا أقلّ قليل ، وثبوت هذا القدر من التكليف كاف في إثبات المقصود وإن منع مانع من توجّه جميع الأحكام الواقعيّة الثابتة في أصل الشريعة إلينا ، فلا حاجة إلى أخذها مقدّمة في الدليل ليتمسّك في دفعه بالوجه المتقدّم.

هذا ويمكن الإيراد في المقام بأنّه كما قرّر الشارع أحكاما واقعيّة كذا قرّر طريقا للوصول إليها عند انسداد باب العلم بها أو قيام الحرج في التكليف بتحصيل اليقين بخصوصيّاتها ، فيكون مؤدّاها هو المكلّف به في الظاهر ، سواء حصل به الإيصال إلى الواقع أو لا. وتقريره للطريق المذكور ممّا لا يدانيه ريب بعد الحكم ببقاء التكليف ، سواء كان ذلك هو مطلق الظنّ كما يقوله المستدلّ أو الظنّ الخاصّ كما ذهب إليه غيره.

وحينئذ فلابدّ من تحصيل العلم بذلك الطريق مع الإمكان كما هو الشأن في غيره من الأحكام المقرّرة ، فإذا انسدّ سبيل العلم ـ بما قرّره حسب ما يدّعيه المستدلّ من عدم قيام دليل قاطع على حجّية شيء من الظنّيات الخاصّة ، وعدم إفادة شيء من الأدلّة المنصوبة له ـ لزم الرجوع إلى الظنّ بتحصيله أخذا بما هو الأقرب إلى العلم حسب ما قرّره ، فيجب الأخذ بما يظنّ كونه طريقا منصوبا من الشارع لاستنباط الواقع ، ويكون مؤدّاه هو الحكم المطلوب هنا في الظاهر ، فالواجب علينا أوّلا تحصيل العلم بما جعله طريقا عند انسداد باب العلم ، وبعد انسداد سبيل العلم به يجب علينا الانتقال إلى الظنّ به ، وأين ذلك من الانتقال إلى الظنّ بالواقع في خصوصيّات المسائل كما دلّه (١) المستدلّ؟

__________________

(١) في «ق» : رآه.

٣٩٤

فالحاصل أنّه لا تكليف بالأحكام الواقعيّة إلّا بالطريق الموصل إليها فنختار القول بتكليفنا بالأحكام الواقعيّة ، لكن من الطريق المقرّر عند صاحب الشريعة ، سواء كان هو العلم أو غيره. فالمكلّف به في الظاهر ليس سوى الطريق ، فإذا انسدّ سبيل العلم بالطريق كما اعترف به المستدلّ فلابدّ من الانتقال إلى الظنّ بما هو مؤدّاه دون الظنّ بالواقع كما هو مقصود المستدلّ ، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ الانتقال إلى الظنّ بما جعله طريقا إلى الواقع إنّما يلزم في حكم العقل إذا علم بقاء التكليف بالأخذ بالطريق المقرّر ولا دليل عليه بعد انسداد سبيل العلم ، إذ لا ضرورة قاضية به كما اقتضت ببقاء التكليف في الجملة بطريق ما ممّا لا مناص عنه في استنباط الأحكام فلا بدّ حينئذ من طريق مقرّر عند الشارع بحسب الواقع لمعرفة الأحكام والوصول إليها ولو مع انسداد باب العلم بنفس الطريق المقرّر للاستنباط ، إذ لا مناص عن العمل ولا عن الأخذ بطريق من الطرق. وحينئذ فإذا لم يمكن العلم بذلك الطريق تعيّن الأخذ بظنّه ، حسب ما قرّر في الدليل المذكور.

والحاصل : أنّ للشارع حينئذ طريقا لمعرفة الأحكام ، إذ المفروض عدم سقوط التكليف بها ، فإذا انسدّ سبيل العلم به تعيّن الأخذ بظنّه. فما ذكر في الإيراد من احتمال سقوط التكليف بالأخذ بالطريق المقرّر إن اريد به سقوط الأخذ بالطريق المقرّر مطلقا فهو واضح الفساد ، فإنّه لا يقوم ذلك الاحتمال إلّا إذا احتمل سقوط التكليف بغير المعلومات وأمّا مع بقائه فلا يعقل سقوط التكليف بالأخذ بطريق موصل إليها في حكم الشارع ، إذ لابدّ حينئذ من طريق يوافق رضاه وهو المراد من الطريق المقرّر ، مضافا إلى أنّه بعد تسليم طريق مقرّر من الشارع من أوّل الأمر وعلم المكلّف به إجمالا لا يجوز عند العقل ترك الأخذ به مطلقا مع عدم ثبوت سقوط الأخذ به ، بل يحكم حينئذ بتقديم الأخذ بالظنّ به عند انسداد سبيل العلم إليه على ترك الأخذ لمجرّد احتمال سقوطه مع ظنّ خلافه ، فيقدّم الظنّ حينئذ

٣٩٥

عند انسداد باب العلم قطعا أخذا بما هو الأقوى والأحرى والأقرب إلى الواقع مع عدم إمكان العلم به.

ثانيها (١) : أنّ ما ذكر في المقدّمة الثانية «من أنّ الطريق إلى الوصول إلى الأحكام هو العلم مع الإمكان» إن اريد به أنّ الطريق أوّلا إلى الواقع هو ما يعلم معه بأداء التكليف في ظاهر الشريعة وحصول الفراغ عن الاشتغال في حكم الشرع فمسلّم ، ولا يلزم منه بعد انسداد طريق العلم به ـ ولو باعتبار العلم بأداء المكلّف به بحسب الواقع نظرا إلى توقّف اليقين بالفراغ عليه مع عدم قيام دليل على الاكتفاء بغيره من سائر الطرق ـ إلّا الرجوع إلى الظنّ بما جعله الشارع طريقا إلى معرفة ما كلّف به ، فيقوم ذلك مقام العلم به ، بل يحصل منه العلم أيضا بعد ملاحظة ذلك وإن كان في المرتبة الثانية. ولا ربط لذلك بحجّية الظنّ المتعلّق بخصوصيّات الأحكام كما هو مقصود المستدلّ.

وإن اريد به أنّ الطريق أوّلا هو العلم بالأحكام الواقعيّة فينتقل بعد انسداد سبيله مع العلم ببقاء التكليف إلى الأخذ بالظنّ بها فهو ممنوع ، بل القدر اللازم منه أوّلا هو ما عرفت من العلم بأداء التكليف شرعا كما مرّ تفصيل القول فيه ، وكون الطريق المقرّر أوّلا في الشريعة هو العلم بالأحكام الواقعيّة ممنوع ، وليس في الشرع ما يدلّ على لزوم تحصيل العلم بكلّ الأحكام الواقعيّة ، بل الظاهر أنّه ممّا لم يقع التكليف به مع انفتاح طريق العلم لما في إناطة التكليف به من الحرج التامّ بالنسبة إلى عامّة الأنام ، بل المقرّر من الشارع طرق خاصّة لأخذ الأحكام كما قرّر طرقا خاصّة للحكم بالموضوعات الّتي انيط بها الأحكام ، ونزّلها منزلة العلم بها.

وقد مرّ تفصيل القول في تضعيف ما قد يقال من إناطة التكليف بالواقع وأنّه لابدّ من القطع بالواقع في خصوصيّات المسائل ، وعدم الاكتفاء بالطرق الظنّية إلّا بعد انسداد سبيل العلم كما هو مبنى الاحتجاج المذكور.

ومحصّل الكلام : أنّ الطريق أوّلا إلى الواقع هو ما قرّره الشارع وجعله طريقا

__________________

(١) أي : الوجه الثاني من وجوه الإيراد على دليل الانسداد ، تقدّم أوّلها في ص ٣٩١.

٣٩٦

إلى العلم بتفريغ الذمّة لا نفس العلم بأداء الواقع ، ولذا إذا علمنا ذلك صحّ البناء عليه قطعا ولو مع انفتاح باب العلم بالواقع ، فعدم وجوب مراعاة القطع بالواقع إذا حصل القطع بتفريغ الذمّة في ظاهر الشريعة أقوى شاهد على ما قلناه.

نعم إذا انسدّ علينا الطريق المذكور تعيّن العمل بما يعلم معه بأداء الواقع مع إمكانه ، نظرا إلى عدم قيام دليل على حصول البراءة بغيره ، وقضاء اليقين بالشغل باليقين بالفراغ في حكم العقل لا لتعيّن ذلك بخصوصه ، بل لإيجابه ذلك من جهة الجهل بحصول الفراغ من حكم الشرع بغيره ، فإذا انسدّ علينا ذلك تعيّن الأخذ بالطريق الّذي يظنّ كونه طريقا إلى تفريغ الذمّة ، ويرجّح في نظر العقل جعله الشارع سبيلا إلى معرفة التكليف وثبوت الحكم في ظاهر الشريعة ، فيقدّم ذلك على مطلق الظنّ المتعلّق بالواقع الخالي عن الظنّ بكونه المكلّف به في الظاهر ، فكما أنّه لو علم هناك طريق مقرّر من الشرع في معرفة تفريغ الذمّة كان ذلك هو المتّبع في أداء التكليف وصحّ تقديمه على الأخذ بما فيه العلم بالبراءة الواقعيّة ، فكذا لو كان هناك ظنّ بالطريق المقرّر قدّم على ما يظنّ معه بالإتيان بما هو الواقع ، غير أنّ هناك فرقا بينهما من حيث إنّ الأخذ بالطريق المعلوم جائز هناك أيضا مع عدم منع الشرع من الأخذ به ، نظرا إلى استقلال العقل في الحكم برجحان الأخذ بالاحتياط ما لم يمنع منه مانع ، وهنا لا يجوز الأخذ بمجرّد الظنّ المتعلّق بالواقع من دون ظنّ بكونه الطريق إلى تفريغ الذمّة ، لما عرفت من أنّ الملحوظ في نظر العقل أوّلا هو المعرفة بفراغ الذمّة في ظاهر الشريعة ، وحيث تعذّر العلم به وكان باب الظنّ به مفتوحا لا وجه لعدم الإتيان بمقتضاه والأخذ بالمشكوك أو الموهوم من حيث الأخذ وإن كان هناك ظنّ بأداء الواقع.

والحاصل : أنّ الإتيان بما هو معلوم يقضي بالعلم بأداء تكليفه بحسب الشرع ولو مع العلم بما جعله الشارع طريقا إلى الواقع ، بخلاف الإتيان بما يظنّ مطابقته للواقع بعد انسداد باب العلم ، إذ لا يستلزم ذلك الظنّ بأداء ما كلّف به في ظاهر الشريعة من الرجوع إلى الطريق المقرّر لكشف الواقع ، لما هو ظاهر من جواز

٣٩٧

حصول الظنّ بالواقع والقطع بعدم كونه طريقا في الشريعه إلى الواقع كما في ظنّ القياس ، وقد يظنّ عدمه كما في ظنّ الشهرة ، لقيام الشهرة على عدم الاعتداد به في الشريعة ، وقد يشكّ فيه كما في بعض الظنون المشكوك حجّيتها وجواز الأخذ بها ، ولا ترجيح في نظر العقل لجواز الاعتماد عليها في الشريعة على عدمه. فظهر أنّه لا ملازمة بين الظنّ بالواقع والظنّ بكون الأخذ بذلك المظنون هو المكلّف به في الشريعة والحجّة علينا في استنباط الحكم والمتّبع بمقتضى الدليل المذكور هو الظنّ الثاني دون الأوّل ، وسيأتي تتمّة الكلام في ذلك إن شاء الله.

ثالثها (١) : المنع من المقدّمة الثالثة لإمكان المناقشة فيها بأنّه إن اريد بانسداد سبيل العلم بالأحكام انسداد سبيل المعرفة بنفس الأحكام الشرعيّة على سبيل التفصيل فمسلّم ، ولا يقضي ذلك بالانتقال إلى الظنّ ، إذ الواجب على المكلّف بعد تعيّن الاشتغال بالأحكام الشرعيّة في الجملة هو تحصيل اليقين بالفراغ منها ، ولا يتوقّف ذلك على تحصيل اليقين بحكم المسألة ليتنزّل بعد انسداد سبيله إلى الظنّ به. وإن اريد انسداد سبيل العلم بأداء التكاليف الشرعيّة والخروج عن عهدتها فممنوع ، فإنّه كما يمكن العلم بالفراغ بتحصيل العلم بحكم المسألة والجري على مقتضاه ، كذا يمكن تحصيله بمراعاة الحائطة في الغالب ولو بتكرار العمل ، وكثيرا ممّا لا يمكن فيه ذلك لا مانع من القول بسقوط التكليف بالنسبة إليه ، إذ لا يلزم من البناء عليه خروج عن الدين ، فإنّ معظم الواجبات والمحرّمات معلوم بالضرورة أو الإجماع.

غاية الأمر عدم قيام الدليل القاطع على تفاصيل تلك المجملات وتحصيل القطع بأداء الواجبات ممكن في الغالب بأداء فرد يقطع باندراجه في الطبيعة المطلوبة ، وفي ترك المحرّمات قد يبنى أيضا على الاحتياط وقد يقتصر على القدر المتيقّن على اختلاف المقامات ، ومع عدم جريان الاحتياط في بعض المقامات مع العلم ببقاء التكليف فلا أقلّ من لزوم مراعاته في ما يمكن فيه

__________________

(١) الوجه الثالث من وجوه الإيراد على دليل الانسداد.

٣٩٨

المراعاة ، لإمكان تحصيل اليقين بالنسبة إليه ، فلا وجه للرجوع فيه إلى الظنّ ، لما عرفت من أنّ المناط في تحصيل اليقين هو اليقين بأداء التكليف دون اليقين بحكم المسألة لينتقل إلى الظنّ به بعد انسداد سبيله ، فلا يتمّ القول بلزوم الرجوع إلى الظنّ بالحكم بعد انسداد سبيل العلم به كما هو المدّعى.

ولو سلّم توقّف الخروج عن عهدة التكليف على العلم بالحكم في بعض المقامات مع القطع ببقاء التكليف حينئذ فغاية الأمر حينئذ القول بحجّية الظنّ هناك ، وأين ذلك من المدّعى؟ ودعوى عدم القول بالفصل بعد ثبوت حجّية الظنّ فيه مطلقا محلّ تأمّل ، على انّه غير مأخوذ في الاحتجاج ، مضافا إلى أنّ مقتضى ما سلّمناه من لزوم تحصيل العلم بالفراغ هو الانتقال بعد انسداد سبيله إلى ما هو الأقرب إلى اليقين بالفراغ ، فيجب حينئذ مراعاة الأحرى في تحصيل الواقع ، ولا ملازمة بينه وبين الأخذ بما يظنّ من الأحكام.

فغاية الأمر أن يكون الواجب في ما لا يمكن فيه تحصيل العلم بالفراغ ـ من مراعاة الاحتياط أو العلم بالحكم والجري على مقتضاه ـ أن ينتقل إلى ما يكون الظنّ بالفراغ معه أقوى ، ويكون الحكم بتحصيل الواقع مع مراعاته أحرى ، وهو غير الأخذ بما هو المظنون في حكم المسألة كما هو المدّعى إن أمكن توقّف حصوله على مراعاته في بعض المقامات.

فغاية الأمر ثبوت حجّية الظنّ في ذلك المقام لو تحقّق حصوله في الخارج وثبت بقاء التكليف به حينئذ من ضرورة أو إجماع. وما قد يقال : من عدم قيام دليل على وجوب الاحتياط مدفوع بأنّ هذا الدليل على فرض صحّته كاف فيه ، فإنّ مقتضاه كما عرفت وجوب تحصيل القطع بالفراغ مع الإمكان ، ولا ريب في حصوله بمراعاة الاحتياط.

وما قد يتراءى من وقوع الخلاف في جواز الاحتياط ، لمخالفة الحلّي فيه حيث عزي إليه القول بكونه تشريعا محرّما ، فكيف يمكن القطع بحسنه مع مخالفته؟ ومن أنّه لا يمكن مراعاته في معظم العبادات ، لوقوع الخلاف في

٣٩٩

وجوب كثير من أجزائها واستحبابه ، فلابدّ مع مراعاة القول باعتبار الوجه من تكرار العمل، وهو يصل في الغالب إلى حدّ لا يمكن الفراغ منه موهون بأنّ طريق العلم غير مسدود في هاتين المسألتين لقطع العقل بحسن الاحتياط في تفريغ الذمّة ، بل والقطع به بملاحظة ما ورد في الشرع ، ومجرّد وقوع الخلاف في مسألة لا يقضي بعدم إمكان تحصيل القطع (١) فيها ، على أنّه خلافه في محلّ الفرض ـ أعني ما إذا انسدّ باب العلم بالحكم وانحصر طريق العلم بتفريغ الذمّة في الاحتياط مع عدم قيام الدليل على حجّية الظنّ ـ غير معلوم ، بل الظاهر خلافه. وكذا الحال في المسألة الثانية ، فإنّ القول بوجوب نيّة الوجه في الأجزاء موهون جدّا ، بل مقطوع بفساده سيّما بعد عدم إمكان تحصيل القطع وعدم قيام دليل على الاكتفاء بالظنّ ، ومع الغضّ عن ذلك فبعد وجوب تحصيل العلم بالفراغ وكون الاحتياط طريقا إلى العلم لانحصار الطريق فيه ، يجب البناء عليه ، ومعه يكون الإتيان بالأجزاء الدائرة بين الوجوب والندب ـ مثلا ـ واجبا فلابدّ على القول باعتبار نيّة الوجه من أدائها على جهة الوجوب فلا حاجة إلى التكرار.

وما قد يتخيّل : من اتّفاق الأصحاب على عدم وجوب الأخذ بالاحتياط في جميع المقامات ـ أعني في مقام الجهل بالتكليف الإيجابي أو التحريمي ، أو الشكّ في المكلّف به إيجابا أو منعا ـ فكيف يمكن الالتزام في الجميع؟ مدفوع بالالتزام به في محلّ الإجماع ، فيتمسّك فيه حينئذ بالأصل.

والحاصل : أنّ الأمر دائر في المقام بين القول بسقوط التكليف من جهة الأصل والأخذ بالاحتياط [وشيء منهما لا ربط له بالعمل بالظن. نعم قد يقال باتّفاقهم على عدم وجوب العمل بالاحتياط](٢) في ما دلّ على خلافه الأدلّة الظنّية في الجملة ، لاتّفاق القائل بأصالة الظنّ والقائل بالظنون المخصوصة عليه ، إلّا أنّ كون الاتّفاق المذكور حجّة شرعيّة محلّ تأمّل ، لوضوح المناقشة في كشفه عن قول الحجّة كما لا يخفى ، على أنّهم إنّما قالوا به من جهة قيام الأدلّة عندهم

__________________

(١) في «ق» الواقع.

(٢) أثبتناها من «ف» و «ق».

٤٠٠