هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

أيضا عامّا محلّ تأمّل. والظاهر أنّ صيغ الجموع موضوعة لنفس آحاد ما فوق الاثنين من مصاديق الجماعة لا أنّ نفس مفهوم الجماعة ما وضعت لها ، فإذا دخلت عليها لام الجنس كانت اللام فيها إشارة إلى مطلق الجنس الحاصل في ضمن الأفراد ، فتارة لا يلاحظ وجوده في ضمن المتعدّد بل يكون الملحوظ مجرّد الماهيّة فيكون مفاده كالمفرد المعرّف به ، كما تقول : فلان يركب الخيل أو لا أتزوّج النساء ، فإنّه ليس المراد ركوبه لما زاد على الدابّتين أو عدم تزويج ما زاد على الإثنتين منهنّ ولا مجاز في لفظ الجمع كما توهّم على ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

وتارة يلحظ الجنس من حيث وجوده فيما زاد على الاثنين وإرادة جنس الجماعة المفهوم من الجمع وإن أمكن إلّا أنّه كأنّه بعيد عن اللفظ فظهر بذلك ما في كلامه ـ زيد في إكرامه ـ فلا تغفل.

واسم الجنس عبارة عن اللفظ الموضوع لتلك الماهيّة المطلقة من دون ملاحظة الأفراد والتعدّد على ما هو ظاهر إطلاقاتهم فليس المثنّى والمجموع من اسم الجنس وإن اشير بهما إلى الجنس ـ كما في لا أتزوّج الثيّبات فيما أشرنا إليه ـ وقد صرّح بوضع أسماء الأجناس للماهيّة المطلقة غير واحد من محقّقي أهل العربيّة ـ كنجم الأئمّة والأزهري ـ وهو ظاهر التفتازاني في مطوّله. وذهب بعضهم إلى وضعه للفرد المنتشر ـ كالنكرة ـ والأوّل هو الأظهر ، لتبادر نفس الجنس عند سماعه مجرّدا عن اللواحق الطارئة ، ولأنّه المفهوم منه عند دخول اللام عليه أو «لا» الّتي لنفي الجنس ، ولو كان موضوعا للفرد المنتشر لكان مجازا أو موضوعا هناك بالوضع الجديد. وكلاهما في غاية البعد ، إذ لا وجه لالتزام التجوّز في مثله مع كثرته وعدم خروجه عن الظاهر ـ كما يظهر بالتأمّل في الإطلاقات ـ والقول باختصاص وضعه بتلك الحال كأنّه خروج عن ظاهر الطريقة في الأوضاع ، ولا يرد ذلك في النكرة نظرا إلى كونها حقيقة في الفرد المنتشر ، إذ يمكن أن يقال بكون نفس اللفظ فيها دالّا على الجنس والتنوين على الخصوصيّة. فوضعه للجنس المطلق لا ينافي إطلاقه على الفرد مع دلالة شيء آخر على إرادة الخصوصيّة

١٦١

بخلاف ما لو قيل بوضعه للفرد ، إذ لا يمكن إرادة الجنس منه إذن على الحقيقة.

فظهر بما بيّنّا أنّ النكرة دالّة على الفرد المنتشر لا بوضع واحد بل بوضعين ، فإنّ نفس اللفظ تدلّ على الجنس المطلق والتنوين اللاحق له على كون ذلك الجنس في ضمن فرد، فيدلّ مجموع الاسم والتنوين على الفرد المنتشر ، وهذا هو المراد بكون النكرة حقيقة في الفرد المنتشر لا بمعنى أنّها موضوعة للفرد المنتشر بوضع مخصوص ، فلا تغفل.

ومن هنا يظهر مؤيّدا آخر لما ذكرناه من وضع أسماء الأجناس للماهيات المطلقة فإنّها القابلة لاعتبار ما يدلّ عليه الطوارئ الطارئة على اللفظ من اللام والتنوين وعلامتي التثنية والجمع من الخصوصيّات ، فإنّه إذا دلّ مجرّد اللفظ على المعنى المطلق صحّ تقييده بتلك القيود بخلاف ما لو قلنا بوضعها للفرد.

والمعرّف بلام الجنس هو ما دخل عليه لام الجنس وهي التي يشار بها الى الجنس فتفيد تعريف الجنس والإشارة إليه ، فنفس اللفظ وإن دلّ على الجنس إلّا أنّه لا يفيد تعريفه والإشارة إليه من حيث إنّه معيّن بل إنّما يدلّ عليه مطلقا ، وإنّما يستفاد التعيين من اللام الداخلة عليه. فما ذكره نجم الأئمّة «من أنّ هذه الفائدة ممّا يقوم بها نفس الاسم المجرّد عن اللام فالحقّ أنّ تعريف اللام في مثله لفظي» ليس على ما ينبغي وسيظهر لك حقيقة الحال.

وعلم الجنس ما وضع للجنس بملاحظة حضوره وتعيّنه في الذهن ، فمدلوله كمدلول المعرّف بلام الجنس ولذا كانا من المعارف ، ومجرّد اسم الجنس وإن دلّ على الماهيّة ـ كما مرّ ـ إلّا أنّ مدلوله لم يتقيّد بشرط الحضور.

فإن قلت : إنّ اللفظ إشارة إلى معناه فلا يكون مدلوله إلّا حاضرا في الذهن فما الفارق بين الأمرين.

قلت : فرق ظاهر بين حصول الصفة للشيء واعتباره معه ، فالماهيّة إذا اخذت مطلقة كانت منكّرة ، لعدم ملاحظة التعيين معها فلفظ أسد يدلّ على الماهيّة المعروفة من غير تقييدها بالحضور في الذهن ، وإن لزمها الحضور عند دلالة اللفظ

١٦٢

عليها فهو دالّ على الماهيّة المطلقة والحضور في الذهن من لوازم الدلالة ، ولفظة «اسامة» موضوعة للماهيّة الحاضرة في الذهن فالحضور والتشخّص في الذهن مأخوذ في وضعها.

وبتقرير أوضح : قد يوضع اللفظ للماهيّة الخارجيّة سواء حصل عند العقل أو لا لكن دلالة اللفظ عليها يستلزم حصولها فيه حال الدلالة فليس خصوص المقيّدة بالحصول هو الموضوع له.

وقد يوضع للماهيّة المقيّدة بالحصول في الذهن فالحصول بالفعل فيه قيد للوضع مأخوذ فيه وليس ما عداه من موضوع اللفظ ، فالأوّل هو حال الوضع في اسم الجنس والثاني هو الحال في علم الجنس والمعرّف بلام الجنس والعهد الذهني. فظهر بذلك ما في كلام نجم الأئمّة حيث بنى على أنّ التعريف في اللام لفظي في الجنس والاستغراق والعهد الذهني وأنّ اللام المفيدة للتعريف حقيقة هي الّتي للعهد الخارجي لا غير ، وبنى أيضا على أنّ التعريف في علم الجنس من قبيل التعريف اللفظي ، قال ـ بعد توجيه كلامهم في جعل الأعلام الجنسيّة من المعرّف الحقيقي ـ أقول : إذا كان لنا تأنيث لفظي كغرفة وبشرى ونسبة لفظيّة نحو كرسي فلا بأس أن يكون لنا تعريف لفظي إمّا باللام ـ كما ذكرنا قبل ـ وإمّا بالعلميّة كما في اسامة ، انتهى. فعلى هذا لا فرق بين اسم الجنس وعلم الجنس في المعنى وكذا بينه وبين المعرّف بلام الجنس وإنّما الفرق بينهما في الامور اللفظيّة.

قلت : وتنقيح المرام يتمّ ببيان معنى التعريف في المقام ، فنقول : إنّ التعريف هو تعيين الشيء وإحضاره في الذهن من حيث كونه معيّنا. إمّا في الخارج أو في الذهن ، فلا منافاة بين الكلّية والتعريف ، إذ الكلّي متعيّن في الذهن فإن اريد من حيث تعيينه فيه كان معرفة وإلّا كان نكرة ، فلفظ إنسان مع قطع النظر عن لواحقه العارضة له نكرة ، لدلالتها على الطبيعة المطلقة ، وكذا لو لحقها التنوين بل يزيده تنكيرا إذا كان تنوين التنكير ، ولو لحقه لام التعريف كانت إشارة إلى الطبيعة الحاضرة في الذهن ، إذ بنفس لفظة «الإنسان» تحضر الماهيّة المخصوصة في الذهن

١٦٣

فيشار باللام إليها ، فيكون لفظة «الإنسان» معرّفا إشارة إلى الشيء المعيّن فيكون معرفة. فتبيّن إذن فرق بيّن بين إنسان والإنسان وأسد واسامة وإن كان اللفظ إشارة إلى المعنى فيهما ، إلّا أنّ الأوّل إشارة إلى المعنى مع عدم تعيّنه فيتعيّن بتلك الإشارة والثاني إشارة إلى المعنى المتعيّن قبل تلك الإشارة فتأمّل.

وممّا ذكرنا ظهر الوجه في كون الضمائر العائدة إلى النكرات معرفة ، وذلك لتعيّن معانيها في الذهن وإرادة ذلك المعيّن من ضمائرها كما هو الحال في المعهود الذكري إذا كان نكرة كما في قوله تعالى (إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(١) وبالجملة المعرفة ما دلّ على معنى معيّن وذلك التعيّن إمّا أن يكون لتعيّن المعنى بذاته ـ كما في الأعلام الشخصيّة ـ أو لضمّ ما يعيّنه كذلك ، إمّا في الخارج ـ كما في الضمائر الراجعة إلى النكرات المعيّنة بحسب الواقع وأسماء الإشارة إذا اشير بها إليها ـ فإنّ تقدّم المرجع وخصوصيّة الإشارة بها قاض بتعيّن معانيها ، أو في الذهن ـ كما في المعرّف بلام الجنس ـ ونحوه علم الجنس لوضعه للماهيّة الحاضرة في الذهن ـ كما مرّ ـ وهي بهذه الحيثيّة معيّنة مشخّصة فيه ويجري القسمان الأخيران في الموصولات والمضاف إلى المعرفة. فما ذكره رحمه‌الله من «أنّ التعريف في المعرّف بلام الجنس وغيره ممّا مرّ لفظي» ليس على ما ينبغي ، لما عرفت من ظهور الفرق بين الماهيّة المرسلة والمقيّدة بالحضور في الذهن ، كيف! ولو لا ذلك لجرى ما ذكره في الموصولات والضمائر وأسماء الإشارة والمضاف إلى المعارف. والقول بنفي التعريف عن جميع ذلك حينئذ خروج عن كلام القوم ، بل نقول بجريان ما ذكره في المعرّف بلام العهد أيضا إذا كان المعهود كلّيا ـ كما في قولك أكرم رجلا وليكن الرجل عالما ـ إذ ليس التعريف هناك إلّا من جهة كونه إشارة إلى المعنى الحاضر بالبال المتقدّم في الذكر ، فلا تعيّن له إلّا من الجهة المذكورة وهي بعينها جارية في جميع المذكورات.

وقد اعترف رحمه‌الله بكون اللام في العهد الخارجي مفيدا للتعريف على الحقيقة

__________________

(١) المزمّل : ٧٣.

١٦٤

والعهد الذكري من أوضح صوره هذا. وقد ظهر بما قرّرنا أنّه ليس التعريف في الاستغراق إلّا من الجهة المذكورة دون تعيّن معناه بحسب الواقع من جهة استغراقه لجميع الآحاد ، إذ لو كان ذلك باعثا على التعريف لجرى في غيره من ـ نحو كلّ رجل وكلّ عالم ـ ولا يتوهّم أحد اندراجه في المعرفة ، إذ لا تعيّن له بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة فلا تغفل.

فإن قلت : على ما ذكرت يكون اسامة والأسد اسمين للصورة الذهنيّة الحاصلة في العقل فإطلاقهما على الفرد يكون مجازا ، وعن الحاجبي أنّ أعلام الأجناس وضعت أعلاما للحقائق الذهنيّة كما اشير باللام في نحو اشتر اللحم إلى الحقيقة الذهنيّة فكلّ واحد من هذه الأعلام موضوع لحقيقة في الذهن متّحدة فهو إذن غير متناول غيرها وضعا ، وإذا اطلق على فرد من الأفراد الخارجيّة ـ نحو هذا اسامة مقبلا ـ فليس ذلك بالوضع بل لمطابقة الحقيقة الذهنيّة لكلّ فرد خارجي مطابقة كلّ كلّي عقلي لجزئيّاته الخارجيّة.

قال نجم الأئمّة : ولم يصرّح المصنّف بكون استعماله في الفرد الخارجي مجازا ولا بدّ من كونه مجازا على مذهبه قال : وكذا ينبغي عنده أن لا يقع اسامة على الجنس المستغرق خارجا فلا يقال : إنّ اسامة كذا إلّا الأسد الفلاني ، لأنّ الحقيقة الذهنيّة ليس فيها معنى الاستغراق كما ليس فيها التعيين انتهى.

ويظهر منه بعد ذلك إسناده الوجه المذكور إلى النحاة وإلزامه عليهم ما ألزمه على الحاجبي. ولا يخفى عليك أنّ التزام ذلك في غاية البعد ، إذ المحتاج إليه في غالب الاستعمالات هو الحكم على الأفراد الخارجيّة والإخبار عنها وبيان أحوالها فيلزم التجوّز في غالب استعمالاتها وهو في غاية البعد ، بل لا وجه للقول به ، فيلزم من فساد اللازم المذكور بطلان ملزومه ، وهو ما ذكر في معنى المعرّف بلام الجنس والأعلام الجنسيّة.

قلت : لا يلزم على ما ذكرنا أن يكون أعلام الأجناس ونحوها أسامي للصور الذهنيّة، بل نقول إنّها أسامي للامور الخارجيّة من حيث كونها متصوّرات عند

١٦٥

العقل حاضرات لديه فإنّ لفظة «الأسد» مع قطع النظر عن اللام إشارة إلى الجنس الخارجي على ما هو التحقيق من وضع الألفاظ للمعاني الخارجيّة دون الصور الذهنيّة فبتكلّمنا بنفس اللفظ تحضر الماهيّة الخارجيّة في الذهن ، واللام ـ كما يأتي بيانه ـ للإشارة فيكون المعرّف بها إشارة إلى الطبيعة الخارجيّة الحاضرة في الذهن وهو ما أردناه ، وكذا الحال في أعلام الأجناس بل وكثير من المعارف ، ألا ترى أنّ المعهود الذكري اسم للشيء الخارجي من حيث معهوديّته في الذكر وحضوره عند العقل فهو مع كونه إشارة إلى الشيء الحاضر عند العقل اسم للشيء الموجود في الخارج فتبيّن عدم المنافاة بين الأمرين فعلى هذا لا يلزم من استعماله في الأمر الخارجي مجاز في الاستعمال في شيء ممّا ذكر. وما ذكره المحقّق الاسترآبادي مبنيّ على القول بكونه اسما لنفس الحقيقة الذهنيّة كما يتراءى من المنقول من كلام الحاجبي ، وهو خلاف التحقيق وقد يؤول كلامه بما ذكرناه فلا تغفل.

هذا وقد عرفت ممّا بيّناه تحقيق الحال فيما مرّ من المفرد المعرّف بلام الجنس وأعلام الجنسيّة وأنّه لا فرق بينهما إلّا في كون المفرد المعرّف إشارة إلى الطبيعة الحاضرة بواسطة اللام وعلم الجنس اسما لذلك. ولا يذهب عليك أنّ الفرق المذكور يرجع إلى شيئين :

أحدهما : في كون الدالّ على الحضور في الذهن جوهر الكلمة في الثاني وفي الأوّل أداة التعريف.

ثانيهما : أنّ في المعرّف معنى الإشارة من جهة اللام بخلاف العلم فإنّه اسم للطبيعة الحاضرة فهناك تقييد في نفس تركيب في المعنى بخلافه. فما يظهر من الفاضل السمرقندي من انحصار الفرق بينهما في الأوّل ـ حيث ذكر في الفرق بينهما أنّ علم الجنس دلّ بجوهره على حضور الماهيّة في الذهن والمعرّف بواسطة اللام ـ ليس على ما ينبغي. وقد ظهر أيضا من البيان المذكور معنى النكرة والفرق بينهما وبين كلّ من اسم الجنس وعلمه والمعرّف بلامه ، وكذا يتبيّن معنى الجمع والفرق بينه وبين المذكورات.

١٦٦

وأمّا اسم الجمع فالظاهر أنّه كالجمع في المعنى وإنّما الفرق بينهما في أنّ للجمع مفردا من لفظه بخلاف اسم الجمع ، نعم لا يبعد أن يقال بكون الجمع اسما لخصوص مراتبه ـ كما مرّ ـ وأمّا اسم الجمع فيحتمل القدر المشترك بين الجمع فيكون الوضع والموضوع له فيه عامّين.

وأمّا اسم الجنس الجمعي فهو كغيره من أسماء الأجناس فيكون موضوعا لمطلق الجنس لكن الفرق بينهما أنّه خصّ في الاستعمالات بما فوق الاثنين ، فعدم إطلاقه على الواحد والاثنين من جهة الاستعمال لا الوضع كذا ذكره نجم الأئمّة فتأمّل.

أمّا المعرّف بلام العهد والاستغراق فيتبيّن عند بيان معنى العهد والاستغراق وسيظهر ذلك في المقام الآتي إن شاء الله.

المقام الثاني

في بيان معنى اللام

اعلم أنّ هناك معان استظهرت للّام لا بأس لو نقلناها ثمّ أتبعناها بما هو التحقيق في المقام.

فنقول المعاني المذكورة لها ثلاثة : أحدها الجنسيّة وهي نوعان :

أحدها : أن تكون إشارة إلى الجنس من حيث هو من دون ملاحظة شيء من خصوصيّات الأفراد والجزئيّات كما في قولهم «الرجل خير من المرأة» فإنّه ليس المراد بالرجل سوى ماهيّة الرجل من حيث هي ولذا لا دلالة فيه لفظا على خيريّة شيء من أفراده بالنسبة إلى أفراد المرأة ، فيصدق الحكم المذكور ولو كان جميع أفراد المرأة في الخارج خيرا من أفراد الرجل.

ثانيهما : أن يراد به الجنس لكن لا من حيث هو بل بملاحظة الفرد فيتعلّق الحكم فيه بالجنس من جهة حصوله في ضمن الفرد كما في قولك : «لا أتكلّم المرأة ولا أتزوّج النساء ولا أشرب الماء إلى غير ذلك» فإنّ الحكم فيها لا يتعلّق

١٦٧

بالجنس من حيث هو بل إنّما تعلّق به بملاحظة حصوله في الأفراد ، فيثبت هناك حكم الفرد كلّيا في النفي وجزئيّا في الإثبات أو كلّيا أيضا فيما يأتي بيانه إن شاء الله وكان الغالب في لام الجنس هو الثاني.

ثانيها : الاستغراق وهو أن يكون إشارة إلى جميع أفراد مدخوله وهو أيضا قسمان : حقيقي وعرفي ويفسّران بوجهين :

أحدهما : ما ذكره التفتازاني في مطوّله وهو أنّه إن كان المراد جميع أفراد المفهوم من اللفظ حقيقة كان الاستغراق حقيقيّا ، كما في قوله تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١) فإنّ المراد من لفظة «الشيء» مطلق الشيء لغة. وإن كان المراد جميع أفراد المفهوم منه عرفا في ذلك المقام كان الاستغراق عرفيّا ، كما في قولك : جمع الأمير الصاغة ، فإنّ المتبادر منه عرفا في خصوص المقام هو صاغة البلد أو مملكة الأمير فيكون الاستغراق بالنسبة إلى ذلك المعنى لا ما وضع له.

وثانيهما : ما ذكره التفتازاني في شرح المفتاح وتبعه السيّد الشريف وجعله بعض المحقّقين أقرب إلى التحقيق وهو أنّ الشمول إن كان حقيقيّا بأن لا يخرج عنه شيء من أفراد متعلّقه كان الاستغراق حقيقيّا ، وإن لم يكن شموله كذلك لكن يعدّ في العرف شمولا كان الاستغراق عرفيا ، فالاستغراق الحقيقي على المعنيين لا اختلاف فيه. وأمّا العرفي فيختلف بملاحظة اختلاف العرف في المقامات على التفسيرين ، والفرق بين المعنيين أنّ الخروج من مقتضى الحقيقة اللغويّة في الاستغراق على الأوّل في مدخول الأفراد والاستغراق فيها على حدّ سواء وعلى الثاني يكون الخروج في الاستغراق فيكون التصرّف في نفس الأداة.

أقول : لا يخفى أنّ ملاحظة العرف في مدخول اللام في جعل الاستغراق عرفيّا ممّا لا يتمّ ، إذ لو بني على ذلك لزم أن يكون جميع الألفاظ المستعملة في غير معانيها اللغويّة ـ ممّا استعملت في حقائها العرفيّة أو مجازاتها اللغويّة ـ إذا تعلّقت بها أداة الاستغراق من الاستغراق العرفي لا الحقيقي ، وذلك ما لا يتوهّمه أحد

__________________

(١) الحديد : ٥٧.

١٦٨

منهم. فليس المناط في كون الاستغراق حقيقيّا أو عرفيّا كون مدخوله مستعملا في حقيقته الأصليّة أو فيما يفهم منه في العرف الطارئ مطلقا ولو بمعونة المقام ، فتعيّن البناء على الوجه الثاني في تعيين القسمين. فالاستغراق الحقيقي ما يكون شموله حقيقيّا ، والعرفي ما كان الشمول فيه عرفيّا. لكن لا يخفى عليك أنّ البناء على ما ذكر يشكل أيضا بأنّ الشمول في قولك : «جمع الأمير الصاغة» ليس شمولا لجميع أفراد الصاغة ليكون جمعه بجميع صيّاغ مملكته منزّلا في العرف منزلة جمع جميع صاغة العالم كما لا يخفى.

وكان التحقيق في المقام أن يقال باتّحاد مدخول اللام في الحالين والمقصود من أداة العموم الداخل على اللفظ هو الشمول والاستغراق فيهما ، لكن قد يراد منها الشمول لجميع أفراد مدخولها ، وقد يراد بها الشمول لنوع خاصّ يساعد عليه المقام أو العرف فالأوّل هو الحقيقي والثاني هو العرفي. فلا فرق بينهما بملاحظة مدخول الأداة ولا في إرادة الشمول بها ، وإنّما الفرق بينهما في كيفيّة الشمول لا غير. فتدبّر جدّا.

وثالثها : أن يكون للعهد أي الإشارة إلى المعهود وهو على ما فسّره التفتازاني أن يكون إشارة إلى حصّة من الحقيقة معهودة بين المتكلّم والمخاطب واحدا كان أو إثنين أو جماعة ، وعنه في التلويح تحديده اللام الّتي للعهد بما اشير إلى حصّة معيّنة من الحقيقة.

قلت : وتخصيص العهد بكونه إشارة إلى الحصّة خلاف الظاهر ، فإنّ المعهود قد يكون جنسا بل وجميع الأفراد فإنّه إذا تقدّم ذكر الجنس أو جميع الأفراد ثمّ اشير بالمعرّف باللام إليه من حيث تقديمه في الذكر ومعهوديّته عند المخاطب كان اللام للعهد عند التحقيق.

فالحقّ التعميم في ذلك ، ولذا فسّره بدر الدين بما يعمّ الإشارة إلى الحصّة وغيرها حيث عرّفه بأنّه ما عهد مصحوبها بتقدّم ذكر أو علم ، وكذا أطلق المحقّق الاسترابادي في تحديده. وكان الحامل له على التخصيص أنّ ملاحظة المعهوديّة

١٦٩

اعتبار زائد لا حاجة إليه مع إرادة الجنس أو الاستغراق ، إذ يمكن الاهتداء إليهما من دون ملاحظة كونهما معهودا بخلاف ما لو كان إشارة إلى الحصّة إذ تعريف الحصّة المخصوصة إنّما يكون بالعهد.

وأنت خبير : بأنّ ما ذكر إنّما يفيد عدم لزوم اعتبار العهديّة عند إرادتهما لا عدم صحّته لو اعتبرت. غاية الأمر أن لا يكون فائدة في اعتبارها على أنّه يتصوّر فيه بعض الفوائد أيضا كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما ذكره من تخصيص العهد بكونه بين المتكلّم والمخاطب غير متّجه أيضا ، إذ يكفي فيه المعهوديّة عند المخاطب إذا علم به المتكلّم وإن لم يكن معهودا بينهما. ولذا فسّره نجم الأئمّة بالّتي عهد المخاطب مطلوب مصحوبها قبل ذكره وهو ظاهر إطلاق العبارة المنقولة عن بدر الدين. وقد يقال : إنّ مراده بمعهوديّته بينهما مجرّد علمهما به ولا يخفى بعده عن العبارة. ثمّ إنّ العهد قد يكون خارجيّا ، كقولك : خرج الأمير وحكم القاضي ، إذا لم يكن في البلد أميرا وقاضيا مشتهرا غيره ، وقد يكون ذكريّا إمّا مصرّحا به سابقا كقوله تعالى (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(١) أو مذكورا ضمنا وقد يعبّر عنه بالعهد التقديري كما في قوله تعالى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)(٢) فإنّ خصوص الذكر غير مذكور سابقا لكن قولها (نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)(٣) يدلّ عليه بالالتزام ، وقد يكون حضوريّا إمّا محسوسا كقولك لمن يشتم رجلا بحضرتك : لا تشتم الرجل ، أو غيره كما في قوله تعالى (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ)(٤) و (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(٥) هذا واعلم أنّ الفرق بين كلّ من الجنس والاستغراق واضح لا خفاء فيه. وقد يفرق بينهما وبين العهد بأنّ العهد إشارة إلى الحصّة بخلاف الآخرين ، فإنّ أحدهما إشارة إلى نفس الطبيعة الحاضرة والآخر إلى جميع الأفراد. وفيه : ما قد

__________________

(١) المزمّل : ١٥ و ١٦.

(٢) آل عمران : ٣٦.

(٣) آل عمران : ٣٥.

(٤) يونس : ٩١.

(٥) المائدة : ٣.

١٧٠

عرفت من أنّ العهد قد يكون إشارة إلى نفس الطبيعة أو إلى جميع الأفراد. وقد يفرق أيضا بأنّ العهد يتوقّف على علم سابق بخلافهما. وفيه : أنّ العهد الحضوري لا يتوقّف على علم سابق ، إذ هو إشارة إلى الحاضر حال التكلّم كما أنّ اللام الّتي للجنس إشارة إلى الماهيّة الحاضرة في الذهن بلا فارق بينهما إلّا في كون الحضور في أحدهما خارجيّا والآخر ذهنيّا. فالأظهر في بيان الفرق أن يقال : إنّ العهديّة يتوقّف على أمر خارج عن مدلول اللفظ به يتحصّل العهد من تقدّم ذكر أو حضور حال التكلّم ونحوهما بخلاف الجنس والاستغراق إذ لا حاجة فيهما إلى ذلك ، فإنّ الأوّل إشارة إلى الطبيعة الحاضرة عند سماع مدخوله له ، فيكون اللام إشارة إليه من غير حاجة إلى ملاحظة أمر آخر غير مدخوله ونظيره القول في الاستغراق.

نعم قد يكون فهمه في بعض المقامات متوقّفا على قيام دليل دالّ على عدم إرادة الجنسيّة ـ كما في المفرد المعرّف على ما يأتي ـ وليس ذلك ممّا يحصل به الاستغراق وإنّما هو صارف له عن إرادة الجنسيّة بخلاف العهد فإنّ قوامه بالمعرفة الخارجيّة.

وقد ظهر ممّا قرّرناه عدم اندراج العهد الذهني في أفراد العهد ، إذ الانتقال هناك إلى الفرد ليس بسبب معهوديّته وحصول العلم به خارجا عن تلك العبارة ، بل من جهة عدم صحّة تعلّق ذلك الحكم إلّا بالجنس في ضمن بعض الأفراد خاصّة كما في قولك : أكلت اللحم وشربت الماء ، وأكله الذئب ، ومررت على اللئيم ونحو ذلك ، فإنّ الامور المذكورة ممّا لا ربط لها بالطبيعة من حيث هي وإنّما يتعلّق بها في ضمن الأفراد ، ولا يراد في ضمن جميع الأفراد إمّا لعدم قابليّتها لذلك ـ كما هو ظاهر في كثير من أمثلته ـ أو لدلالة المقام على خلافه. والحاصل أنّ الانتقال إلى الفرد إنّما يكون من الجنس بتوسّط القرينة القائمة في المقام ، فاللام إشارة إلى الجنس ويكون الفعل المتعلّق به دالّا على كون ذلك الجنس في ضمن بعض الأفراد كما لا يخفى بعد التأمّل في موارد استعماله.

وتوضيح المقام : أنّ المعرّف بلام الجنس قد يكون متعلّقا بالفعل أو الترك

١٧١

وعلى التقديرين إمّا أن يقع متعلّقا للتكليف أو الأخبار ، وعلى الأوّل يكون المراد هو الطبيعة في ضمن بعض الأفراد ، وعلى الثالث يراد في ضمن الجميع لتوقّف الترك عليه وكذا على الرابع في وجه قويّ ، فكما يعدّ بعض ذلك من لام الجنس قطعا فليعدّ الباقي أيضا من ذلك ، لاتّحاد المناط في الجميع. وبالجملة أنّا لا نعقل فرقا في المستعمل فيه في قولك «أهن اللئيم ومررت على اللئيم ولا تكرم اللئيم وما رأيت اللئيم» فإنّه قد جعل المتعلّق للحكم في كلّ منها هو جنس اللئيم ولا يتعلّق ذلك الحكم المذكور إلّا بالفرد غير أنّه في الثاني في ضمن أحد الأفراد ، وهذا القدر اللازم في الأوّل ، ولا يكون الثالث إلّا بتركه في ضمن الجميع ولا الرابع إلّا مع انتفائه في الكلّ ، وهذه كلّها خارجة عن مدلول نفس اللفظ وإنّما يأتي بملاحظة المقام ، فلا وجه لجعل بعضها لتعريف الجنس وبعضها لإرادة الفرد فردا مّا بل المستعمل فيه في الجميع واحد ، فليس المعرّف باللام في المقام مستعملا في خصوص فرد مّا كما قد توهّم ، وممّا قد يشير إلى ذلك ملاحظة ما ذكرناه من أمثلة الوجه الثاني من وجهي الجنس ، لوضوح أنّ اللام هناك ليس لتعريف شيء من الأفراد وقد نصّوا على كونه لتعريف الجنس مع عدم تعلّق الحكم المتعلّق به إلّا بالطبيعة في ضمن الفرد فكذا في المقام. وتفصيل الكلام في المرام أنّ المعرف باللام في نحو مررت على اللئيم يحتمل وجوها :

أحدها : أن يراد به الطبيعة المطلقة الحاضرة في الذهن من غير أن يراد به خصوص الفرد أو يطلق عليه وإنّما يفهم حصول تلك الطبيعة في ضمن الفرد من نسبة المرور إليه فيكون الخصوصيّة مفهومة من الخارج من غير أن يكون لللفظ فيه مدخلية.

ثانيها : أن يراد بها الطبيعة مع الخصوصيّة الحاصلة في ذلك الفرد بأن يستعمل في مجموع الأمرين فيكون مستعملا في خصوص الفرد الّذي وقع المرور عليه.

ثالثها : أن يراد به الطبيعة مع خصوصيّة مّا ليكون مستعملا في فرد مّا من الطبيعة كما هو المفهوم للمخاطب عند سماع الكلام إذ لا يتعيّن عنده شيء من الأفراد.

١٧٢

رابعها : أن يراد به الفرد ويطلق عليه لا من حيث خصوصيّته بل من حيث مطابقته لتلك الحقيقة فيكون ما استعمل فيه اللفظ حينئذ هو تلك الطبيعة المطلقة إلّا أنّه اطلق على الفرد مع إرادة تلك الطبيعة منه. والحال في الوجه الأوّل ظاهر لكونه مستعملا فيما وضع له قطعا فهو حقيقة بلا إشكال. وبيان الحال في الوجوه الاخر يتوقّف على تفصيل القول في إطلاق الكلّي على الفرد وبيان الحال فيه.

فنقول : إنّ اطلاق الكلّي على فرده يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يستعمل في الطبيعة والخصوصيّة بأن يراد منه خصوص الفرد ولا شكّ إذن في كونه مجازا لاعتبار غير الموضوع له معه فيما استعمل اللفظ فيه فيكون مفاد ذلك اللفظ مخصوصا بما استعمل فيه من الفرد من غير أن يصدق على غيره ، ضرورة عدم صدق تلك الخصوصيّة المأخوذة فيه على غيره فينحصر مدلول ذلك اللفظ فيه ، ومن ذلك أيضا أن يستعمل في الطبيعة وخصوصيّة ما في الجملة وذلك بأن يراد منه فرد ما لاعتبار غير الموضوع له فيكون مجازا أيضا.

ثانيهما : أن يستعمل في الطبيعة المطلقة ويطلق على الفرد من جهة انطباقه على الطبيعة وصدقها عليه لا من جهة خصوصيّته وتشخّصه ، وإن شئت قلت : إنّه يستعمل في الفرد من جهة انطباقه على الطبيعة فالطبيعة المطلقة مرادة منه قطعا غير أنّ ما اطلق عليه الفرد من جهة كونه مصداقا له متّحدا معه فقد اطلق اللفظ مع إرادة الطبيعة منه على الفرد لاتّحاده معه. ألا ترى أنّ «هذا الرجل عالم» يفيد ثبوت مفهوم الرجوليّة لذلك الفرد ، فهو بمنزلة حمل ذلك المفهوم عليه حملا متعارفا وإن كان هناك فرقا بينهما يأتي الإشارة إليه ، وهو بخلاف ما إذا استعمل في خصوص الفرد فإنّه لا يراد منه إذا معناه الكلّي بل المستعمل فيه هو خصوص الفرد ، فيكون حمله على ذلك الفرد حملا ذاتيّا لاتّحاد الموضوع والمحمول فيه بالذات ولذا كان اللفظ هناك مجازا وهاهنا حقيقة ، لاستعمال اللفظ فيما وضع له من غير ضمّ شيء إليه.

فإن قلت : لا شكّ في كون الفرد مغايرا للطبيعة من جهة اشتماله على

١٧٣

الخصوصيّة فإن اريد من اللفظ الطبيعة المطلقة فلا إشارة فيه إذا إلى الفرد ولم يطلق عليه ، وإن اطلق على الفرد كان المستعمل فيه مغايرا للموضوع له ـ حسب ما ذكر ـ فكيف! يدّعى استعماله فيه مع فرض اطلاقه على الفرد. وبالجملة أيّ فرق بين الإطلاق على الفرد والاستعمال فيه؟ مع أنّ إطلاق اللفظ على المعنى هو استعماله فيه ، وحينئذ فبعد فرض استعماله في الطبيعة المطلقة كيف يقال بإطلاقه على خصوص الفرد ، وهل هو إلّا من قبيل استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي.

قلت : لمّا كان الفرد متّحدا مع الطبيعة في الخارج وكانت النسبة بين الطبيعة والتشخّص نسبة اتّحادية بحسب الخارج كان هناك اعتباران :

أحدهما : ملاحظة الفرد من حيث كونه هي الطبيعة. والآخر : من حيث اشتماله على التشخّص فإن اطلق عليه اللفظ بملاحظة الجهتين معا كان مستعملا في خصوص الفرد وكان مجازا ـ حسب ما قدّمناه ـ وإن استعمل فيه من جهة كونه هي الطبيعة نظرا إلى اتّحادها معه كان حقيقة ولم يكن اللفظ مستعملا إلّا في الطبيعة.

غاية الأمر أنّ تلك الطبيعة مقيّدة في الواقع بالتشخّص. لا يقال : على هذا يكون المستعمل فيه هو الطبيعة المقيّدة مع خروج القيد عن المستعمل فيه فيكون التقييد معتبرا فيه وهو معنى الحصّة ، وكما أنّ استعمال الكلّي في الفرد ليس استعمالا فيما وضع له كذلك الحال في الحصّة لدخول التقييد فيها وإن كان القيد خارجا. لأنّا نقول : إنّه ليس المستعمل فيه في المقام هو الحصّة من الطبيعة بل ليس مستعملا إلّا في مطلق الطبيعة الحاصلة هناك ، إذ من البيّن أنّ الطبيعة لا بشرط حاصل في الطبيعة مع شرط شيء ، فالتقييد والقيد خارجان عن المستعمل فيه وإن كانا من لوازم ما اطلق عليه ، فخصوصيّة الحصّة والفرديّة غير ملحوظة فيما استعمل اللفظ فيه وإنّما هما من لوازم إطلاقه على الفرد. ومن الظاهر أيضا أنّ دلالة اللفظ على الطبيعة اللابشرط أعني ما استعمل فيه في المقام غير مفتقر إلى ملاحظة قرينة تفيده ، إذ المفروض وضعه بإزائها فلا حاجة في استعماله فيها إلى

١٧٤

القرينة. وأمّا في إطلاقه على الفرد أعني كون المستعمل فيه هو تلك الطبيعة المقيّدة بحسب الواقع وإن كان القيد والتقييد خارجين عنه فيفتقر الى ضمّ قرينة إليه حتّى يعلم ذلك ، كأن يقول «هذا الرجل وهذا الفرس وهذا البساط» فإنّ كون الرجل والفرس والبساط بدلا أو عطف بيان لهذا دالّ على إطلاقه على ذلك ، وحينئذ يقال بإطلاق الكلّي على فرده وكون المستعمل فيه هو الطبيعة الحاصلة في ضمنه فصحّ القول بإطلاق الكلّي حينئذ على فرده واستعماله في الطبيعة المطلقة.

وإن شئت قلت باستعماله في الفرد وفي الطبيعة لاتّحادهما من الجهة المذكورة ، إلّا أنّ ذكر الإطلاق على الفرد كأنّه أوضح في المقام من ذكر الاستعمال فيه ، لظهور الأخير في اعتبار الخصوصيّة. وكيف كان فظهر أنّه ليس إطلاقه على الفرد واستعماله في الطبيعة إطلاقا له على معنيين كما توهّم في الإيراد. وممّا يوضح ما قرّرناه ملاحظة قولك «هذا رجل وهذا الرجل» فإنّه لا تجوّز في شيء منهما قطعا.

ومن الواضح أنّه قد استعمل الرجل في الطبيعة المطلقة في المثالين من غير إطلاقه على الفرد في المثال الأوّل وإنّما حمل عليه ليفيد اتّحادهما في الوجود وفي المثال الثاني قد اطلق على الفرد ، ولذا كان قولك «هذا رجل» مشيرا به إلى البساط كذبا لا غلطا ، بخلاف قولك «هذا الرجل» مشيرا به إليه فإنّه غلط ، وليس ذلك إلّا لإطلاقه ذلك على الفرد مع عدم اتّحاده مع مفهوم الرجل وعدم مناسبته له ؛ وقد ظهر بما قلناه أنّ حمل الكلّي على الفرد غير إطلاقه عليه ، غير أنّ إطلاقه على الفرد يستلزم حمله عليه كما لا يخفى.

إذا تقرّر ما ذكرناه فقد اتّضح الحال في كلّ من الوجوه الثلاثة الأخيرة فإنّ كلّا من الوجهين الأوّلين منها مجاز لاعتبار ما يزيد على الطبيعة في كلّ منهما والثالث حقيقة لاستعماله في مطلق الطبيعة وإنّما اطلق على الفرد حسب ما عرفت.

بقي الكلام في تعيين المراد بالمعهود الذهني من الوجوه المذكورة فنقول : إنّ الّذي يقتضيه الأصل في ذلك هو الوجه الأوّل ، لوضع مدخول اللام للطبيعة المطلقة وكون اللام للتعريف ، فيكون لتعريف تلك الطبيعة ولا يدلّ الحكم بالمرور عليه إلّا

١٧٥

على كون الطبيعة في ضمن الفرد وهو لا ينافي إرادة الطبيعة اللا بشرط من اللفظ ، ضرورة أنّ الماهيّة لا بشرط شيء يجامع ألف شرط. وقد ذكروا مثل ذلك في الماهيّات المطلقة المتعلّقة للأحكام الشرعيّة ، إلّا أنّ هذا الوجه بعيد عن ظاهر كلماتهم ، إذ لا ربط له إذا بالإشارة إلى الفرد ولا لمعهوديّته في الذهن ، إلّا أن يجعل ذلك بسبب ما يعلم من دلالة القرينة على كون ذلك في ضمن الفرد وهو مخالف لظاهر كلامهم. فالوجه الرابع أقرب الى ظاهر كلماتهم بل هو ظاهر كلام التفتازاني في المطوّل ، والظاهر أنّ اللام حينئذ إشارة أيضا إلى الطبيعة غير أنّ تلك الطبيعة حاصلة في ضمن الفرد لإطلاق اللفظ عليه فكأنّها إشارة إليه بالتبع من جهة اتّحاده بالطبيعة. ولمّا كان أحد أفراد الطبيعة من الامور المعهودة في الأذهان وكان اللام إشارة إليه تبعا ـ حسب ما ذكرنا ـ عدّ ذلك من لام العهد.

وأنت خبير : بأنّ ذلك ليس من حقيقة العهد في شيء ، إذ لا معهود هناك حقيقة ولا يراد «باللام» الإشارة إليه فليس هناك تعريف للفرد على حسب غيره من العهود ، فكان في جعله حينئذ من العهد نوع توسّع نظرا إلى الاعتبار المذكور ، أو أنّه اصطلاح منهم. والوجهان الآخران ممّا يبعد إرادتهما في المقام لبعدهما عن ظاهر اللفظ نظرا إلى اقتضاء استعمال الكلّي في خصوص الفرد انحصار مدلول اللفظ فيه وهو خلاف الظاهر في المقام ، مضافا إلى لزوم التجوّز في اللفظ المخالف للأصل مع عدم قيام دليل عليه. وقد اتّضح بما قرّرنا أنّ المعهود الذهني معرفة بالنظر إلى ما استعمل فيه ـ أعني الماهيّة المطلقة ـ لحضورها في الذهن والإشارة إليها باللام كما في غيرها من الأجناس المعرفة وفي معنى النكرة بالنسبة إلى الفرد الّذي اطلق عليه ، إذ لا تعيين فيه إلّا من جهة اتّحاده مع الطبيعة وذلك ممّا لا يعيّن الفرد إذ معرفة الشيء بالوجه العامّ ليس معرفة لذلك الخاصّ في الحقيقة ، بل معرفة للعامّ الّذي صار وجها لمعرفته ، فليس اللام في الحقيقة إشارة إلى خصوص الفرد ولا تعريفا له ، ولذا نصّوا على كونه في معنى النكرة يعنون به بالنسبة إلى خصوص الفرد لا بالنظر إلى الطبيعة الّتي استعمل فيها.

١٧٦

ولبعض الأعلام كلام في المقام أحببت إيراده مع تلخيص له وتوضيح لما يرد عليه ليكون تتميم الكلام في المرام قال : إنّ ما اشتهر بينهم من أنّ المفرد المحلّى بلام الجنس إذا استعمل في إرادة فرد مّا ويقال له المعهود فهو حقيقة غير واضح ، لأنّ معيار كلامهم فيما ذكروه أنّه من باب إطلاق الكلّي على الفرد وهو حقيقة ، فأورد على ذلك امورا :

منها : أنّ المعرّف بلام الجنس معناه الماهيّة المتعيّنة في الذهن المعرّاة عن ملاحظة الأفراد عموما وخصوصا وإطلاقه وإرادة الماهيّة باعتبار الوجود خلاف معناه الحقيقي.

فإن قلت : إنّ الماهيّة المعرّاة عن ملاحظة الأفراد لا يستلزم ملاحظة عدمها.

قلت : نعم لكنه ينافي اعتبار وجود الأفراد وإن لم يناف تحقّقها في ضمن الأفراد الموجودة.

ومنها : أنّه لا مدخليّة للّام في دلالة الكلّي على فرده فيصير «اللام» ملغاة فإنّ اللفظ الموضوع للكلّي من حيث هو كلّي مدخول اللام لا المعرّف باللام ، فكأنّه أراد بذلك أنّ الوجه المذكور إنّما يفيد كون مدخول «اللام» بنفسه حقيقة إذا اطلق على الفرد ، فإذا جعل مفاد المعرّف باللام هو مفاد الخالي عنه كان «اللام» ملغاة ، وإن جعل مفاده مغايرا لذلك فلا يفيد كون المعرّف باللام حقيقة في الفرد.

ومنها : أنّ المعرّف باللام قد وضع للماهيّة المعرّاة في حال عدم ملاحظة الأفراد ولذلك مثّلوا له بقولهم «الرجل خير من المرأة» ورخصة استعمالها في حال ملاحظة الأفراد لم يثبت من الواضع كاستعمال المشترك في أكثر من معنى. لا يقال : يرد هذا في أصل المادّة بتقريب أنّها موضوعة للماهيّة في حال عدم ملاحظة الأفراد. لأنّا نقول إنّ استعمالها على هذا الوجه أيضا مجاز. وما ذكرناه «من كونها حقيقة» إنّما كان من جهة الحمل لا من جهة الإطلاق ، وهو غير متصوّر فيما نحن فيه ، لعدم صحّة حمل الطبيعة على فرد مّا.

ومنها : أنّ ما اطلق عليه المعرّف بلام العهد الذهني هو فرد مّا كما ذكر.

١٧٧

ومن البيّن أنّه لا معنى لوجود الكلّي في ضمن فرد مّا ، لأنّه لا وجود له إلّا في ضمن فرد معيّن. فوجود الكلّي واتّحاده مع الفرد إنّما يصحّ في الفرد الموجود الّذي هو مصداق فرد مّا لا مفهوم فرد مّا المطلوب هنا من المعرّف بلام الجنس ، فإنّ المفهوم المذكور ممّا لا وجود له حتّى يتحقّق الطبيعة في ضمنه.

وبالجملة : مقتضى ما ذكروه أنّ المراد بالمفرد المعرّف باللام إذا اطلق واريد منه العهد الذهني هو الطبيعة بشرط وجودها في ضمن فرد مّا لا حال وجودها في الأعيان الخارجيّة ، ولا معنى محصّل لذلك إلّا إرادة مفهوم فرد مّا من الطبيعة من اللفظ ولا شبهة أنّ مفهوم فرد مّا مغاير للطبيعة المطلقة ولا وجود له.

نعم ، مصداق فرد مّا يتّحد معها في الوجود وليس بمراد جزما ، فهذا من باب اشتباه العارض بالمعروض.

فإن قلت : هذا بعينه يرد على قولك «جئني برجل» فإنّه اريد به الماهيّة بشرط الوجود في ضمن فرد مّا يعنى مصداق فرد مّا لا مفهوم فرد مّا ، فلم قلت هنا : إنّها حقيقة ، ولم تقل فيما نحن فيه؟

قلت : كونها حقيقة من جهة إرادة النكرة الملحوظة في مقابل اسم الجنس وله وضع نوعي من جهة التركيب مع التنوين ونفس معناه فرد مّا وهو أيضا كلّي وطلبه يرجع إلى طلب الكلّي لا طلب الفرد ولا طلب الكلّي في ضمن الفرد. فالمطلوب منه فرد مّا من الرجل لا طبيعة الرجل الحاصلة في ضمن فرد مّا ، إلّا أنّ الإتيان بالكلّ يتوقّف على الإتيان بمصداق فرد مّا وهو فرد معيّن في الخارج بتعيين المخاطب. فلو أردت من قولك «جئني برجل» جئني بالطبيعة الموجودة في ضمن الفرد فهو مجاز أيضا ، لعدم الوجود بالفعل اللازم لصحّة الإطلاق بالفعل بخلاف «هذا الرجل» مشيرا إلى الطبيعة الموجودة بالفعل في ضمن فرد. ثمّ قال : ومع هذا كلّه فالعجب من هؤلاء أنّهم أخرجوا العهد الخارجي عن حقيقة الجنس وهو أولى بالدخول. ولعلّهم توهّموا أنّ ها هنا لمّا اطلق واريد الفرد بخصوصه فهو مجاز. وهو توهّم فاسد ، لأنّ هذا ليس معنى إرادة الخصوصيّة ـ كما بيّنا ـ فإنّ قولنا «هذا

١٧٨

الرجل» أيضا من باب العهد الخارجي الحضوري ، ولا ريب أنّ المشار إليه هو الماهيّة الموجودة في الفرد لا أنّ المراد أنّ المشار إليه هو هذا الكلّي لا غير حتّى يكون مجازا انتهى.

والوجوه المذكورة كلّها مدفوعة ، ففي كلامه مواضع للنظر :

أحدها : ما ذكره من «أنّ إطلاق اسم الجنس الموضوع للماهيّة المعيّنة في الذهن وإرادة الماهيّة بحسب الماهيّة بحسب الوجود خلاف معناه الحقيقي» فإنّه إن جعل وجه المخالفة كون الموضوع له أمرا ذهنيّا فإرادة الأمر الخارجي يخالفه فقد عرفت ما فيه ، إذ ليس المعرّف باللام موضوعا بإزاء الأمر الذهني بل قد اعتبر فيه الحضور في الذهن من جهة التعريف والإشارة وهو لا ينافي كونه موضوعا لنفس الماهيّة أو لها باعتبار وجودها في الخارج ـ كما مرّ بيانه ـ وإن جعل وجه المخالفة كونها معرّاة عن ملاحظة الأفراد فاعتبار كونها في ضمن الفرد ينافيه ـ كما هو ظاهر كلامه ـ ففيه : أنّ المراد بتعريتها عن ملاحظة الأفراد عدم ملاحظة الأفراد معها لا اعتبار عدمها ، وهو أيضا قد نصّ على ذلك ، وحينئذ فلا ينافيه اعتبار كونها في ضمن الفرد إذا لم يكن مستعملا في خصوص الفرد بل إنّما اطلق عليه حسب ما مرّ تفصيل القول فيه. فظهر بذلك ما في قوله «لكنه ينافي اعتبار وجود الأفراد وإن لم يناف تحقّقها في ضمن الأفراد الموجودة» فإنّ إطلاقه على الفرد من حيث الوجود في الخارج نظرا إلى اتّحاده مع الطبيعة المطلقة لا يوجب تجوّزا في اللفظ وليس المراد باعتبار الوجود ما يزيد على ذلك كما عرفت.

ومن الغريب أنّه اعترف به بالنسبة إلى اسم الجنس ونصّ على كون إطلاقه كذلك على الفرد الموجود حقيقة مع جريان الكلام المذكور فيه بعينه ـ على أنّ دعوى المنافاة المذكورة ـ مع ما فيه ـ هو عين ما سيورده بعد ذلك فلا وجه لجعله ايرادا آخر.

ثانيها : قوله «لا مدخليّة للّام إلى آخره. إذ مع تسليم ذلك لا يلزم كون «اللام» ملغاة فإنّ من البيّن كون اللام مفيدا حينئذ لتعريف الحقيقة وهذا هو فائدة اللام

١٧٩

كما في غيره ، وإطلاق الحقيقة على الفرد من الجهة المتقدّمة لا ينافي تعريفها على أنّ فيها نحو تعريف للفرد من جهة اتّحاده مع الطبيعة حسب ما مرّ.

والحاصل : أنّ من البيّن أنّ الدالّ على إطلاق الكلّي في المقام على الفرد وهو الحكم المتعلّق به ـ كالمرور في المثال السابق أو غيره ـ وليس للّام مدخليّة في الدلالة على إطلاقه على الفرد أصلا ـ كما هو ظاهر ـ وحينئذ فجعل ذلك سببا لإلغاء اللام مع إفادتها تعريف الطبيعة كما هو المفروض غريب.

ثالثها : ما ذكره «من أنّ الوضع إنّما ثبت حال عدم ملاحظة الأفراد فلابدّ من الاقتصار عليه لتوقيفيّة الوضع فلا يثبت الوضع في حال الملاحظة» فإنّ من البيّن أنّه إن اعتبر الواضع تلك الحال في وضعه اللفظ لمعناه فقد صار ذلك المعنى موضوعا له بشرط عدم ملاحظة الأفراد وهو لا يقول به ، بل هو ظاهر الفساد ، لوضوح عدم اعتباره ذلك. وإن لم يعتبر تلك الحال في الوضع بل جعل الموضوع له هو تلك الطبيعة لا بشرط شيء ، فمن الواضح حينئذ كون الاستعمال حقيقة إذا استعمل فيه سواء اطلق على الطبيعة في ضمن الفرد أو لا ـ كما أشرنا إليه ـ وقد بنى على مثله الحكم في مواضع متعدّدة وأشرنا إلى ما فيه. وممّا يستغرب في المقام جدّا إيراد جريان مثل ذلك بالنسبة إلى مدخول اللام إذا اطلق على الفرد ـ كما أشار إليه ـ بقوله : «لا يقال ... إلخ» ثمّ دفعه بالتزام المجازيّة هناك أيضا إذا اطلق على فرد مّا نظرا إلى أنّه لا اتّحاد للطبيعة بالنسبة إليه وإنّما هي متّحدة مع الفرد المعيّن. فإنّ ذلك إن صحّ فلا ارتباط له بالكلام المذكور وما أورد عليه ، فإنّ مبنى الكلام المذكور على كونه موضوعا للطبيعة في حال تعريه عن ملاحظة الأفراد عموما وخصوصا فيكون إطلاقه عليها حال ملاحظة الفرد بعينه أو إجمالا مخالفا لما وضع له ، والإيراد عليه بنفس مدخول اللام يعمّ الحالين. وحينئذ فالغضّ عن ذلك في الجواب والرجوع إلى وجه آخر وهو عدم اتّحاد الطبيعة مع فرد مّا كما ترى ممّا لا ربط له باعتبار كون الوضع في حال التعرّي عن ملاحظة الأفراد وعدمه ، إذ لو قلنا بشمول الوضع للحالين جرى الكلام المذكور ، إذ

١٨٠