هداية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٣

حيدر علي المدرّسي البهسودي

هداية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

حيدر علي المدرّسي البهسودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٢

فى امتثاله وفى مثله يكون حكم العقل مستقلا بالاحتياط فثبت الى هنا عدم حكم العقل فى المقام على البراءة بل يحكم على الاحتياط وكذا لا مجرى للادلة النقلية على البراءة فى المقام لان مفادها رفع الحكم المجهول ولا جهل فى المقام من قبل الحكم وانما هو فى حصول امتثاله بعد العلم به قد علم دليل قائلين على البراءة مطلقا وكذا دليل قائلين على الاحتياط مطلقا.

واما التفصيل بين تعلق الوجوب أو الحرمة بموضوعه على نحو الانحلال وبين غيره فان كان تعلق الوجوب بنحو الانحلال تجرى البراءة وان كان بنحو غيره فلا تجرى.

توضيحه انه بناء على الانحلال يكون كل واحد من الاعدام مطلوبا مستقلا ويكون الشك حينئذ شكا فى التكليف المستقل وقد مرّ نظير ذلك فى مبحث العام والخاص عند قوله اكرم الطلاب أى تنحل لفظة اكرم الى مائة اكرم مثلا اكرم الطالب واكرم الطالب واكرم الطالب الخ. وكذا الحكم فى المقام مثلا لا تشرب الخمر تنحل لفظة لا تشرب الى مائة لا تشرب ويكون كل واحد مطلوبا مستقلا فاذا شك فى التكليف المستقل أى فى المورد المخصوص والمصداق المشتبه فاصالة البراءة محكمة.

واختار بعض الوجه الاول ومختار المصنف هو الوجه الاخير اذا كان تعلق النهى بالماهية على النحو الاول أى على نحو عدم الانحلال فلازمه عدم جواز ارتكاب مشكوك الفردية اعتمادا على اصالة البراءة لان مجراها هو الشك فى التكليف لا الشك فى فراغ الذمة والمقام يكون من الثانى دون الاول اذ المفروض ان الشك ليس فى نفس التكليف حتى يجرى فيه البراءة بل الشك فى الفراغ

٣٨١

لتعلق النهى بالطبيعة دون الافراد فترك الافراد لازم عقلا من باب المقدمة العلمية لتوقف اليقين بالفراغ عن ترك الطبيعة المنهى عنها على اجتناب ما احتمل كونه فردا كترك ما علم بفرديته لها.

قال صاحب الكفاية ان النهى عن الشىء اذا كان بمعنى طلب تركه فى زمان أو مكان فلم يصح جريان البراءة فى الفرد المشكوك لو وجد فى ذاك الزمان كالنهى عن الصيد فى زمان الاحرام لو وجد لما امتثل المكلف وكذا لو وجد الفرد المشكوك فى ذاك المكان كقطع شجر الحرم ونباته أى لا يجوز الاتيان بالشىء المشكوك لان مع اتيانه يشك فى ترك المنهى عنه الا اذا كان مسبوقا به هذا استدراك من قوله فلا يجوز الاتيان أى لا يجوز اتيان المشكوك الا ان يكون المورد مسبوقا بالترك كما اذا كان الانسان فى اول توجه النهى مشتغلا بالخمر أو فى اثنائه ولكن كان اشتغاله لعذر من الاعذار فلا شك فى جواز اتيان هذا المورد لان المطلوب من الاول هو التروك الغير الواقع فيه عذر من الاعذار أى اذا كان المورد مسبوقا بالترك يجوز ارتكاب المشكوك لانه مسبوق بالترك كالفرض المزبور.

مثلا اذا ترك المكلف شرب الخمر فى صورة النهى عنه واشتغل بعد ذلك بشرب الخمر بعذر من الاعذار فان شك فى انتقاض الترك بشرب الخمر لاجل العذر استصحب الترك السابق أى الترك الذى وقع بعد توجه النهى يعنى ترك المكلف طبيعة شرب الخمر بعد توجه النهى اليه فان شك فى الترك المذكور فى زمان شرب الخمر بالعذر من الاعذار استصحب الترك الذى وقع بعد توجه النهى لان هذا الفرد المشكوك وقع بعد ترك شرب الخمر لا يضر

٣٨٢

على الترك الذى وقع بعد توجه النهى.

قوله : نعم لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة الخ.

هذا بيان التفصيل فى جريان اصالة البراءة قد ذكر توضيحه ويذكر هنا كلام صاحب الكفاية وقلت ان التفصيل مختار عنده وبينه.

بقوله نعم لو كان الخ.

أى يصح جريان البراءة فى الفرد المشكوك لو كان النهى بمعنى طلب كل فرد منهى عنه على حدة أى اذ كان توجه النهى على نحو الانحلال وقع كل واحد من الاعدام مطلوبا مستقلا ووجب ترك ما علم كونه منهيا عنه.

واما اذا وقع الشك فى تعلق النهى فى فرد ولم يعلم كونه مصداقا للنهى فاصالة البراءة فى هذا المصداق المشتبه محكمة يعنى أن يكون الشك حينئذ شكا فى التكليف المستقل فلازمه جواز ارتكاب ما شك فى فرديته للطبيعة المنهى عنها اعتمادا على اصالة البراءة لان الشك حينئذ فى ثبوت التكليف اذ المفروض كون كل فرد من افراد طبيعة الخمر محكوما بحكم على حدة فالشك فى فردية شىء للخمر يستلزم قهرا الشك فى حرمة هذا الفرد فتجرى فيها البراءة.

كذا يجوز ارتكاب المشتبه بناء على تعلق التكليف بنفس الطبيعة لا الافراد فيما اذا كان مسبوقا بترك تلك الطبيعة فان ارتكاب المشتبه يوجب الشك فى انتقاض ترك شرب الخمر مثلا فيستصحب ذلك الترك حين ارتكاب المشتبه وتجرى البراءة فى

٣٨٣

هذا الفرد المشتبه.

واما اذا لم يكن تعلق النهى على نحو الانحلال وكذا لم يكن الفرد المشكوك مسبوقا بالترك فوجب الاجتناب عن الافراد المشتبهة عقلا لتحصيل الفراغ اليقينى.

واعلم انّ المكلف اما ان يكون عالما بوجوب الشىء واما ان يكون عالما بحرمته فيجب فيما علم وجوبه احراز اتيانه اطاعة لامره وكذلك فيما علم حرمته يجب احراز تركه وعدم اتيانه امتثالا لنهيه.

واما اذا لم يكن المكلف عالما بوجوب الشىء كدوران الامر بين الوجوب والاستحباب فيمكن احراز الواجب بالاصل أى يحتاط المكلف باتيان الفرد المردد وكذا فى صورة دوران الامر بين الحرمة والكراهة فيحرز ترك الحرام بالاصل أى يحتاط بترك هذا الفرد المردد واما اذا اشتبه المائع بين الخمر والخل وان كان مقتضى اصالة البراءة جواز شربه لكن لزوم احراز الترك يقتضى وجوب التحرز عنه ولا يحرز هذا الترك اللازم الا بترك هذا الفرد المشتبه أيضا.

فثبت بالبيان المذكور انه اذا كان تعلق النهى بموضوعه على نحو الانحلال فتجرى اصالة البراءة فى الفرد المشكوك واما اذا لم يكن تعلق النهى بموضوعه على نحو الانحلال فلم تجر اصالة البراءة فى الفرد المشكوك قد سبق توضيح هذين الوجهين فلا وجه للتكرار.

قوله : الرابع انه قد عرفت حسن الاحتياط عقلا ونقلا الخ.

قد تقدم الكلام فيه فى الامر الثانى أى ذكر انه لا شبهة فى

٣٨٤

حسن الاحتياط شرعا وعقلا فى الشبهة الوجوبية أو التحريمية لا بد من الكلام هنا فى جهات.

الاولى انه لا فرق فى حسن الاحتياط بين قيام الحجة على نفى الحكم وعدمه.

الثانية انه لا فرق بين الظن بالتكليف والشك والوهم فيه.

الثالثة انه لا فرق بين كونه من الامور المهمة وعدمه.

الرابعة انه لا فرق بين لزوم عسر غير مخل بالنظام وعدمه لان هذا العسر غير مناف للحسن الغير الالزامى.

الخامسة ان الاحتياط المخل بالنظام هل اختلاله موجب لانتفاء حسن الاحتياط كما هو ظاهر العبارة فكون السالبة ظاهرة فى انتفاء المحمول أو لانتفاء نفس الاحتياط وجهان اقربهما الثانى أى كانت القضية السالبة منتفية بانتفاء موضوعها لان الاحتياط عبارة عن اتيان ما يحتمل كونه محبوبا ذاتا مع القطع بعدم كونه مبغوضا فعلا والا فلو احتمل مبغوضيته أو قطع بها فلا احتياط وفى المقام قد قطع بها للاختلال المبغوض للشارع فعلا.

فظهر من البيان المذكور انه لا يمكن الاحتياط فى الصورة المبغوضية ولا شك فى كونه مبغوضا للشارع اذا كان مخلا بالنظام واما اذا قلنا بتبعيض فى الاحتياط فلم يكن مخلا بالنظام كما اشار اليه المصنف.

بقوله : وان كان الراجح لمن التفت الى ذلك من اول الامر الخ.

حاصل كلامه وان كان الاحتياط فى الصورة المذكورة حسنا

٣٨٥

أيضا لمن التفت الى ان الاحتياط موجب للاختلال لكن رجح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا أى ترجيح بعض الاحتياطات اما يكون احتمالا او محتملا كما اذا كانت امور متعددة مشتبهة موردا للابتلاء والتفت المكلف الى ان الاحتياط فى جميعها مخل بالنظام يمكن هنا تبعيض فى الاحتياط على الوجهين.

الاول انه لو احتمل وجوب فعل احتمالا قويا ولم يكن المحتمل من الامور المهمة رجحت مراعاة الاحتمال فيحتاط فى هذا الفعل بالاتيان نظرا الى اهمية الاحتمال هذا بيان لقوله احتمالا والثانى انه اذا احتمل وجوب فعل احتمالا ضعيفا وكان المحتمل من الامور المهمة بحيث لو كان وجوبه معلوما لترجحت مراعاة المحتمل فيحتاط فيه نظرا الى اهميته هذا بيان لقوله محتملا.

قوله : فافهم.

اشارة الى ان حسن الاحتياط قبل الاخلال وعدم حسنه حينه انما هو بالاضافة الى الجمع بين الاحتياطات بالنسبة الى تكاليف متعددة لا بالنسبة الى تكليف واحد.

قوله : فصل اذا دار الامر بين وجوب شىء وحرمته الخ.

كان البحث فى هذا الفصل فى دوران الامر بين المحذورين أى الوجوب والحرمة ولا يخفى ان دوران الحكم بين الوجوب والحرمة قد يكون لعدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على الالزام الذى يدور بينهما كما اذا اختلفت الامة على القولين مع العلم بعدم القول الثالث وقد يكون هذا الدوران لاجمال النص من جهة هيئة الامر الذى يردد بين الايجاب والتهديد فان التهديد

٣٨٦

دال على كون المتعلق منهيا عنه وقد يكون الاجمال لتعارض النصين الذين أحدهما يأمر به والآخر ينهى عنه أى الاجمال اما لعدم نص واما لتعارض النصين او باجماله هذه الامثلة للشبهة الحكمية واما الشبهة الموضوعية فهى خارجة عن المهم.

ثم إنّه قبل الشروع فى ادلة الاقوال لا بد من بيان الوجوه فى هذه المسألة وهى عشرة جريان البراءة عقلا ونقلا ووجوب الاخذ باحدهما معينا وهو ينشعب الى وجهين وجوبه تخييرا وهو ينشعب الى ثلاثة التخيير الاستمرارى مطلقا او بشرط عدم بنائه من الاول الى العدول والبدوى ـ والتوقف عن الافتاء أى لا بالبراءة عقليها ونقليها ولا بسائر الوجوه المتقدمة ـ والتخيير العقلى عملا وهو أيضا ينشعب الى ثلاثة وهى الصورة المذكورة مع الافتاء بالبراءة الشرعية وبين صاحب الكفاية هذه الوجوه.

بقوله : ففيه وجوه الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل وحكم العقل بقبح المؤاخذة الخ.

أى أحدها الحكم بالاباحة ظاهرا لجريان البراءة العقلية والنقلية فيه : اما العقلية فلتحقق موضوعها وهو عدم البيان اذ لا بيان على خصوص الوجوب أو الحرمة المحتملين فالمؤاخذة على كل من الفعل والترك فى المقام مما لم يستقل العقل بقبحه والعلم باصل الالزام لم يكن باعثا ولا زاجرا لان العلم الاجمالى لم يكن منجزا فتجرى القاعدة بلا مانع.

واما جريان البراءة النقلية فلان مثل حديثى الرفع والحجب يشملان ما اذا علم جنس الالزام ولم يعلم النوع الخاص

٣٨٧

منه فالوجوب المشكوك فيه مرفوع كرفع الحرمة المحتملة.

الوجه الثانى وجوب الاخذ باحد الاحتمالين تعيينا لترجيح جانب الحرمة والبناء عليه فى مرحلة الظاهر واستدل عليه بوجوه.

الاول الاصل أى قاعدة الاحتياط عند دوران الامر بين التخيير والتعيين فان مقتضاها تقديم احتمال التحريم فى مرحلة الظاهر.

الثانى الاخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة بناء على كون المراد منه عدم الدخول فى الشبهة فتدل على وجوب ترك الحركة نحو الشبهة وهو معنى تقديم احتمال الحرمة.

الوجه الثالث حكم العقل بتقديم دفع المفسدة على جلب المنفعة عند دوران الامر بينهما فاللازم رعاية جانب المفسدة الملزمة بحكم العقل.

الوجه الرابع ان المقصود من الحرمة ترك الحرام والترك يجتمع مع كل فعل أى ترك الحرام يجتمع مع كل فعل.

الوجه الخامس الاستقراء الذى يستفاد منه ان مذاق الشرع هو تقديم جانب الحرمة فى موارد الاشتباه أى اشتباه الواجب والحرام هذا يقتضى تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب قد ذكر الى هنا الادلة التى استدل بها على ترجيح جانب الحرمة على وجوب عند دوران الامر بين الوجوب والحرمة.

الثالث من الوجوه المذكورة الاخذ باحدهما تخييرا أى التخييرى الظاهرى بين الفعل والترك شرعا يعنى لزوم الاخذ باحد الاحتمالين تخييرا فيقاس المقام فى باب الخبرين حيث ان احدهما حجة تخييرية فى حق المكلف فيجب عليه الالتزام اما بالخبر الامر فعليه الفعل واما بالخبر الناهى فعليه الترك هذا مفاد

٣٨٨

قول عليه‌السلام : بايهما اخذت من باب التسليم وسعك فكذا فى المقام ايضا يكون مخيرا بين احتمال الوجوب المقتضى لاتيان الفعل والاخذ باحتمال الحرمة المقتضى لترك الفعل.

الوجه الرابع من الوجوه المذكورة التخيير بين الترك والفعل عقلا أى التخيير ثابت للمكلف تكوينا والتوقف فى الحكم انما يكون شرعا يعنى عدم الحكم عليه بشىء من التخيير أو الاباحة أو البراءة لا ظاهرا ولا واقعا ومرجع هذا الى الغاء الشارع لكلا الاحتمالين فلا حرج فى الفعل ولا فى الترك بحكم العقل أى حيث لا ترجيح لاحد الاحتمالين على الآخر فيستقل العقل بالتخيير يعنى انه لو فعل لا يعاقب عليه كما لا يعاقب على الترك وقد ذكر صاحب الكفاية التخيير بين الترك والفعل عقلا مع التوقف فوجه التوقف عن الحكم بالتخيير أو البراءة أو الاباحة فى مرحلة الظاهر أى لا يحكم بشيء مما ذكر فى مرحلة الظاهر لان هذا الحكم مناف لما علم اجمالا من الحرمة أو الوجوب

اما وجه الفرق بين هذا التخيير والتخيير السابق فان التخيير السابق كان فى الاخذ باحد الاحتمالين بمعنى وجوب الحكم بالاخذ باحدهما وهذا التخيير كان فى العمل باحدهما دون الحكم به وأيضا هذا التخيير انما يكون تكوينيا والتخيير السابق كان تشريعيا.

قوله أو مع الحكم عليه بالاباحة شرعا الخ.

هذا وجه خامس فى دوران الامر بين المحذورين والمقصود من هذا الوجه التخيير العقلى بين الفعل والترك والحكم عليه شرعا

٣٨٩

بالاباحة عليه ظاهرا وهو مختار المصنف.

توضيحه ان مدعى المصنف مركب من امرين احدهما الحكم بالتخيير العقلى لا الشرعى ثانيهما الحكم شرعا بالاباحة الظاهرية.

واستدل على الاول بقوله لعدم الترجيح وتوضيحه ان المكلف لا يخلو من الفعل أو الترك فلو اختار الفعل لزم ترجيحه وكذا لو اختار الترك لزم ترجيحه وحيث لا مرجح لاحدهما على الآخر كما هو المفروض فترجيح احدهما على الآخر ترجيح بلا مرجح وهو قبيح فيتساويان وهو معنى التخيير العقلى.

واستدل على الثانى أى الحكم بالاباحة شرعا ـ بقوله وشمول مثل كل شىء لك حلال توضيح هذا الاستدلال ان المراد المصنف من مثل هو سائر الروايات التى تصلح لاثبات القاعدة أى قاعدة الحل وليس مراد من مثل اخبار براءة كحديثى الرفع والحجب وذلك لان مدلول حديث الرفع ونحوه مطابقة نفى التكليف الالزامى على ما اختاره المصنف فى اول باب البراءة بقوله فالزام المجهول مرفوع فعلا : فليس الحل الظاهرى مدلول البراءة أى ليس الحل الظاهرى المدلول المطابقى ولا المدلول الالتزامى للبراءة اذ المدلول الالتزامى ليس الا الترخيص الذى هو اعم من الاباحة بمعنى الاخص التى هى المطلوب.

بعبارة اخرى ان مدلول اصالة البراءة نفى التكليف الالزامى فى مرحلة الظاهر فهو مستلزم للترخيص عقلا ومدلول اصالة الحل حكم شرعى ظاهرى أى الاباحة بالمعنى الاخص فالاستدلال بحديث الحل على إباحة ما دار امره بين الوجوب والحرمة فيستدعى البحث

٣٩٠

فى مقامين الاول فى وجود المقتضى : والثانى فى عدم المانع.

اما المقتضى فهو موجود فى المقام أى ان الحديث يدل على حلية المشكوك حرمته ظاهرا وان الحلية باقية الى ان يحصل العلم بخصوص الحرمة فموضوع حكم الشارع بالحلية الظاهرية هو ما شك فى حرمته أى اذا دار الامر بين الحرمة وغيرها من الوجوب والاباحة والاستحباب والكراهة فهو موضوع لحكم الشارع بالحلية الظاهرية فيندرج مورد الدوران بين المحذورين فى موضوع الحديث لعدم العلم فيه بخصوص الحرمة فاذا دار الامر بين حرمة الشيء ووجوبه صدق عليه عدم العلم بحرمته فهو حلال ظاهرا حتى يعلم انه حرام.

واما المقام الثانى أى البحث عن عدم المانع اعنى انه لا مانع من جريان اصالة الحل عقلا ونقلا وقد ذكر توضيح هذا بقوله

وقد عرفت انه لا يجب موافقة الاحكام التزاما الخ.

أى قد عرفت فى الامر الخامس من مباحث القطع عدم وجوب الموافقة الالتزامية حيث ذكر هناك هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضى موافقته عملا يقتضى موافقته التزاما والتسليم له اعتقادا وانقيادا كما هو اللازم فى الاصول الدينية والامور الاعتقادية أو لا يقتضى ذلك قال المصنف هناك الحق هو الثانى أى لا يلتزم تنجز التكليف بالقطع الموافقة الالتزامية فلا مانع عقلا عن اصالة الحل اذ ما ذكر او يمكن ان يذكر مانعا عقلا هو وجوب الموافقة الالتزامية قال صاحب الكفاية الحق الثانى أى الحق هو منع الوجوب الموافقة الالتزامية.

٣٩١

توضيح البحث بعبارة اخرى يقول المتوهم ان العقل كما يستقل بوجوب اطاعة الشارع عملا كذلك يحكم بوجوب اطاعته التزاما بلزوم التدين والالتزام القلبى باحكامه ومن المعلوم ان علم المكلف بعدم خلوّ الواقع عن احد الحكمين الالزاميين ينافى البناء على إباحة كل من الفعل والترك ظاهرا لاقتضاء الاباحة الظاهرية خلاف ما هو معلوم عنده من الحكم الواقعى الدائر بين الوجوب والحرمة فوجوب الاطاعة الالتزامية مانع عقلا عن شمول اصالة الحل فى المقام.

فاجاب صاحب الكفاية من هذا التوهم اولا بمنع وجوب الموافقة الالتزامية توضيحه ان وجوب اطاعة الاوامر والنواهى الشرعية مما لا ريب فى استقلال العقل به واما وجوب موافقتهما التزاما بعقد القلب على الاطاعة حتى يكون لكل حكم نحو ان من الاطاعة فلا دليل عليه أى لا دليل على وجوب الاطاعة الالتزامية لان العقل حاكم بلزوم الامتثال العملي لاجل تحصيل غرض المولى المترتب على البعث والزجر حذرا من العصيان المستتبع العقوبة ولا يحكم بلزوم الموافقة الالتزامية أى فلا دلالة من العقل على وجوبها واما النقل فليس فيه أيضا ما يقتضى ذلك لان مثل اقيموا الصلاة ونحوه لا يدل على وجوب الموافقة الالتزامية.

والجواب عن قول المتوهم ثانيا انه بناء على تسليم وجوب الموافقة الالتزامية لا منافاة بينه وبين اصالة الحل لامكان الانقياد القلبى الاجمالى بان يلتزم اجمالا بالحكم الواقعى على ما هو عليه فالامتثال القلبى عبارة من عقد القلب على بعض الامور الاعتقادية مع عدم العلم بتفاصيلها فظهر من هذا الجواب ان وجوب موافقة

٣٩٢

الاحكام التزاما لا يمنع من جريان اصالة الحل فى مسئلة الدوران الامر بين المحذورين.

ولا يخفى ان الالتزام بالحكم الواقعى على اجماله ممكن مع شمول دليل اصالة الحل للمورد واما التزام التفصيلى بالوجوب أو الحرمة فلو لم يكن تشريعا محرما لما نهض الدليل على وجوبه قطعا أى لم يقم الدليل على وجوب الالتزام التفصيلى بالنسبة الى الوجوب والحرمة.

قوله وقياسه بتعارض الخبرين الدال احدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل الخ.

هذا جواب عن السؤال المقدر أى انه يصح التخيير الشرعى فى دوران الامرين المحذورين بمقايسة المقام بالخبرين المتعارضين الدالين على الوجوب والحرمة توضيح مقايسة المورد بما ذكر يتوقف ببيان امور :

الاول ان رعاية الحكم الظاهرى الاصولى هو حجية كل واحد من الخبرين بعد وضوح عدم امكانها أى عدم امكان حجية كل واحد من الخبرين لاجل التعارض واوجب هذا حكم الشارع بلزوم الاخذ بواحد منهما تخييرا فثبت ان الحكم الواقعى اولى بالرعاية فلا بد من البناء على الوجوب أو الحرمة بالاولوية القطعية فلا يصح طرحهما والقول بالاباحة الظاهرية فتختص قاعدة الحل بالشبهات البدوية ولا تشمل شيئا من صور الدوران بين المحذورين.

الامر الثانى توافقهما على نفى الثالث بالدلالة الالتزامية أى الوجه الثانى للتخيير الشرعى فى دوران الامر بين المحذورين هو

٣٩٣

توافق دوران الامر بين المحذورين والخبرين المتعارضين على نفى الثالث بالدلالة الالتزامية فان الخبرين المتعارضين يدلان التزاما على نفى الحكم الثالث وكذا فى المقام ان العالم بالالزام الجامع بين الوجوب والحرمة يعلم وجدانا بنفى الحكم الثالث لان المفروض دوران الحكم الواقعى بين الوجوب والحرمة ومع هذا كيف يمكن الالتزام بالاباحة الظاهرية.

فثبت مقايسة المقام بالخبرين المتعارضين أى يحكم الشارع فى الخبرين بلزوم الاخذ بواحد منهما تخييرا وكذا فى المقام اعنى صورة دوران الامر بين المحذورين فلا بد من التخيير بينهما لتعذر كلا الاحتمالين ولا يجوز ابداع القول الثالث.

واما الجواب عن المقايسة المذكورة فيقال ان قياس دوران الامر بين المحذورين بالخبرين المتعارضين قياس مع الفارق لعدم وحدة الملاك فيهما توضيحه ان الاخبار اما أن تكون حجة من باب السببية واما من باب الطريقية فعلى الاول يكون التخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة لحدوث المصلحة فى المؤدى بسبب قيام خبر على الوجوب وكذا حدوث مفسدة فيه بقيام خبر آخر على حرمة ذلك المتعلق ولما كان كل من الخبرين مستجمعا لشرائط الحجية وجب العمل بكل منهما لكن العمل على كل من الخبرين متعذر فيستقل العقل بالتخيير فى صورة عدم المرجح كما فى انقاذ غريقين مؤمنين.

واما ما نحن فيه أى صورة دوران الامر بين المحذورين فليس مناط التخيير موجودا فيه والمراد منه هو الحجية فى الاحتمالين المتعارضين فليس هذا المناط موجودا فى مقام البحث اذ لم يكن

٣٩٤

فى احتمال وجوب والحرمة صفة الكشف والطريقية حتى يصح قياسهما بالخبرين المتعارضين.

فثبت من البيان المذكور ان تزاحم الوجوب والحرمة ليس كتزاحم الخبرين بناء على حجيتهما من باب السببية.

واما على الثانى وهو حجية الاخبار على الطريقية فالقياس مع الفارق أيضا أى اذا كانت حجية الاخبار من باب الطريقية فقياس دوران الامر بين المحذورين كالوجوب والحرمة بتعارض الحجتين والخبرين المتعارضين قياس مع الفارق أيضا لان الخبرين لما كان كل منهما واجدا لشرائط الحجيّة ومناط الطريقية من الكشف عن الواقع واحتمال الاصابة فى خصوص كل واحد من المتعارضين ولم يمكن الجمع بينهما فى الحجية الفعلية فقد جعل الشارع احدهما حجة تخييرا مع التكافؤ.

وهذا بخلاف المقام اذ ليس فى شيء من الاحتمالين اقتضاء الحجية أى لم يكن فى دوران الامر بين الوجوب والحرمة اقتضاء الحجية بل كان دوران الحكم الواقعى بين الوجوب والحرمة فلا مانع من طرح كلا الاحتمالين واجراء الاباحة الظاهرية واما فى باب تعارض الخبرين فالمقتضى بحجيتهما موجود من الكشف عن الواقع وهو موجب للتخيير فى باب الخبرين المتعارضين فظهر من البيان المذكور عدم صحة المقايسة فى البابين أى باب دوران الامر بين المحذورين وباب تعارض الحجتين.

قال صاحب الكفاية اذا كانت حجية الخبرين المتزاحمين من باب الطريقية فالتخيير على خلاف القاعدة لان القاعدة الاولية فى

٣٩٥

باب تعارض الطرق هى التساقط فالتخيير بين الخبرين تعبد شرعى على خلاف القاعدة واما مقام البحث أى دوران الامر بين المحذورين فالمطلوب هو الاخذ بخصوص ما صدر واقعا وهو حاصل أى الاخذ بصدور ما وقع حاصل اجمالا.

ولا يخفى ان الاخذ بخصوص احد الحكمين فى المقام لم يكن موصلا فى بعض الموارد فلا يصح التخيير فى مورد دوران الامر بين المحذورين ولا يقاس بتعارض الخبرين الدال احدهما على الحرمة والآخر على الوجوب قد ذكر وجه عدم القياس مفصلا.

قوله : نعم لو كان التخيير بين خبرين لاجل ابدائهما احتمال الوجوب والحرمة الخ.

هذا استدراك على قوله وقياسه باطل أى غرض من هذا الكلام تصحيح قياس دوران الامر بين المحذورين بالخبرين المتعارضين بعدم الفارق بين المقام وبين هذين الخبرين المتعارضين وجه التصحيح ان مناط وجوب الاخذ باحد الخبرين المتعارضين انما هو ابدائهما احتمال الوجوب والحرمة دون غيره من السببية والطريقية والظاهر ان هذا المناط موجود فى مورد دوران الامر بين المحذورين أى احتمال الوجوب والحرمة موجود فى كلا الموردين فلا بد من التخيير فى دوران الامر بين المحذورين كمورد الخبرين المتعارضين وكان القياس فى محله بناء على كون التخيير بين الخبرين بالمناط المذكور.

قوله : ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان الخ.

هذا اشارة الى دليل الجزء الثانى ووجهه ان تنجز التكليف

٣٩٦

واستحقاق العقوبة على مخالفته مشروط بالبيان وبالقدرة.

توضيحه ان التكليف له مراتب اربع أى الاقتضاء والانشاء والفعلية والتنجز وهذه المرتبة مشروطة بالبيان وهو ما يصح معه المؤاخذة لا خصوص العلم فضلا عن خصوص العلم التفصيلى أى ليس المراد من البيان خصوص العلم بل يكفى مطلق البيان كالظن وكامكان الاحتياط وكذا مشروطة هذه المرتبة أى مرتبة التنجز بالقدرة وقد يستند عدم التنجز الى انتفاء كلا الامرين كما فى بعض الشبهات البدوية الغير المقدورة وقد يستند الى عدم البيان وقد يستند الى انتفاء القدرة كما فى المقام اذ العلم الاجمالى بيان ومصحح للعقوبة فى اطرافه.

والحاصل ان قبح العقاب فى المقام مسلم لكنّه ليس لاجل عدم البيان بل لعدم قدرة المكلف على الامتثال القطعى فلا مجال لتطبيق قاعدة القبح هنا لتحقق البيان الرافع لموضوع قاعدة القبح العقاب بلا بيان بسبب العلم باصل الالزام ولو مع الجهل بشخصه فان العلم فى المقام بجنس التكليف كاف فى البيانية ولذا يجب الاحتياط اذا تمكن منه كما فى تعدد المتعلق.

فعلم بالبيان المذكور انه لا مجال عند دوران الامر بين المحذورين لجريان قاعدة قبح عقاب بلا بيان لوجود البيان الاجمالى وهو العلم باصل الالزام وهو كاف فى المنع عن جريانها فالمانع عن استحقاق العقاب انما هو عدم قدرة على الامتثال والموافقة القطعية أى لم يكن المكلف قادرا على الامتثال القطعى قد ثبت جريان اصالة الاباحة فيما اذا دار الامر بين وجوب شىء وحرمته والدليل على هذا عدم قدرة المكلف على الامتثال القطعى.

٣٩٧

قوله : ثم ان مورد هذه الوجوه وان كان ما اذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين الخ.

هذا اشارة الى الوجوه الخمسة المذكورة فى دوران الامر بين الوجوب والحرمة أى قد ذكر فيما تقدم فى قوله فصل اذا دار الامر بين وجوب شىء وحرمته ففيه الاول الحكم بالبراءة عقلا ونقلا الثانى وجوب الاخذ باحدهما تعيينا الثالث وجوب الاخذ باحدهما تخييرا الرابع التخيير بين الترك والفعل عقلا مع التوقف عن الحكم الشرعى الخامس التخيير عقلا مع الحكم عليه بالاباحة شرعا.

هذا الكلام اشارة الى التعريض على الشيخ قدس‌سره حيث قال ان الرجوع الى اصالة الحل فيما دار الامر بين الوجوب والحرمة فيما كان كل من الوجوب والتحريم فيه توصليا بحيث يسقط بمجرد الموافقة اذ لو كانا تعبديين محتاجين الى قصد امتثال التكليف أو كان أحدهما المعين تعبديا فلا يجوز طرحهما والرجوع الى الاباحة لان الرجوع اليها مخالفة عملية قطعية.

واعلم ان الاقسام المتصورة فى مسألة دوران الامر بين الوجوب والحرمة من حيث التوصلية والتعبدية اربعة : الاول ان يكون الوجوب والحرمة تعبديين أى يعلم المكلف انه لو كان الحكم المحتمل فى مورد هو الوجوب أو الحرمة لكان تعبديا : الثانى ان يكونا توصليين أى يعلم انه لو كان الحكم المحتمل الوجوب والحرمة لكان توصليا يعنى عدم الحاجة فى امتثاله الى قصد التقرب : الثالث ان يكون احدهما المعين كالوجوب أى يفرض

٣٩٨

انه لو كان هذا الشىء واجبا فى الواقع لم يمتثل امره الا باتيانه بقصد التقرب بخلاف ما لو كان هذا الشىء فى الواقع حراما فانه توصلى : الرابع ان يكون احدهما غير المعين تعبديا أى يعلم اجمالا بكون احد الاحتمالين تعبديا ولكن لا يعلم هذا بعينه.

فهذه الاقسام الاربعة لا يجوز الرجوع الى اصالة الاباحة فى جميعها بل يجوز الرجوع اليها فيما اذا كان الوجوب والحرمة كلاهما توصليين واما اذا كانا تعبديين أو كان أحدهما تعبديا فلم يجز الرجوع الى الإباحة لانه مخالفة عملية قطعية على ما افاده الشيخ قدس‌سره من انه لو كانا تعبديين لاحتاجا الى قصد الامتثال وكذا لو كان أحدهما تعبديا فلا يجوز طرحهما والرجوع الى الاباحة لكونه مخالفة عملية قطعية أى لا يقصد فى صورة الرجوع الى الاباحة الامر الوجوبى ولا النهى التحريمى فهذا مخالفة قطعية.

وقد سلم صاحب الكفاية قول الشيخ فى عدم الرجوع الى الاباحة فى صورة دوران الامر بين المحذورين فيما اذا كان الوجوب والحرمة تعبديين ولكن ناقش مع الشيخ من وجه بيّنه

بقوله : الا ان الحكم أيضا فيهما اذا كان كذلك هو التخيير عقلا الخ.

هذا اشارة الى انه لا يجوز الرجوع الى الاباحة فى صورة دوران الامر بين الوجوب والحرمة اذا كانا تعبديين.

ولكن لا اشكال فيهما الحكم بالتخيير عقلا فى صورة كون الوجوب والحرمة تعبديين فلا فرق فى هذا الحكم بين كونهما تعبديين أو توصليين كما قال صاحب الكفاية لم يكن اشكال فى

٣٩٩

عدم جواز طرحهما والرجوع الى الاباحة الا ان الحكم أيضا فيهما اذا كان كذلك هو التخيير عقلا أى لا اشكال فى جواز الحكم فيما اذا كان الوجوب والتحريم توصليين وكذا لا اشكال بالحكم أيضا فيهما بالتخيير اذا كانا تعبديين فالعقل يحكم فيهما بالتخيير على وجه قربى ان يؤتى به بداعى طلبه أو تركه ولا يجوز الاخذ باحدهما معينا لعدم الترجيح فبين المصنف نتيجة البحث.

بقوله : فانقدح انه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين الخ.

هذا بيان لتعميم مورد التخيير فى صورة الدوران بين المحذورين.

وحاصل ما ذكر من التعميم ان التخيير العقلى يجرى فى جميع الاقسام المذكورة فى مسئلة الدوران بين المحذورين أى سواء كان الوجوب والحرمة توصليين أم التعبديين فلا وجه لاختصاص الوجوه الخمسة المتقدمة عند قوله فصل اذا دار الامر بين وجوب شىء وحرمته بما اذا كانا توصليين أو كان احدهما غير المعين توصليا حتى يكون التخيير العقلى مختصا بهما كما صرح به الشيخ (قدس‌سره).

فظهر من البيان المذكور عدم اختصاص التخيير العقلى بما اذا كان الوجوب والحرمة توصليين ولكن القول بالاباحة فى المورد المذكور يختص بهما للزوم المخالفة العملية القطعية لو جرت اصالة الاباحة فى التعبديين فاختصت بالتوصليين كما اشار اليه صاحب الكفاية بقوله وان اختص بعض الوجوه بهما كما لا يخفى.

٤٠٠