شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

فيما بينه ، وبين الجزءين الآخرين على وجه آخر غير الحلول ، والحق أن اثبات الصور الجوهرية [سيما النوعية ، وأن الذي يعلم قطعا هو أن الماء والنار مثلا] (١) مختلفان بالحقيقة مع الاشتراك في الجسمية كالإنسان والفرس في الحيوانية ، وأما أن في كل منهما جوهرا لا يختلف بالحقيقة (حالا فيه أيضا) هو المادة ، وآخر كذلك حالا في الأول هو الصورة الجسمية ، وآخر مختلف بالحقيقة حالا فيه أيضا هو الصورة النوعية ، وهكذا في سائر مراتب امتزاج العناصر إلى أن تنتهي إلى النوع الأخير كالإنسان مثلا ، فيكون في مادته جواهر كثيرة هي صور العناصر والأخلاط والأعضاء ، وآخرها صورة نوعية إنسانية حالة غير النفس الناطقة (٢) المفارقة فلم يثبت بعد ، وما يقال أن الأجزاء العقلية إنما توجد من الأجزاء الخارجية فلا بدّ في اختلاف أنواع الجنس الواحد من صور مختلفة الحقيقة ، هي مأخذ الفصول ليس بمستقيم ، لأنهم جعلوا العقول والنفوس أنواعا بسيطة من جنس الجوهر ، ولأن الجزء الخارجي قد لا يكون مادة ولا صورة كالنفس الناطقة ، اللهم إلا بمجرد التسمية ، ووقع في ديباجة الأخلاق العنصرية (٣) ما يشعر بأن على الصورة الإنسانية (٤) طراز عالم الأمر أي المجردات ، وكأنه أراد أنها لغاية قربها من الكمالات وإعدادها البدن ، لقبول تعلق النفس به شبيهة بالمجردات ، وإن كانت حالة في المادة أو أراد بكونها من عالم الأمر أن وجودها دفعي لا كالهيولى ، وما لها من الأطوار في مدارج

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) النفس عند ارسطو هي المبدأ الأول للحياة والإحساس والفكر وتسمى قوة النفس التي هي مبدأ الفكر بالنفس الانسانية ، أو النفس الناطقة او المفكرة ، وهي النفس الانسانية من جهة ما تدرك الكليات وتفعل الأفعال الفكرية أو هي الجوهر المجرد عن المادة القابل للمعقولات والمتصرف في مملكة البدن (راجع تعريفات الجرجاني)

قال ابن سينا : وأما النفس الناطقة فتنقسم قواها أيضا الى قوة عاملة وقوة عالمة ، وكل واحدة من القوتين تسمى عقلا باشتراك الجسم ، فالقوة العاملة هي العقل العملى ، والقوة العالمة هي القوة النظرية أو العقل النظري. (راجع رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها لابن سينا نشرت في القاهرة عام ١٩٣٤ وكتاب النجاة أيضا ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢).

(٣) في (أ) الناصرية بدلا من (العنصرية) وهو تحريف

(٤) سقط من (ب) لفظ (الانسانية)

٨١

الاستكمال والاستعداد ، وأما ما يقال من أنه أراد بها النفس الناطقة بدليل استشهاده بقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) (١) فيكذبه تصريحه بأنها سبب لاستعداد البدن لتعلق النفس به ، وأن النفس مبدأ لوجودها.

__________________

(١) سورة غافر آية رقم ١٥ وقد جاءت الآية محرفة في المطبوعة حيث قال (وينزل) بدلا من (يلقى)

٨٢

المبحث الخامس

«في أحكام الأجسام»

[قال (المبحث الخامس)

في أحكام الأجسام فمنها أنها متماثلة لا تختلف إلا بالعوارض ، ويجوز على كل ما يجوز على الآخر ، ويبتني على ذلك استناد اختلاف العوارض إلى القادر المختار ، وخرق السموات ، وكثير من خوارق العادات ، وذلك لكونها من محض الجواهر الفردة المتماثلة ، ولاشتراكها في التميز وقبول الأعراض ، [وهما من أخص صفات النفس] (١) وانقسام الجسم إليها. وقد يتوهم أن المراد بتماثلها الاتحاد في المفهوم المشترك بين الأنواع المختلفة ، كالحيوان مثلا ، فيستدل بأن حد الجسم (٢) على اختلاف عباراتهم فيه واحد غير مشتمل على تنويع واختلاف الخواص إنما هو لاختلاف الأنواع].

بعد الفراغ من بيان حقيقة الجسم أخذ في بيان أحكامه ، فمنها أن الأجسام متماثلة أي متحدة الحقيقة ، وإنما الاختلاف بالعوارض ، وهذا أصل يبتني عليه كثير من قواعد الإسلام ، كإثبات القادر المختار ، وكثير من أحوال النبوة والمعاد (٣) ، فإن اختصاص كل جسم بصفاته المعينة لا بد أن يكون بمرجح مختار ، إذ نسبة الموجب إلى الكل على السواء ، ولما جاز على كل جسم ما يجوز على الآخر كالبرد على النار ، والحرق على الماء ثبت جواز ما نقل من المعجزات ، وأحوال القيامة ، ومبنى هذا الأصل عند المتكلمين على أن أجزاء الجسم ليست إلا الجواهر الفردة ، وانها متماثلة لا يتصور فيها اختلاف حقيقة ، ولا محيص لمن اعترف بتماثل الجواهر ، واختلاف الأجسام بالحقيقة من جعل بعض الأعراض داخلة فيها ، وقد

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب)

(٢) في (ب) الاسم بدلا من (الجسم)

(٣) راجع رسالة اضحوية في أمر الميعاد لابن سينا تحقيق الدكتور سليمان دنيا.

٨٣

يستدل بأن الأجسام متساوية في التميز ، وقبول الأعراض ، وذلك من أخص صفات النفس، وبأن الجسم ينقسم الى الفلكي والعنصري (١) بما لهما من الأقسام ، ومورد القسمة مشترك ، وبأن الأجسام يلتبس بعضها ببعض على تقدير الاستواء في الأعراض ، ولو لا تماثلها في نفسها لما كان كذلك ، والكل ضعيف. ومن أفاضل الحكماء من توهم أن المراد بتماثلها اتحادها في مفهوم الجسم ، وإن كانت هي أنواعا مختلفة مندرجة تحته فتمسك بأن الحد الدال على ماهية الجسم على اختلاف عباراتهم فيه واحد عند كل قوم من غير وقوع قسمة فيه ، فلذلك اتفق الكل على تماثله ، فإن المختلفات إذا جمعت في حد واحد وقع فيه التقسيم ضرورة كما يقال الجسم هو القابل للأبعاد الثلاثة ، والمشتمل عليها ، فيعم الطبيعي والتعليمي ، ومنشأ هذا التوهم استبعاد أن يذهب عاقل إلى أن الماء والنار حقيقة واحدة ، لا تختلف إلا بالعوارض كالإنسان دون الفصول ، والمنوعات كالحيوان ، كيف ولم يسمع نزاع في أن الجسم جنس بعيد ثم قال :

وقول النظام يتخلفها لتخالف خواصها إنما يوجب تخالف الأنواع ، لا تخالف المفهوم من الحد.

[قال (ومنها)

أنها باقية بحكم الضرورة لا بمجرد البقاء في الحس ، وقابلة للفناء

__________________

(١) الجسم بالكسر وسكون السين المهملة في اللغة : الجرم وكل شيء عظيم الخلقة. وعند أهل الرمل اسم لعنصر الأرض ، وعند الحكماء يطلق بالاشتراك اللفظي على معنيين. أحدهما : ما يسمى جسما طبيعيا لكونه يبحث عنه في العلم الطبيعي. وثانيهما : ما يسمى جسما تعليميا إذ يبحث عنه في العلوم التعليمية أي الرياضية ويسمى ثخنا ، وعرفوه بأنه كم قابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة على الزوايا القائمة ، والقيد الأخير للاحتراز عن السطح لدخوله في الجنس الذي هو الكم. والحكماء قسموا الجسم الطبيعي تارة الى مركب يتألف من أجسام مختلفة الحقائق كالحيوان ، والى بسيط وهو ما لا يتألف منها كالماء.

وقسموا المركب الى تام وغير تام ، والبسيط الى فلكي وعنصري. وتارة الى مؤلف يتركب من الأجسام سواء كانت مختلفة كالحيوان ، أو غير مختلفة كالسرير المركب من القطع الخشبية ، والى مفرد لا يتركب منها الخ ... (راجع كشاف اصطلاحات الفنون ج ١ ص ٣٦٧ وما بعدها).

٨٤

لكونها حادثة على ما سيأتي ، ولقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وهلاك البسيط لا يتصور إلا بفنائه ، ولا يخفي أن الحدوث إنما يقتضي إمكان العدم بالذات ، وهو لا ينافي امتناعه بالغير وهو المتنازع. فإن استروح الى أن الحكم هو الإمكان حتى يثبت ما به الامتناع كان ذكر الحدوث مستدركا].

أي من أحكام (١) الأجسام أنها باقية زمانين وأكثر بحكم الضرورة بمعنى أنا نعلم بالضرورة أن كتبنا وثيابنا وبيوتنا ودوابنا (٢) هي بعينها التي كانت من غير تبدل في الذوات ، بل إن كان ففي (٣) العوارض والهيئات ، لا بمعنى أن الحس يشاهدها باقية ليرد الاعتراض بأنه يجوز أن يكون ذلك بتجدد الأمثال كما في الأعراض ، وقد يفهم من البقاء الدوام وامتناع الفناء ، وعليه يحمل ما قال في التجريد أن الضرورة قاضية ببقاء الأجسام ، وبيّن بأن غاية أمرها التفرق والانقسام ، وهو لا يوجب الانعدام. وأنت خبير بأن دعوى الضرورة في ذلك في غاية الفساد. كيف وقد صرح بجوازه في بحث المعاد ، واستدل على جواز العدم تارة بالحدوث ، فإن العدم السابق كالعدم اللاحق لعدم التمايز ، وقد جاز الأول فكذا الثاني ، وتارة بالإمكان ، فإن معناه جواز كل من الوجود والعدم نظرا إلى الذات. وأجيب بأن هذا لا ينافي الامتناع بالغير على ما هو المتنازع ، فإنه يجوز أن يكون الشيء في ذاته قابلا للعدم السابق واللاحق جميعا ، ويمتنع أحدهما أو كلاهما لعلة ، والحاصل أن الحدوث لا ينافي الأبدية كما في النفس الناطقة على رأي أرسطو ، والإمكان لا ينافي الأبدية والأزلية كما في القدماء لزمانية دون الذاتية على رأي الفلاسفة (ويمكن) (٤) أن يقال : إنه لما كان الحكم بجواز العدم نفي ذلك الحكم حتى يقوم دليل الامتناع. لا يقال على هذا لا حاجة إلى اعتبار الحدوث لأن الجسم ممكن جائز الوجود والعدم قديما كان أو حديثا لأنا نقول هو مراعاة لطرق المتكلمين حيث

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (أحكام)

(٢) في (ب) وذواتنا بدلا من (ودوابنا)

(٣) في (ب) نفي ، بدلا من (ففي)

(٤) ما بين القوسين سقط من (أ)

٨٥

يقسمون الوجود إلى القديم والحادث لا الواجب والممكن وبيان لجواز حصول العدم بالفعل وذلك في الحدوث دون مجرد الإمكان.

وقد يستدل بنحو قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١). (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٢).

وغير ذلك من العمومات مع القطع بأن الهلاك والفناء في المركبات ، وإن جاز أن يكون بانحلال التركيب وزوال الصور لكن في البسائط وأجزاء الجسم من الجواهر الفردة أو الهيولي والصورة لا يتصور إلا بالانعدام

[قال (وحين اقتضت)

شبهة امتناع بقاء الأعراض المنافاة بين البقاء وصحة الفناء. واعتبر حيث (٣) مثلها في الأجسام اعتبر النظام دليل قبول الفناء ، فالتزم عدم البقاء ، والكرامية ضرورة البقاء ، فالتزموا امتناع الفناء وقد عرفت الجواب مع إمكان الفرق بأن الأعراض مشروطة بالجواهر المشروطة بها ، فتدور بخلاف الجواهر ، فإنه يجوز أن يبقيها الله تعالى بأعراض متعاقبة يحتاج إليها الجواهر ويفنيها (٤) بلا واسطة أو بعدم خلق تلك الأعراض أو العرض الذي هو الفناء واحدا. أو متعددا على اختلاف المذاهب ، وتمسكت الفلاسفة في امتناع فنائها ، بأصولهم الفاسدة من أنها مستندة إلى القديم إيجابا ، ومفتقرة إلى مادة لا تقبل العدم ، لاستحالة تسلسل المواد ولا تجرد من الصورة لما مرّ].

يعني أن ما ذكر في عدم بقاء الأعراض من أنها لو بقيت لامتنع فناؤها لما كان جاريا في الأجسام أيضا ، على ما سبق. اعتبر النظام قيام الدليل على صحة فنائها ، فالتزم أنها لا تبقى زمانين ، وإنما تتجدد بتجدد الأمثال كالأعراض قولا بانتفاء الملزوم ، لانتفاء اللازم ، والكرامية قالوا قضاء الضرورة ببقائها ، فالتزموا امتناع

__________________

(١) هذا جزء من آية رقم ٨٨ وتكملتها «لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه» القصص.

(٢) سورة الرحمن آية رقم ٢٦ وقد جاءت هذه الآية محرفة بزيادة «الواو» في أولها.

(٣) في (أ) واعترضت وهو تحريف.

(٤) في (أ) ويعينها بدلا من (يفنيها) وهو تحريف.

٨٦

فنائها قولا بثبوت اللازم لثبوت الملزوم ، وقد سبق في بحث امتناع بقاء العرض بطلان دليل هذه الملازمة ، فاندفع ما ذكره الفريقان مع إمكان البعد عن النقض ، بأنه يجوز أن تفني الأجسام بعد بقائها ، بأن لا يخلق الله تعالى فيها الأعراض التي يكون بقاء الجسم محتاجا إليها مشروطا بها كالأكوان وغيرها على ما ذهب إليه القاضي وإمام الحرمين أو بأن لا يخلق فيها العرض الذي هو البقاء كما قال الكعبي (١) ، أو بأن يخلق فيها عرضا هو الفناء إما متعددا كما قال أبو علي : أنه تعالى يخلق لكل جوهر فناء ، وإما غير متعدد كما قال غيره. إن فناء واحدا يكفي لإفناء كل الأجسام ، وزعم بعضهم أن قول النظام بعدم بقاء الأجسام مبني على أن الجسم عنده مجموع أعراض ، والعرض غير باق ، وقد نبهناك على أن ليس مذهبه أن الجسم عرض ، بل إن مثل اللون والطعم والرائحة من الأعراض أجسام قائمة بأنفسها ، وأما الفلاسفة فلا نزاع لهم في فناء الأجسام بزوال الصور النوعية ، والهيئات التركيبية ، وإنما النزاع في فنائها بالكلية ، أعني الهيولي والصورة الجسمية ، ومبني ذلك عندهم على اعتقاد أزليته المستلزمة لأبديته ، فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه وسيرد عليك شبههم بأجوبتها.

[قال (ومنها أن الجسم لا يخلو عن شكل)

لتناهيه ، وعن حيز بحكم الضرورة إلا أن خصوصيات ذلك عندنا بمحض خلق الله تعالى وزعمت الفلاسفة أن لكل جسم شكلا طبيعيا وحيزا طبيعيا ضرورة أنه لو خلى وطبعه لكان على شكل وفي حيز مكانا كان أو غيره ، ويلزم أن يكون معينا لاستحالة الحصول في المبهم ، ولا يكون إلا واحدا لكونه مقتضى الواحد.

__________________

(١) هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي من بني كعب. البلخي الخراساني أبو القاسم ، أحد أئمة المعتزلة. كان رأس طائفة منهم تسمى «الكعبية» وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها وهو من أهل بلخ أقام ببغداد مدة طويلة وتوفي ببلخ عام ٣١٩ ه‍ له كتب منها «التفسير» وتأييد مقالة أبي الهذيل ، وأدب الجدل ، وغير ذلك. قال السمعاني من مقالته. أن الله تعالى ليس له إرادة وأن جميع أفعاله واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها. (راجع تاريخ بغداد ٩ : ٣٨٤ والمقريزي ٢ : ٣٤٨).

٨٧

لأنه متناه على ما سيجيء وكل متناه (١) فله شكل إذ لا معنى له سوى هيئة إحاطة النهاية بالجسم ، وأما الافتقار إلى الحيز بمعنى فراغ يشغله فضروري ، وإنما يذكر هو وأمثاله من الأحكام الضرورية في المباحث العلمية من حيث يفتقر إلى تنبيه أو زيادة تحقيق وتفصيل أو تعقيب تفريع ، أو يقع فيه خلاف من شرذمة ، ثم استناد خصوصيات الأشكال والأحياز إلى القادر المختار هو المذهب عندنا كما سيجيء ، وذهبت الفلاسفة إلى أن لكل جسم شكلا طبيعيا ، وحيزا طبيعيا ، لأنه عند الخلو عن جميع القواسر والأسباب الخارجة يكون بالضرورة على شكل معين ، في حيز معين ، وهو المعنى بالطبيعي ، وعلى هذا لا يرد الاعتراض بأنه يجوز أن يقتضي شكلا ما ، وحيزا ما ، ككل جزء من أجزاء الأرض ، وتستند الخصوصية إلى سبب خارج كإرادة القادر المختار. لا يقال لعل من الأسباب ما هو من لوازم ماهيته ، فيكون فرض الخلو عند فرض محال ، فيجوز أن يستلزم محالا هو الخلو عن الشكل والحيز لأنا نقول : ما يقتضيه لازم الماهية يكون طبيعيا لا قسريا ، وهو ظاهر ولم يريدوا بالحيز هاهنا المكان بمعنى السطح الباطن من الحاوي ، حتى يرد الاعتراض بأن الجسم قد لا يكون له محل كالمحدد ، فضلا أن يكون طبيعيا ، ولا الفراغ الذي يشغله الجسم لما قال ابن سينا : إن كل جسم له حيز طبيعي ، فإن كان ذا مكان كان حيزه مكانا ، وقال أيضا لا جسم إلا وله حيز ، إما مكان ، وإما وضع ، وإما ترتيب.

فإن قيل : الاختصاص بالحيز الطبيعي كما أنه ليس معللا بالأسباب الخارجية ،

__________________

(١) المتناهي : ما له نهاية ويمكن قياسه. يقال لعدد صحيح إنه متناه إذا أمكن الحصول عليه باضافة الواحد الى نفسه إما مرة واحدة ، وإما مرات متكررة تكون احداها هي الأخيرة.

ويقال للعدد الحقيقي إنه متناه إذا كان أقل من عدد صحيح متناه ، ويقال للمقدار إنه متناه إذا أمكن قياسه بالنسبة الى مقدار من نوعه بعدد حقيقي متناه.

والمتناهي : هو المحدود قال ابن سينا. وأما السطح فليس هو داخلا في حد الجسم من حيث هو جسم ، بل من حيث هو متناه. (راجع النجاة ص ٣٢٧) وقال أيضا : من قال إنه متناه عنى أنه محدود في نفسه. (راجع الشفاء ص ١٢ ـ ج ١) قال ابن سينا : النهاية : هي ما به يصير الشيء ذو الكمية الى حيث لا يوجد وراءه مزاد شيء فيه (راجع رسالة الحدود ٩٢) والمتناهي : نقيض اللامتناهي.

٨٨

كذلك ليس معللا بالجسمية ولوازمها لا بد من خصوصية ، فينقل الكلام إليها ويتسلسل(١).

قلنا : قد سبق في بحث الصور النوعية ما يزيل هذا الإشكال ، واتفقوا على أن الحيز الطبيعي لا يكون إلا واحدا لأن مقتضى الواحد واحد ، ولأنه لو تعدد فعند عدم القاسر إما أن يحصل فيهما وهو محال بالضرورة ، أو في أحدهما فلا يكون الآخر طبيعيا ، وأيضا إذا بقي خارجا بالقسر ، فعند زوال القاسر إما أن يتوجه إليهما وهو محال ، أو إلى أحدهما وفيه ميل عن الآخر فيصير المطلوب (٢) بالطبع مهروبا بالطبع ، أو لا يتوجه إلى شيء منهما ، فلا يكون شيء منهما طبيعيا ، لا يقال يجوز أن يكون الحصول في أحدهما أو الميل إليه بحسب ما يتفق من الأسباب المخصصة ، مانعا من الآخر ، لأنا نقول الكلام فيما إذا فرض خاليا عن جميع الأسباب الخارجة (٣) نعم يرد عليه أنه يجوز أن لا يحصل في أحدهما ، ولا يتوجه إليه لامتناع الترجح بلا مرجح ، وكون كل مانعا من الآخر ، بل يبقى حيث وجد. وجعل صاحب المواقف (٤) إثبات الحيز الطبيعي من فروع القول بالهيولى (٥) نظرا إلى أن القائلين بالجزء يجعلون الأجسام متماثلة (٦) ، لا تختلف إلا بالعوارض.

[قال (ومنها أنه يمتنع)

خلو الجسم عن العرض وضده ، وجوزه بعض (٧) الفلاسفة في الأزل (٨) وبعض المعتزلة فيما لا يزال مطلقا ، وبعضهم في الأكوان ، وبعضهم في غير الأكوان. احتج المانعون بأنها لا تخلو عن الحركة والسكون وعن الاجتماع

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (ويتسلسل)

(٢) في (ب) المقصود بدلا من (المطلوب)

(٣) سقط من (أ) كلمة (الخارجة)

(٤) هو عضد الدين الإيجي. وانظر مقدمة الكتاب ، ففيها ترجمة وافية له.

(٥) سبق التعريف بها في كلمة وافية.

(٦) في (ب) متشابهة بدلا من (متماثلة)

(٧) في (ب) الكثير من الفلاسفة بدلا من (بعض)

(٨) في (ب) الأجل بدلا من (الأزل) وهو تحريف

٨٩

والافتراق ، وبأنها متماثلة لا تتميز ولا تتشخص إلا بالأعراض ، ووجود غير المتشخص محال.

والجواب : أن هذا لا يفيد العموم (١) المتنازع إلا إذا اعتبر البعض بالبعض وهو باطل. واحتج المجوز بأن أول الأجسام خال عن الاجتماع والافتراق ، والهواء عن اللون ، فإن عدم إدراك المحسوس بلا مانع دليل العدم ، وادعاء المانع بلا بيان مفض إلى السفسطة (٢).

اعلم أن ظاهر مذهبي المنع ، والتجويز ليسا على طرفي النقيض لأن حاصل الأول وهو مذهب أكثر المتكلمين أنه يجب أن يوجد في كل جسم أحد الضدين من كل عرض ، أي من كل جنس من أجناس الأعراض ، إذا كان قابلا له كذا في نهاية العقول ، وقال إمام الحرمين (٣) مذهب أهل الحق أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض ، وعن جميع أضدادها ، إن كان له أضداد ، وعن أحد الضدين إن كان له ضد ، وعن واحد من جنسه إن قدر عرض لا ضد له ، ولا خلاف في امتناع الخلو (٤) عن الاعراض بعد قبولها ، وحاصل الثاني أنه يجوز أن لا يوجد فيه شيء من الأعراض ، إما في الأزل كما هو رأى الدهرية القائلين بأن الأجسام قديمة بذواتها ، محدثة بصفاتها ، وإما فيما لا يزال كما هو رأى الصالحية من المعتزلة.

__________________

(١) في (ب) العدم بدلا من (العموم)

(٢) أصل هذا اللفظ في اليونانية (سوفيسما) وهو مشتق من لفظ (سوفوس) ومعناه الحكيم والحاذق.

والسفسطة عند الفلاسفة هي الحكمة المموهة ، وعند المنطقيين هي القياس المركب من الوهميات ، والغرض منه تغليط الخصم واسكاته. وقيل : إن السفسطة قياس ظاهره الحق وباطنه الباطل ، ويقصد به خداع الآخرين أو خداع النفس ، فإذا كان القياس كاذبا ولم يكن مصحوبا بهذا القصد لم يكن سفسطة بل كان مجرد غلط أو انحراف عن المنطق.

وتطلق السفسطة أيضا على القياس الذي تكون مقدماته صحيحة ونتائجه كاذبة لا ينخدع بها أحد الا انك إذا أنعمت النظر فيه وجدته مطابقا لقواعد المنطق. ووجدت نفسك عاجزا عن دحضه كسفسطة السهم وسفسطة كومة القمح فإن الغرض منهما إثارة المشكلات المنطقية. (راجع كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي)

(٣) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني ، أبو المعالي ركن الدين الملقب بإمام الحرمين. (راجع وفيات الاعيان ١ : ٧؟؟؟ والسبكى ٣ : ٢٤٩ ومفتاح السعادة ١ : ٤٤٠)

(٤) في (ب) العدد بدلا من (الخلو)

٩٠

فمرجع الأول إلى إيجاب كلي ـ والثاني إلى سلب كلي ، والأشبه هو الإيجاب الجزئي بمعنى أنه يجب أن يوجد في كل جسم شيء من الأعراض ، إلا أن القائلين بالتفصيل منهم من خصه بالألوان بمعنى أنه يجب أن يوجد فيه شيء من الألوان وهم المعتزلة البغدادية ، ومنهم من خصه بالأكوان بمعنى أنه يجب أن يوجد فيه الحركة أو السكون ، والاجتماع ، أو الافتراق ، وهم البصرية ، واحتجاج المانعين بأن الجسم متحقق في الزمان ومتكثر بالعدد فلا يخلو عن حركة أو سكون ، واجتماع أو افتراق على تقدير تمامه. إنما يفيد هذا الإيجاب الجزئي لا الإيجاب الكلي المدعي. نعم يصلح للرد على القائلين بالسلب (١) الكلي ، وعلى البغدادية القائلين بجواز الخلو عما عدا الألوان ، وكذا احتجاجهم بأن الشيء لا يوجد بدون التشخص ضرورة ، وتشخص الأجسام إنما هو بالأعراض لكونها متماثلة لتألفها من الجواهر المتماثلة ، فلو وجدت بدون الأعراض لزم وجود الغير المتشخص وهو محال لا يفيد العموم. أعني امتناع الجسم بدون أحد الضدين من كل عرض ، لأن البعض كاف في التشخص. نعم يفيد عموم الأوقات. أعني الأزل (٢) ، وما لا يزال بخلاف الأول فإنه ربما يمنع امتناع خلو الجسم في الأزل عن الحركة والسكون ، بل إنما يكون ذلك في الزمان الثاني والثالث وعن الاجتماع والافتراق ، بل إنما يكون ذلك على تقدير تحقق جسم آخر ، فيحتاج في التعميم إلى قياس ما قبل الاتصاف. أعني الأزل على ما بعده ، أعني ما لا يزال كما يقاس بعض الأعراض على البعض تعميما للدليلين في جميع الأعراض ، وتقريره أن اتصاف الجوهر بالعرض إما لذاته ، وإما لقابليته له ، ونسبة كل منهما إلى جميع الأعراض والأزمان على السوية والجواب منع المقدمتين.

__________________

(١) السلب : مقابل الايجاب ، والمراد به مطلقا رفع النسبة الوجودية بين شيئين (ابن سينا ، النجاة ص ١٨) وقد يراد بالايجاب والسلب الثبوت واللاثبوت ، فثبوت شيء لشيء إيجاب ، وانتفاؤه عنه سلب ، وقد يعبر عنهما بوقوع النسبة أو لا وقوعها.

والسلب في القضية الحملية هو الحكم بلا وجود محمول لموضوع فالقضية الموجبة ما اشتملت على الايجاب ، والقضية السالبة ما اشتملت على السلب. وسلب العموم نفي الشيء عن جملة الأفراد ، لا عن كل فرد ، وعموم السلب بالعكس (كليات أبي البقاء)

(٢) سقط من (أ) جملة (أعني الأزل)

٩١

واحتج القائلون بجواز خلو الجسم عن الضدين في الجملة بوجوه :

الأول : أنه لو لم يجز لكان الباري تعالى مضطرا (١) عند خلق الجسم إلى خلق العرض، وهو ينافي الاختيار.

والجواب : أن عدم القدرة على المحال كوجود الملزوم بدون (٢) اللازم لا يوجب العجز وسلب الاختيار.

الثاني : أنه لو لم يجز خلو الجسم عن الاجتماع والافتراق لما جاز أن يخلق الله تعالى جسما هو أول الأجسام (٣) بحسب الزمان واللازم قطعى البطلان.

الثالث : أنه لو لم يجز خلوه عن جميع الألوان لما وقع وقد وقع كالهواء ، لا يقال :

لا نسلّم خلوه عن اللون ، بل غايته عدم الإحساس به ، لأنا نقول عدم الإحساس بما من شأنه الإحساس به مع سلامة الحاسة وسائر الشرائط (٤) دليل على عدمه.

فإن قيل : من جملة الشرائط انتفاء المانع وتحققه ممنوع.

قلنا : فتح هذا الباب يؤدي إلى جواز أن يكون بحضرتنا جبال شامخة (٥) ، وأصوات هائلة ولا ندركها لمانع (٦). وقد يجاب بأن الشفيف ضد اللون لا عدم.

[قال (ومنها أنها متناهية الأبعاد)

لوجوه :

الأول : أنه لو وجد بعد غير متناه لامكن بالضرورة أن تتحرك إليه كرة فيميل

__________________

(١) في (ب) محتاجا بدلا من (مضطرا)

(٢) في (ب) بغير بدلا من (بدون)

(٣) سقط من (ب) لفظ (الأجسام)

(٤) سقط من (أ) لفظ (وسائر)

(٥) في (ب) عالية بدلا من (شامخة)

(٦) سقط من (أ) لفظ (لمانع)

٩٢

قطرها الموازي له إلى مسامته (١) ويلزم تعين نقطة في الوهم لأولية المسامتة ضرورة حدوثها مع استحالته في الخط الغير المتناهي ، لأن كل نقطة تفرض ، فالمسامتة مع ما فوقها قبل المسامتة معها لأنها لا محالة (٢) تكون بزاوية وحركة ، وكل منهما بحكم الوهم الصادق يقبل الانقسام لا إلى (٣) نهاية ، والمسامتة بالنصف منهما قبل المسامتة بالكل. فعلى هذا سقط منع الملازمة مستندا بما ذكر في انتفاء اللازم ومنع ثبوت المطلوب مستندا بأن المحال إنما يلزم من لا تناهي البعد مع الفرض المذكور ، ومنع انتفاء اللازم مستندا بأن انقسام الزاوية والحركة لا إلى نهاية إنما هو بمجرد الوهم ، وأما اعتراض الإمام بأن أطول ما يفرض من الخطوط المستقيمة هو محور العالم والمسامتة معه إنما تحصل بعد المسامتة مع نقطة فوقه خارج العالم ، وهكذا لا (٤) إلى نهاية فيلزم عدم تناهي الأبعاد.

فجوابه : أن هذا من الوهميات الصرفة] (٥).

جعل هذا من أحكام الأجسام نظرا إلى أن البعد الجسمي هو المتحقق بلا نزاع بخلاف الخلاء.

ونقل القول بلا تناهي الأبعاد عن حكماء الهند ، وجمع من المتقدمين ، وأبي البركات(٦) من المتأخرين ، والمشهور من أدلة المانعين ثلاثة :

الأول : برهان المسامتة وتقريره ظاهر من المتن (٧) ، وإنما اعتبر حركة الكرة لأن الميل من الموازاة إلى المسامتة هناك في غاية الوضوح لا يتوقف فيه العقل ، بل يكاد (٨) يشهد به الحس ، ومعنى موازاة الخطين أن لا يتلاقيا ، ولو فرض امتدادهما

__________________

(١) في (ب) متناهية بدلا من (مسامتة) وهو تحريف

(٢) سقط من (أ) لفظ (لا محالة)

(٣) في (ب) الى غير بدلا من (لا الى نهاية)

(٤) سقط من (أ) (وهكذا لا إلى نهاية)

(٥) في (أ) المسرفة بدلا من (الصرفة)

(٦) سبق الترجمة له في كلمة (وافية)

(٧) سقط من (ب) لفظ (من المتن)

(٨) سقط من (أ) لفظ (يكاد)

٩٣

لا إلى نهاية ، والمسامتة بخلافها ، وإنما اعتبر النقطة بحسب الوهم ، لأن ثبوتها بالفعل غير لازم ما لم ينقطع الخط بالفعل.

وفيما أوردنا من تقرير البرهان (١) إشارة إلى دفع اعتراضات تورد عليه فمنها منع لزوم أول نقطة المسامتة مستندا بما ذكرنا في بيان استحالة اللازم وتقريره أنه على تقدير لا تناهي البعد لا يلزم أول نقطة المسامتة ، لأن الحركة والزاوية تنقسمان لا إلى نهاية ، فقبل كل مسامتة مسامتة (٢) لا إلى أول.

ولا خفاء في أن هذا بعد الاحتجاج على الملازمة بأن المسامتة حصلت بعد ما لم تكن فيكون لها أول بالضرورة ليس بموجه إلا أن تجعل معارضة في المقدمة ، وجوابها النقض بكل قياس (٣) استثنائي ، استثنى فيه نقيض التالي ، فإنه لو صح ما ذكر لصح فيه الاستدلال على نفي الملازمة بما يذكر في بيان استحالة اللازم وفساده بين ، والحل بأن هذا لا ينفي الملازمة ، لأن الملزوم محال ، فجاز استلزامه للنقيضين مثلا لو وجد بعد غير متناه مع الفرض المذكور لزم ثبوت أول نقطة المسامتة لما ذكرنا. وعدم ثبوته لما ذكرتم على أنه يتجه أن يقال لو وجد البعد مع الفرض المذكور ، فإما أن تثبت أول نقطة المسامتة أو لا تثبت ، وكلاهما محال ، لما ذكر فيتم الاحتجاج.

__________________

(١) البرهان : هو الحجة الفاصلة البينة يقال : برهن يبرهن برهنة اذا جاء بحجة قاطعة للدد الخصم ، وبرهن بمعنى بين ، وبرهن عليه أقام الحجة ، وفي الحديث : الصدق برهان ، والبرهان هنا الحجة والدليل ، والبرهان عند الفلاسفة : فهو القياس المؤلف من اليقينيات سواء كان ابتداء وهي الضروريات أو بواسطة وهي النظريات (تعريفات الجرجاني)

(٢) سقط من (ب) لفظ (مسامتة)

(٣) القياس الاستثنائي : فهو مؤلف من مقدمتين إحداهما شرطية والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيهما (ابن سينا النجاة ص ٧٧) مثل قولنا : إن كان زيد يمشي فهو يحرك قدميه لكنه يمشي ، فهو يحرك اذن قدميه أو لكنه ليس يحرك رجليه فينتج أنه لا يمشي ، وقد سمى هذا القياس استثنائيا لاشتماله على الاستثناء ، وله قسمان ، قسم تكون فيه الشرطية متصلة ، ويسمى بالشرطي المتصل وقسم تكون فيه الشرطية منفصلة ويسمى بالشرطي المنفصل ومثاله هذا العدد إما زوج ، وإما فرد ، ولكنه زوج ، فليس إذن بفرد.

٩٤

فإن قيل : حدوث المسامتة لا يقتضي إلا أن يكون لها بداية بحسب الزمان ، فمن أين تلزم البداية بحسب المسافة ، أعني أول نقطة المسامتة.؟

قلنا : من جهة أن الزمان منطبق على الحركة المنطبقة على المسافة ، فلو لم يكن لها أول لم يكن للحركة أول ، فلم يكن للزمان أول ، ومنها أن المحال إنما لزم على تقدير لا تناهي البعد مع الفرض المذكور وهو لا يستلزم استحالة لا تناهي البعد لجواز أن يكون ناشئا من المجموع.

وجوابه : أنا نعلم بالضرورة إمكان ما فرض ، وإمكان اجتماعه مع البعد الغير المتناهي ، فتعين كونه المنشأ للزوم المحال. ومنها أنا لا نسلم استحالة أول نقطة المسامتة في الخط الغير المتناهي ، وما ذكر في بيانه باطل لأن انقسام الحركة والزاوية لا إلى نهاية حكم الوهم وهو كاذب.

وجوابه : أن أحكام الوهم فيما يفرض من الهندسيات صحيحة تكاد تجري مجرى الحسيات لكونها على طاعة من العقل بحيث لا يمنع إلا مكابرة. ولهذا لا يقع فيها اختلاف آراء وإنما الكاذب هي الوهميات الصرفة مثل الحكم في المعقولات بما يخص المحسوسات ، كالحكم بأن كل موجود ذو وضع (١). واعترض الإمام بأن هذا الدليل مقلوب ، لأنه لما كانت المسامتة لكل نقطة بعد المسامتة (٢) لما فوقها لزم عدم تناهي الأبعاد. وبيانه على ما في المطالب العالية أن أعظم ما يفرض من الخطوط المستقيمة هو محور للعالم. أعني الخط المار بمركزه الواصل بين قطبيه. فإذا فرضنا كرة يميل قطرها الموازي للمحور إلى مسامته حدثت زاوية قابلة للقسمة ، ولا محالة يكون الخط الخارج على نصفها مسامتا لنقطة فوق طرف المحور ، ويكون هناك (٣) أبعاد يفرض نقط لا إلى نهاية.

__________________

(١) في (ب) صنع بدلا من (وضع)

(٢) سقط من (ب) بعد المسامتة

(٣) سقط من (ب) لفظ (هناك)

٩٥

فجوابه أن هذا من الوهميات الصرفة (١) التي لا يصدقها العقل ، إذ ليس وراء العالم خلاء (٢) أو ملاء يمتد فيه الخط ، أو ينتهي إليه طرفه ، وما ذكر الإمام من أن صريح العقل شاهد لمسامتة طرف هذا الخط لشيء ووقوعه خارج العالم وإن إنكاره مكابرة في الضروريات مكابرة.

[قال (الثاني)

إنا نفرض من نقطة خطين يزداد البعد بينهما على نسبة زيادة امتدادهما بحيث توجد كل زيادة مع المزيد عليه في بعد ، فلو امتدا إلى غير النهاية يلزم لضرورة المحافظة على النسبة لوجود بعد مشتمل على الزيادات الغير المتناهية زائد على البعد الأول بقدرها مع انحصاره بين الحاجزين ، والأوضح أن يفرض كون البعد دائما بقدر الخطين بأن تجعل الزاوية ثلثي قائمة ، والمثلث متساوي الأضلاع فيلزم بالضرورة من عدم تناهيهما وجود بعد بينهما غير متناه.

فإن قيل : هذا يتوقف على أن يكون للامتداد طرف فيتحقق بعد هو آخر الأبعاد وهو مصادرة.

قلنا : لا بل يستلزمه وهو خلف].

هذا هو البرهان (٣) السلمي وحاصله أنه لو كانت الأبعاد غير متناهية لزم إمكان عدم

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (الصرفة)

(٢) الخلاء عند الفلاسفة : خلو المكان من كل مادة جسمانية تشغله فإذا قلت مع (ديكارت) مثلا ان المادة امتداد لزمك القول أن الخلاء المطلق متناقض ومحال.

ويطلق الخلاء عند بعضهم على الامتداد الموهوم المفروض في الجسم او في نفسه ، الصالح لأن يشغله الجسم ، ويسمى أيضا بالمكان ويرى بعض الحكماء أن الخلاء هو البعد المجرد القائم بنفسه سواء كان مشغولا بجسم أو لم يكن ، ويسمى عندهم بعدا مفطورا ، أو فراغا مفطورا وما يسميه أفلاطون بعدا مفطورا يسميه المتكلمون فضاء موهوما ، وهو الفضاء الذي يثبته الوهم ، كالفضاء المشغول بالماء أو الهواء داخل الاناء فهذا الفضاء الفارغ هو الذي من شأنه أن يحصل فيه الجسم وأن يكون ظرفا له ، وبهذا الاعتبار يكون حيزا للجسم ، وباعتبار فراغه عن شغل الجسم إياه يكون خلاء فالخلاء عند المتكلمين هو هذا الفراغ الذي لا يشغله جسم من الأجسام ، وهو غير موجود في الخارج بالفعل بل هو أمر موهوم.

(٣) نعتقد أن تعريف الامام سعد الدين التفتازاني كاف في إيضاحه ولا داعي لايضاحه بتعاريف أخر.

٩٦

تناهي المحصور بين حاصرين وهو محال ، وجه اللزوم على ما نقل عن القدماء ، أنا تخرج من نقطة خطين كساقي مثلث ، ولا خفاء في أنهما كلما يمتدان يزداد البعد بينهما ، فلو امتدا إلى غير النهاية كان زيادة البعد بينهما إلى غير النهاية.

واعترض عليه ابن سينا (١) بأن اللازم منه ازدياد البعد إلى غير النهاية ، بمعنى أنه لا ينتهي إلى بعد لا يكون فوقه بعد أزيد منه ، وهو ليس بمحال ، وإنما المحال وجود بعد بينهما يمتد طوله إلى غير النهاية ، وهو ليس بلازم ، فقرره ، بأنا نصل بين نقطتين متقابلتين من الخطين المفروضين خطا ونقسم بالبعد الأصل ، وامتداد الخطين حينئذ بالامتداد الأصل ، فلكون تزايد الأبعاد بحسب تزايد الامتداد لزم من عدم تناهي الامتداد وجود زيادات على البعد الأصل غير متناهية ، لأن نسبة زيادة البعد على البعد الأصل نسبة زيادة الامتداد على الامتداد (٢) الأصل ، وإذ قد أمكن تساوي الزيادات ، فلنفرضها كذلك ، ولكون كل زيادة مع المزيد عليه موجودة في بعد لزوم وجود بعد مشتمل على الزيادات المتساوية الغير المتناهية ، لأن ذلك معنى حصول كل زيادة مع المزيد عليه ، ولزم كونه غير متناه ، لأن زيادة الأجزاء المقدارية بالفعل إلى غير النهاية ، توجب عدم تناهي المقدار المشتمل عليها بحكم الضرورة ، أو بحكم امتناع التداخل. وإنما فرض الزيادات متساوية احترازا عما إذا كانت متناقصة ، فإن انقسام المقدار ربما ينتهي إلى ما لا يقبل الانقسام بالفعل ، فلا يلزم وجود البعد الغير المتناهي أو لا يظهر ، وإما في صورة الزائد :

فلا خفاء في أن الزائد مثل وزيادة ، فاللزوم فيه أظهر ، ولما كان في هذا التقرير تطويل مع كون استلزام عدم تناهي الزيادات لوجود بعد غير متناه محل بحث ونظر. لخص صاحب الإشراق في بعض تصانيفه البرهان بأنا نفرض بعد ما بين الخطين دائما بقدر امتدادهما ، فلو امتدا إلى غير النهاية كان ما بينهما غير متناه ضرورة (٣) ، إذ المتناهي لا يكون مساويا لغير المتناهي وعلى قدره ، وهذا اللزوم واضح لا

__________________

(١) سبق التعريف به في كلمة وافية فليرجع إليها.

(٢) سقط من (ب) لفظ (الامتداد)

(٣) سقط من (ب) لفظ (ضرورة)

٩٧

يمكن منعه إلا مكابرة (١) ، لكن لما كان في إمكان المفروض نوع خفاء قرره بعضهم. بأنا نفرض زاوية مبدأ الخطين ثلثي قائمة ، وللزوم تساوي الزاويتين الحادثتين من الخط الواصل بين كل نقطتين متقابلتين من ساقي المثلث ، ولزوم كون زواياه مساوية لقائمتين ، لزم أن يكون كل من الزاويتين ثلثي قائمة ، ولزم من تساوي زوايا المثلث تساوي أضلاعه ، كل ذلك لما بينه أقليدس (٢) فيلزم من عدم تناهي الخطين عدم تناهي ما بينهما ، وحاول صاحب الإشراق سلوك طريق يوجب كون زاوية مبدأ الخطين ثلثي قائمة ، فاخترع البرهان الترسي ، وتقريره : أنا نخرج من مركز جسم (٣) مستدير كالترس مثلا ستة خطوط قاسمة له إلى ستة أقسام متساوية ، فيكون كل من الزوايا الست ثلثي قائمة ، وكذا كل من الزاويتين الحادثتين من الخط الواصل بين كل نقطتين متقابلتين من كل ضلعين ، فيصير كل قسم مثلثا متساوي الزوايا والأضلاع ، ويلزم من امتداد الخطين إلى غير النهاية ، امتداد بعد ما بينهما إلى غير النهاية.

ومن تردد في لزوم تساوي الزوايا والأضلاع ، وجوز كون وتر زاوية مبدأ الخطوط الستة أقل من الضلعين أو أكثر فلعدم شعوره بالهندسة. واعترض على هذه البيانات بأنها إنما تفيد زيادة الأبعاد والاتساعات فيما بين الخطين إلى غير النهاية لا وجود سعة وبعد ممتد إلى غير النهاية ، وإنما يلزم ذلك لو كان هناك بعد هو آخر الأبعاد يساوي الخطين اللذين هما ساقا المثلث ، فلا يتصور ذلك إلا بانقطاعهما وتناهيهما ، فيكون إثبات التناهي بذلك مصادرة على المطلوب (٤). ولو سلّم إنما لزم من المجموع المفروض ، وهو لا يستلزم (٥) استحالة لا تناهي الخطين.

__________________

(١) سط من (أ) لفظ (مكابرة)

(٢) أقليدس : رياضي يوناني نشأ بالاسكندرية في عهد بطليموس وازدهر في ٣٠٠ ق م انشأ مدرسة الاسكندرية ، وقام بتنظيم علم الرياضة في عصره وضمنه مؤلفه «الأصول» في ثلاث عشرة مقالة ظلت أساسا لدراسة مبادي الهندسة حتى هذا العصر ، ويحتمل أن يكون جزء كبير من هذه المقالات من أبحاث أقليدس وإضافاته وليس مجرد جمع للمعلومات الرياضية.

(٣) سقط من (أ) لفظ (جسم)

(٤) سقط من (ب) لفظ (على المطلوب)

(٥) سقط من (ب) لفظ (لا يستلزم)

٩٨

والجواب : أنه لما لزم تساوي أضلاع مثل هذا المثلث كان لزوم عدم تناهي قاعدته على تقدير لا تناهي ساقيه ظاهرا لا يمكن منعه ، وأما السند فلنا لا علينا ، لأنه لما لزم مساواة القاعدة للساقين ، وكانت متناهية لانحصارها بين حاصرين لزم تناهي الساقين على تقدير لا تناهيهما ، فيكون اللاتناهي محالا (١) ، وحاصله أن لا تناهي القاعدة ليس موقوفا على تناهي الساقين حتى تلزم (٢) المصادرة ، بل مستلزما له (٣) فيلزم الخلف.

وتقريره أنه لو كان الساقان غير متناهيين لزم ثبوت قاعدة مساوية لهما ، لما ذكر من الدليل لكن القاعدة لا تكون إلا متناهية ضرورة انحصارها بين حاصرين. فيلزم تناهي الساقين ، لأن المتناهي لا يكون مساويا لغير المتناهي ، وقد فرضناهما غير متناهيين هذا خلف (٤) وأما كون المحال ناشئا من لا تناهي الخطين ، فللعلم الضروري بإمكان ما عداه من الأمور المذكورة (٥).

[قال (الثالث)

إنا أن ننقص من البعد الغير المتناهي ذراعا نطبق ، فإما أن يقع بإزاء كل ذراع ذراع(٦) فيتساويان ، أو لا فينقطعان ، وقد مرّ مثله ، وهذه الثلاثة هي الأصول في براهين التناهي.

هذا برهان التطبيق ، وتقريره أنه لو وجد بعد غير متناه ، نفرض نقصان ذراع منه ، ثم نطبق بين البعد التام والناقص ، فإما أن يقع بإزاء كل ذراع من التام ذراع من الناقص ، وهو محال لامتناع تساوي الزائد والناقص ، بل الكل والجزء ، أو لا يقع

__________________

(١) في (ب) ممنوعا بدلا من (محالا)

(٢) سقط من (ب) جملة (حتى تلزم المصادرة)

(٣) سقط من (أ) لفظ (له)

(٤) سقط من (أ) لفظ (هذا خلف)

(٥) سقط من (ب) جملة (من الأمور المذكورة)

(٦) في (ب) بآخر بدلا من (ذراع)

٩٩

ولا محالة يكون ذلك بانقطاع الناقص ، ويلزم منه (١) انقطاع التام لأنه لا يزيد عليه إلا بذراع ، وقد مرّ في إبطال التسلسل ما على هذا البرهان من الاعتراضات والأجوبة فلا معنى للإعادة.

[قال (ومبنى الأول)

على نفي الجزء ، والثاني على أن يكون اللاتناهي من جهات ، والثالث على مقدمات واهية].

أي برهان المسامتة على نفي الجوهر الفرد (٢) ليصح انقسام الحركة والزاوية إلى غير النهاية ، ومبنى البرهان السلمي على أن يكون لا تناهي البعد من جهات حتى نفرض انفراج ساقي المثلث لا إلى نهاية ، بل في الترسى (٣) لا بد من فرض اللاتناهي في جميع الجهات ، وكان طرق السلمى مبنية على طريق إلزام القائلين بلا تناهي الأبعاد في جميع الجهات ، (وكان طرق) ومبنى برهان التطبيق على مقدمات ضعيفة سبقت الإشارة إليها في إبطال التسلسل مثل اقتدار الوهم على التطبيق ، ومثل استلزام وقوع ذراع بإزاء ذراع للتساوي ، ومثل اختصاص ذلك بما له وضع وترتيب ليحصل التفصي عن النقض بمراتب الأعداد ، وحركات الأفلاك.

[قال (وقد كثرت الوجوه)

بتصرف في الثلاثة].

أي وجوه الاستدلال على تناهي الأبعاد بتصرف في البراهين الثلاثة ، واستعانة

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (منه)

(٢) يطلق الجوهر عند الفلاسفة على معان : منها الموجود القائم بنفسه حادثا كان أو قديما ويقابله العرض ، ومنها الذات القابلة لتوارد الصفات المتضادة عليها ، ومنها الماهية التي اذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع ، ومنها الموجود الغني عن محل يحل فيه.

قال ابن سينا : الجوهر هو كل ما وجود ذاته ليس في موضوع أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه لا بتقويمه. (النجاة ص ١٢٦) والجوهر عند المتكلمين هو الجوهر الفرد المتميز الذي لا ينقسم ، أما المنقسم فيسمونه جسما لا جوهرا ولهذا السبب يمتنعون عن إطلاق اسم الجوهر على المبدأ الأول.

(٣) في (ب) التحف بدلا من (الترسي)

١٠٠