شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

الملّا علي القاري الحنفي

شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة

المؤلف:

الملّا علي القاري الحنفي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 978-2-7451-0998-7
الصفحات: ٣٣٦

____________________________________

ومن أمر امرأة بأن ترتدّ أو أفتى به المستفتية كفر الأمر والمفتي وكفرت المرأة أولا قلت ، وكذا من رضي بارتدادها فما أقبح فعل بعض العلماء الذين هم خدمة الأمراء حيث يعلّمونهم الحيلة في الأشياء ، فإذا استحسنوا امرأة متزوجة ولم يطلّقها زوجها أمروها بالردّة ليتوسلوا بها إلى نكاحها بعد إسلامها ، أو يبقوها على كفرها ويجعلوها في حكم الأسرى مملوكة ليقدروا على جماعها فوق ما معهم من النساء الأربع.

وفي الخلاصة وكذا المعلم كفرت المعلمة أو لا أي لأن المعلم يشمل الملقن والمفتي وغيرهما. وفي المحيط : من أمر أحدا أن يكفر كفر. الآمر كفر المأمور أولا يعني يستوي الحكم في قبول المأمور وامتناعه. ومن علم الارتداد كفر المعلم ارتدّ الآخر أو لا.

قالوا : هذا إذا علم ليرتد أما إذا علم لا ليرتدّ بل ليعلم فيتحرّز عنه لا يكفر المعلم ، وقال الفقيه أبو الليث : إذا علم الارتداد وأمر به كفر ، وإن لم يأمر لا. قلت : الصحيح قول الجمهور ، فإنه إذا علم طريق الارتداد ليرتدّوا ويؤثروا الفساد فلا شك أنه كفر لانقلاب نيّته فيما يجب عليه من الاعتقاد فالمدار على قصده وجزمه في عزمه فيفيد أنه إذا عزم على تعليمه الارتداد كفر بموجب الاعتقاد والله لا يحب الفساد ، ويؤيد قوله ما نقله بالجامع بقوله. وفي المحيط ومجمع الفتاوى : من عزم على أن يأمر أحدا بالكفر كان بعزمه كافرا.

وفي الخلاصة من قال : أنا ملحد كفر أي لأن الملحد أقبح أنواع الكفرة. وفي المحيط والحاوي لأن الملحد كافر ، ولو قال : ما علمت أنها أي هذه الكلمة كفر لا يعذر بهذا أي في حكم القضاء الظاهر ، وإن كان بينه وبين الله مسلما لو كان صادقا ... وفي الجواهر من قال : لو كان كذا غدا وإلّا أكفر كفر من ساعته ... وفي المحيط من قال : فأنا كافر ، أو فأكفر يعني في جزاء الشرطية المبتدأة ومطلقا ، قال أبو القاسم : هو كافر من ساعته ...

ولو قال أحد الزوجين لآخر تفعل معي أمورا كل زمان أكفر أو قال : كل زمان أقرب من الكفر كفر ، أقول : وفي المسألة الأخيرة نظر ظاهر لأنه يمكن حمله على أن الشيطان يوقعني في الوسوسة النفسية والخطرة الردية بحيث يقربني إلى الكفر ، ولكن يحفظني الله عنه بألطافه الخفيّة ، أو قال الآخر : أتعبتني حتى أردت أن أكفر قلت : وهذا ظاهر لأن فيه إرادة الكفر ... وفي الفتاوى الصغرى من قال لآخر : كن إن شئت مسلما ،

٣٠١

____________________________________

وإن شئت يهوديّا كلاهما عندي سواء كفر لأن هذا رضي بالكفر ، ومن رضي بكفر غيره يكفر انتهى. وتقدّم الخلاف ولا يبعد أن يقال إنه كفر لإطلاق قوله المستلزم أن تكون الملّة الحنيفية واليهودية سواء إلا أن سياق الكلام يدل على أن مراده استواء إسلام الخصم وكفره عنده لعدم مبالاته بأمره.

وفي الخلاصة أو الحاوي قيل لمسلم قل : لا إله إلا الله فلم يقل كفر. أي لأنه امتنع عن الإقرار وهو شرط إجراء أحكام الإسلام بخلاف ما لو قال : لا أقول بقولك ، أو أنا معلوم الإسلام ... وفي التتمة فقال : لا أقوله بلا نيّة حضرت أو على نيّة التأييد كفر ، ولو نوى الآن لا أي لا يكفر. وهو يؤيد ما قرّرناه. وفي الجواهر والمحيط : لو قال ما ربحت بقول هذه الكلمة حتى أقولها كفر ... وفي المحيط لو قالت : كوني كافرة خير من الكون معك كفرت ، لأن المقام مع الزوج فرض فقد رجحت الكفر على الفرض ، وفيه بحث لأن المقام مع الزوج لو كان فرضا لما أبيح الخلع فيمكن حمل كلامها على أن العشرة في حال الكفر مع قبحها أهون من العشرة في صحبتك ، ومن دعى إلى الصلح فقال : أنا أسجد للصنم ولا أدخل في هذا الصلح ، قيل : لا يكفر أي لأن غاية كلامه أن دخوله في الصلح أصعب أو أقبح أو أكره من الكفر مع أنهما قبيحان ، وقال برهان الدين صاحب المحيط : وفيه نظر ، وعند أنه يكفر ، قلت : ولعل وجه نظره أنه رجح الصلح الذي هو خير كما قال الله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (١). على الكفر الذي هو محض شرّ مع ما يلزمه من تحريم الصلح ولو فرد منه على أن قوله : أنا أسجد للصنم إقرار بالكفر ، وقوله : ولا أدخل في هذا الصلح إخبار عن امتناعه فيثبت كفره أولا ولا يمنعه إخباره ثانيا ، وإن كانت الجملة الثانية حالية.

ولو قال : ما أمرني فلان ، أي من المشايخ أو العلماء والأمراء افعل ، ولو بكفر أو قال : ولو كان كلمة كفر كفر أي لأنه نوى الكفر في الاستقبال ، فيكفر في الحال ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (٢). وهذا رجح

__________________

(١) النساء : ١٢٨.

(٢) أخرجه أبو داود ٤٢٥٢ ، وأحمد ٤ / ١٢٣ و ٥ / ٢٧٨ و ٢٨٤ ، وابن ماجة ٣٩٥٢ ، والبيهقي في الدلائل ٦ / ٥٢٧ ، وابن حبان ٤٥٦٩ كلهم من حديث علي بن أبي طالب.

وأخرجه أحمد ٦ / ٤٤١ من حديث أبي الدرداء.

وفي الباب عن عمر عند أحمد ١ / ٤٢ ، وأبي نعيم في الحلية ٦ / ٤٦.

٣٠٢

____________________________________

حكم المخلوق بالكفر على أمر الخالق بالإيمان ونهيه عن الكفر.

ومن قال أنا بريء من الإسلام قيل : يكفر ، هكذا في النسخ ، وهو غير صحيح إذ يكفر في هذه الصورة بلا خلاف ، وإنما الاختلاف فيما إذا قال : أنا بريء من الإسلام إن فعلت كذا. ثم فعله كما هو مقرر في محله ... وفي الحاوي من مرّ على مؤذّن فقال : كذبت كفر ... وفي الجواهر أو قال : صوت طرفة حين سمع الأذان أو قراءة القرآن استهزاء كفر ، وقوله : استهزاء يفيد ما قرّرنا سابقا حيث أطلقه ، وفي التتمة ، أو قال لمؤذن يؤذن استهزاء بأذانه : من هذا المحروم الذي يؤذن ، وفي المحيط ، أو قال : هذا صوت غير المتعارف ، أو صوت الأجانب كفر في الكل. أقول : فإذا سمع صوت مؤذّن غريب فقال : هذا صوت أجنبي ، أو غير معروف لا يكفر ، ويؤيد ما قررناه قوله : وإن قال لغير المؤذّن لا يكفر ، يعني إذا أذّن بغير وقت استهزاء ، فقال له هذه الألفاظ لا يكفر.

وفي الخلاصة من قال : النصرانية خير من اليهودية ، أو على العكس يكفر ، وينبغي أن يقول : اليهودية شرّ من النصرانية يعني لأنه لا خير فيهما وأحدهما شر من الآخر منهما ، لكن لو أراد بخيرية النصرانية قربهم إلى الملة الإسلامية لا يكفر ، قال الله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) (١).

وفي الخلاصة من قال : فلان أكفر مني يكفر. أي إذا أراد به أفعل التفضيل من الكفر لا من الكفر إن كما قال الله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (٢). أو قال : ضاق صدري حتى أردت أن أكفر ، كفر أي إن أراد بأردت قصدت ونويت بخلاف ما إذا أراد به قصدت وقاربت لما تقدّم والله تعالى أعلم ... وفي الفتاوى الصغرى من تقلنس بقلنسوة المجوس أي لبسها وتشبّه بهم فيها ، أو خاط خرقة صفراء على العاتق أي وهو من شعارهم ، أو شدّ في الوسط خيطا كفر ، إذا كان مشابها بخيطهم ، أو ربطهم ، أو سمّاه زنارا وإلا فلا يكفر ، ولو شبّه نفسه باليهود والنصارى أي صورة أو سيرة على طريق المزاح والهزل ، أي ولو على هذا المنوال كفر.

وفي الخلاصة من وضع قلنسوة المجوس على رأسه قال بعضهم : يكفر ، وقال بعض المتأخرين : إن كان لضرورة الرد أو لأن البقرة لا تعطيه اللبن حتى يلبسها لا

__________________

(١) المائدة : ٨٢.

(٢) عبس : ١٧.

٣٠٣

____________________________________

يكفر ، وإلّا كفر قلت وكذا لبس تاج الرفضة مكروه ، كراهة تحريم ، وإن لم يكن كفرا بناء على عدم تكفيرهم لقوله عليه الصلاة والسلام : «من تشبّه بقوم فهو منهم» (١). أما إذا كان في ديارهم ومأمورا بأن يمشي مكرها على آثارهم فلا يضرّه ، وأما جواب بعض العلماء في مقام الإنكار عليه لبس هذه الكسوة بأن قلنسوة الأزبكية أيضا بدعة فليس في محله ، فإنّا ممنوعون من التشبيه بالكفر وأهل البدعة المنكرة في شعارهم لا منهيّون عن كل بدعة ولو كانت مباحة سواء كانت من أفعال أهل السّنّة ، أو من أفعال الكفر ، وأهل البدعة فالمدار على الشعار.

وفي المحيط ولكن الصحيح أنه يكفر مطلقا ، وضرورة البرد ليس بشيء لإمكان أن يمزقها ويخرجها عن تلك الهيئة حتى تصير كقطعة اللبد فتدفع البرد فلا ضرورة إلى لبسها على تلك الهيئة ، قلت : تتصور الضرورة بأن يكون المسلم أسيرا ، أو مستأمنا أو أعاره الكافر تلك القلنسوة فليس له أن يغيّرها عن تلك الهيئة على أن تغيير تلك الهيئة قد لا يكون مانعا من دفع البرد.

ولو شدّ الزنار على وسطه ، أو وضع الغل على كتفه فقد كفر ، إي إذا لم يكن مكرها في فعله.

وفي الخلاصة ولو شدّ الزنار قال أبو جعفر الأستروشني : إن فعل لتخليص الأسارى لا يكفر وإلا كفر ، ومن تزنّر بزنار اليهود أو النصارى ، وإن لم يدخل كنيستهم كفر ، ومن شدّ على وسطه حبلا وقال : هذا زنار كفر ، وفي الظهيرية وحرم الزوج ، وفي المحيط لأن هذا تصريح مما هو كفر وإن شدّ المسلم الزنار ودخل دار الحرب للتجارة كفر أي لأنه تلبس بلباس كفر من غير ضرورة ملجئة ، ولا فائدة مترتبة بخلاف من لبسها لتخليص الأسارى على ما تقدم ، قال : وكذا قال الأكثر : أي أكثر العلماء في لبس السواد أي على منوال لبسهم المعتاد.

وفي الملتقط (٢) : إذا شدّ الزنار أو أخذ الغل ، أو لبس قلنسوة المجوسي جادّا أو

__________________

(١) أخرجه أحمد ٥١١٤ و ٥١١٥ و ٥٦٦٧ ، وأبو داود ٤٠٣١ ، والطحاوي في المشكل ١ / ٨٨ ، وابن عساكر ١٩ / ٦٩ / ١ ، والقضاعي ٣٩٠ مرفوعا من حديث ابن عمر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» ٣٩ : هذا إسناد جيد. وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ١ / ٣٤٢ : سنده صحيح ، وحسّنه الحافظ في الفتح.

(٢) هو الملتقط في الفتاوى الحنفية للإمام ناصر الدين أبي القاسم محمد بن يوسف الحسيني السمرقندي المتوفى سنة ٥٥٦ ه‍.

٣٠٤

____________________________________

هازلا لا يكفر إلا إذا فعل خديعة في الحرب ... وفي الظهيرية من وضع قلنسوة المجوسي على رأسه فقيل له : أي أنكر عليه ، فقال : ينبغي أن يكون القلب سويّا أو مستقيما كفر ، أي لأنه أبطل حكم ظواهر الشريعة ، ومن قال في غضبه كفر الرجل ، ثم قال : لم أرد به نفسي كفر ، ولم يصدق أي قضاء لا ديانة.

وفي الخلاصة من قال : صيرورة المرء كافرا خير من الجناية أفتى أبو القاسم الصفار أنه كفر أي لأنه رجح المعصية التي هي صغيرة أو كبيرة على الكفر الذي هو أكبر الكبائر إجماعا ، حيث قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١).

معلم قال : اليهودي خير من المسلمين يقضون حقوق معلمي صبيانهم كفر ، وفيه أنه يمكن حمله على أنه أراد الخيرية من هذه الحيثية لا من جميع الوجوه الشرعية ... وفي الظهيرية من وعظوه ولاموه على العصيان ومخالطة أهل الفسوق وإعلان المعاصي فقال : اكسوا بهذا اليوم قلنسوة المجوسي ، وإن عني الإقرار أي أراد هذا المعنى مع استقامة القلب كفر أي ، لأنه وعد بالإخبار عن الإنكار وعد بالإخبار بضدّ الإقرار المعتبر في كونه شرط الإيمان إلا أنه قد يقال : إنه لا يكفر لاستقامة قلبه وحصول إقراره سابقا غايته أنه نوى أن يلبس تلك القلنسوة ونيّة المعصية ليست بكفر ، فإن المدار على المعرفة القلبية.

ومن سرى في مكة النصارى ورأى جماعة منهم يشربون الخمر ويطربون بالمعازف والقينات فقال : هذه مكة العشرة ينبغي أن يشدّ الإنسان قطعة الحبل في وسطه ويدخل فيما بينهم ويطيب في هذه الدنيا كفر ، أي لما سبق ولزيادة إرادة تحليل ما حرّم الله ، فإن هذه العشر الدنيوية تتصور أيضا في الحالة الإسلامية مع أن تعذيبه سبحانه له جعله تحت المشيئة في العقوبة الأخروية على أنه لا عيش إلا عيش الآخرة.

وفي الخلاصة من أهدى بيضة إلى المجوسي يوم النوروز كفر ، أي لأنه أعانه على كفره وإغوائه ، أو تشبّه بهم في إهدائه ومفهومه أنه لو أهدى شيئا في يوم النوروز إلى المسلم لا يكفر ... وفيه نظر إذ التشبيه موجود اللهمّ إلّا أن وقع اتفاقيّا من غير قصد إلى النوروزية.

__________________

(١) النساء : ٤٨ و ١١٦.

٣٠٥

____________________________________

وفي مجمع النوازل (١) اجتمع المجوس يوم النوروز فقال مسلم : سيرة حسنة وضعوها ، كفر أي لأنه استحسن وضع الكفر مع تضمّن استقباحه سيرة الإسلام ... وفي الفتاوى الصغرى : ومن اشترى يوم النوروز شيئا ولم يكن يشتريه قبل ذلك أراد به تعظيم النوروز كفر ، أي لأنه عظم عيد الكفرة ، وإن اتفق الشراء ولم يعلم أن هذا اليوم يوم النوروز لا يكفر ... قلت : وكذا إذا علم أن هذا اليوم هو النوروز لكنه اشتراه بسبب آخر من حدوث ضيافة ونحوها فإنه لا يكفر.

ومن أهدى يوم النوروز إلى إنسان شيئا وأراد تعظيم النوروز كفر. ولو سأل المعلم النوروزية ولم يعطه المسئول منه يخشى على المعلم الكفر أي ولو أعطى المسئول منه يخشى أيضا عليه الكفر.

وفي التتمة من اشترى يوم النوروز ما لا يشتريه غيره من المسلمين كفر ، حكي عن أبي حفص الكبير البخاري لو أن رجلا عبد الله خمسين عاما ثم جاء يوم النوروز فأهدى إلى بعض المشركين يريد تعظيم ذلك اليوم فقد كفر بالله العظيم وحبط عمله خمسين عاما. ومن خرج إلى السّدّة أي مجتمع أهل الكفر في يوم النيروز كفر ، لأن فيه إعلان الكفر ، وكأنه أعانهم عليه وعلى قياس مسألة الخروج إلى النيروز المجوسي الموافقة معهم فيما يفعلون في ذلك اليوم يوجب الكفر.

وفي الجواهر من قيل له : لا تأكل الحرام ، فقال : ائتني بواحد لا يأكل الحرام ، أو بواحد يأكل الحلال أو من به أو أسجد له وأعزّزه كفر لأن المؤمن به هو الله وملائكته ورسله والسجدة حرام لغيره سبحانه وأما التعزيز سواء يكون بزاء ثم راء أو بزاءين فهو بمعنى التعظيم له فلا وجه لكفره مع أن الإيمان قد يأتي بمعنى الاعتقاد والسجدة بمعنى الانقياد ، ومن قال : ينبغي أن يوجد المال حلالا كان أو حراما ، أو قال من الحلال كان أو من احرام ، فهذا القائل إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان أي لأنه بدل الحلال على أنه يستوي عنده الحرام والحلال إلا أنه لما فرّق بينهما في المقال ما حكموا بكفره في الحال ، بل قالوا : يخشى عليه من الكفر في المآل.

__________________

(١) هو مجموع النوازل والحوادث والواقعات وهو كتاب لطيف في فروع الحنفية للشيخ الإمام أحمد بن موسى بن عيسى بن مأمون الكشي المتوفى في حدود سنة ٥٥٠ ه‍ جمعه من فتاوى أبي الليث السمرقندي وفتاوى أبي بكر بن فضل وفتاوى أبي حفص الكبير وغير ذلك.

٣٠٦

____________________________________

وفي الفتاوى الصغرى : ومن قيل له لم لا تحوم حول الحلال؟ فقال : ما دمت أجد الحرام لا أحوم حول الحلال ، ولا ألتفت إلى الحلال كفر ، أي في الحال لأنه عكس وضع الشرع الشريف حيث إنه أباح الحرام عند وجود الحلال ... وفي الظهيرية ومن قيل له : كل من الحلال ، فقال : الحرام أحبّ إليّ كفر ، أي لأنه خالف وضع الشرع الشريف فأحبّ ما كره الله ورسوله ، أو قال : يجوز لي الحرام كفر ، أي لكونه صار إباحيّا ، أما إن أراد به إنه مضطر فيباح له الحرام لا يكفر ...

وفي المحيط قيل لرجل : حلال واحد أحبّ إليك أم حرامان؟ فقال : أيّهما أسرع وصولا يخاف عليه الكفر ، أي إن لم يكن مضطرا ... ولو قال : نعم أكل الحرام قيل : يكفر ... أقول وهو الظاهر لقوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (١). حيث اختار ضدّ ما اختاره الله. ومن قال : أعلن الإسلام أو قال أظهره حين اشتغل بالشرب ، أو قال : ظهر الإسلام.

وفي الخلاصة : ومن يعصي ويقول : ينبغي أن يكون الإسلام ظاهرا يكفر أي لكونه جعل شرب الخمر والمعصية ظاهر الإسلام والطاعة فقلب موضوع الشريعة.

وفي المحيط فاسق قال : في مجلس الشراب لجماعة الصلحاء : تعالوا أيها الكفّار حتى تروا الإسلام كفر أي إن لم يكن هذا القول منه في حال سكره ... ومن قال : أحب الخمر ولا أصبر عنها ، قيل : يكفر أي إن أراد بالمحبة الرضاء والحلّ بخلاف ما إذا أراد به المحبة النفسية والطبعية ، ومن قال : لو صبّ أو أريق من هذا الخمر شيء لرفعة جبرائيل عليه‌السلام بجناحه كفر.

قلت : فالعبارات الميمية الفارضية في قصيدته الخمرية ، وكذا في الأشعار الحافظية والقاسمية وأمثالهم كلمات كفرية لمن حملها على المعاني الظاهرية كأهل الإلحاد والإباحية ...

وفي الجواهر من قال : ليت الخمر أو الزنا أو الظلم أو قتل الناس كان حلالا كفر. وفيه بحث إذ غاية حاله أن تمنّى على الله محالا. ولعل وجه كفره استحسان هذه المعاصي ، لكن إذا لم يكن على وجه الاستحلال لا يكون كفرا في الحال ...

__________________

(١) المائدة : ١٠٠.

٣٠٧

____________________________________

وفي الخلاصة : من تمنى أن لا يكون الله حرّم الزنا أو القتل بغير حق ، أو الظلم ، أو أكل ما لا يكون حلالا في وقت من الأوقات يكفر. ومن تمنى أن لا يحرم الخمر ولا يفرض عليهم صوم رمضان لا يكفر.

ولعلّ الفرق أن الأول من المجمع على حرمته في جميع الكتب ، وعند سائر الرّسل بخلاف الأخيرين فإنه كان شرب الخمر حلالا وصوم رمضان لم يكن فرضا على غير هذه الأمة ، لكن لم يظهر لي نتيجة هذا الفرق فإنه لا فرق بين الحكم الإلهي أولا بالعموم وآخرا بالخصوص.

وفي الجواهر : من أنكر حرمة الحرام المجمع على حرمته ، أو شك فيها أي يستوي الأمر فيها كالخمر والزنا واللواطة والربا ، أو زعم أن الصغائر والكبائر حلال كفر. أي لزعمه الباطل ، وهو واضح إلا أن الصغائر معفوّة بعد اجتناب الكبائر عند المعتزلة ومعصية عند أهل السّنّة والجماعة ولو بعد التوبة عن الكبيرة.

وفي التتمة : من قال بعد استيقانه بحرمة شيء ، أو بحرمة أمر فعل : هذا حلال كفر ، أي إن كان استيقانه مطابقا للشرع. ومن أجاز بيع الخمر كفر أي إذا أجاز بيعها لأهل الإسلام دون أهل الجزية لا يقال أحلّ الله البيع ، لأن اللام للعهد وهو البيع المشروع إذ لا يجوز بيع الخمر للمسلم إجماعا.

ومن استحلّ حراما وقد علم تحريمه في الدين أي ضرورة كنكاح المحارم أو شرب الخمر ، أو أكل الميتة والدم ولحم الخنزير أي في غير حال الاضطرار ، ومن غير إكراه بقتل أو ضرب فظيع لا يحتمله ، وعن محمد رحمه‌الله بدون الاستحلال ممّن ارتكب كفر أي في رواية شاذّة عنه ، ولعلها محمولة على مرتكب نكاح المحارم ، فإن سياق الحال يدلّ على الاستحلال لبقية المحرّمات والله أعلم بالأحوال.

قال : والفتوى على الترديد إن استعمل مستحلا كفر ، وإلا فإن ارتكب من غير استحلال فسق ... وفي الفتاوى الصغرى من قال : الخمر حلال كفر ، أي ولو كان من أهل غزوة بدر ، كما توهمه بعض الصحابة في زمن عمر رضي الله عنه.

وفي المحيط : أو ليس بحرام وهو لا يعلم أنه حرام الجملة حالية لأنه استحلّ الحرام قطعا أي لوروده نصّا قاطعا ولا يعذر بالجهل.

وفي الخلاصة من قال لرمضان : جاء هذا الشهر الطويل. وفي المحيط أو الثقيل أو

٣٠٨

____________________________________

عند دخول رجب أو يعقبه وقعنا فيه تهاونا برمضان أو بالموسم أي موسم الخيرات وكرهها طبعا خلاف ما أمر بحبها شرعا ، كفر ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دخل رجب يقول : «اللهمّ بارك لنا في رجب وشعبان وبلّغنا رمضان» (١).

وفي الظهيرية لو قال : وقعنا فيه مرة أخرى تهاونا بالشهور المفضّلة شرعا واستقلالا للطاعة أي طبعا لا قطعا وضعفا ... أو قال عند دخول رجب تفتننّها أندر أفتاديم أي وقعنا في محنتها وبليّتها كفر ، وإن أريد به تعب النفس لا أي لا يكفر لأنه أمر جبلي لا يدخل تحت اختيار العبد ، بل الأجر على قدر المشقّة ، وقد ورد أفضل الطاعات أحمزها أي أشدّها وأصعبها وأحمضها ، أو قال : كم من هذا الصوم أي صوم رمضان فإني مللت أي كرهته ، فهذا كفر أي بخلاف الملالة بمعنى السآمة ، فإن نفيها مختص بالملائكة حيث قال الله تعالى : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملّون. وفي المحيط من قال : هذه الطاعات جعلها الله تعالى عذابا علينا من غير تأويل كفر أي لأن الله تعالى جعلها أسبابا لما يكون في الآخرة ثوابا ويرفع عنه عقابا وإلا فالله تعالى غني عن العالمين أي عن عبادتهم وعقابهم وثوابهم في ذهابهم وإيابهم ، وقال : فإن أول مراده بالتعب أي أراد بالعذاب التعب لا أي لا يكفر.

ومن قال لو لم يفرضه الله تعالى كان خيرا لنا بلا تأويل كفر ، أي لأن الخير فيما اختاره الله إلا أن يؤول ويريد بالخير الأهون والأسهل فتأمل ...

وفي الخلاصة رجل يرتكب صغيرة ، فقال له آخر : تب فقال المرتكب : ما فعلت أي شيء فعلت حتى يحتاج إلى التوبة ، وفي المحيط ، أو قال : حتى أتوب كفر أي على قواعد أهل السّنّة خلافا للمعتزلة لما قدّمنا في تحقيق المسألة. وفي التتمة لو قال : لا أتوب حتى يشاء الله توبته ورآه عذرا كفر أي لأنه لا يجوز للعاصي حال ارتكاب المعصية أن يعتذر بالقضاء والقدر والمشيئة وإن كان حقّا في نفس الأمر ، ولهذا ذمّ الله الكفار بقوله تعالى : وقالوا (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) (٢) الآية. مع قوله سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما

__________________

(١) أخرجه البذار كما في المجمع ٢ / ١٦٥ من حديث أنس قال الهيثمي : وفيه زائدة بن أبي الرقاد قال البخاري منكر الحديث وجهله جماعة.

وزاد الهيثمي في المجمع ٣ / ١٤٠ نسبته إلى الطبراني في الأوسط وقال فيه زائدة بن أبي الرقاد وفيه كلام وقد وثّق. ا. ه.

(٢) الأنعام : ١٤٨.

٣٠٩

____________________________________

أَشْرَكُوا) (١). وإنما تجوز المعذرة بالمشيئة بعد التوبة وهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حجّ آدم موسى» (٢) الحديث.

وفي المحيط والخلاصة : قيل لفاسق : إنك تصبح وتؤذي الله ، وخلق الله ، آتي بالطيب ، أو نعم ما أفعل أي كفر إلا إذا أراد بقوله إنه ما يفعل ما يكون سببا لأذى الحق ، والخلق فإنه لا يكفر. ولو قال العاصي : هذا أيضا طريق ومذهب كفر إن أراد بهما مذهب الشرع ، وطريق الحق وإلا فلا شك أن المعاصي طرق ومذاهب وسبل سواء يكون كفرا ، أو بدعة فإنهما طريقان إلى النار ، ومذهبان إلى دار البوار ، ففي التنزيل : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٣).

وفي المحيط : من تصدّق على فقير بشيء من الحرام يرجو الثواب كفر. وفيه بحث لأن من كان عنده مال حرام فهو مأمور بالتصدّق به على الفقراء فينبغي أن يكون مأجورا بفعله حيث قام بطاعة الله وأمره ، فلعل المسألة موضوعة في مال حرام يعرف صاحبه ويعدل عنه إلى غيره في عطائه لأجل سمعته وريائه ، كما كثر هذا في ظلمة الزمان وأمرائه.

وفي المحيط : ولو علم الفقير أنه من الحرام ودعا له وأمن المعطى كفرا. وفي الظهيرية دفع إلى فقير يرجو الثواب كفر ، ولو دعا الفقير بعد العلم بحرمته وأمن من أعطى كفرا جميعا أي لأن الدعاء والتأمين إنما يكون في ارتكاب الطاعة ومال الحلال دون المعصية وارتكاب الحرام فتأمل في المقام يظهر لك المرام ، فإن المعطي قد يريد بعطائه هذا تخليصه من آثام الأنام يوم القيامة.

وفي الخلاصة من قال : أحسنت لما هو قبيح شرعا ، أو جودت كفر أي كما إذا قتل سارقا أو شاربا. ولد فاسق شرب الخمر أول مرة وجاء أقرباؤه ، أو من يقرب إليه من أصدقائه ونثروا عليه أي دنانير أو دراهم ، أو أزهارا ، أو أثمارا كفروا ، ولو لم ينثروا ولكن قالوا : ليكن أي شربه مباركا كفروا أيضا أي لأن المعصية التي هي شؤم عدّوها

__________________

(١) الأنعام : ١٠٧.

(٢) هو بعض حديث أخرجه البخاري ٣٤٠٩ ، ومسلم ٢٦٥٢ ، ومالك ٢ / ٨٩٨ ، وأبو داود ٤٧٠١ ، والترمذي ٢١٣٤ ، وابن ماجة ٨٠ ، وأحمد ٢ / ٢٤٨ من حديث أبي هريرة. وتقدم تخريجه فيما سبق.

(٣) الأنعام : ١٥٣.

٣١٠

____________________________________

مباركة ، فكأنهم جعلوا الحرام حلالا مع زيادة البركة ، وفي معناه أن أنعم حاكم أو أمير على خطيب أو إمام أو مدرّس ، أو غيرهم لباسا محرما فأتى أصحابه ، وقالوا له : مبارك اللهمّ إلا أن قصدوا بالمباركة مباركة المنصب لا لبس الخلعة ، قال : وأيضا من قال : حين شرب الخمر فرح لمن فرح بفرحنا وخسار ونقصان لمن لم يفرح بفرحنا كفر ، أي لأن الفرح فرح الرضاء والمحبة وهو بالمعصية كفر والخسارة والنقصان لا يكونان إلا بالمعصية لا بالطاعة ، كما قال الله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) (١) ، وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) (٢). فلما عكس القضية وقع في نيّة الكفر وحضيض البليّة.

ولو قال : حرمة الخمر لا تثبت بالقرآن كفر ، أي لأنه عارض نص القرآن ، وأنكر تفسير أهل الفرقان ، وقد قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) أي القمار بجميع أنواعه (وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) أي إثم وسخط (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) أي الرجس (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣). أي بالاجتناب عنه ، وفي الآية : مبالغات عظيمة عند فهوم سليمة لا تدركها عقول سقيمة.

وفي التتمة : من أنكر حرمة الخمر في القرآن كفر ، وفي الخلاصة من قال : من لا يشرب مسكرا فليس بمسلم كفر ، ومن استحلّ شرب نبيذ التمر أي المسكر أي إلى حدّ السكر كفر أي بخلاف من استحلّ قليله خلافا للشافعي حيث قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام أيضا ، ومن استحل وطئ امرأته حائضا كفر ، واللواطة معها كفر أي سواء حال حيضها وغيرها ، وفي الأول ، وفي الثاني خلاف لبعض السلف حيث أباحوا له كما ذكره السيوطي في تفسيره المأثور المسمى بالدرّ المنثور فالأحوط أن لا يحكم بكفره حينئذ.

وفي المحيط : استحلال الجماع في الحيض كفر ، وقيل : استحلال الجماع في الاستبراء أي من غير حيلة إسقاط بدعة وضلال وكفر أي لأنه حرام بلا خلاف إلا أنه ثبتت حرمته بالسّنّة لا بنص الآية ، وسيأتي تفصيل حسن في هذه المسألة ، وفي المحيط مع اعتقاد النهي في الاستبراء للحرمة إن استحلّها قبل الاستبراء كفر لأنه يصير جاحدا لحكم الكتاب والإمام شمس الدين السرخسي مال إلى التكفير من غير تفصيل ، وكذا

__________________

(١) البقرة : ١٦.

(٢) الأنعام : ٣١.

(٣) المائدة : ٩٠.

٣١١

____________________________________

عن ابن رستم ، وفي الفتاوى الصغرى روي عن ابن رستم أنه استحلّها متأوّلا أن النهي ليس للتحريم ، أو لم يعرف النهي أي لم يبلغه حديث النهي لا يكفر ، ولو استحل مع اعتقاد أن النهي للحرمة كفر ، وعن ابن رستم في النوازل التكفير مطلقا من غير تفصيل.

وفي التتمة من رأى أي جوّز وأباح نكاح امرأة أبيه أي عقدها ، أو وطأها صار مرتدّا ومن تمنى عدم حرمة ما يقبح في العقل كالظلم وقول الزور كفر ، وفيه أنه تقييد ببعض ما تقدّم أنه لا عبرة في الشرع والنقل بتقبيح العقل ، ومن أنكر حكمة مطر ، أو نفي كفر انتهى. وفيه نظر لا يخفى.

ومن قال بعد قبلة أجنبية : هي لي حلال كفر ، ومن تمنى أن لم يحرم الأكل فوق الشبع كفر لأن إباحته لا تليق بالحكمة أي لأن أكثر المضرّة من التخمة وملأ المعدة كما ثبت في السّنّة وفي الجواهر من قيل له : لم لا تزكّي؟ فقال : إلى ما أعطي هذه الغرامة كفر ، ولو قيل : لمن وجبت عليه الزكاة فقال : لا أدري كفر ، والصحيح التفصيل الذي ذكره بقوله ، وقيل : إذا قال ذلك على وجه الرد أي ردّ حكم الله والجحود أي إنكار وجوبها كفر ، وإلا لا.

ومن قال لآخر أعني بحق فقال : كل أحد يعين بحق ، أو على حق ، فأما أنا فأعينك بغير حق ، أو بظلم. قال بعض العلماء : يكفر أي إن استحل ذلك لقوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (١). ومن قال لآخر : رح. أي اذهب إلى فلان ومره بمعروف فقال : ما ذا ضرّني ، أو قال : بما ذا جفاني حتى آمره بمعروف كفر أي لاعتقاده أن الأمر ليس بواجب ، وأنه إنما يأمر به من يأمر لعداوة نفسية وخصومة دنيوية.

وفي الظهيرية : من قيل له ألا تأمر بالمعروف ، فقال : ما فعل لي ، أو قال : أيّ ضرر منه لي ، أو قال : أنا اخترت العافية ، أو قال : بهذا الفضول ، وفيه إذا قال أيّ ضرر منه لي لا يكفر لقوله تعالى : (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٢). وكذا إذا قال : أنا اخترت العافية وأراد به السكوت طلبا للسلامة مما يتوقع فيه الفتنة والآفة لا يكفر ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : «إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ، وإعجاب كل ذي رأي

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) المائدة : ١٠٥.

٣١٢

____________________________________

برأيه فعليك بخويصة نفسك ، ودع أمر العامّة» (١). وأما إذا قال : ما لي بهذا الفضول. وأراد به أنه ليس من الواجبات المقررة في الأصول على وجه الفضول فيكفر بخلاف ما إذا أراد به أن هذا أمر يتعلق بالأمراء ، أو بالقضاة ونحوهم من العلماء فإنه لا وجه لكفره.

وفي الخلافة أو قال لآمري المعروف جئتم بالغوغاء أو بالشغب يخاف عليه الكفر أي إن أراد بنفس الأمر بالمعروف أنه غوغاء وشغب بخلاف ما يترتب عليه من بلاء وتعب. وفي الفتاوى الصغرى من قال : إنه مجوسي ، أو بريء من الله إن كنت فعلت كذا ، وهو يعلم أنه قد فعله كفر. قال الفضلي : وتبين امرأته ، ومن قال : فهو يهودي ، أو نصراني إن فعلت كذا وهو يعلم بفعله كفر أقول ، والصحيح التفصيل الآتي ، وأما ما في الجواهر إن اعتقد أنه يكفر إن فعل كفر لأن الإقدام عليه يكون رضا بالكفر فليس له تعلّق بما تقدّم لأنه مفروض فيما صدر عنه في الماضي والإقدام عليه لا يكون إلا في الحال والاستقبال.

وفي الفتاوى الصغرى من قال : يعلم الله أني فعلت كذا ، وكان لم يفعل كفر ، أي لأنه كذب على الله تعالى ، وقد قال الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (٢). ولو قال : الله يعلم أنه هكذا وهو يكذب كفر أقول ، ولعلّ الفرق بين المسألتين أن الأولى نسبة في الفعل ، والثانية النسبة في القول ، وكذا لو قال : الله يعلم أنك أحب إليّ من والدي ، وهو كاذب فيه كفر ، قلت : ولا يمكن صدقه إلا إذا أراد به أنه أحبّ إليه من بعض الوجوه ، وفي المحيط لو قال : الله يعلم إني لم أزل أذكرك بدعاء الخير ، قال بعضهم : يكفر أي إن أراد به الدوام الحقيقي ، فإنه لا يتصور وقوعه ، فيكون كاذبا على الله تعالى بخلاف ما إذا أراد به المبالغة في الكثرة فإنه لا يكفر إلا إذا كان ذكره له نادرا داخلا في حدّ القلّة.

وإذا قال : هو يهودي ، أو نصراني ، أو مجوسي ، أو بريء من الإسلام وما أشبه ذلك إن فعل كذا على أمر في المستقبل فهو يمين عندنا ، والمسألة معروفة فإن أتى

__________________

(١) أخرجه أبو داود ٤٣٤١ ، والترمذي ٣٠٦٠ ، وابن ماجة ٤٠١٤ من حديث أبو ثعلبة الخشني ، وإسناده ضعيف ، ولكن له شواهد يرتقي بها وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ورواه أيضا ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان. وانظر مجمع الزوائد ٧ / ١٨٢.

(٢) العنكبوت : ٦٨ ، والصفّ : ٧.

٣١٣

____________________________________

بالشرط وعنده أنه يكفر كفر ، وإن كان عنده أنه لا يكفر متى أتى بالشرط لا يكفر متى أتى به ، وعليه كفّارة اليمين أي لا غير ، ويكون قصده بذلك الكلام المبالغة عن امتناعه وتقبيحه لذلك المرام ، وإن حلف بهذه الألفاظ على أمر في الماضي وعنده أنه لا يكفر كاذبا لا كفّارة عليه لأنه غموس أي يغمس صاحبه في النار لكونه كبيرة فهل يكفر فهو على ما ذكرنا. أي كما حرّرنا في الماضي والمستقبل إن كان عنده أنه يكفر كفر ، لأنه رضاء منه بالكفر والرضاء بالكفر كفر ، وعليه الفتوى ، ولو قال بالله وبروحك ، أو برأسك قال بعض المشايخ : يكفر حيث عطف غير الله سبحانه عليه وشاركه في تعظيمه لديه. ولو قال : بالله وبتراب قدمك كفر عند الكل. أي لأن في الأوّلين ما يشعر بتعظيم الله سبحانه في الجملة ، وفي الأخيرة ما يشير إلى إهانته تعالى حيث قال الرب الخالق بتراب قدم المخلوق وما للتراب وربّ الأرباب ...

وفي المحيط : قال علي الرازي رحمه‌الله : أخاف على من يقول بحياتي وحياتك وما أشبه ذلك الكفر أي لظاهر قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) (١). أي شركاء في العبادة ولقوله عليه الصلاة والسلام : «من حلف بغير الله فقد أشرك» (٢). ولكن لما كان الحالف أراد مجرد تعظيم نفسه أو نفس مخاطبه في الجملة لا على وجه المقابلة والمشاركة لم يجزم بكفره ، ويدخل في قوله وما أشبه ذلك لو حلف بالنبي أو بروح النبي ، أو حياة النبي ، أو بالكعبة ، أو الأمانة وأمثال ذلك ، ولو لا أن العامّة يقولونه ولا يعلمونه لقلت أنه شرك خفيّ لأنه لا يمين أي منعقدة إلا بالله تعالى. فإذا حلف بغير الله تعالى فقد أشرك أي ظاهرا ، أو شابه المشركين.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لأن أحلف بغير الله صادقا أشد وأنكر عليّ من أن أحلف بالله كاذبا ، أو قال : لأن أحلف بالله كاذبا أحبّ إليّ من أن أحلف بغير الله صادقا.

قلت : وهذه الرواية صريحة في عدم كفر من حلف بغير الله كما لا يخفى ... وفي الفتاوى الصغرى من قال لآخر بالفارسية : أي بار خاي من عالما بالمعنى وقاصدا به كفر.

وقال أبو القاسم ، وفي الظهيرية وأكثر المشايخ على أنه يكفر مطلقا علم المعنى أو لم يعلم قصده أو لم يقصده ... قلت هذا مشكل لأنه إذا سمع كلمة عجيبة ولم يعلم

__________________

(١) البقرة : ٢٢.

(٢) تقدم تخريجه فيما سبق.

٣١٤

____________________________________

معناها واستعملها استعمال الأعجام في المخلوق وفق مقتضاها كيف يكفر مع أنه لم يقصد ما يقتضي فحواها.

ثم رأيت في منهاج المصلّين مسائل : منها أن الجاهل إذا تكلم بكلمة الكفر ولم يدر أنها كفر قال بعضهم : لا يكون كفرا ويعذر بالجهل. وقال بعضهم : يصير كافرا ، ومنها أنه أتى بلفظة الكفر ، وهو لم يعلم أنها كفر إلا أنه أتى بها على اختيار يكفر عند عامّة العلماء خلافا للبعض ولا يعذر بالجهل. ومنها أن من اعتقد الحرام حلالا أو على القلب يكفر ، أما لو قال لحرام : هذا حلال لترويج السلعة ، أو بحكم الجهل لا يكون كفرا انتهى.

ونقل صاحب المضمرات عن الذخيرة أن في المسألة إذا كان وجوه توجب التكفير ، ووجه واحد يمنع التكفير فعلى المفتي أن يميل إلى الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم. ثم إن كان نيّة القائل الوجه الذي يمنع التكفير فهو مسلم ، وإن كان نيّته الوجه الذي يوجب التكفير لا ينفعه فتوى المفتي ، ويؤمر بالتوبة والرجوع عن ذلك وبتجديد النكاح بينه وبين امرأته.

ومن قال : عبد الله ك عبد العزيز ك وما أشبه ذلك ، أي مما أضيف فيه العبد إلى اسم من أسمائه بإلحاق الكاف في آخره عمدا كفر ، أي لأنه أتى بالتصغير الموضوع للتحقير والمتبادر أنه راجع إلى المضاف إليه لكن إن أراد به تصغير المضاف لا يكفر لأنه يصير معناه عبيد الله. وهذا إذا كان عالما ، ولذا قال : وإن كان جاهلا لا يدري ما يقول ولم يقصد به الكفر لا يقال إنه كفر أي ويحمل إنه أدخل الكاف لغوا وسهوا. سئل الإمام الفضلي عن الجوازات التي يتخذها الجهّال للقادم فقال : كل ذلك لهو ولعب حرام.

من ذبح شاة في وجه إنسان في وقت الخلعة أو القدوم ، وما أشبه ذلك من الجوازات ... وفي المحيط : أو اتخذ جوازات كفر أي إذا لم يسمّ الله في ذبحها ، أو شارك القادم في التسمية ، وأما بدون ذلك فلا يظهر وجه الكفر في هذه القضية ، وفي الظهيرية : سلطان عطس فقال له رجل يرحمك الله ، فقال له آخر لا يقال للسلطان هكذا كفر الآخر أي إن أراد بقوله : لا يقال لا يجوز شرعا بخلاف ما إذا أراد به أنه لا يقال ذلك عرفا ، وكذا إذا قال رجل للسلطان : السلام عليك ، فقال له آخر : هو لا يقال للسلطان.

ثم قال لواحد من الجبابرة يا إله أو يا إلهي كفر. أقول : وإنما قيّد بكونه من

٣١٥

____________________________________

الجبابرة لأنه يكفر مع أنه من أرباب الإكراه فغيّره بالأولى. ومن قال لمخلوق : يا قدّوس أو القيّوم أو الرحمن ، أو قال : اسما من أسماء الخالق كفر. انتهى. وهو يفيد أنه من قال لمخلوق : يا عزيز ونحوه يكفر أيضا إلا إن أراد بهما المعنى اللغوي لا الخصوص الاسمي والأحوط أن يقول : يا عبد العزيز ويا عبد الرحمن ، وأما ما اشتهر من التسمية بعبد النبي فظاهره كفر إلا إن أراد بالعبد المملوك.

وفي المحيط : ذكر في واقعات الناطفي إذا قال أهل الحرب لمسلم : اسجد للملك وإلا قتلناك فالأفضل أن لا يسجد لأن هذا كفر صورة ، والأفضل أن لا يأتي بما هو كفر صورة ، وإن كان في حالة الإكراه يعني ولا سيما وقع الإكراه من العسكر لا من السلطان ، وفيه خلاف مشهور سيأتي بيانه ، ومن سجد للسلطان بنيّة العبادة أو لم تحضره فقد كفر.

وفي الخلاصة : ومن سجد لهم إن أراد به التعظيم إن كتعظيم الله سبحانه كفر ، وإن أراد به التحية اختار بعض العلماء أنه لا يكفر ... أقول وهذا هو الأظهر.

وفي الظهيرية قال بعضهم : يكفر مطلقا هذا إذا سجد لأهل الإكراه أي لمن يتأتى منه الإكراه ويتحقّق منه ذلك بأن أكرهه عليه مثل الملك عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، أو كل قادر على قتل الساجد إن امتنع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما‌الله ، ما إذا سجد بغير الإكراه أي ولو أمر به على القولين يكفر عندهم بلا خلاف.

وأما تقبيل الأرض فهو قريب من السجود إلا أن وضع الجبين أو الخد على الأرض أفحش وأقبح من تقبيل الأرض ... أقول وضع الجبين أقبح من وضع الخد فينبغي أن لا يكفر إلا بوضع الجبين دون غيره لأن هذه سجدة مختصّة بالله تعالى ، قال : وأما تقبيل اليد فإن كان المحيا ممّن يحقّ إكرامه شرعا بأن كان ذا علم أي صاحب علم وعمل ، أو شرف أي سيادة ذات سعادة يرجى له أن ينال الثواب كما فعله زيد بن ثابت بابن عباس رضي الله عنه. وأما إن فعل ذلك بصاحب الدنيا يفسق أي إذا فعل ذلك لمجرد دنياه ، أو لمنصبه وغناه بخلاف ما إذا فعل ذلك لإحسان سبق منه ، أو أراد دفع ظلم عنه ، أو عن غيره فإنه لا يكفر ، لكنه يفسق ، وأصل ذلك حديث : «من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه» (١). لأن آلة العبادة قلب ولسان وجوارح ، وفي تعظيم الغنى لا بدّ من استعمال

__________________

(١) هو بعض الآتي.

٣١٦

____________________________________

اللسان والجوارح ، كذا قيل : وأقول لا يتصور التعظيم إلا من القلب فكأن القائل به أراد أن هذا إذا كان تعظيمه باللسان والأركان ظاهرا ولا يكون بالجنان باطنا وإلا فذهب دينه كله هذا ، والحديث رواه البيهقي وغيره بأسانيد ضعيفة ...

وفي رواية للديلمي لعن الله فقيرا تواضع لغني من أجل ماله من فعل ذلك منهم فقد ذهب ثلثا دينه (١) ... ثم قالا : قال محمد رحمه‌الله : إذا أكره على الكفر بتلف عضو وما أشبه ذلك أي من ضرب مؤلم ، أو جراحة أن تلفّظ بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولم يخطر بباله شيء سوى ما أكره عليه لا يحكم بكفره لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٢). وإن خطر بباله أن يخبر عن كفره في الماضي كاذبا ، وقال : أردت بذلك حين تلفّظت جوابا لكلامهم ، وما أردت كفرا مستقبلا يحكم بكفره قضاء أي حكومة لا ديانة حتى يفرّق القاضي بينه وبين امرأته لأنه عدل عن إنشاء ما أكره عليه ، وحكي عن كفره في الماضي وهو غير الإنشاء ، وهو غير مكره عليه ، ومن أقرّ بكفر في الماضي طائعا ، ثم قال أردت الكذب يكفر ولا يصدقه القاضي ، لأن الظاهر هو الصدق حالة الطواعية ولكن يدين أي يقبل قوله ديانة ولا يكفر لأنه ادّعى محتمل لفظه.

ولو قالت زوجة أسير لتخلص أنه ارتدّ عن الإسلام وبانت منه فقال الأسير : أكرهني ملكهم بالقتل على الكفر بالله ففعلته مكرها ، فالقول لها ولا يصدق الأسير إلا بالبيّنة. ولو قالت للقاضي : سمعت زوجي يقول المسيح ابن الله فقال : إنما قلت حكاية عمّن يقوله فإنه أقرّ أنه لم يتكلم إلا بهذه الكلمة بانت امرأته ، ولو قال : إني قلت : يقولون المسيح ابن الله ، أو قال : قلت المسيح ابن الله قول النصارى ، فلم تسمع بعض كلامي وكذبته ، فالقول : قول الزوج مع يمينه ، وكذا لو قال أظهرت ما سمعت وأبقيت ما بقي موصولا فالقول قوله. قال محمد رحمه‌الله : إن شهد الشهود أنهم سمعوه يقول : المسيح ابن الله ، ولم يقل غير ذلك يفرّق القاضي بينهما ولا يصدقه.

__________________

(١) أخرجه الديلمي في الفردوس ٥٤٤٩ من حديث أبي ذر ، وذكره في اللآلي المصنوعة ١ / ١٨٣.

وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص ٢٣٩. رواه الأزدي عن أبي ذر مرفوعا وهو موضوع. ا. ه.

(٢) النساء : ٥٧ ، والتوبة : ٢٢.

٣١٧

____________________________________

فصل في المرض والموت والقيامة

من قال : كان الله ولم يكن شيء أي معه ، أو قبله وسيكون الله ولا يكون شيء كفر ، لأنه قول بفناء الجنة والنار أي وهما باقيتان لقوله تعالى في حقهما وأهلهما : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً). ولا عبرة بقول الجهمية وخلافهم في هذه القضية ، ومن قال لمن برأ من مرضه : فلان أرسل الحمار ثانيا ، ومن قال لمن مات بذل روحه لك ، أو قال للمعمّر ما نقص من روحه ليزيد في روحك يخشى عليه الكفر ، أي إن اعتقد وقوع ذلك لقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) (١) ، ولقوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) (٢) وإلا فيكون كاذبا في قوله تعالى ، ولو قال : زاد الله في روحك فهذا خطأ وجهل ومذهب غير أهل السداد قلت : وكذا إذا قال زاد الله في عمرك وأطال الله عمرك وأبقاك الله ونحو ذلك قال وكذا إذا قال : نقص من روحه ، وزاد في روحك.

ومن قال : فلان مرد بجان تو سيرد كفر أي لأنه خالف قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (٣). والظاهر أن يكون كذبا لا كفرا. ثم اعلم أنه إلى هنا من كلام الجامع حيث ما نسبه إلى أحد ، ثم قال على ما في نسخة ...

وفي فتاوى قاضي خان من قال : فلان لا يموت بنفسه يخشى عليه الكفر أي إن أراد أنه لا يموت إلا بالقتل ، وإلا فكل أحد لا يموت بنفسه ، وإنما يموت بإماتة الله له وقبض ملك الموت لروحه ، ومن قال أماته الله قبل موته كفر ، أي إذا أراد إخبارا بخلاف ما إذا قصد دعاء.

ومن قال : كان ينبغي الميت لله أو لا ينبغي لله كفر ، أي إذا أراد أنه كان يليق وجود الميت ، أو نفيه لله ، ومن قال لمن مات ابنه : كان ينبغي لله أو لا ينبغي لله أن يقبضه كفر ، ومن قال : فلان أعطى روحه السيد أو لفلان أو أبقى روحه له ، ومن قال لميت : كان الله أحوج إليه منكم كفر أي ، لأن الله هو الغني الحميد والصمد المجيد لا يحتاج إلى أحد ، وكل أحد محتاج إليه.

ثم قال : واعلم أن من أنكر القيامة أو الجنة أو النار أي وجودهما في الجملة

__________________

(١) فاطر : ١١.

(٢) المنافقون : ١١.

(٣) السجدة : ١١.

٣١٨

____________________________________

لاختلاف المعتزلة في كونهما موجدتين الآن ، أو الميزان ، أو الصراط ، أو الحساب فيه أن المعتزلة ينكرون المسائل الثلاثة ، أو الصحائف المكتوبة فيها أعمال العباد يكفر أي لثبوتها بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمة ، ولو أنكر البعث ، فكذلك أي اتفاقا. ومن قال لمظلوم : أين تجدني في ذلك الازدحام ، أو في ازدحام القيامة يكفر ، أي لأنه نفي قدرة الخالق على الجمع بينه وبين الخصم.

ومن قيل له : لو ما تعطني الحق اليوم لأعطيته يوم القيامة كثيرا ، فقال : ما يبقى إلى يوم القيامة كفر ، لأنه استبعد وقوعه وتحقّقه لا إن أراد طول الزمان بينه وبينه.

ومن قال لمديونه : أعط دراهمي في الدنيا فإنه لا درهم يوم القيامة يعني يؤخذ من حسناتك فقال زدني تأخذ في يوم القيامة ، أو طلب في يوم القيامة ، أو قال : زدني أعطيك كله ، أو جملة في القيامة كفر ، أي لأن ظاهره إنكاره يوم القيامة ، أو نفي خوف العقوبة ، أو استهزاء بما ثبت في السّنّة من أخذ الحسنة ، قال : كذا أجاب الشيخ الإمام الفضلي وكثير من أصحابنا.

ومن قال : أعطني برّا أعطك يوم القيامة شعيرا ، أو قال على العكس كفر أي لأنه صريح في الاستهزاء. وفي الفتاوى الصغرى أو قاضي خان من قال لدائن : العشرة أعطني عشرة أخرى تأخذ يوم القيامة عشرين كفر ، ولو قال : ما ذا لي والمحشر ، أو قال : لا أخاف المحشر ، أو قال : لا أخاف القيامة كفر.

وفي الحاوي من زعم أن الحيوانات سوى بني آدم لا حشر لها كفر أي لثبوت القصاص بين البهائم بالأحاديث الثابتة ثم يقال لها كوني ترابا فتصير ترابا ، وعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ، وإن زعم ذلك أي نفي الحشر كفر أي للدلالة القاطعة ، ومن قال : لا أدري لم خلقني الله تعالى إذا لم يعطني من الدنيا شيئا قطّ ، أو من لذّاتها شيئا ، قال أبو حامد : كفر أي لكونه خلق للعبادة والمعرفة ولم يعرف ذلك كما في قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) أي لأجل العبادة والمعرفة ولاعتراضه على الله سبحانه أيضا جعله فقيرا ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كاد الفقر أن يكون كفرا» (٢). أو قال : لا أدري لم خلق الله فلانا كفر. أي لأنه أنكر على الله تعالى خلقه.

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) رواه أحمد بن منيع في مسنده كما في المطالب العالية (١٣٩ / ١ النسخة المسندة) ، وأبو نعيم في

٣١٩

____________________________________

وفي الجواهر : من قال لو أمرني الله أن أدخل الجنة مع فلان لا أدخلها كفر في الحال لأنه عزم على مخالفة الأمر في الاستقبال ، ومخالفة الأمر بمعنى نفي قبوله كفر.

وفي الخلاصة : أو قال إن أعطاني الله الجنة دونك أي دون فلان لا أريدها. أو قال : لا أريدها. مع فلان ، أو قال : أريد اللقاء ولا أريد الجنة كفر أي للمعارضة في الإرادة.

وفي الظهيرية أو لا أدخلها دونك ، أو قال : لو أمرت أن أدخل الجنة مع فلان لا أدخلها ، أو قال : لو أعطاني الله الجنة لأجلك أو لأجل هذا العمل لا أريدها كفر.

وفي الخلاصة : من قيل له دع الدنيا لتنال الآخرة ، فقال : لا أترك النقد بالسيئة كفر. وفي الظهيرية ينبغي الخبز في الدنيا فليكن في الآخرة ما شاء وما شاء كفر. وفي المحيط من تلفّظ بكلمة مستكرهة فقال له آخر : أيّ شيء تصنع قد لزمك الكفر ، وإن لم يكن كفر أي بتلك الكلمة فقال : أيّ شيء أصنع إذا لزمني الكفر كفر. وفيه بحث لا يخفى.

ومن قال : أنا بريء من الثواب والعقاب ، أو من الموت والثواب ، فقد قيل : إنه يكفر أي بناء على إنكاره الأمر المقطوع به من ثبوت الثواب والعقاب ، ووقوع الموت بلا ارتياب ، والصحيح أنه لا يكفر لأن البراءة عنها كناية عن عدم الالتفات إليها.

وفي الخلاصة : ومن قال لآخر : أذهب معك إلى حافر جهنم أو إلى بابها ، ولكن لا أدخل كفر. وفيه نظر إذ معناه إني أوافقك في كل معصية إلّا الكفر ولا محذور فيه إلا الفسق ويدل على ما قلناه قوله ، ومن قال : إلى جهنم ، أو طريق جهنم يكفر عند البعض ، إلا أنه مع قوله لكن لا أدخلها كيف يكفر بلا خلاف وبدونه يكفر باختلاف.

وفي الفتاوى الصغرى : من قال حين اشتد مرضه أو اشتدّت علّته ما شاء الله أمتني

__________________

الحلية ٣ / ٥٣ و ١٠٩ و ٨ / ٢٥٣ ، وتاريخ أصبهان ١ / ٢٩٠ ، والقضاعي في مسند الشهاب ٥٨٦ كلهم من حديث يزيد الرقاشي عن أنس ، ويزيد ضعيف ، إلا أنه عند أحمد بن منيع ، عن الحسن ، أو عن أنس بالشك.

ورواه الطبراني في الأوسط (٢٧٣ مجمع البحرين) من طريق عمرو بن عثمان الكلابي ، عن عيسى بن يونس ، عن سليمان التيمي ، عن أنس ، وعمرو بن عثمان ضعيف.

وتمامه : «وكاد الحسد أن يغلب القدر».

تمّ تخريج أحاديث الفقه الأكبر والتعليق عليه ولله الحمد والمنّة.

٣٢٠