التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

وقد تحرّج كثير من المفسرين أن يقبلوا هذا المثل لنور الله ، ولهذا كان منهم تلك التأويلات التي تجعل النور لقلب المؤمن ، أو للقرآن ، أو للرسول الكريم ..

وهذا مثل ، وليس تماثلا من كل وجه بين نور الله ، وبين هذا النور الممثل به نور الحق جل وعلا ..

وفى الحديث : «إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته» .. وتقول التوراة! «خلق الله الإنسان على صورته .. على صورته خلقه».

وأين الإنسان من عظمة الله ، وجلال الله؟ إنه هباءة تسبح فى الهواء!

قيل إن أبا تمام الشاعر ، دخل على ممدوحه فى مصر ، فمدحه بقصيدة جاء فيها قوله :

إقدام عمرو (١) فى سماحة حاتم

فى حلم أحنف فى ذكاء إياس

فقال بعض حاشية الأمير : ما هكذا يمدح الأمير .. ما زدت أن شبهته ببعض صعاليك الأعراب!

فسكت أبو تمام قليلا .. ثم قال ، دافعا هذا الاعتراض ، ومفحما هذا المعترض :

لا تنكروا ضربى له من دونه

مثلا شرودا فى الندى والباس

فالله قد ضرب الأقلّ لنوره

مثلا من المشكاة والنبراس

فهكذا يجب أن تفهم الأمثال ، وأنها ليست تماثلا بين مضرب المثل والمضروب له.

__________________

(١) هو عمرو بن ودّ العامري. من فرسان العرب المعدودين.

٤٤١

وقد عرضنا لهذه القضية فى كتابنا قضية الألوهية «بين الفلسفة والدين» فى الجزء الأول منه.

والصورة التي يصورها التشبيه هى :

كوة أو مشكاة «بلورية» .. فيها مصباح متقد ، وهذا المصباح مظروف فى زجاجة صافية أتم ما يكون عليه الصفاء ، حتى لكأنها كوكب درى .. ثم إن شعلة هذا المصباح تشتعل من زيت مستخلص من أكرم شجرة عرفت من شجر الزيتون ..

فهذا النور ، ليس مجرد نور ، وإنما هو كما وصفه الله سبحانه : (نُورٌ عَلى نُورٍ ..) نور المشكاة البلورية. ثم نور الزجاجة الصافية صفاء الكوكب الدري ، ثم نور الزيت الذي يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار .. ثم ضوء فتيل المصباح بعد أن يشتعل .. فكلّ منها نور يجتمع إلى نور ..

وهذا النور هو أقصى ما كان يمكن أن تحصل عليه الإنسانية ، أو تتشهّى الحصول عليه عند نزول القرآن ..

أما ما جدّ بعد ذلك من نور الكهرباء ـ فإنه لا ينقض هذا النور ، ولا ينقص من جلاله وروعته .. لأنه نور وديع ، هادىء ، لطيف ، على حين أن نور الكهرباء زاعق ، صارخ .. وهذا هو السّر أو بعض السرّ فى ضرب المثل بهذا النور ، دون ضوء الشمس ، وهو أبهى بهاء وأقوى قوة من كل نور تعرفه الإنسانية.

وقد قلنا إن المراد بنور الله هنا ، هو هداية الله سبحانه وتعالى لكل ذرّة فى هذا الوجود ، وإقامتها فى مكانها الصحيح ، وتوجيهها الوجهة التي تأتلف فيها مع الوجود ، وتتناغم مع الموجودات .. فكأنّ كل ذرة من ذرات الوجود تعمل فى نور ، فلا تضلّ طريقها أبدا ..

ثم إذا نظرنا بعين العلم اليوم ، رأينا الوجود كله نورا .. فالأجسام جميعها

٤٤٢

مكونة من ذرات ، والذّرات ـ كما عرف العلم ـ نور من نور .. فكل ذرة مجموعة من الشموس ، تدور فى فلك النواة التي للذرة .. فهذه الأجسام المعتمة وغير المعتمة ، من جبال ، ورمال ، وتراب ، وأناسىّ ، ودوابّ ، وعربات ، وسيارات ، ودور ، وقصور ، وشموس وأقمار ـ هى نور مجسد ، متكاثف. إذا انحلّ إلى ذرات كان كتلا من النور الوهاج ..

فالعالم المادىّ ـ كما يبدو اليوم فى مرآة العلم الحديث ـ هو شموس من نور ، وأن نوره سبحانه ، يتخلل هذا النور ، الذي هو بالإضافة إلى نور الله ظلام ، لا تتجلى حقيقته إلا على ضوء نور الله ، كما تتجلى حقائق الأشياء التي تقع فى محيط المشكاة ، وما يشعّ المصباح الذي فيها من أضواء.

فنور الله سبحانه وتعالى ، هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه الذي أقامه الله عليه ، إذ على هذا النور يدور كل موجود فى فلكه ، متناغما متجاوبا مع دورة الموجودات كلها فى فلك الوجود .. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ..) (٤٠ : النور) وقوله سبحانه : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) (١٥ : المائدة)

وعلى هذا يكون المراد بنور الله ، هو ما أودع فى الموجودات من سنن ، وما ركّب فى المخلوقات من قوى ، وما بعث فى الناس من رسل ، وما أنزل من كتب ، ومن دلائل .. ففى كل هذا نور من نور الله ، (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (١٦ : المائدة) ولهذا جاءت هذه الآية :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تالية قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) وذلك بعد أن كشفت آيات الله بأنوارها هذه الغاشية التي غشيت المسلمين من حديث الإفك ، حتى لقد انقشع ظلامها ، وانجلى ليلها عن صبح مشرق مبين ..

٤٤٣

ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيومية الله سبحانه وتعالى ، وسلطانه القائم فى الوجود ـ بالنور .. إنما هو لما فى النور من لطف ، بحيث لا يتجسد أبدا ، بل أنه فى هذا على عكس الأشياء كلها ، فالأشياء اللطيفة كالزجاج الرقيق مثلا ، كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته ، ثم لا تزال شفافيته نقل كلما تكاثرت طبقاته حتى يصبح جسما معتما .. أما النور ، فإنه كلما تضاعفت أشعته ، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات التي يقع عليها .. فنور شمعة فى حجرة ، ونور آلاف منها فى نفس الحجرة ، هو هو من حيث أنه لا يشغل حيّزا فيها ، ولا يحدث خلخلة فى الهواء الموجود بها ، وإن كان يزيد الموجودات وضوحا وانكشافا.

ومن جهة أخرى ، فإن النور ـ مع شفافيته ، ومع زيادة هذه الشفافية كلما قوى وكثر ـ هو أكثر ظواهر الطبيعة سرعة ، بحيث لا يكاد يقيد بقيد الزمن .. فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر فى لمحة بصر ، لا تتجاوز جزءا من الثانية ...

فالنور ـ كما ترى ـ لا يتحيز فى مكان ، ولا يكاد يتقيّد بزمان.

والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان ، ولا يحدّه زمان ..

فإذا كان الله نور السموات والأرض ، كان معنى هذا أنه ـ سبحانه ـ وهو القيوم على الوجود ـ ليس حالّا فى الموجودات ، ولا متحيزا فيها ، ولا محجوزا فى مكان منها دون مكان .. وأقرب مثل لهذا فى تصورنا ، هو النور المنبعث من مصباح فى زجاجة درية ، داخل مشكاة ، هى أشبه بالوجود الذي يستضىء بنور الله .. فهذه المشكاة ، يكشف النور وجودها ، دون أن يشغل حيزا فيها ، ودون أن تحيزه هى داخلها ، لأنها شفافة لا تحجب النور

٤٤٤

الذي يشع فيها ، ودون أن يكون هناك زمان ينتقل فيه النور من مكان إلى مكان فيها ..

وإذا علمنا أن الوجود ـ كما أثبت العلم ـ مصور على هيئة كروية ، كان لنا أن نرى هذا الوجود ممثلا فى تلك المشكاة البلورية ، المعلقة فى الفضاء يضيئها مصباح فى زجاجة كأنها كوكب درىّ ، يوقد من زيت شجرة زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار! .. وأقرب صورة للوجود ، والنور المنبعث فى كيانه ، هو القنديل المعلق فى بيت من بيوت الله ، ينبعث منه النور فى ظلمات ليل بهيم.

ومن بعد هذا كله ، أو قبل هذا كله ، ينبغى أن نفرق بين نور ونور .. نور الله ، وهذا النور الذي نصطنعه .. فهذا النور الذي نحصل عليه من الطبيعة ، هو ظلام بالإضافة إلى النور الإلهى .. الذي لا يعرف كنهه ، ولا يدرك سره ، وإن استضاءت به البصائر واستنارت به القلوب .. فهذا مثل ، لا يقوم منه تماثل بينه وبين الحقيقة المشار إليه بها .. (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ..

وفى قوله تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) ـ إشارة إلى أن نور الله الذي يملأ الوجود ، هو نفحة من النور العلوي ، وأن هذه النفحة ، موجودة فى كل موجود .. ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى ألطافا بعباده ، فيصل نورهم بنوره ، ويفتح لهم بهذا النور طريقا إلى عالم الحق ، والخير : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).

فالوجود كله ، وإن كان نورا من نور الله ، بالإفاضة والخلق ، فإن هناك نور الهداية ، الذي يضىء البصائر ، ويشرح الصدور ، وهذا النور يدعو الله إليه من شاء من خلقه ، ليكونوا فى ضيافة هذا النور القدسي؟ وليكونوا

٤٤٥

ربانيين ، بما فيهم من النور الرباني ، الذي أمدهم الله به : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠ : النور).

قوله تعالى : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ). أي هذا النور ، الذي صوّرته المشكاة ، والمصباح ، هو مثل ، وليس حقيقة ، لأن نور الله سبحانه وتعالى لا يمكن وصفه ، وإن أمكن الإشارة إليه بصورة تمثله ، ولا تماثله ..

وقوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إشارة إلى أن نور الله ، هو من علم الله الكاشف لكلّ شىء .. فهو نور علم وهداية ، يصدر عن عالم ، حكيم ، مدبر ، فيفيض على الوجود هدى ورحمة ، ويسكب على الموجودات سكينة وسلاما وأمنا ..

قوله تعالى :

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) ـ

متعلّق الجار والمجرور (فِي بُيُوتٍ) هو فعل محذوف ، تقديره : إذا أردتم التماس هذا النور .. نور الله .. فالنمسوه (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).

وهذا الذي نقول به ، هو أنسب من القول بأن هذا الجار والمجرور متعلق بمشكاة ، على تقدير :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ .. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ).

وهذا بعيد من حيث النظم ، ثم بعيد من حيث المعنى. إذ أن نور الله هو نور الله ، سواء فى المساجد ، أو فى غيرها ..

والذي ذهبنا إليه ، هو المناسب للمقام .. إذ كان قوله تعالى : (يَهْدِي

٤٤٦

اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) مشوّقا للنفوس أن يكون لها نصيبها من هذا النور ، وأن تكون فيمن شاء الله هدايتهم إليه .. ومن بواعث هذا الشوق تجىء تساؤلات عن هذا النور ، وكيف السبيل إليه ، وبلوغ النفس حظها منه؟ ولا تكاد النفس تتلقّى هذه الخواطر المتسائلة ، وهى بين يدى قوله تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) ـ حتى يلقاها الدليل الذي يأخذ بها إلى مواقع هذا النور : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ـ ففى هذه البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، يلتمس نور الله ، حيث يتجلى الله سبحانه وتعالى على كل من يغشون هذه البيوت ، ويذكرون الله فيها ..

وفى تنكير البيوت ، تعظيم لمقامها ، ورفع لشأنها ، وتضخيم لقدرها ، وإن ضاقت رقعة وقلت عددا .. فهى أيّا كانت ، أعلى البيوت مقاما ، وأرفعها عمادا ، وكل بيوت غيرها ، ظلّ لها ، ومرفق من مرافقها.

وإذن الله برفع هذه البيوت ، هو أمره بإقامتها .. فحيث أقيمت ، فهى مرفوعة على كل بنيان ، وإن علا بناء ، وعظم جسما.

وقوله تعالى : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) معطوف على قوله تعالى : (تُرْفَعَ) أي أذن الله أن ترفع ، وأذن أن يذكر فيها اسمه .. وهو بيان للغاية من رفعها ، وإقامتها ، وأنها إنما رفعت وأقيمت ليذكر فيها اسم الله .. فهى بيوت عبادة ، وذكر لله ..

وذكر اسم الله ، هو ذكر الله .. واسم الله ، هو صفته ، وليس لله سبحانه اسم واحد ، أو صفة واحدة ، وإنما له أسماء وصفات كثيرة ، هى الكمال المطلق ، كما يقول سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (١٨٠ : الأعراف) ودعاء الله بأسمائه ، هو ذكر وتمجيد له ..

٤٤٧

وفى ذكر الله ، ذكر لجلاله ، وعظمته ، وقيومته ، واستحضار لما له سبحانه وتعالى فى خلقه ، من تقدير وتدبير ، وفى هذا الذكر يتصل العبد بربه ، ويقترب من مواقع رضاه ورحمته .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨ : الرعد) وقد عرضنا لبحث هذا الموضوع ، عند تفسير هذه الآية الكريمة (١) ..

وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ ..) هو بيان شارح لهذه المساجد ، ولمن يغشونها من عباد الله .. فهذه البيوت لا تهشّ ، ولا تسعد إلا بمن يتعلق فلبه بها ، ويجد الأنس والمسرّة فى رحابها ، ويستشعر الغربة والوحشة فى البعد عنها ، فهو لهذا غاد ورائح إليها ، لا تلهيه تجارة ولا بيع عن غشيانها وذكر الله فيها ، ابتغاء رضوانه ، وخوفا من لقائه فى يوم (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي تضطرب فيه القلوب هولا وفزعا ، وتزيغ فيه الأبصار ، كربا وجزعا ..

والغدوّ : أول النهار ، والآصال : جمع أصيل ، وهو آخر النهار .. وأفرد الغدوّ : لأن فيه صلاة واحدة ، هى صلاة الصبح .. وجمع الأصيل .. لأنه زمن ممتد ، فيه صلاة الظهر ، والعصر ، والعشاءين .. (المغرب والعشاء).

قوله تعالى :

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

هو تعليل لما ببغيه الغادون والرائحون إلى بيوت الله .. أي أنهم يفعلون

__________________

(١) انظر التفسير القرآنى للقرآن : الكتاب السابع.

٤٤٨

هذا ، ويولّون وجوههم إلى ربهم بالغدو والآصال ، ليكون ذلك سببا فى أن يرضى الله عنهم ، ويجزيهم أحسن ما عملوا ويقبله منهم ، ويتجاوز بإحسانهم هذا عن سيئاتهم ، كما يقول سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) (١٦ : الأحقاف) .. وليس هذا فحسب ، بل إنه سبحانه وتعالى ـ سيزيدهم من فضله ، ويضاعف الجزاء لهم من إحسانه .. فهذا رزق من رزقه (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) لأن خزائنه ملأى أبدا ، لا تنقص بالعطاء .. وإذن فلا يجرى حساب على هذه الخزائن ، لإحصاء ما ذهب منها وما بقي ..

ولكن ـ مع هذه الخزائن الملأى من رزق الله ، ومن فضله ، وإحسانه ـ فإنه سبحانه ، قيوم حكيم ، يضع رحمته حيث يشاء ، ويعطى منها ما يشاء لمن يشاء ، بحساب وتقدير ، حسب ما تقضى به حكمته وتدبيره ، وفى هذا يقول سبحانه : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ..) ويقول جلّ شأنه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١ : الحجر) ..

قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ).

فى الآية السابقة ، ذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين ، الذين يغدون ويروحون إلى بيوته ، يذكرونه ويسبحون بحمده ، وقد وعدهم الله على ذلك ، قبول أحسن ما عملوا ، ومضاعفة هذا الإحسان ..

وفى هذه الآية عرض للكافرين ، وأعمالهم التي يعملونها فى دنياهم .. إنها أعمال مهلكة لأهلها ، لا يجيئهم منها إلا البلاء وسوء المنقلب .. لأنها

٤٤٩

أغوتهم وأضلتهم ، وخيّل إليهم منها أنها أعمال مبرورة ، وأنها غرس فى مغارس الخير والإحسان .. وهى فى حقيقتها أشبه بالسراب ، يلمع فى «قيعة» ـ جمع قاع ـ وهو الأرض الفسيحة التي لا زرع فيها ..

وفى قوله تعالى : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) إشارة إلى خداع النفس ، بعد خداع البصر بهذا السراب ، فإن لهفة الظمآن ، وحرارة شوقه إلى الماء ، تغطّى على عقله ، فيخال السراب ماء ، مثله كالخائف المذعور ، فى سواد الليل ووحشته ، يمثّل له الوهم أشباحا تطلع عليه من كل أفق ، تريد الانقضاض عليه والفتك به. وإلى هذا السراب يشتد طلب الظمآن ، ويسعى حثيثا لاهثا إليه ، وكلما قطع مرحلة وجد السراب يتحرك أمامه ويفلت من بين يديه ، وهكذا حتى تتقطع أنفاسه : (حَتَّى إِذا جاءَهُ) ووصل إلى حيث كان يظن أنه الماء (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً)! فتتضاعف لذلك حسرته ، ويشتد يأسه ، وتتقطّع أنفاسه ، وتغلى مراجل غيظه وظمئه ..

وليس هذا وحسب ، بل إنه سيجد هناك من يمسك به ، ويقوده إلى موقف الحساب على ما كان منه من كفر ، وضلال .. (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ .. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ .. وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)!

فالكفر يمحق كلّ عمل وإن كان من باب الخير والإحسان .. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان ، هو أشبه بالميتة ، لا يؤكل لحمها ، وإن كانت من أطيب الحيوان لحما!

قوله تعالى:

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً .. فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

٤٥٠

هو مثل آخر ، تشبه به أعمال الكافرين ، بعد أن شبهت بالسراب.

والفرق بين المثلين ، أن السّراب صورة تمثيلية لما يراه الكافرون فى أعمالهم وهم فى الحياة الدنيا ، حيث يرونها فى صورة حسنة معجبة .. وهى فى حقيقتها سراب يخدعهم ، ويدفع بهم فى طريق الغواية والضلال ، حتى تخمد أنفاسهم ، ويسلمهم هذا السراب إلى القبر ، وما وراء القبر من حساب ، وعقاب .. والله سبحانه وتعالى يقول : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً). (٨ : فاطر)

وهنا فى هذا المثل ، تطلع عليهم أعمالهم هذه فى الدار الآخرة ، حيث يلتمسونها ، فيجدون أنهم غارقون فى ظلام مطبق ، لا يرى فيه أحدهم يده ، إذا أخرجها من كمّه ، وعرضها لعينيه .. فكيف يرى هذه الأعمال ، التي كان يظنها أعمالا مبرورة محمودة؟ إنها قد استحالت إلى قطعة من الظلمات ، فى كيان هذه الظلمات .. فليقتطع لنفسه قطعة من هذا الظلام إن أراد ، وإن استطاع!

(أَوْ كَظُلُماتٍ) كظلمات لا ظلمة واحدة ، بل طبقات بعضها فوق بعض من مادة الظلام (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) أي متلاطم الموج ، حيث يتعالى الموج ، ويركب بعضه بعضا ، فإذا سواده الكثيف يلتقى مع هذه الظلمات المطبقة على هذا البحر اللجىّ (يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي يغطى هذا البحر موج ، وفوق الموج ، موج ، وفوق الموج ، سحاب ، هو موج فوق موج .. وهو (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) .. وأنّى لمن تركبه هذه الظلمات أن يعرف طريقا إلى النجاة والخلاص؟ إنه لا يكاد يرى يده التي يمدّها إلى حبل النجاة إن كان هناك حبل! إن هذا الظلام يكاد ينعقد عليه ، ويلبسه من قمة رأسه

٤٥١

إلى أخمص قدمه ، حتى تضيق به أنفاسه ، وتزهق منه روحه!

وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ـ أي من لم يجعل الله فى قلبه نورا ، هو نور الإيمان ، الذي يهدى صاحبه إلى طريق السلامة والنجاة ، فهيهات هيهات أن يجد النور أبدا .. وإنه للمحروم الشقي ، ذلك الذي حرم حظّه من نور الله ، الذي يملأ السموات والأرض!

____________________________________

الآيات : (٤١ ـ ٤٦)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ(٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٦)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌ

٤٥٢

قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) ..

فى هذه الآية ، والآيات التي بعدها ، استعراض لقدرة الله ، وبسطة نفوذه ، وسلطانه المتمكن فى هذا الوجود ، والآخذ بناصية كلّ موجود .. وذلك بعد أن عرضت الآيات السابقة مثلا لنور الله سبحانه وتعالى ، الذي يملأ الوجود كله ، ويسرى فى كيان كل ذرة فيه ، ويقيمها المقام المناسب لها فى ملكوت السموات والأرض .. وأن هذا النور قد اهتدى به المهتدون ، فأسعدهم الله وأرضاهم ، وأنزلهم منازل السعادة والنعيم ، على حين قد عمى عن هذا النور ، الضالون ، والمشركون ، والكافرون ، فأذاقهم الله الوبال والخسران ، وأنزلهم منازل الهون والشقاء ..

وفى هذا العرض الذي تعرض فيه هذه الآية والآيات التي بعدها ، مالله سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان ـ فى هذا العرض تثبيت لإيمان المؤمنين ، وربط على قلوبهم ، وتوثيق للصلة التي أقامها الإيمان بينهم وبين ربّهم .. ومن جهة أخرى ، فإن فى هذا العرض دعوة مجدّدة إلى الكافرين ، والمشركين ، والمنافقين ومن فى قلوبهم مرض ـ أن يعيدوا النظر فى موقفهم هذا الزائغ المنحرف عن سواء السبيل ، وأن ينظروا فى هذه المعارض التي تعرضها تلك الآيات لجلال الله ، وقدرته ، وعظمته ، ففيها نور الله لمن يلتمسون النور ، ويطلبون الهدى.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) الرؤية هنا معناها العلم الذي يجىء عن بحث ونظر .. وهو خطاب للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يخاطب به كلّ من هو أهل للخطاب .. ثم هو دعوة إلى النظر والتدبّر فى هذا الوجود .. وعن هذا النظر وذلك التدبر يستطيع الإنسان أن يرى انقياد الوجود كلّه للخالق جل وعلا ، وولاءه له ، وعبوديته لذاته ، وخضوعه لجلاله .. وبهذا يعلم أن كل ما فى السموات والأرض يسبّح بحمد الله

٤٥٣

ويمجّده ، ويعظّمه .. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (٤٤ : الإسراء) .. فهو تسبيح وولاء ، وخضوع واستسلام ، كما يقول سبحانه : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥ : الرعد).

ـ وقوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) .. معطوف على فاعل الفعل (يُسَبِّحُ) وهو الاسم الموصول «من» والمعنى .. ويسبح له (الطَّيْرُ صَافَّاتٍ ..) وصافات ، حال من الطير ، أي أنها تسبّح لله سبحانه وتعالى ، وهى فى أروع مظاهرها ، وأعلى منازلها ، حيث تكون محلقة فى جوّ السماء ، صافّة أجنحتها ، أي باسطتها فى حال من الهدوء والسكون ، كأنها تستعرض العالم الأرضى ، وتبسط ظلها عليه .. فهى فى علوّها وتربعها على هذا العرش ، لم يدخل عليها شىء من الكبر والغرور ، كما يقع ذلك لكثير من الناس ، بل إنها لتزداد بهذا ولاء وخشوعا لله ، فتقيم صلاتها لله ، فى جوّ السماء ، صافة أجنحتها ، مرسلة جوارحها ، فى خشوع واستسلام ، معتمدة على قدرة الله ، لا تخشى أن تهوى من حالق .. وهذا هو التوكل فى أروع مظاهره ..

ـ وقوله تعالى : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ).

يمكن أن يكون فاعل الفعل (عَلِمَ) ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى : ويكون المعنى كلّ من هذه المخلوقات قد علم الله صلاته وتسبيحه .. وهذا هو الذي ذهب إليه المفسّرون ..

ويمكن أن يكون الفاعل ضميرا يعود إلى هذه المخلوقات .. ويكون المعنى أن كلّ مخلوق من هذه المخلوقات ، قد علم الصلاة التي يصلّى بها ، والتسبيح الذي يسبّح به لله .. وهذا هو الرأى الذي نقول به ..

ويكون معنى العلم هنا ، هو ما أودعه الله فى كيان كل مخلوق من قوى

٤٥٤

يتصرف بها ، ويعمل حسب ما يسّره الله له .. وهذا يشعر بأن عملها هذا ليس عملا آليا ، وإنما هو عمل عن علم ، ذاتى ، أو خارج عن الذات .. فهو على أي حال عمل يحكمه علم ، حتى يحقق هذا التآلف ، والتجاوب بين موجودات الوجود ، فى حمد الله وتسبيحه ..

وقوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) إشارة إلى علم الله سبحانه وتعالى ، المحيط بكل شىء ، والعالم بكل ما يعلم الخلق وما يعملون ..

وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن هذه المخلوقات لها علمها الذي تعمل به ، وأن لله سبحانه وتعالى علمه ، المحيط بعلمها وعملها جميعا!

قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

هو تأكيد لعلم الله بعلم المخلوقات ، وبعملها .. إذ هو علم متمكن ، لأنه علم الخالق لما خلق ، ومعرفة المالك لما ملك .. فقد يعلم الإنسان الشيء ولا يملكه ولا يقدر على التصرف فيه بمقتضى ما يعلم منه .. أما علم الله فهو علم المالك لما ملك ، يتصرف فيه كيف يشاء ، بما يقضى به علمه ، وحكمته ، وإرادته.

وفى قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) تأكيد للملكية ، وأنها ملكية لا تخرج عن سلطان المالك أبدا ، لا كملكية المالكين لما يملكون .. إذ أن كل ما يملكه الإنسان من شىء ، هو ذاهب عنه ، مقضىّ عليه بالفراق بينه وبين ما ملك .. إما بأن يستهلكه فى حياته ، وإمّا بأن يموت عنه ، ويخلّفه وراءه لمن يرثه من بعده .. أمّا ملكية الله سبحانه وتعالى لهذا الوجود وما فيه ، فهو ملك لا يخرج من يد المالك أبدا ، مهما تحولت أحواله ، وتبدّلت صوره وأشكاله ، فالمالكون ، وما يملكون صائرون جميعا إلى الله ..

٤٥٥

قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ).

يزجى : أي يدفع ، ويحرك ..

والركام : المتراكم ، المجتمع بعضه إلى بعض ..

الودق : المطر ، ينزل متساقطا فى قطرات ، فيدق الأرض ، أي يترك فيها آثارا ..

فى هذه الآية عرض محسوس لقدرة الله ، بعد هذا العرض غير المحسوس ، الذي جاءت به الآية السابقة ، من النظر المطلق الشامل للوجود كله ، وما قام عليه من نظام ..

وفى هذا العرض ، إلفات إلى ظاهرة من ظواهر الطبيعة ، التي يشهدها الناس جميعا فى كل زمان ، وكلّ مكان ..

فهذه السحب التي تنطلق فى مواكب متدافعة فى جو السماء ، كأنها جيوش غازية ، تزحف إلى ميدان القتال ، أو تتراكض عائدة من المعركة محملة بالغنائم والأسلاب ـ هذه السحب : من أنشأها؟ ومن سيرها؟ ومن حدّد لها خط مسيرها؟ ومن وقف بها عند غاية معلومة لها؟

ألا فليعلم من لم يكن يعلم ، أن الله سبحانه وتعالى ، هو الذي أنشأها ، وسيرها ، وحدّد لها وجهتها ، وأمسك بها عند الغاية المحددة لها ..

ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً .. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً ..) فهذه صور ثلاث ، لمشاهد السحاب .. يولد أولا دخانا رقيقا ، ثم يدفعه الرّيح

٤٥٦

فى خفة ويسر .. ثم يجتمع هذا السحاب بعضه إلى بعض ، فيتكاثف شيئا فشيئا ، ثم يتدافع هذا السحاب ، ويدخل بعضه فى بعض ، فإذا هو ركام ، أشبه بالآكام ، أو الجبال ..

ـ وفى قوله تعالى : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ..) إلفات إلى مولد المطر من هذا السحاب ، وتحلبه من خلاله ، كما يتحلّب اللبن من الضرع ..

وليس يدرك سر هذه اللفتة إلى قطرات الماء ، وهى تتساقط من السحاب ، إلّا من عاش فى الصحراء ، وشهد آثار الماء حين ينزل إلى الأرض ، ويبعث الحياة والحركة فى جمادها ونباتها ، وحيوانها .. إنها عملية خلق ، وبعث جديدين ، لهذا الجسد الكبير الهامد .. ثم هو بعد ذلك عرس رائع ، تحتشد له الأحياء ، وتنطلق من كيانها نشوات البهجة والحبور ، فى أهازيج ، وأناشيد ، وزغاريد : يتألف منها لحن عبقرىّ بالتسبيح والحمد لله رب العالمين ..

انظر إلى هذا الوصف الرائع ، الذي صوّر به «امرؤ القيس» احتشاد الطبيعة ، ونشوتها غبّ مطر .. فيقول امرؤ القيس ، فى معلقته المشهورة :

أصاح ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين فى حبىّ مكلّل

يضىء سناه .. أو مصابيح راهب

أمال السليط بالذّبال المفتّل (١)

قعدت له وصحبتى بين ضارج

وبين العذيب بعد ما متأمّلى (٢)

كأنّ مكاكىّ الجواء غديّة

صبحن سلافا من رحيق مفلفل

__________________

(١) السليط : الزيت الذي يوقد منه المصباح.

(٢) ضارج ، والعذيب : موضعان.

٤٥٧

هذه نظرة شاعر .. نظر إلى هذه الظاهرة من ظاهرها ، وشغل بألوانها ، وألحانها ، عما وراء هذه الألوان ، وتلك الألحان ، من حقائق ، تصل هذه القطعة من الطبيعة بالوجود كله ، ثم تضيف هذا الوجود إلى الموجد ، المبدع ، المصوّر!

وإليك نظرة نبىّ!

ومن؟ إنه نبىّ الأنبياء ، وخاتم المرسلين ، محمد بن عبد الله ، صلوات الله وسلامه عليه ..

فقد روى أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان إذا نزل المطر ، خرج إلى العراء ، وكشف له عن رأسه ، واحتواه بين ذراعيه .. وكان صلوات الله وسلامه عليه يقول : «إنه قريب عهد بربه» .. أي إنه رحمة مرسلة من عند الله .. رحمة محسوسة ملموسة ، ترى بالعين ، وتلمس باليد ، وتذاق باللسان ..! فمن أراد أن يشهد رحمة الله عيانا ، فهى فى هذا الماء المنزّل من السماء .. صافيا طاهرا ، لم يعلق به شىء من أخلاط الأرض .. إنه فى طهر المواليد التي تلدها الحياة .. من إنسان أو حيوان أو نبات!

قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ..) أي وينزل من جبال فى السماء ، وهى السحب المتراكمة ـ بردا ، وهو قطع الثلج ..

فقوله تعالى : (مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) بدل من السماء ..

وفى الإشارة إلى هذه الظاهرة ، إشارة إلى أن هذه السحب التي ينزل منها الماء ، هى أيضا ، وإن كانت مصدر نعمة ، يمكن أيضا أن تكون مصدر نقمة ، حين ينزل منها هذا البرد ، وكأنه قطع من الأحجار ، تتساقط من الجبال ، فتهلك كل من تقع عليه ، وكأنها بهذه العقوبة الراصدة إلى جانب تلك النعمة

٤٥٨

الكبرى المنزلة من السماء ـ مرصودة ليؤخذ بها كل من يكفر بهذه النعم ، ولا يضيفها إلى المنعم بها ، ويسبح بحمده ، ويشكر له ..

وقوله تعالى : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أي أن هذا البرد الذي تحمله السحب بين يديها ، لا نرمى به هكذا من غير حساب ، بل هو مملوك بيد القدرة القادرة ، فيقع حيث أراد الله أن يقع ، ويصرف عمن أراده الله سبحانه أن يصرفه عنه ، من نبات ، وحيوان ، وإنسان ..

وفى قوله تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) ـ لون جديد تكمل به الصورة ، صورة هذا العذاب الواقع مع البرد المتساقط كالأحجار .. فهذا البرد يحمل معه الصواعق المهلكة ، والنار المحرقة ، وإن كان ماء! فما أعظم قدرة القادر ، وما أعزّ وأقوى سلطانه!!

قوله تعالى :

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ .. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ).

وهذه ظاهرة أخرى .. تشهدها الحواس ، وتعيش فيها .. حيث يدور الليل والنهار فى هذا الفلك دورة منتظمة ، محكمة ، لا تتخلف أبدا .. وكأنهما الكفّ فى حركتها ، ظاهرا وباطنا ..! يقلبهما الله ـ سبحانه ـ كما يقلب الإنسان كفّه!

وفى هذا عبرة وعظة لأولى الأبصار .. (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (١٩١ : آل عمران).

قوله تعالى :

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ .. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ

٤٥٩

مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ .. يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ .. إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ..)

هذه الآية ، شارحة لنعمة الماء ، الذي أشارت إليه الآية قبل السابقة .. فهذا الماء الذي ينظر إليه بعض الناس نظرة باردة جامدة ، ولا ينظر إليه بعضهم أبدا ـ هذا الماء هو أصل هذه الحياة ، وهو جرثومة كل حى .. من نبات ، أو حيوان ، أو إنسان .. وهذا ما جاء فى قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ..) فليعد الإنسان الغافل النظر إلى هذا الماء ، وليرجع إليه البصر مرة ومرة ومرات ، وسيرى أن هذا الماء هو أصل وجوده ، كما أنه سبب فى إمساك هذا الوجود ، وحفظه ، وأنه لو حرم الماء لأيام معدودة لهلك!.

فالماء ، هو الحياة العاملة فى هذا الكوكب الأرضى .. ففى الماء أودع الله سرّ الحياة ، فى صورها المختلفة ، وأشكالها المتباينة المتعددة .. فحيث كان الماء كانت الحياة ، وكانت الحركة ، وكان التوالد لصور الحياة ، التي تكتسى بها الأرض حسنا وجمالا ، وتتبدل بها من وحشتها بهجة وأنسا ..

ونظرة فى وجوه الأرض المختلفة ، يتكشف لنا منها ما للماء من آيات وأسرار .. فحيث يوجد الماء يوجد الخصب والنماء ، وتشاهد الحركة والحياة ، وحيث يفتقد الماء ، يكون الجدب ، والوحشة ، والموات ، والهمود.!

ومن أجل هذا كان للماء هذا الذّكر الحفىّ به فى القرآن الكريم .. ويكفى أن يكون عرش الله سبحانه وتعالى على الماء ، كما يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٧ : هود) .. والمراد بالعرش ، هو السلطان .. وهذا يعنى أن سلطان الله

٤٦٠